سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة.

في جولة لنا على عدد من المحلات والمولات المتخصصة ببيع الألبسة في أسواق دمشق مثل شارع الحمراء ومنطقة الصالحية والحميدية، لاحظنا ارتفاع الأسعار عموماً بالنظر إلى موسم العام الماضي، وبالطبع فإن الأسعار تختلف حسب عدة معايير، منها: الجودة والتصميم وسنة الإنتاج.

تضخم جامح!

في أحد مولات شارع الحمراء، وصل ثمن بنطال (جينز) لطفل بعمر ست سنوات إلى ما بين 440 و465 ألف ليرة سورية؛ بينما انخفض سعر بعض البنطلونات المخزنة من العام الماضي إلى 200 ألف ليرة سورية، أما البلوزة الربيعية فبلغ سعرها 75 ألف ليرة سورية، وثمن بنطال (كتان) 95 ألف ليرة سورية في حين بلغ ثمن قميص صيفي لطفلة بعمر 12 سنة في أحد محلات الصالحية 100 ألف ليرة سورية، وسعر بنطال (جينز) 325 ألف ليرة سورية. وبلغ سعر طقم لطفل (12 سنة) مؤلف من بنطال وقميص (كتان) وكنزة قطنية 550 ألف ليرة سورية، كذلك اقترب ثمن بدلة (توينز) من حدود 350 ألف ليرة سورية.

وفي محل آخر في منطقة الصالحية أيضاً، تفاوت ثمن الفساتين (قماش مارشميلو) بين 225 و275 ألف ليرة سورية، وقارب سعر طقم (جينز) مكون من بنطال مع سترة وبلوزة 450 ألف ليرة سورية، وكان سعر البلوزة الربيعية لوحدها 90 ألف ليرة سورية.

وتبدي إحدى عاملات بيع الملابس-في حديث معنا استغرابها من أسعار ألبسة الأطفال التي وصلت إلى حدود مرتفعة بالمقارنة مع سلم الرواتب والأجور في القطاعين الخاص والعام إجمالاً.

ويقول أحد الباعة في منطقة الصالحية: “إن حركة الأسواق متوسطة، لكن عمليات الشراء الفعلية ضعيفة نسبياً، بينما ارتفعت الأسعار أكثر من 100% بالمقارنة مع الموسم الفائت، وهي بالتأكيد لا تنسجم مع دخول المواطنين/المواطنات”.

وتختلف أسعار أحذية الأطفال ما بين محل وآخر وبحسب جودتها وموقع المحل والسوق، حيث بلغ سعر أحدها 200 ألف ليرة سورية.

الأسواق الشعبية!

قصدت سامية (أم لطفلين وموظفة في قطاع الصحة الحكومي) محلات سوق الحميدية بقصد شراء كسوة العيد لطفلتها (5 سنوات)، وعادة ما تكون الأسعار هنا منخفضة قليلاً، ويمتاز سوق الحميدية بحركة نشطة؛ بيد أن الأمر قد لا يرتبط بحركة ما قبل عيد الفطر فقط، حيث يشهد هذا الوسط التجاري ازدحاماً متكرراً؛ إذ يعد مقصداً لتلبية حاجات الأسرة المتنوعة.

ورصدت سامية سعر حذاء بين 150 و80 ألف ليرة سورية، وهي أحذية من تصفيات السنة الماضية، وأقل ثمناً من أحذية العام الحالي، وتكمن المشكلة في أن القطع معدودة وبمقاسات محددة، ولذلك يتوجب عليها التفتيش بين عدة محلات قبل أن تجد طلبها.

وسامت سامية في السوق أيضاً فستاناً بسعر ما بين 350 و400 ألف ليرة سورية. ويختلف السعر تبعاً لجودة القماش والتصميم، حيث يرتفع سعر الفستان الصيفي مع سترة وقبعة إلى500 ألف ليرة، وينخفض إلى 200 ألف ليرة سورية، تعقّب سامية: “لكن السعر المتدني يرتبط بنوعية قماش أكثر رداءة”.

مليون ليرة لكسوة واحدة!

تضيف سامية في حديثها معنا: “إن سعر الكسوة الكاملة لولد واحد تتجاوز مليون ليرة على الأقل، لذلك قسّطت عمليات الشراء على دفعات؛ كلما توفر لدي بعض المال، فاشتريت حذاء وبنطالاً لطفلي”.

قررت سامية تأجيل مسألة شراء الفستان لطفلتها إلى حين تخمين أسعار الألبسة الأوروبية المستوردة (البالة)، فهي برأيها تحمل الأسعار ذاتها، لكنها بجودة وقماش أفضل.

وفي محافظة حمص، وجدت سهى أن أسعار الألبسة أقل من مثيلتها في دمشق، حيث اشترت طقماً (جينز) مؤلفاً من بنطال وبلوزة وسترة بمبلغ 250 ألف ليرة سورية، والأهم برأيها “إسعاد الأطفال بالحد الأدنى”.

حوالات وسلف مالية

يكتفي قسم من المواطنين/المواطنات بمشاهدة البضائع فقط بدون إتمام عمليات الشراء مع تصدر الغذاء سلم الاحتياجات الأساسية كما يصفون، وعلى الرغم من ذلك، نشطت حركة الناس بالتوازي مع اقتراب عيد الفطر، مع العلم أن جزءاً من العائلات يعتمد على الحوالات الخارجية التي يرسلها الأفراد لذويهم وأقاربهم لسد احتياجاتهم، وتسهم بعض الجمعيات الخيرية العاملة في دمشق وريفها في توزيع كسوة العيد لعدد محدود من العائلات، لكنها لا تغطي إلا جزءاً صغيراً من حجم الاحتياجات الفعلي مع توسع رقعة الفقر.

