زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي الآمال الضائعة للإيديولوجيات الدّاعية إلى قيام وحدة قوميّة بين العرب، وطُمِسَ بذلك فكر إنسان ممتاز، وأُهملت رؤيته التي تؤلِّف نظرة إبداعيّة عميقة في ماهيّة اللغة، تحديداً اللغة العربيّة، علاوة على ما عاناه في حياته من تجارب وجوديّة عنيفة واضطراب وجدانيّ وفقر وحرمان وعُزلة بسبب مواقفه السياسيّة، فضاعت شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة بين صراع السياسيين البعثيين على السُّلطة، وخضعَ لاستقطاباتهم وتنافراتهم ثم غُيِّبَت على نحوٍ نهائيّ جهود الأرسوزي لمواجهة الاحتلال العثمانيّ-التركيّ والاستعمار الأوروبيّ.

لكنَّ المهمَّ هنا ليس قراءة الأرسوزي قراءة إيديولوجيّة أو سياسيّة مُسْتَهلكة؛ بل الكشف عن العناصر الأصيلة في رؤيته الفلسفيّة للعالم، أو بالأحرى إظهار شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة التي احتجبت وراء غبار لعنة شهوة السيطرة على الحُكم.

لقد انصّبت عناية الأرسوزيّ على كشف ماهيّة اللغة العربيّة، ويمكن تصنيفه بصفته مؤسِّس تيار فلسفة اللغة في الثقافة العربيّة المعاصرة، غير أنَّ حقل الدراسات اللغويّة الذي أسّس له الأرسوزيّ بقي مجهولاً، علماً أنَّ الدراسات التي قدّمها فلاسفة اللغة الغربيّون، أصبحت مركز اهتمام الثقافة الغربيّة، بل العربيّة أيضاً، بدءاً من أواخر القرن الماضي، وصولاً إلى يوم النّاس هذا. إذ نجد حضوراً كبيراً بين أوساط المثقفين، ترجمةً وتأليفاً، لنصوص منقولة أو مستوحاة من جورج إدوارد مور (1873-1958م) أو برتراند رسل (1872-1970 م) أو لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1951 م) وغيرهم. علاوة على ظهور دراسات عربيّة كثيرة محكومة بالنزعة البنيويّة التي أسس لها فرديناد دي سوسير (1857-1913)؛ وفي المقابل لا نكاد نجد للأرسوزي ذِكْرَاً بصفته فيلسوفاً عربيّاً معاصراً عُني عناية حقيقيّة بقضيّة اللغة.

تعمّق الأرسوزي في ماهيّة اللغة العربيّة في “مؤلَّفه العبقريّة العربيّة في لسانها”، ووجد أنَّ اللسان العربيّ مكوَّن على نحوٍ اشتقاقيّ، فالألفاظ التي ينطق بها الإنسان العربيّ ترجع إمَّا إلى ظواهر إدراكيّة حسيّة، تحديداً صوتيّة-بصريّة مُستَمدّة من الطبيعة، أو إلى أُصول شعوريّة مُستَمدّة من النَّفْس الإنسانيّة.

ويوضِّح الأرسوزي حقيقة الألفاظ التي ترجع إلى ظواهر طبيعيّة صوتيّة بصريّة، فتمثيلاً لا حصراً: نجد أنَّ الكلمة “خَشَّ” هي صورة صوتيّة-مرئيّة، ناجمة عن “حركة في عُشب يابس”. وهذه “الصُّورة” أصبحت على المستوى اللغويّ نواةً لتوليد أفعال ومشتقات جديدة مثل: خَشُنَ، خشَبَ (=جَفَّ)، خَشَعَ، إلخ؛ ومِنْ خَشَّ بتحويل الخاء إلى حاء يمكن اشتقاق حَشَّ والحَشيش؛ وبتحويلها إلى عين نحصل على عشَّ والعِشّ، وإلى ما هنالك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يُبيِّن الأرسوزي أنَّ الإنسان العربيّ لم يقف بالنسبة إلى بناء الألفاظ التي ينطق بها عند حدود الصُّور الطبيعيّة الصَّوتيّة-البصريّة فقط، بل اعتمد على التّصويت الطبيعي عند الإنسان، أي الأصوات التي تُعبِّر عن حالات شعوريّة معيّنة مثل “أَنَّ” التي تدلّ على التوجُّع أو التألُّم، فظهرت أفعال ومُشتقّات وفق الآتي: فبإلحاق الهمزة جاءت “أنا”، وبإلحاق التّاء “أنتَ”، أنتما، وبقيّة الضمائر. ومن “أَنَّ” اشتُقَ الفعل أَنَّبَ (=عنَّفَ)، والاسم الأنين، وإلى ما هنالك.

وركّز الأرسوزيّ على أنَّ الذهن العربيّ لم يقتصر -في عمليّة تكوين اللسان العربيّ-على الصُّور الصوتيّة المرئيّة أو الأصوات المُعبِّرة عن حالات نفسانيّة، بل نهج نهجاً اصطلاحيّاً أيضاً، يقوم على إظهار الحروف عن طريق التداعي، فالحروف الأسهل من حيث تسلسل الظهور تتوالد لتكوِّن صورة تصبح موضوعاً للفكر، ومدلولاً عليها في الوقت نفسه بألفاظ، فمثلاً من حرف الباء (ب) صنع التداعي أسماء من قبيل الـ:”أَبّ”، و”الأُبّهة”، وأفعال من قبيل أَبِهَ، أَبى….

وعُني الأرسوزيّ بكشف مناهج تكوين الألفاظ في اللسان العربيّ، فاكتشف أنَّ هناك صوراً صوتيّة ذوات أصول فيزيولوجيّة، فمثلاً هناك صور صوتيّة ترافق حركة عضلات الفمّ من قبيل: عَضَّ، وهنا يشتق الذهن مع المحافظة على الإيقاع بإضافة حرف أو بتحويل آخر، فبالإضافة نحصل على عَضَبَ (=قطَعَ)، وبالتحويل، أي بتحويل العين إلى قاف، نحصل على “قَضَّ (=ثَقَبَ)”. هذا، وبالطريقة نفسها اشتُقَ فعل “قَدَّ (=قَطَعَ)” ثم “قَدَرَ(=قَسَمَ) ومنها: القَدَر؛ وقَدَسَ (قَطَعَ)، ومنها: “القُدْس (=الحجر المقطوع)” وتوالت المشتقات مثل القُدُّوس، والمُقَدَّس، والقداسة، والتّقديس، وحُمِّلت بمعان مختلفة، إلخ.