ويشار إلى أن مصرفاً سورياً فتح الباب مؤخراً للحصول على سلفة مالية بقيمة مليون ليرة سورية فقط، خاصة بالموظفين/الموظفات بهدف تأمين “مستلزمات العيد”، ولمدة سداد تمتد حتى 12 شهراً، لكن السلفة لا تكفي إلا لتجهيز طفل واحد ضمن الحد الأدنى في حال قررت العائلة التغاضي عن الاحتياجات الضرورية.

الإنفاق على الألبسة!

مع انتهاء الربع الأول من عام 2024، ارتفع وسطي تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من خمسة أفراد، وفقاً لـ”مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة”، إلى نحو 12.5 مليون ليرة سورية (أما الحد الأدنى فقد وصل إلى 7,812,417 ليرة سورية).

بحسب صحيفة (قاسيون) المحلية، ارتفعت تكاليف الحد الأدنى للحاجات الضرورية الأخرى التي تشكل 40% من مجموع تكاليف المعيشة (مثل السكن والمواصلات والتعليم واللباس والصحة وأدوات منزلية واتصالات… وغيره) من 3,013,906 في نهاية أيلول إلى 3,124,967 ليرة سورية في نهاية آذار 2024؛ أي أنها ارتفعت بمقدار 3.7% خلال ثلاثة شهور.

ولا يتناسب حجم الإنفاق العام للأسرة مع الدخل الشهري، حيث يبلغ وسطي الرواتب والأجور في القطاع العام حوالي 300 ألف ليرة سورية (21 دولاراً أمريكياً).

تدهور الليرة والأجور معاً

حدد مصرف سورية المركزي في نشرة الحوالات والصرافة (28/3/2024) سعر شراء الدولار الأمريكي بمبلغ 13,400 ليرة سورية، وتصدر هذه النشرة بغرض التصريف النقدي وشراء الحوالات الخارجية، كما حدد سعر وسطي شراء ومبيع الدولار في نشرة السوق الرسمية بمبلغ 12,562 ليرة سورية. من جهة أخرى، انخفضت قيمة الليرة في السوق الموازية إلى أكثر من 14,000 ليرة سورية مقابل كل دولار أمريكي، وبالتالي أثّر تدهور العملة المحلية بشكل حاد في قدرة المواطنين/المواطنات الشرائية على تأمين احتياجاتهم الأساسية، ومنها الألبسة التي باتت تتصف بالموسمية.

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها “سِكبة رمضان” التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون طعامهم من خلالها، وتحظى برمزية إنسانية خاصة، إذ يتم من خلالها إطعام الكثير من المحتاجين دون أن يشعروا أن في الأمر شفقة أو صدقة، كما أنها تربي الأطفال في العائلة على قيم المحبة والتضامن والكرم. وقد اعتادت معظم العائلات  السورية، فيما مضى، أن تطهو كمياتٍ إضافية من الطعام، كي ترسل إلى أقاربها وجيرانها سكبة رمضان، وكانت، على اختلاف مستوياتها المعيشية، تتفنَّن في تحضير الأطباق الرمضانية التي تُزيّن مائدة الإفطار، كالكبب والمشاوي والشوربات والسلطات والفتات والمحاشي واليبرق والحلويات والعصائر وغيرها.

اليوم ومع تردي الواقع المعيشي والاقتصادي في عموم البلاد، باتت عادة “السكبة” تغيب عن طقوس رمضان، كغياب معظم الأطباق الرمضانية التقليدية عن موائد كثيرٍ من الناس، الذين أصبحوا  يكتفون بتحضير طبقٍ واحدٍ أو طبقين بسيطين في أحسن الأحوال، وإن استطاعوا فسيكتفون بشراء بعض الحلويات الشعبية الرخيصة،  كالمعروك والمشبك والناعم، بعد أن أصبحت النابلسية والمدلوقة والقطايف وغيرها من الحلويات الرمضانية حكراً على الأغنياء، كحال مختلف أنواع التمور والمشروبات الرمضانية التقليدية (التمرهندي والعرقسوس ومنقوع قمر الدين وغيرها) التي باتت أيضاً تغيب عن موائد الفقراء، بعد ارتفاع أسعارها بشكل كبير، وهو ما أدى إلى تراجع عدد البسطات الشعبية، التي اعتادت أن تبيعها في الشوارع ضمن طقوسٍ رمضانية خاصة.