ولقد فهم الأرسوزيّ اللغة فهماً يدلّ على عمق نظرته، فهو يُرجعها إلى غريزة متأصِّلة في الإنسان أسماها “غريزة الكلام”، ووجد أنَّ غريزة الكلام موجودة على نحوٍ متفوِّق عند العرب، منذ فجر التّاريخ، بدلالة أنَّ علم اللغات المقارن يكشف وجود قواعد مشتركة بين اللسان العربيّ واللغات الهندو-أوروبيّة من ناحية، إضافةً إلى كشفه وجود اشتراك في المفردات وأساسيات النحو بين اللسان العربيّ واللغات الساميّة من ناحية أخرى، وهذا يثبت أنَّ الإنسان العربيّ خاض تجربة كونيّة نادرة في تكوين لغته، كان لها تأثير عالميّ لا يمكن نكرانه. والحقيقة أنّنا إذا أرجعنا اللغة العربيّة إلى أُصولها الكنعانيّة (=الفينيقيّة)، لوجدنا كلام الأرسوزي صحيحاً، إذ قام اليونانيون بتعديل الأبجديّة الكنعانيّة (الأوغاريتيّة)، بما يتناسب مع لسانهم الهندو-أوروبيّ. ولا شك في أنَّ استخدام اليونانيين للأبجديّة الألفبائية-الصوّتيّة الكنعانيّة أسهم في تطوير طُرق التّفكير النّظريّ عند اليونانيين لما في اللغة الكنعانيّة من إمكانيّة تؤهِّل الناطقين بها للقيام بعمليات التّفكير المجرّد. هذا، وحينما وصل التجار والمستعمرون اليونانيون إلى أتروريا (=منطقة وسط إيطاليا الحالية)، ونشروا الثقافة الهيلينية في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. أدخلوا الحروف اليونانية-الكنعانيّة لتشكيل الأبجدية الإتروسكانية (=الإيطاليّة القديمة). التي عُدِّلت من قبل الرومان، وأصبحت أبجدية أساسيّة لأوروبا الغربيّة.

لقد امتاز الأرسوزي من بين مختلف المُنَظِّرين القوميين العرب بأنّه دخلَ إلى السياسة من بوابة الفلسفة، وهذا ما جعل طريقة تفكيره أكثر عُمقاً وأبعد غوراً؛ إلا أنَّ لهذه الطريقة في التفكير مخاطرها، فقد جعلته مُفكِّراً يوتوبيّاً، إذ بنى آماله على حُلم ضائع بتكوين دولة مثاليّة تكتنف أبناء أمّة عربيّة واحدة أسماها “الجمهوريّة المُثلى”، ويقدّم الأرسوزي في كتاب له يحمل الاسم نفسه (=الجمهوريّة المثلى) تحليلات لمعنى هذا الاسم عينه، مستخدماً بصيرته اللغويّة الفذّة في تفسير معنى كلمة جمهوريّة، فيوضِّح أنّها منحوتة مِن “جم” وتدلّ على (الجمّ الغفير)و(جهر) وتعني إفصاح كلّ فرد من النّاس عن رأيه في ما يتعلّق بتنظيم الشؤون العامة. وحدّد الأرسوزي معنى كلمة “المُثلى” على أساس أنّها مأخوذة من “المَثَل الأعلى”، أي من الكمال، تبعاً لتكوين كلمة الكمال نفسها. وشرحَ تكوين كلمة كمال شرحاً لغويّاً رائعاً: كمُلَ من كُم الزَّهرة، وحرف “ل” المُلحق بـ”كم” يُفيد هنا معنى النموّ، فالكمال-وفق قوله-مُستوحى من برعم يستكمل شروط كِيانه بالزهرة.

 وينفر الأرسوزيّ نفوراً كبيراً من واقعه العربيّ الذي كشف فيه خطر تحوّل الإنسان العربيّ إلى عبد، ويُفْهم معنى العبوديّة، وفق منظار الأرسوزيّ، على أساس أنَّ الإنسان العبد هو الذي يكون آلة أو أداة بيد نفسه أو بيد غيره من النّاس: يكون عبداً لنفسه إذا حوّلَ طاقاته الخلّاقة إلى أداة للحصول على شهواته، ويكون عبداً لغيره إذا استهلك مواهبه في خدمة الأقوى. ويطالب الأرسوزي باستبدال الإنسان الحرّ-النبيل بالإنسان العبد-الأداة. وهنا يفجِرّ الأرسوزي بعبقرّيته اللغويّة السَّاحرة ينابيع مأساة الإنسان العربيّ، فكلمة “حريّة” في رأيه اشتُقت من كلمة “حرب”، ونبيل اشتُقت من “النِبَال”، أي السِّهام التي يُرمى بها الأعداء؛ لذلك يصعب على الإنسان أن يحتفظ بإنسانيته أو بالأحرى بحرّيته إلا إذا كان مُحارباً رامياً لأعداء إنسانيته بالويلات!

جمع الأرسوزي في شخصيته بين عالم اللسانيات والمفكر السياسيّ؛ فعاش حياةً تنوس بين الهدوء والاضطراب، ولا نجد شبيهاً للأرسوزي الآن أقرب من المفكِّر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي جمع في شخصيته هو أيضاً بين عالم اللسانيات والمفكّر السياسيّ؛ إلا أنَّ الفرق بين الأرسوزي وتشومسكيّ فرق كبير جدّاً، فالأرسوزيّ عاش حياة قهر مستمر وفي أعمق لحظات معاناته كان هدفه بناء أمجاد أمّة عظيمة فقدت القدرة على النّهوض؛ بينما تشومسكي عاش حياة حافلة بالأمجاد في على أرض جمعت شعوباً من مختلف أنحاء العالم، وكوّنت أمّة عالميّة. لقد نجحت أُمّة تشومسكي الطارفة ولم تنجح بعد أُمّة الأرسوزيّ التليدة.

المراجع:

زكي الأرسوزي، المؤلفات الكاملة، دمشق، 1972.   

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

 قراءة في  المجموعة القصصية “هو” للكاتب السوري فراس الحركة

 قراءة في  المجموعة القصصية “هو” للكاتب السوري فراس الحركة

حسب تعبير موباسان (إن هناك لحظات منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة)، والقصة القصيرة تبدو النوع الأدبي الأقرب إلى روح العصر الذي اتسم بالسرعة والاختزال فتناسلت أنواع جديدة منها كالأقصوصة والقصة القصيرة جداً (ق.ق.ج) إمعاناً في الاختصار. والحقيقة أنها حافظت على  جمهورها دوماً وذلك بقدرتها على اقتناص اللحظة والإبحار بالقارئ في تلك المسافة القصيرة من السرد بتركيز وانتقاء مهمين.

وفي هذا السياق صدر مؤخراً عن دار موزاييك للطباعة والنشر مجموعة قصصية بعنوان (هو؟) للكاتب والقاص السوري فراس الحركة وهو الحائز على جائزة زكريا تامر للقصة القصيرة عام 2008 وجائزة  اتحاد الكتاب العرب للنصوص المسرحية عام 2009 عن مسرحيته (صاحب النساء السبع).

تحمل المجموعة عنوان (هو؟)، وإذ ينتهي العنوان بعلامة استفهام يفتح باب السؤال لدى القارئ للبحث عن دلالة ضمير الغائب فهو ليس إخبارياً، لكنه عنوان القصة الأخيرة في المجموعة والتي سيتوقف القارئ عندها كما العديد من القصص التي تفتح باب التفكر والتأويل لإماطة اللثام عن مآل النص وتفكيكه في محاولة البحث عن المرامي البعيدة والقريبة التي يأخذنا إليها الكاتب. إذ يصور الذات الإنسانية في تشظيها سابراً عوالمها الداخلية وصراعاتها المشحونة عاطفياً في مشهدية تصويرية تميل للغرابة حيناً  وبلغة تقترب من الشعر حيناً.

وعلى مدار ثماني وعشرين قصة حوتها المجموعة ينوع الكاتب أسلوبه فيتجاوز الترتيب الزمني للحدث منطلقاً من المشهد الأخير في بعضها مستعيداً خيوط السرد عبر تصاعد الحالة النفسية للشخصيات أو من المشهد الذروة ليفكك الحدث الذي يستنتجه القارئ ويقوم بتركيب خيوطه، فالقارئ هنا وغالباً يشارك الكاتب في إعادة بناء القصة في خياله عبر الإيحاء الذي يعتمد عليه الكاتب، ومفككاً الغموض الذي لجأ إليه ليستدرج القارئ نحو المشاركة في تخيل الحدث واتباع خيوطه المتعددة والمتشعبة.

يتخذ القاص فراس موقع السارد الذي يقوم بوصف وسبر العالم الداخلي للشخصيات جاعلاً الحدث في هوامش السرد منتقياً مواضيعه من المحيط بحيث يملك عوالم أبطاله النفسية والذاتية غالباً مقدماً المقولة على القص  تارة كما في قصة الطريق أو الصندوق الأسود وممسرحاً القص تارة أخرى كما في قصة العازف أو الأبواب ومحاولاً فتح العوالم النفسية لشخصياته وهواجسها وانفعالاتها وهمومها وهذا ما جعل الإبهام والغموض حاضراً في السرد وترك الباب مفتوحاً أمام القارئ كما في قصة انتقام مسلطاً الضوء على معاناة الفرد أمام المجتمع القاسي والمستكين لقوالبه الجامدة والمتخلفة  وظلمه للإنسان سواء بقوة العادات والمفاهيم المتخلفة أو بقوة السلطة الراسخة والتي تسعى لإدامة قيودها وذلك الصراع بينهما والذي ينتهي غالباً لصالح الأقوى.

يفضح المجتمع المتخلف وما يرتكبه بحق الأفراد إذ يكيل دوماً بمكيالين في سبيل الحفاظ على مقدساته ومقولاته التي كرسها عبر الزمن فيطلق أحكامه المستمدة من المفاهيم المتخلفة والخرافات والتي درج عليها كما في قصة ابن الجنية ليبرر أفعالاً وأحداثاً يخاف أن تتداولها الألسن حيث تصبح البنية النفسية لهذا المجتمع مهددة حين ترى الحقيقة. إنه المجتمع القائم على أوهام وكذبات صنعها بنفسه عبر الزمن . ففي قصة ابن الجنية نرى البطل فاضل والملقب بالنمر رغم كل أفعاله الحميدة وصفاته النبيلة التصق به لقب ابن الجنية ما جعله غير مرغوب به رغم أن هذه الجنية أمه لم تكن سوى مناضلة ساعدت الثوار في الجبال وماتت بتسمم جراحها، وكما تموت الحقيقة بالنكران يبقى اللقب العار ابن الجنية متوازياً مع ابن الحرام ومرفوضاً مثله.

وكما في قصة أطلال حيث يقوض الواقع أحلام الإنسان وقصص الحب التي تموت بيد الواقع ولا يبقى منها إلا الذكريات التي يطمسها الزمن مع تقدم الحياة التي لا ترحم فالحبيبة تتزوج ممن لا تحب ومكان اللقاء (البيادر) تقوم عليه البيوت الإسمنتية هكذا يحل الجماد محل العواطف.

وفي قصة الدم نرى انتقال المعركة من الرصاص الحي إلى الكلمة التي في النهاية تغتالها السلطات حين تعتقل الكاتب. السلطات التي تعيد  إنتاج الحزن وتجعله مستمراً ورفيق جيل الشباب في قصته (ذلك الحزن) حين تعتقل رفيقهم الذي عاد إلى البلد بعد غياب طويل.

مثلما تغتال المفاهيم الجامدة قصص الحب وتقسر الشاب في قصة أنا قدرك للتخلي عن الحبيبة نتيجة إعاقتها والزواج بأخرى .

يبرع الكاتب في وصف لحظة الذروة في الانفعال العاطفي والصراع النفسي للشخصيات التي تنتقل بين ضمير المتكلم وضمير الغائب وذلك في مشهدية تصويرية تأتي على لسان القاص محاولاً تصوير تلك الانفعالات والصراع الذاتي المكتمل مع المحافظة على إشارات مفتوحة توحي بالنهايات.

لا تأتي القصص في سوية واحدة فهناك موضوعات مطروقة سابقاً كواقع المرأة المستلبة الراضخة لمشيئة المجتمع الأبوي ومعاناتها في انكسار قصص الحب وقتل الذات وتحويلها إلى أداة إنجاب وعمل لا أكثر بينما تموت المحاولات الصغيرة ويبقى صوتها ضعيفاً، مؤكداً أن تحرر المرأة لا يكون إلا بيديها. يحاول الكاتب التجديد في أسلوب الطرح وليس الموضوع وهذا ينطبق على أكثر من موضوع كما في قصة الأبواب أو الطريق حيث يجسد الجماد ويؤنسنه على طريقة أنسنة الحيوان وإنطاقه في كليلة ودمنة لتقديم العبرة والمقولة، ليصبح الطريق شخصية تتمنى وتريد أن تكون ذاتاً تملك وجهة وهدف وصول.

يقول غيورغي غوسبودينوف: “إن المتاهة قد تكون من وفرة المخارج وليس فقدانها.”

وفي قصة الأبواب نرى أنها مخارج لطرق تتنوع وتنفتح بين الداخل والخارج ، بين الذات والمحيط تتعدد وتتداخل وكل باب يُفتح أمامه طريق على هدف ويستعرض البطل المتمثل بضمير الغائب هذا الأمر باحثاً عن اكتمال رؤاه. أبواب سبعة بما يحمل الرقم سبعة من قدسية في الذاكرة الجمعية وحين يصل إلى الباب السابع إذ يجتمع الأمل مع الفرح والنور و معاناة البلاد وبحث الإنسان عن شرط الحياة يأتي صوت المذياع في بيان رسمي يرمز للسلطة التي تصادر كل اكتمال وكل كيان باحث فينتهي البطل إلى البكاء.