“في السابق كنت أرسل إلى جيراني سكبة الكبب أو المحاشي أو الشاكرية أو أي طبق يحتوي على اللحوم، أما اليوم فقد بت أخجل من إرسال سكبة فول أخضر أو شوربة عدس أو برغل أو معكرونة أو أرز مع بعض حبوب البازيلاء، فالأطباق التي نحضرها اليوم أصبحت بسيطة وفقيرة وخالية من اللحوم والدسم، وبالكاد تكفينا”. هذا ما تقوله أم أيمن (64 عام/ ربة منزل) التي توقفت هذا العام عن إرسال سكبة رمضان لجيرانها، وتضيف: “بتنا عاجزين عن تحضير أبسط أنواع الحلويات المنزلية، وحُرمنا من معظم الأطباق الرمضانية التي اعتدنا تحضيرها لسنوات طويلة. ولكي نذكر أنفسنا بطعمها صرت أحتال على الواقع المعيشي المؤلم فأطهو طبق الشاكرية بدون لحمة، مع إضافة بعض البصل والبطاطا إلى اللبن، وأحشو الكوسا ببعض الأرز والبندورة، وأقوم بتحضير كبة البندورة أو كبة البطاطا المسلوقة، التي تخلو من اللحمة والمكسرات وتُقدم نيئة دون قلي أو شوي”.

وإلى جانب عادة “السكبة” باتت طقوس العزائم بين الأقارب والأصدقاء والجيران تغيب عن شهر رمضان، بعد أن كانوا في السابق يتسابقون إلى دعوات بعضهم على موائد الإفطار والسحور، العامرة بأطيب وأشهى الأطباق الرمضانية، ضمن طقسٍ احتفالي فريد، كان يقوي أواصر العلاقات الاجتماعية ويضفي أجواء المحبة والبهجة على شهر رمضان، فاليوم باتت معظم العائلات عاجزة حتى عن دعوة أحدٍ لزيارةٍ عادية قد لا تكلفها سوى ضيافةٍ بسيطة، وذلك بعد أن تحول 90% من الناس إلى فقراء، وانعدمت قدرتهم الشرائية في ظل انخفاض مستويات الدخل، بشكلٍ يدعو للحزن، وارتفاع أسعار جميع السلع والمواد الغذائية إلى مستوياتٍ خيالية، فعلى سبيل المثال، بلغ سعر كيلو هبرة الخاروف 225 ألف ليرة (أكثر من نصف راتب موظف حكومي)، وكيلو هبرة العجل 150 ألف ليرة، ووصل سعر كيلو قطع الفروج إلى ما بين 60 و80 ألف ليرة، فيما تخطت أسعار معظم أنواع الخضار والفاكهة (بطاطا، بندورة، خيار، كوسا، باذنجان، تفاح، برتقال) حاجز العشرة آلاف ليرة للكيلو الواحد، ووصل سعر كيلو الفليفلة والثوم والموز إلى أكثر من عشرين ألف ليرة. وبالنظر لما سبق باتت تكلفة عزيمةٍ لخمسةٍ أشخاص على إفطارٍ رمضاني تقليدي قد تتجاوز راتب موظفٍ حكومي.   

لمَّة العائلة والأقارب

تعتبر عادة اجتماع العائلة  الكبيرة، في منزل الجد أو الأب، من أبرز عادات رمضان المتوارثة منذ عشرات السنين، حيث يلتقي الأخوة والأبناء والأحفاد، ليتشاركوا في تحضير أطباق الطعام والحلويات، وليجتمعوا حول مائدة الإفطار الحافلة بأجواء المحبة والفرح والألفة. لكن تلك العادة، كغيرها من العادات، فقدت بريقها وبات حضورها ينحسر بشكلٍ كبير خلال السنوات الأخيرة، نتيجة ما فرضته ظروف الحرب وتبعاتها، والتي أدت إلى تقطع أوصال العلاقات العائلية، وتَشَتُّت كثيرٍ من العائلات، نتيجة النزوح والهجرة إلى خارج البلاد، وتباعد المسافات وصعوبة التواصل حتى بين من يعيشون ضمن المدينة الواحدة، وذلك في ظل تفاقم أزمة الموصلات وارتفاع تعرفة النقل وأسعار المحروقات. وفي ظل ذلك الواقع لم يبق سبيلٌ لاجتماع كثيرٍ من العائلات إلا من خلال التواصل الافتراضي، عبر الواتساب والماسنجر وبعض وسائل الاتصال المتاحة، كحال عائلة الموظف المتقاعد أبو أحمد (67 عام) الذي يصف لنا شعوره خلال تناول الإفطار :”منذ طفولتي اعتدت خلال شهر رمضان على طقس الإفطار الجماعي مع الأهل والأقارب، ومن ثم مع زوجتي وأبنائي وزوجاتهم وأطفالهم فيما بعد، لكنني اليوم بتُّ أنا وزوجتي نتناول إفطارنا وحيدين، بعد أن هاجر أبناؤنا الثلاثة وعائلاتهم إلى خارج البلاد، وبات من الصعب لقاء أقاربي، فمن بقي منهم في البلاد، يقيم في محافظة أخرى”. ويضيف: “لم أتصور نفسي في يومٍ من الأيام، أنا الرجل الاجتماعي المُحب لطقوس العزائم واجتماعات العائلة، أن أجلس إلى مائدة الإفطار دون إخوتي وأبنائي وأحفادي الذين أتصل بهم يومياً خلال موعد الإفطار والسحور، عَلّي أشعر ببعض الألفة وأتجنب شيئاً من الشعور بالغصَّة التي ترافقني مع كل لقمة طعام أتناولها”.