يقابل الأبواب النوافذ وهو عنوان قصة أخرى (نوافذ صامتة) إذ نرى خلف النوافذ قصصاً مختلفة يجمعها الفقد والغياب والموت والإحساس بالاغتراب حيث يجتر الإنسان آلامه الخاصة . هذه الحيوات المتعددة كمثل مشاهد سينمائية أو عروض مسرحية يقوم كل منها بدوره دون تأخير.

لا تختلف معاناة الكاتب عن أبطاله فيصور تشتت المثقف واحتدام الصراع في داخله للبحث عن ذاته وعن تحقيقها إذ يرتقي من النواح إلى مرحلة القرار في قصة ارتقاء.

أما في قصة ارتكاب وحيث يصور أعماق الكاتب المشتتة والدؤوبة نحو التجلي وذلك عبر مونولوج داخلي يتنوع خطه البياني بين الذروة والقاع بين الانتشاء والبكاء وحالات متلاحقة تجعله يكشف غربته الداخلية وتناقضه مع المحيط وظروف الواقع والآلام التي تلتهم الإرادة وتحاول قتل اللحظة المبشرة بولادة الإبداع.

يبحر الكاتب في تلافيف العقل باحثاً عن رؤاه كصوفي يحتدم العالم في داخله فيقطر الواقع المر ويتطهر منه باكتمال الفكرة والإبداع الموازي للنور.

تبدو ذروة هذا الاغتراب والتشظي في قصته (هو؟) وضمير الغائب هنا إشارة إلى الظل رفيق الجسد في الضوء لكن ظل الأنا المتكلمة هنا وهو الكاتب يتجسد في العتمة يقول: (أفغر عيني في العتمة أجد الظل).

والظل ليس انعكاساً لجسم مادي بل هو ذات أخرى تنفصل عنه وتتجسد لعلها الحلم ولعلها المكبوت ولعلها الذات المتمردة المشاكسة حيث يفعل ما لا يجرؤ عليه الكاتب ساخراً منه ومن جبنه وعجزه إنه الكائن الحر المدفون في داخلنا.

وهذا الفصام يبدو جلياً في قصص فراس الحركة إذ  يغوص في العوالم  النفسية والداخلية للشخصيات واصفاً انفعالاتها وهواجسها ويوجهنا إلى البحث عن الشبيه. اللغة عند فراس لاعب ماهر إذ تعبر بدقة عن تلك الإرهاصات وتميل إلى الشعر أحياناً مختزلة ومكثفة لكن يؤخذ عليه الإسهاب في الوصف في بعض الأحيان ما لا يخدم البنية القصصية ويشتت القارئ.

(هو؟) مجموعة مختلفة في البناء والأسلوب تبشر القصة القصيرة بفتوحات جديدة سجل فيها فراس الحركة اسمه بمهارة.

 التعليم الحكومي في سوريا: الواقع الاقتصادي يُكمل ما بدأته الحرب

 التعليم الحكومي في سوريا: الواقع الاقتصادي يُكمل ما بدأته الحرب

حتى عام 2011 كانت نسبة الأُمية بين الأطفال في سوريا شبه معدومة، فيما تُشكل نسبة الملتحقين في المدارس الابتدائية أكثر من 95 % ، لكن تلك النسبة تراجعت خلال سنوات الحرب وما بعدها، فأصبحت سوريا تحتل مرتبة متقدمة في نسبة المتسربين من التعليم، حيث تشير تقارير اليونيسف لعام 2021 إلى حرمان نحو 2،4 مليون طفل في سوريا من التعليم. وبحسب أرقام وزارة التربية السورية، لعام 2022، فإن نسبة الأطفال المتسربين من التعليم الإلزامي قد بلغت 22% من إجمالي عدد التلاميذ. كما أدت الحرب، وفق تقارير اليونيسف لعام  2018، إلى تضرر وتدمير نحو 7 آلاف مدرسة، وخروجها عن الخدمة، أي ما يعادل ثلث مدارس البلاد، التي يقدر عددها الإجمالي  بنحو 24 ألف مدرسة، فيما أدى الزلزال الذي ضرب شمال غرب سوريا بداية العام الحالي، وبحسب وزير التربية دارم طباع، إلى تَضرر نحو 248 مدرسة، بشكل جُزئي أو كُلي، توزَّعت في محافظات حلب، اللاذقية، طرطوس، حماة وإدلب.  

  ونتيجة ظروف الحرب ومن ثم انهيار الواقع الاقتصادي في البلاد، وبالتالي تراجع حجم الإنفاق الحكومي على القطاع التعليمي (بحسب صحيفة قاسيون المحلية تراجع الإنفاق من 1,7 مليار دولار في العام 2010 إلى 228 مليون دولار في عام 2022) أصبحت معظم المدارس التي تستقبل الطلاب اليوم عاجزة عن توفير أهم مستلزمات العملية التعليمية كوسائل الإيضاح والقرطاسية، والاحتياجات اللوجستية، والتجهيزات العلمية والعملية والتكنولوجية، هذا بالإضافة لعجز بعض المدارس عن توفير كميات الكتب الدراسية المطلوبة، مما يضطرها لتسليم بعض الطلاب كتباً مستعملة، مهترئة وتالفة  ولا تصلح للاستخدام.         

وإلى جانب ذلك تعاني اليوم كثير من المدارس من نقص الأثاث المدرسي  وتفتقر قاعاتها الدراسية بمعظمها للإنارة الجيدة والتدفئة والتهوية، وشروط الراحة النفسية التي يحتاجها الطلاب، حيث يعانون من ظروف الحَرّ صيفاً، في ظل الانقطاع المستمر للكهرباء، وبالتالي صعوبة توفير التكييف أو حتى مراوح الهواء، فيما يعانون من ظروف البرد شتاءً، نتيجة شح كميات مازوت التدفئة  في ظل أزمة الوقود المستمرة في البلاد. ويؤثِّر ذلك كله بشكلٍ سلبي على طاقاتهم وتركيزهم  واستيعابهم للمعلومات خلال الدروس، كما يؤثِّر في الوقت ذاته على أداء المعلمين ويُشعرهم بالتعب وانعدام الطاقة، لذا يضطر كثير من الطلاب والمعلمين في الصيف لاستخدام المراوح اليدوية، ولجلب ثيابٍ دافئة وسميكة، إضافة لما يرتدونه، لتقيهم بعض البرد في الشتاء.

ولأن بعض المحافظات تستقبل الكثير من النازحين، فإن أعداد الطلاب في مدارسها قد ازدادت خلال السنوات الماضية، لتزدحم بعض القاعات الدراسية بنحو خمسين طالباً، وهو ما يولّد شعوراً من الضيق والاختناق لدى الطلاب، يؤدي إلى تشتيت أذهانهم وانتباههم، ويعرقل عملية إيصال المعلومات، ليؤثَّر سلباً على مستويات فهمهم وإدراكهم، ويفرَض عدم مساواة في التعليم بين طلاب الصف الواحد. كما يؤثَّر ذلك الازدحام أيضاً على أداء المعلمين، الذين يبقون طوال الدرس في حالة من الضغط والتوتر وهم عاجزون عن جذب انتباه الطلاب وضبط شغبهم، وبالتالي عن منحهم الاهتمام المطلوب والطاقة التعليمية اللازمة. فبعض المعلمين يضطرون للاستغناء عن طرق التعليم التعاوني، لصعوبة تطبيقها، وعن تطبيق بعض التمارين والمسائل العملية التي تساعد الطالب في استيعاب المعلومات بالشكل الأمثل، فيما يعجزون عن مناقشة معظم الطلاب في بعض الدروس التي تحتاج للنقاشات التفاعلية والاستنتاجية، هذا إلى جانب عدم تمكنهم من مشاهدة جميع الوظائف والواجبات، التي يكلفون طلابهم بها، أو إجراء الاختبارات الشفهية لهم جميعاً.

ورغم تعديل معظم المناهج الدراسية، خلال السنوات الأخيرة، لتعتمد على التعليم التعاوني والتفاعلي،  لم يُشكل ذلك التعديل الفائدة المرجوة للطلاب، والتطوير النوعي المطلوب الذي تحتاجه منظومة العملية التعليمية، وتعزو المُعلمة هيفاء (40 عام/ مُدرسة إعدادي في ريف دمشق) سبب ذلك لمجموعة عوامل، تحدثنا عن بعضها: ” تعتمد المناهج المُعدلة على كمية المعلومات الكثيفة أكثر من نوعيتها، فهي ترهق الطلاب بكثافتها وتضطرهم للاستعانة بالمدرسين الخصوصيين، فيما يحتاج إنجاز بعض التمارين والمسائل وقتاً أطول من وقت الحصة الدراسية المقررة. كما إن تلك المناهج لم تأخذ بعين الاعتبار مدى جهوزية وإمكانيات المدارس لتطبيقها بالشكل الأمثل، فتدريسها يحتاج إلى وسائل للإيضاح ومختبرات للعلوم وللكثير من التجهيزات اللوجستية والتقنية، خاصة فيما يتعلق ببعض المواد العلمية، فيما تفتقر معظم المدارس لكل ذلك وتغيب عنها حتى خدمات الإنترنت”. وتضيف المُعلمة : ” لم تراع المناهج الحديثة قدرات وكفاءات المعلمين الذين درسوا في الجامعات والمعاهد طرائق التعليم التقليدية، فبعضهم، وخاصة الذين يعملون كمدرسين وكلاء، يفتقدون لآلية شرح تلك المناهج والتعامل معها لتطبيقها بالشكل المطلوب، ويعجزون عن فهم بعض مضامينها التي تعتمد على الاستنتاج، لذا مازالوا يعتمدون في تدريسها على الأساليب التقليدية التي تقتصر على الحفظ والتلقين، وتُدرِس بعض المواد العلمية بشكل نظري لا يراعي الأساليب العملية والتفاعلية التي تحفِّز تفكير الطالب وتطور مهاراته الذهنية”.    

واقع المعلمين وأثره على العملية التعليمية

بحسب بعض المصادر الرسمية خسر قطاع التعليم خلال سنوات الحرب نحو 100 ألف معلم، وذلك نتيجة نزوحهم أو سفرهم خارج البلاد أو استقالة بعضهم مع تردي الوضع الاقتصادي للمعلم وتراجع دوره التربوي وقيمته الاجتماعية نتيجة ما أفرزته ظروف الحرب. ويُلاحظ في السنوات الأخيرة تراجع حجم الإقبال على مهنة التدريس، نتيجة تراجع دخلها بشكلٍ كبير، حيث بات الكثير من الطلاب المُقبلين على الدراسة الجامعية يبتعدون عن دراسة الفروع والكليات المتعلقة بمجالات التعليم، وهو ما أدى إلى نقص الكوادر التدريسية، هذا إلى جانب سفر الكثير من خريجي الجامعات (الذين تخرجوا كمعلمين) إلى خارج البلاد فور إنهائهم للدراسة، وعزوف بعضهم الآخر عن مزاولة مهنة التدريس في المدارس الحكومية، إما لتوجههم نحو المدارس والمعاهد الخاصة أو لانتظارهم فرصة سفر.

وفي ظل الواقع الاقتصادي المتردي الذي يعيشه معلمو المدارس الحكومية اليوم، يضطر معظمهم للعمل خارج أوقات الدوام في معاهد المتابعة والمعاهد الخاصة أو في تقديم الدروس الخصوصية، فيما يضطر آخرون للعمل في أعمالٍ لا علاقة لها بالتدريس. وقد أثَّر هذا الواقع بشكل كبير على سويتهم المهنية وأدائهم التعليمي خلال تقديم الدروس في المدرسة. وعن ذلك الواقع يحدثنا المُعلم حازم (44 عاماً/ يعمل في مدرسة ابتدائية في ريف دمشق) :” دخلي الشهري كمعلم هو 300 ألف ليرة (حوالي 22 دولاراً)، لا يكفيني لشراء الخبز والسجائر، لذا أعمل في المساء، لثماني ساعات، بائعاً في سوبر ماركت، كما أعمل في تقديم الدروس الخصوصية لبعض الطلاب خلال فترة الامتحانات. ويؤثر عملي خارج المدرسة بشكل سلبي على أدائي كمعلم، فأنا بالكاد أجد وقتاً للراحة والنوم، حيث أشعر خلال تقديم الدروس بالإرهاق  وانعدام الطاقة والتركيز، وكثيراً ما تختفي المعلومات من رأسي فجأة، وأعجز في كثير من الأحيان عن بذل أي جهدٍ فاعلٍ وعن خلق تواصلٍ جيد مع الطلاب، الذين يحتاجون لكثيرٍ من الاهتمام “. ويضيف: “بعض مُعلمي المدارس الحكومية، ونتيجة إحساسهم بأن جهودهم وأتعابهم لا تقدر، باتوا لا يشعرون بأي مسؤولية تجاه طلابهم وإنما يزاولون عملهم فقط لكي يبقوا على تواصلٍ مع الطلاب لإعطائهم الدروس الخصوصية خارج المدرسة، والتي قد تحقق لهم في اليوم الواحد أكثر من نصف دخلهم الشهري في المدرسة”.

الفروقات الطبقية بين الطلاب   

 أدت ظروف الحرب والنزوح ومن ثم تدهور الأوضاع الاقتصادية في عموم البلاد إلى إيجاد فروقاتٍ طبقيةٍ واضحة بين طلاب الصف الواحد، تُظهر حجم التفاوت الكبير في مستويات المعيشة، فبينما يرتدي بعض الطلاب النازحون والفقراء ثياباً قديمة ومهترئة، وربما متوارثة عن إخوتهم، ويحملون كتبهم في حقائب مرتجلة (مصنوعة يدوياً من الجينز أو الأقمشة البالية) أو حتى في أكياس من النايلون، نجد زملاءهم الأثرياء وميسوري الحال يرتدون ثياباً جديدة وأنيقة ويحملون حقائب فاخرة ومتميزة، ويستخدمون أفضل أنواع القرطاسية.