طقوس مشاهدة التلفاز

اعتادت العائلة السورية خلال رمضان أن تمضي معظم وقتها، وخاصة بين فترتي الإفطار والسحور، أمام التلفاز لمتابعة مسلسلات الدراما السورية والعربية، التي كان يتم انتظارها طيلة العام، وبعض البرامج الاجتماعية والدينية والترفيهية وبرامج المسابقات والطبخ وغيرها، لكن ذلك الطقس الرمضاني بات اليوم يختفي  نتيجة الانقطاع الطويل للكهرباء، التي جعلت التلفزيونات في  معظم بيوت الناس عاطلة عن العمل، لتحرمهم حتى من  مشاهدة حلقةٍ كاملة من أي مسلسلٍ من مسلسلات الدراما السورية التي يُفاخر صُناعها اليوم بتفوقها عربياً وبأنها عادت إلى ألقها، ناسين أن جمهورها الحقيقي محروم من متابعتها. وفي محاولة للتمسك بتلك العادة الرمضانية، بات بعض الناس يلجؤون لمتابعة بعض المسلسلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هذا في حال تمكنوا من تحمل تكاليف الإشتراك بباقات الإنترنت، وفي حال ساعدتهم سرعته على تحميل الحلقات، وهو ما يضطرهم للاكتفاء بمتابعة  مسلسلٍ أو اثنين، من بين عشرات المسلسلات المعروضة، ولمشاهدة حلقاتها بجودةٍ منخفضة، وبشكلٍ متقطعٍ ومتباعد، بحسب توفرها على مواقع التواصل، إذ كثيراً ما يتم حذفها قبل أن يتمكنوا من مشاهدتها.

عمل الخير بات أمراً صعباً

فيما مضى كانت تنشط  خلال شهر رمضان الكثير من الجمعيات الإنسانية والخيرية، التي يدعمها فاعلو الخير وبعض التجار والأثرياء، لتوزع الوجبات الرمضانية على الفقراء والمحتاجين خلال موعد الإفطار، سواء في الشوارع والجوامع، أو ضمن خيام الإفطار، أو من خلال زيارة بعض البيوت، لكن نشاط تلك الجمعيات انحسر اليوم بشكل كبير ليقتصر، وبشكل خجولٍ، على توزيع الماء والتمر وبعض الوجبات الخفيفة على بعض الناس في عددٍ محدود من الجوامع، وذلك نتيجة صعوبة جمع التبرعات وتراجع نسبة المتبرعين الذين تحول الكثير منهم إلى فقراء، حالهم كحال كثيرٍ من العائلات الميسورة، التي كانت في السابق تجمع كمياتٍ كبيرة من الأطعمة في علبٍ خاصة ليتم توزيعها على الفقراء في الشوارع والحدائق ومختلف الأماكن، بل أن بعض العائلات الفقيرة كانت تجمع ما فاض عنها من طعام الإفطار لتقوم بتوزيعه أيضاً، فيما كان الكثير من اللحامين و البقالين وبائعي الخضار والفاكهة وغيرهم يوزعون الكثير من الأطعمة والمواد الغذائية على عابري السبيل كنوع من أنواع الصدقة، لكن تلك العادات الإنسانية والخيرية باتت تغيب عن شهر رمضان بعد أن أصبح عمل الخير أمراً صعباً لا يستطيع معظم الناس إليه سبيلا. 

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي “عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟”، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: “بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد”، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا لقلّة ثقافة السوريّ، بل لانشغاله بدوره في طوابير الانتظار التي لا تنتهي.

ولأنّ الأمور في الحرب لا يمكن أن تنفصل عن بعضها بسبب ترابطية عجائبية فأين طاف بها الساقي تنسكب خمراً غير مكتمل التعتيق في كؤوس تظلّ فارغةً لا تملؤها إلّا جماعية الهموم، ومنها بيت القصيدة الثاني، “أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ… فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ”. أليس من فيض المعقول أنّ هؤلاء الأحبة هم الذين تفرغ منهم البلد تباعاً، أهلها وأناسها، شبابها وشاباتها، وأليس من الأغرب أن ينتهي في كل حديثٍ مع سوريٍّ ندمه أنّه لم يهاجر، أو اشتياقه لمهاجر ربما لن يعود؟

حين جاء العيد

انتهى رمضان بكل ما حمله من مواجع لآلاف الأسر التي صامت وأفطرت على شوربة العدس وبعض الخضار بأفضل الأحوال، تفاوتت وجبات تلك العائلات، ولكنّ الجامع بينها أنّ موائد الشهر على فقرها أرهقتهم، وكذا ساروا يوماً بيومٍ حتى جاء العيد وقد يبدو غريباً أنّ شعباً لا ينتظر عيداً.

لذلك أسبابٌ من السهل معرفتها دون الحاجة لمراكز دراسات تقرأ في الحال اليومي لهؤلاء الناس، وإن بدا الحال مغرقاً في الكآبة فهل هناك فرحٌ مقرونٌ بقهر يبدأ بجودة رغيف الخبز ولا ينتهي بأشهر انتظار أسطوانة الغاز وبينهما صلاةٌ موحدة: “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”.

معضلة مركّبة

وجد الآباء والأمهات أنفسهم قبل هذا العيد أمام معضلة مركبة أكثر مما كانت عليه قبل عامين، وقبل عام، وحتى قبل شهر، من ارتفاع أسعار لا يعرف التوقف، ارتفاع جعلهم عاجزين عن تحقيق أشهر طقس مرتبط بالعيد، وهو شراء ملابس لأطفالهم.