وعن تأثير تلك الفروقات تحدثنا المعلمة غيداء (43 عام/ تعمل في مدرسة إعدادية في ريف دمشق) :”يشعر كثير من الطلاب الفقراء، وخاصة النازحين منهم، بشيءٍ من النقص والغيرة، وهم ينظرون بحسرةٍ تجاه زملائهم الذين قد يتباهون بنقودهم ولباسهم وحقائبهم، وبنوعية الأطعمة والمشروبات التي يشترونها أو يحضرونها من بيوتهم، وهو ما يترك آثاراً نفسية مؤلمة لدى أولئك الطلاب،  تؤثِّر بشكل كبير على توازنهم النفسي وتركيزهم الذهني وبالتالي على قدراتهم الاستيعابية ونجاحهم وربما مستقبلهم العلمي، وهو ما يدفع بعضهم لكره المدرسة، أو حتى للتسرب منها”.  

وبحسب المُعلمة غيداء لا تنحصر الفروق الطبقية داخل المدرسة فقط: “بينما يذهب بعض الطلاب الأغنياء خارج الدوام بسيارات آبائهم إلى المعاهد الخاصة ومعاهد المتابعة، يعجز كثير من الطلاب النازحين حتى عن إيجاد جوٍ أو مكانٍ مناسب للدراسة وحل واجباتهم المدرسية، فمعظم بيوت النازحين غالباً ما تكون مزدحمة، وقد يسكنها أكثر من عائلة (تضطر بعض العائلات للسكن المشترك لكي تتقاسم إيجار الشقة وتتساعد في تحمل نفقات المعيشة) وهو ما يخلق جواً دائماً من الضجيج ويعدم أي إمكانية عند الطالب للتركيز”. وتضيف المُعلمة: “بعض الطلاب النازحين يسكنون في شقق غير مكسية (على العظم) تفتقر لأبسط متطلبات الحياة وتنعدم فيها الإنارة الجيدة والتدفئة والشروط الملائمة التي يحتاجها الطالب للدراسة، وبالنتيجة يؤدي ذلك كله إلى تراجع المستوى العلمي لأولئك الطلاب ويؤثر على نجاحهم”.  

مسرح العرائس: خيوط تشدك إلى عالم الدهشة والخيال

مسرح العرائس: خيوط تشدك إلى عالم الدهشة والخيال

يتوارى الممثل عن الأنظار خلف جدار أو ستارة، بينما يتولى صوته وأصابعه مهمة إدخالك إلى عالم كبير من الدهشة والإبهار البصري ليعيدك إلى ألفة ماضية. يتوحد الممثل مع الشخصيات الإنسانية في حركات انسيابية وتنقلات ممشوقة متماهياً مع الأداء الحركي والصوتي بخفة عالية. هذه المشاهد تدور في فلك مسرح العرائس “الماريونيت” وهو فن شعبي تتأصل جذوره في الثقافات الآسيوية القديمة، والتي ازدهرت في البلدان العربية في نهاية القرن الثالث عشر.

تمكنت الفنانة التشكيلية المختصة بفنون مسرح العرائس هنادة الصباغ من تطويع مادة الكرتون التالفة والمهترئة لتحولها إلى تماثيل متحركة في العديد من معارضها وورشات العمل التي تقيمها على الدوام. تبث هنادة الحياة في أوردة العرائس، حيث تبدو بألوانها الطبيعية الأقرب للون البشرة، وكأنها شخوص حية تتعانق وتتحاور وتعبر عن مكنوناتها الفسيحة ومشاعرها المتقدة. تتحدث الصباغ لـ “صالون سوريا” عن فن العرائس واصفة إياه بأنه: “فن قائم على المحاكاة وقد وجد منذ العصور القديمة وتطور مع تطور البشرية فدخل بالطقوس الشعبية”. تؤكد الصباغ على الدور التربوي والجمالي للدمية وعلاقتها بالممثل للارتقاء لمصافي الدول الأوربية والعودة للموروث الذي يحمل في طياته علاقتنا بالفطرة مع هذا الفن.

تُشير الفنانة التشكيلية إلى أن الحداثة تعدت على فن العرائس بوصفه موروثاً، غير أن النزعة إلى التراث والحنين للقديم باقية بالفطرة، إذ تمكن هذا الفن من إيصال الأفكار ونشر الوعي الإنساني، والاجتماعي، والديني، والسياسي. هذا عدا عن لعبه دوراً هاماً في الترفيه عن الكبار والصغار، حيث يمس الحالة الذهنية والحسية والحركية  لديهم فقد وجد منذ زمن الفراعنة وفي الأساطير الصينية واليابانية الشعبية وكذلك في بلاد ما بين النهرين وتركيا، كذلك انتشر في أوروبا من خلال المسارح الجوالة بين المدن.

تتجاوز الدمية عن كونها نسيج من الأقمشة والخيوط التي تجعلها متماسكة في مجالها الحركي، بل هي حيز حميمي يحتوي روح الممثل لتتجسد فيها انفعالاته وأحاسيسه لينقلها إلى المتلقي بأمانة وخفة ظل تجعلهما شخصاً واحداً، وعن ذلك تقول الصباغ: “أن يتفاعل الجمهور مع الدمية وكأنها إنسان حقيقي، هو دليل على حالة انسجام عالية المستوى للممثل مع الدمية.”

مسرح العرائس في سوريا

تخطو سوريا بخطى بطيئة نحو فن العرائس بالرغم من كونها كانت تخوض تجارب ثرية في حقبة الستينيات والسبعينيات، حيث كان مسرح العرائس في حالة ازدهار آنذاك أكثر بكثير من الوقت الحالي. تعلق الصباغ على حالة تراجع هذا الفن بالقول: “يعود السبب لتطور التلفزيون والسينما ومواقع التواصل الاجتماعي التي  لها تأثير كبير، إذ تغيرت نظرة الإنسان للأشياء وأصبحت مادية أكثر، كما فقد الشغف بالدمية رونقه تدريجياً وأهمل بعد ما كانت تقام له ورشات عمل”.

تلفت الفنانة التشكيلية الانتباه إلى محاولات دائمة لوزارة الثقافة السورية في الارتقاء بمسرح العرائس حيث كانت قديماً تسعى لاستدعاء خبراء من دول مختلفة كبلغاريا وجمهورية التشيك ورومانيا وسلوفاكيا بسبب ذيع صيتهم في هذا المجال، لكن تغير الحال في الوقت الراهن والوضع الاقتصادي والحرب أدوا للاعتماد على الخبرات الداخلية. ورغم الظروف الصعبة مازال مسرح العرائس والطفل زاخراً بالعروض المستمرة ممثلاً فسحة من المتعة والترفيه للأطفال والعائلة.

تُشير الصباغ إلى أن الميزانية القليلة التي ترصد لهذا الفن تُشكل عقبة أساسية في تطور فن العرائس، إضافة إلى غياب ثقافة مسرح العرائس في المناهج المدرسية كنوع من الفنون الجادة، لاسيما في ظل ظهور الألعاب الإلكترونية وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي. في المقابل، لا تنكر الفنانة التشكيلية وجود أشخاص يقفون في مواجهة هذا الكم الهائل من الحداثة في سبيل الحفاظ على الموروث والأصالة، وتشرح هنادة الصباغ بأن هناك “شعوراً بالمتعة عندما تتحرك الدمية لا تعطينا إياه الشاشة المسطحة ولا الألعاب الالكترونية، هي أشياء ملموسة تنهض بالروح وعودة بالفطرة الإنسانية لأول دمية لعبنا بها، كأنها إنسان حقيقي كالطفل الصغير الذي يصنع من وسادته دمية أو من المكنسة طائرة لها قدرة على نقل الأحاسيس”.

الغيرة الإيجابية على المهنة

تعد الصباغ من القلائل الغيورات على مسرح العرائس، لتحاول ترويض شعور الغيرة الإيجابية بإقامة ورشات العمل لزيادة وعي الجمهور به وتبادل الخبرات والمعارف مع العرائسيين بالدول العربية والأجنبية والتعرف على أعمالهم. وتشارك هنادة الصباغ ملاحظتها بأن: “هناك حالة نهوض ملحوظة على الصعيد العربي وتطوراً وغيرة إيجابية للحاق ومواكبة الدول المتقدمة بمجال مسرح العرائس، هناك مهرجانات في كثير من الدول العربية كتونس ومصر والمغرب”.

مسرح خيال الظل

تطورت أدوات فن العرائس بدءاً من صندوق الفرجة ليفسح المجال أمام ظهور مسرح خيال الظل أو ما يعرف بـ”خيال الستار” الذي كان منشأه الصين، وهو فن شعبي يعتمد على دمى من الجلود المجففة ذات الألوان المتباينة يتراوح طولها بين 30 ـ 50سم، ليتم تحريكها بعصا وراء ستار من القماش الأبيض المسلط عليه الضوء على نحو يجعل ظلها الذي يبرز للمشاهدين على يد فنان محترف يسمى “المخايل”. وكانت هذه الوسيلة لرواية الحكايات وتسلية الناس ذات دلالات إنسانية وسياسية ودينية، إذ كانت تعبر عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية.

تُشير الصباغ إلى أن “المخايلين” هم من برعوا برواية القصص الشعبية والتغني بالبطولات علي يد ابن دانيال ومن أشهر رواياته عنترة بن شداد التي تعاد روايتها في دمشق بشهر رمضان كتقليد سنوي. وتعد شخصية الأركوز الأشهر في مسرح خيال الظل، حيث عرف بالنقد اللاذع والساخر من الوضع الاجتماعي والسياسي للبلاد. ويندرج “كركوز وعواظ” ضمن مسرح الظل، وهو عبارة عن شخصيتين، “كركوز” الساذج و”عواظ” الذكي، وتعود أصول الفكرة إلى العاصمة السورية دمشق، حيث اشتهر هذا الفن فيها باعتباره فناً شعبياً تداوله الناس في المقاهي العامة. ونبعت أهمية مسرح “كركوز وعواظ” من كونه يتطرق إلى مواضيع اجتماعية ناقدة ولكن بأسلوب فكاهي ساخر، وتستخدم الشخصيتان في حوارهما أسلوب الشعر والنثر والغناء والموسيقى. وكدليل على أهمية مسرح الظل، أدرجت منظمة “يونيسكو” التابعة للأمم المتحدة مسرح “كركوز وعواظ” على لائحة التراث العالمي غير المادي، والذي يحتاج للحماية العاجلة.

الدولار ومعضلة الحياة اليومية في سوريا

الدولار ومعضلة الحياة اليومية في سوريا

“نشتري عبوة المياه على تسعيرة الدولار في بلد المياه الجوفية، ونقبض رواتبنا الشهرية بالليرة السورية، وحين نذكر كلمة دولار ولو في محادثة فيس بوك نتعرض للمحاسبة، أليس هذا عجب العجاب!”

بهذه الكلمات الغاضبة تلخص المهندسة سما الحلبي معاناة السوريين مع تسعير يومياتهم على مقاس العملة الخضراء في معادلة رياضية–اقتصادية عجيبة لا يمكن معها تفسير تسعير جرزة البقدونس المزروعة في سهول الغاب بالدولار وصولاً للمنازل مروراً بكل ما يخطر ولا يخطر على البال.

“مصروف الشهر”

لم يعد خافياً على أحد–إلّا الحكومة على ما يبدو أنّ نسق الحياة اليومية للمواطنين يسير على إيقاع بورصة التجار المحسوبين عليها والذين تنكرهم واصفةً إياهم بالمضاربين والمتلاعبين بالعملة. ومن نافلة القول أنّ العملة الوطنية هي عماد الأمن القومي، فكيف يستوي ذلك سوى في مشهد اقتصادي يمتلك من الغرائبية ما يجعله جنائزياً على جيوب المواطنين الحالمين القابضين على الجمر بيد والقابضين مصروف شهرهم باليد الأخرى.

كلمة “مصروف الشهر” ليست محض تعبير مجازي في سياق مقال صحفي، بل هي نكتة سوداء اجترها السوريون واصفين ما تمنحهم إياه الحكومة شهرياً بـ “المصروف أو الخرجية”. وحقيقةً الأمر كذلك فعلاً، فحين يكون متوسط المرتب الحكومي نحو 15 دولار شهرياً فتلك معضلةٌ تسقط حكومات، يقول سوريون على الدوام.

بيدٍ من حديد

في وقت يهيمن فيه الدولار على كل تعاملات السوق تجرم الحكومة والقانون السوريان بأشد العقوبات أي شكل من أشكال التعامل به على صعيد التداول وضمناً إتمام عمليات البيع والشراء بعد أن صار شراء سيارة يحتاج لأكياس كثيرة من العملة المحلية التي كادت تصير بلا قيمة. في القانون السوري تصل عقوبة استخدام الدولار لسبع سنوات من السجن ويمكن تشديدها لعشرين سنة في حالة وجود قطع مالية مزيفة.

تجاهل القانون، في تورية غير مفهومة أو على الأقل غير مشروحة للعوام، أن كل شيء في حياة السوريين يسير وفق تسعيرة الدولار في السوق السوداء، السوق السوداء ذاتها التي تسعّر الحكومة بموجبها بشكل نسبي أسعار بعض الأساسيات كحال المشتقات النفطية.