بحسرةٍ يتحدث المهندس جاد سلامة عن عدم تمكنه من شراء ملابس لأطفاله الثلاثة بسبب ما لقيه من ارتفاع كبير في أسعارها، حتى تلك الشعبية منها، مبدياً قلّة حيلته واستسلامه أمام عجزه عن اجتراح حلول لأمرٍ إن بدا رفاهية للكبار المدركين، ولكنّه مبعث فرحٍ تامٍ للأطفال الصغار الذين لا يعرفون من رمضان سوى أنّ نهايته مقرونةٌ بعيدٍ يعمّ فيه الفرح وتنتشر الألعاب ويرتدون فيه الملابس الجديدة.

يشرح جاد الوضع: “تكلفة ملابس كل طفل بين 400 و600 ألف ليرة سورية، أليست هذه كارثة! من أين سأجيئ بذلك الرقم المهول الذي يعادل خمسة أضعاف راتبي الشهري ثمناً لملابس ثلاثة أطفال من أدنى حقوقهم أن يرتدوا ثياباً جديدة ويحتفلوا بالعيد ويشعروا بروحانيته وطقوسه؟”

مشكلة جماعية

لم يكن الحال أفضل بالنسبة لكثر آخرين سألناهم عن شراء ملابس العيد لأطفالهم، فمثلاً اكتفت أم مازن (ربّة منزل) بالقول: “لا حول ولا قوة إلّا بالله، حتى بهجة العيد صارت مفقودة، كيف سنشرح لأطفالنا ما نمرّ به وكيف أنّنا مرغمون على ارتداء ذات الملابس حتى تهترئ!”

بدوره يسأل مجيب راشد وهو موظف آخر بعد جولة مستفيضة بالأسواق لذات الغرض عن دور الرقابة والتموين في ضبط الأسعار التي تقفز من شهر لآخر بقوله: “ألم ينخفض سعر الدولار كثيراً وحافظ على ثباته منذ شهرين على الأقل فلماذا ترتفع الأسعار بين يوم وآخر!، سألت عن سعر ملابس لطفلتي في نفس المحل وبفارق يومين اختلف السعر”.

سوق الفقراء للأثرياء

بدا الأمر أكثر غرابةً عند زيارة سوق البالة الكبير في دمشق (سوق الإطفائية)، هناك حيث جنّت الأسعار مرّة واحدة على ما قاله زائرون للسوق بقصد الشراء، أو على الأقل محاولة الشراء من سوق الفقراء، ليتضح أنّ الأسعار قفزت فجأة إلى الضعف على الأقل.

برر صاحب أحد المحال هذا الارتفاع نتيجة قلّة البضائع ومنع استيرادها والاضطرار للحصول عليها تهريباً من لبنان غالباً وبالدولار وبطرق صعبة ومكلفة جداً، وأكمل يقول: “ارتفاع الأسعار هذا طبيعي بعد موسم كامل من الكساد في المبيعات”.

وبصورة وسطية تتراوح أسعار الجينزات كمثال بين مئة ومئتي ألف ليرة سورية، وبعض الأحذية وصلت إلى 600 ألف ليرة، أما الكنزات فمتوسط سعرها 60 ألف ليرة، والفساتين كان من الصعب حصر أسعارها لشدة تفاوتها بين محل وآخر بغرابة شديدة توحي بأنّ السوق فجأة تحول لأثرياء العاصمة نابذاً فقراءها.

“شعرت أنني في سوق الصالحية ولست في سوق الفقراء، الأسواق جميعها تلفظنا، كيف يعيش أولئك الباعة دون مبيعٍ!” هذا ما قاله أحد الزائرين للسوق والذي كان يتحدث ممسكاً بحذاء “مستعمل” يتفحصه بعينيه ويكرر سؤاله للبائع: “هل فعلاً سعره 500 ألف؟”

مصائب قوم

جنون الأسواق ذلك أفضى لنشاط في عمل الخياطين بحسب رئيس جمعية الخياطة توفيق الحاج علي الذي أشار في تصريحات لموقع محلي أن “إقبال الناس على إصلاح الملابس أو تصغيرها سببه ارتفاع أسعار الجديدة بشكل مضاعف عن العام الماضي وهذا أدى إلى تزايد الإقبال على تدوير الملابس القديمة لدى الخياطين بنسبة تتجاوز 40%، في ظل تدني القدرة الشرائية لدى الأهالي، وتالياً يعتبر هذا الحل تدبيراً اقتصادياً في ظل عدم قدرة 60% من الأسر لشراء الملابس الجديدة”.

ليس واضحاً كيف حسم رئيس الجمعية أمر الأرقام بدقة، فإن كانت فقط 60 بالمئة من الأسر لم تستطع شراء ملابس جديدة لأولادها فهذا أمرٌ سيء ولكنّه غير كارثي تماماً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار شمولية دراسات الأمم المتحدة التي تؤكد أنّ 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وهذا المؤشر يعني عدم قدرتهم على تأمين الطعام بصورة متواصلة.

مكرهٌ أخاك لا بطل

وبمعزلٍ عن لغة الأرقام الجافة إلا أنّه ثمّة وقائع لا يمكن تجاهلها وهي فعلاً تؤكد نشاطاً في عمل الخياطين استناداً لتمكنهم من تقديم أسعار منافسة للسوق على صعيد الإصلاح والحياكة والترميم وهذا ما شرحه الخياط معاذ جبلاوي.