فرضت الهيمنة الدولارية على الناس في معاملاتهم اليومية استخدام تلك العملة لإتمام عمليات البيع والشراء في مجازفة عالية المستوى تقودهم إلى السجن في حال وشى أحد بالبائع أو المشتري أو لو تم القبض عليهما في أي حال من الأحوال أو لو اختلف الطرفان لسبب ما.

قانون يعاقب ولا يحمي

فؤاد اسم مستعار لشاب وقع ضحية التعامل بالدولار الذي لا يمكن تأطيره قانونياً، حيث واجه مشكلة في تحصيل بقية ثمن سيارته التي باعها بالدولار لشخص آخر، يقول لـ “صالون سوريا”: “بعت السيارة بالدولار لأنّ ثمنها سيملأ حقائب كثيرة بالليرة السورية، ولأنّ عملتنا تفقد قيمتها بشكل ساعي، لذا عمدت كما يفعل الجميع للبيع بالدولار وبشكل سري بيني وبين المشتري الذي لم يكن لديه مشكلة، وبالفعل اتفقنا على الثمن ودفع لي ثمنها على أن يبقى ألف دولار لحين فراغها النهائي”.

ويضيف: “بالفعل فرغتها له لاحقاً وطلب مني التريث بضعة أيام حتى يرسل لي ما تبقى من المبلغ، ولكني شعرت أنّه يماطل، ثمّ في النهاية ما كان منه إلا أن قال لي: ليس لك شيء عندي، اشتكِ للشرطة لو شئت”.

فعلياً لا يستطيع فؤاد التشكي لأنّه سيسجن هو أولاً قبل أن يسجن الطرف الآخر، وهذا ما استغله المشتري، وقد استشار فؤاد الكثير من المحامين حسب قوله، لكنّ الجميع أشار إليه بذات النتيجة وهي أنّ الحبس مصيره نتيجة تعامله بالدولار في الشراء والمبيع، لذا اختار السكوت وتناسي ما جرى له كحل قسري وحيد.

حفاظ على المدخرات

ارتباط أسعار كل شيء في حياة السوريين بالعملة الصعبة خلق حالةً من التحدي الجماعي الشعبي للحكومة والقانون، حتى أنّ كمية الدولار المتوافرة في السوق باتت ملحوظةً، وحتى أنّ كثيرين من السوريين من أصحاب المهن الخاصة أو مصادر الرزق المتعددة يعمدون بصورة متواصلة لتحويل ما يجنونه من أموال إلى العملة الصعبة أو الذهب كخيار بديل.

وفي هذا الإطار يوضح الصناعي مازن ملوح لـ “صالون سوريا” وجهة النظر العامة قائلاً: “لنقل مثلاً إن سعر سيارة من نوع كيا ريو كان نحو 50 مليوناً العام الماضي، واليوم سعرها حوالي 200 مليون، هذا أوضح مثال عن الانهيار، اليوم ثمنها 200 مليون ولو حصل لك ظرف ولم تشترها فوراً فإنك ستشتريها بعد شهر بـ 210 أو 220 مليون أو أكثر، لذلك الناس تحوّل أموالها للذهب أو الدولار، الأمر ليس تجارة لمعظمهم، بل هو حفاظ على قيمة مدخراتهم بالمقام الأول”.

الادخار دون الاتجار

ومن جانب آخر ثمة أشخاص يخافون قوانين تجريم التعامل تلك، لكنهم يعرفون كيف يلتفون عليها، فلا يبيعون أغراضهم (منازل – عقارات – سيارات – موبايلات وغيرهم) بالدولار ولكنهم يسعرونها به ويقبضون الثمن بالعملة المحلية المقابلة له ثم يبدلونها بالدولار من جديد (سراً) وعبر وسطاء موثوقين من قبلهم.

كل ذلك لئلا يقع عليهم جرم التعامل بالدولار ومن الضروري الإشارة أن الحيازة بقصد الادخار الشخصي مسموحة، أي أن يكون لدى الشخص أيّ مبلغ كان من الدولار ومهما كبر فالأمر مسموح، لكن على أن يظل داخل منزله دون أن يخرج منه دولاراً واحداً للخارج.

يُستدل على ذلك بوضوح من خلال عمل الضابطة الشرطية التي يتم إبلاغها بقضايا سرقة منازل ويكون من ضمن المسروقات مبالغ مالية بالعملة الصعبة، فتكون الضابطة معنية في حال إلقاء القبض على اللصوص بإعادة تلك المبالغ لأصحابها دون مصادرتها ما لم يثبت أنّها خضعت للتداول بأي شكل.

ولإتمام الحيازة يجب أن تكون تلك المبالغ قد تم الحصول عليها عبر تبديلها من المصارف الحكومية المرخصة أصولاً وهو ما لا ينتهجه الناس لأنّ قيمة الدولار مثلاً في تسعيرة المصرف المركزي 11 ألف بينما وصلت قيمته في السوق السوداء أواسط آب/أغسطس المنصرم إلى نحو 16 ألف ليرة سورية، إلا أنّ ذلك أيضاً لا يشكل فرقاً كبيراً بعد أن تصير الأموال ضمن منزل الحائز فمن الصعب إثبات مصدرها، ليصير التوجه إلى التنبيه بعدم التداول بها لتسري عليه قانونية الحيازة الشخصية بقصد الادخار دون الإتجار.

المهم في القضية هو عدم ضبط عملية التداول خلال حصولها، أو عدم وجود فواتير مكتوبة باليد تثبت التعامل بالدولار، أو عدم القبض على الشخص خلال لحظة تصريف المبلغ، فيما يكفي وجود اعترافات متطابقة على المصّرف لأشخاص متعددين لإلقاء القبض عليه.

“أنبياء” الاقتصاد الجدد

مراراً، قررت الحكومة مجاراة السوق السوداء على قاعدة أنها الأحق بجمع الدولار الذي بحوزة مواطنيها. نسبياً لم تنجح، فقد انتصرت السوق السوداء عليها مجدداً، في علاقة تبادلية شائكة ليست ببعض رموزها أكثر من شريكة في لعبة التدوير تلك، هذه اتهامات يسوقها الناس معبرين عنها في غير مكان.

فالحكومة تضرب الصرافين غير الشرعيين، تطارد عمليات التبادل التجاري، تصادر العملة الأجنبية من الأسواق، لكنّها، مع كل ما فعلته، لم تستطع أن تؤثر في مجتمع بات لا يثق بعملته.

وفي ظل كل تلك الفوضى النقدية التي تعيشها سوريا ثمة سوريون لا يعرفون كيف هو شكل الدولار حتى، لكنهم يشترون قرص الفلافل على تسعيرة الورقة الخضراء وعلى مزاج “أنبياء” الاقتصاد الجدد الذين يحاصرون السوريّ في غرفة نومه حتى كادوا يفرضون عليه ضرائب الإنجاب.