يقول معاذ: “الناس يعلمون أنّهم لن يحصلوا على أفضل خامة ملابس لدينا، ولكنّهم ببساطة سيحصلون على مجرد كساءٍ، على قساوة التعبير ولكن هذا هو الحال، لأنّهم لو أرادوا تفصيل ملابس من خامة ثقيلة فسيكون سعرها ينافس أفضل بضائع السوق”.

ويضيف: “ما يدفعه الزبون لدينا هو قروش أمام ما سيدفعه في السوق، لأنّه أساساً يعتمد على الترميم وإعادة استخدام المستخدم أساساً”.

ومن ناحيته يشرح عبّاس غانم وهو خياط آخر الأمر من وجهة نظره: “الأمر ليس مرتبطاً بالتفصيل، فالزبائن تأتي لتعيد ترميم القديم وتضييق ملابس الأخ الأكبر ومنحها للأصغر وهكذا، لا، الانتعاش ليس توصيفاً دقيقاً، هو إقبال متزايد نعم، ولكن له ظروفه التي لا تحقق ما يستحقه المواطن ولا تغنينا في الأرباح.”

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

مع بدء الحرب السورية تمكنت المؤسسات والمنظمات غير الربحية المندرجة تحت مظلة المجتمع المدني من إثبات وجودها وترك بصمتها على أرض الميدان، فكانت الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية الإنسانية أولى الجهات غير الرسمية التي استطاعت توسيع دورها على خارطة العمل وإنقاذ الفئات الأكثر عوزاً وقضاء الحوائج في محاولة متواضعة لردم المسافة الطبقية بين الأغنياء والفقراء. كما كانت ضمن فرق الاستجابة الطارئة للكوارث، لاسيما أن الحاجة لهذه الجمعيات تبرز عند الأزمات لتصبح مساندة للحكومة، مع الإشارة إلى أن هذه المبادرات تنشط مع تفاقم الحالة المعيشية وتدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع نسبة الفقر في البلاد.

  أطلقت جمعية “ساعد” حملتها الإغاثية بعنوان “خسى الجوع” في شهر رمضان، حيث تقدم وجبات الإفطار لمئات العوائل في مدينة دمشق وريفها. وبدأت الحملة منذ أحد عشر عاماً، ويقول المدير التنفيذي للجمعية مازن القاري عن هذه المبادرة الإنسانية: “هناك آلية عمل واضحة، حيث نسير وفق قاعدة بيانات تسجل فيها أسماء الأسر الأكثر عوزاً بعد دراسة وضعها وزيارتها ميدانياً. تستهدف الحملة الفئات المصنفة التالية كأولوية إطعام طوال شهر رمضان وهم الأرامل، الجرحى وأسر الشهداء والتي وصل عددهم قرابة 200 أسرة يومياًهذا العام.” ويضيف: “هناك مئات الأسر خارج التصنيف المذكور، لكن نقوم بتوزيع وجبات الإفطار لهم ليومين أسبوعياً عند حصول فائض من الطعام”.

التبرع في الأعوام الماضية أعلى منه في الحالي

استنزفت كارثة الزلزال التي وقعت في 6/ شباط 2023 جيوب المتبرعين والتجار وأصحاب الأيادي البيضاء والمجتمع الأهلي، ما انعكس سلباً على إحجام بعض المبادرات بإطلاق أنشطتها لغياب التمويل وهو العمود الفقري الذي تقوم عليه الجمعيات الخيرية. يشرح مازن القاري الوضع: “في العام الماضي خدمنا قرابة 60 ألف عائلة خلال شهر رمضان، بينما هذا العام لن يتجاوز العدد أكثر من 15 ألف عائلة، طبعاً هذا الرقم أقل بكثير من عدد المسجلين، لكننا نقدم الوجبات ونغطي الاحتياجات وفق المواد الغذائية المتبرعة المتوفرة والتي تقلصت كثيراً هذا العام نتيجة إعطاء ضحايا الزلزال الأولوية لأموال المتبرعين.” ويشير المدير التنفيذي إلى اضطرار فرع الجمعية بمدينة حلب إلى إيقاف مبادرة “خسى الجوع” لتقتصر فقط على مدينة دمشق، وذلك لغياب الدعم المالي واستنزافها لصالح متضرري الزلزال.

تتولى جمعية “مجال للخدمات الاجتماعية” توزيع وجبات الإفطار يومياً لقرابة 1250 شخصاً طوال شهر رمضان ضمن حملتها “كسرة خبز” مستهدفة الفئات الأكثر فقراً في مناطق الحسينية وعدرا والعتيبة بريف دمشق وذلك بمساندة فريق “كنا وسنبقى التطوعي.” وعن المبادرة الإنسانية، تقول المسؤولة الإعلامية نور زيادة: “لدينا برنامج محدد نستهدف فيه يومياً منطقة جديدة بريف دمشق حصراً بعد التنسيق مع الجمعيات والبلديات المتواجدة في تلك المناطق ومسح كامل للأسر المتعففة.

تضع الجمعية معايير محددة لتوزيع وجبات الطعام مستهدفة الفئات الأكثر حاجة، وهم ذوو الإعاقة والأيتام والأرامل وفاقدو المعيل وذلك بعد تقييم الوضع الراهن حسب نور.

 تعتمد المبادرات بشقها الأساسي على مجموعات من الشباب المتطوعين الذين ينفقون ساعات من يومهم في سبيل العمل التطوعي. يخصص جاد ست ساعات أسبوعياً للمساعدة في أعمال الطبخ وتوزيع الوجبات، يقول: “أنا طالب جامعي في كلية الهندسة المدنية، آتي إلى جمعية ساعد ليوم واحد في الأسبوع لتقديم يد العون، لا أستطيع المجيء يومياً بسبب دراستي، شعور العطاء جميل جداً وضروري في ظروفنا الراهنة الصعبة التي يعاني منها الجميع”.

تتفق تيا مع أصدقائها في العمل على اختيار يوم العطلة لزيارة فريق “كسرة خبز” وتوزيع الطعام والقيام بأعمال الطبخ إيماناً منها بأهمية المجتمع المدني بتحسين الحياة نحو الأفضل، تقول الشابة: “التطوع يضفي معنى إنسانياً وشعوراً إيجابياً وإحساساً بالفخر عند مساعدة الآخرين، كما أن توقيت التطوع مهم للغاية الآن، لاسيما بسبب الظروف الاقتصادية التي نعيشها”.

التحديات والعراقيل

تواجه المبادرات مجموعة من العراقيل والتحديات، أهمها أزمة الوقود لتأمين إيصال وجبات الطعام لمستحقيها، ناهيك عن ضعف التمويل. يعمل مطبخ “ساعد” على التنسيق مع فريق دراجين للتخفيف من الازدحام الخانق وتذليل العقبات المتعلقة بالمحروقات، إذ يقطع الكابتن طارق رئيس فريق دراجين “الأمل” مسافة ما لا يقل عن 30 كيلومتراً ذهاباً وإياباً إلى الريف البعيد بغية إيصال وجبات الطعام إلى الأسر المتعففة، وذلك بعد التعاون مع المخاتير. يقول الكابتن طارق عن تجربته: “نحن مبادرة إنسانية لها صفة اعتبارية وليس رسمية نحاول إكساب صفة أخلاقية لرياضة الدراجات وتطويعها لأهداف خيرية، كما يمكننا بهذه الطريقة التخفيف من الازدحام الخانق وتقليص الوقت.” لا ينكر الكابتن وجود نظرة ازدراء تجاه سائقي الدراجات وكأنهم قطاع طرق ويثيرون الفوضى والشغب والقيام بأعمال نشل وسرقة، ويعقب قائلاً: “نعمل على تغيير هذه النظرة ونشر ثقافة الدراجات في البلاد، إلى جانب غياب دعم وزارة الشؤون الاجتماعية في تسهيل ترخيص الدراجات وتخفيض رسومها المالية الباهظة جداً.”

بدورها، تؤكد نور أن تراجع الوضع الاقتصادي وغياب عنصر التمويل وغلاء المعيشة أثر سلباً على عدم الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأسر الفقيرة وذلك بسبب الإمكانيات المادية المحدودة، وتشرح أكثر: “هذا العام مجحف والتبرع فيه أقل من العام الماضي بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل ملحوظ، ولو كان حجم التبرعات أكبر لاستطعنا تغطية أكبر عدد من العائلات، لكن بالرغم من ذلك نعمل ما بوسعنا وعلى نفس السوية بالعمل والطاقة والجهد”.

يذكر أن جمعية “ساعد” كانت قد بدأت نشاطها عام 2013 بمطبخ صغير ومجموعة صغيرة لا تتجاوز 25 فرداً من متطوعين تبرعوا بمواد غذائية من منازلهم في مقرها بالباحة الأمامية لجامع الأمويين بدمشق إيماناً بخدمة المجتمع وتقديم يد العون للفئات الأكثر عوزاً، بينما تأسست “مجال” عام ٢٠٢٠ لكنها نالت شهرتها بعد عام من انطلاقتها، إذ تهدف إلى توفير ظروف معيشة كريمة للأسر المحتاجة من خلال تأمين متطلباتها الحياتية وتحسين الأوضاع الاقتصادية لأكبر عدد من المستفيدين.

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص مفكر وفيلسوف سوري معاصر، ويعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين العرب. ومع أنه ماركسي شيوعي، إلا أن فلسفته اتسمت بطابع توفيقي جمع فيها بين، المادية والمثالية، إذ جعل من الفلسفة المثالية أو الهيجيلية مدخلاً ضرورياً للمادية أو الماركسية. لم تقف شخصية مرقص التوفيقية بين حدود المادية والمثالية، بل عدا ذلك إلى الجمع بين ثنائيات أخرى كالماركسية والقومية، والفلسفة والدين، وبين الوطنية والقومية، وبين الدولة والديمقراطية، ولا نبالغ إذ نقول بين الاشتراكية والبرجوازية.        

إلياس مرقص من مواليد اللاذقية عام 1929، وقد توفي فيها عام 1991. وعاش في بيئة ثقافية، وقد حصل على الثانوية بقسميها العام والفلسفي، ثم درس البيداغوجيا في جامعة بروكسل الحرة، وعمل معظم حياته في تعليم الفلسفة.

تعرَّف مرقص إلى الحزب الشيوعي السوري منذ أن كان طالباً جامعياً ببلجيكا، وانضم إلى صفوفه، واستمر على ذلك حتى بعد عودته لسورية، لكنه طُرِدَ منه عام 1956 وذلك بسبب سلوكه ومواقفه الثورية، وانحيازه جهة الديمقراطية والانتخاب. ولم يدفعه هذا الأمر إلى محاربة التنظيمات السياسية، بل بالعكس كان يؤكد أهمية التجربة الحزبية في الحياة السياسية، وفي تغيير الواقع والدفع به إلى الأمام، ولهذا استمر بالتواصل مع الفعاليات الحزبية المختلفة، وضمن نقاشاته وفي كتاباته المتعددة وفي ترجماته للعديد من الكتب ذات الصلة بالحياة الفكرية والسياسية، حتى لقَّبه خالد بكداش بأنه المثقف الأول بالحزب الشيوعي السوري.  

 وقد أسهم مرقص في إنشاء مجلة الواقع الفصلية في بيروت، ومجلة الوحدة الشهرية في باريس، ويتم عادة التمييز بين مرحلتين اثنتين مرَّت بهما الكتابات الفكرية لمرقص، الأولى قضاها بالتأليف، وفيها ألَّف معظم أعماله الفكرية، والثانية تفرَّغ فيها للترجمة، ومعظم كتاباته وترجماته كانت تنصب على الفلسفة والفلسفة السياسية تحديداً.

كان لمرقص موقف فلسفي واضح حيال دور المذاهب والاتجاهات الفلسفية، ودورها في بناء المجتمعات والدول، وما يميِّز تجربته الفلسفية أنَّه ورغم كونه ماركسياً لم يفهم ماركس من دون هيجل، ولم يفهم ديموقريطس أو زينون الأيلي من دون أفلاطون، لم يُقِم العالم على قدميه بمعزل عن عقله، ثم نراه ينتقل من ذلك إلى ربط كل العلوم والفنون بالفلسفة، فحسب مرقص ” لا فكر ولا تفكير ولا علم ولا معرفة، ولا بحث ولا تنقيب، ولا خدمة لهذه الأمة بدون أفلاطون إيجابياً، بدون سقراط وأفلاطون وأرسطو وبارميندس وهيروقليط  وفيثاغور وبدون هيجل وبدون كانط وهيوم وفشته … وبدون ماركس وإنجلز ولينين إيجابياً.” ( مرقص،1997، نقد العقلانية العربية، ص 489).

فالمثالية ليست في ذاتها عدواً للمادية، حتى بالنسبة للأديان. ومشكلتنا نحن كعرب ” لا تكمن في سيطرة الفكر الديني علينا كما يرى كثيرون، بل في عدم وجود فكر ديني حقيقي، لأن الفكر الديني من أهم ظواهر تاريخ أوربا وتاريخ الثقافة العربية أيضاً. والفلسفة الأوربية الحديثة لها مصدران: أفلاطون والمسيحية…” ( مرقص، 2013 حوارات غير منشورة، ص 16).

 ولهذا ينتقد مرقص الماركسية الشوفينية لاستبعادها فكرة الله والدين، في حين أنه لا ماركس ولا إنجلز ولا لينين، قالوا أو طالبوا بهذا الاستبعاد، وقد لعب النبي محمد ومن بعده عمر بن الخطاب دوراً جوهرياً في توحيد العرب أو القبائل العربية، كما أن الإسلام ” لعب دوراً، فعل فعلاً مديداً، في إلغاء العبودية، أي في اضمحلال واختفاء أو انطفاء وانقراض الظاهرة .” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص851).  

ولذا ركز مرقص على جدلية الفكري والموضوعي، الصوري والمادي، أو المثالي والواقعي، حتى لدى تحديده لمفهوم الأمة خلافاً لمفهومها عند ساطع الحصري والقوميين المثاليين، فالأمة لديه ” ليست جماعة أصلية نسلية طبيعية ولا أمة دينية، ولا هي الاثنان معاً. هي أمة لغة وإقليم (أرض) وإنتاج وثقافة وتاريخ ومصير ومواطنة. هي مجتمع واحد، دولة واحدة. هكذا مفهوم الشيء فكرته الواقعية، ليس واقعه الموجود، الأمم مختلفة من حيث اتفاقها مع النموذج الذي لا تتطابق معه أمة من الأمم من الناحية العرقية أو السلالية.” ( مرقص، نقد العقلانية العربية، ص 961). لهذا لا وجود مادي واقعي بدون وجود فكري أو نظري.

ومفهوم الأمة لديه مرتبط بمفهوم الوحدة، والوحدة تمثل قضية القضايا في فكر مرقص، فقد كان يرى أن ” لا طريق للتقدم والتحرر العربيين من دون تحقيقها وأن العرب لن يتقدموا ثانية في طريق الوحدة العربية ما لم تتمكن قوى الثورة العربية من إعادة بناء الوعي القومي على أسس إنسانية وعلمانية وديمقراطية وما لم تعِ أن السيرورة الوحدوية هي حركة الأمة وليست مقصورة على طبقة أو فئة أو حزب.” ( إلياس مرقص، حوارات، ص9).

والكلام عن الأمة والوحدة متصل بالحرية، والكلام عن الحرية عند مرقص غير ممكن ” بدون الكلام عن العقل والضرورة والقانون، عن المجتمع والدولة والفرد، عن الفَرق والهوية، عن الشغل والقيمة. لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بدون مفهوم الدولة، ولا يمكن الكلام عن الدولة الديمقراطية بدون الدولة الحقية (دولة الحق) أولاً وأساساً. لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بدون الحديث عن التقدُّم وبدون عيش الناس، بدون خبزهم.” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص 845). وينتقد مرقص الفكر العربي الحديث لأنه ” لم يُعنَ بفكرة التقدم، بل تمسك بفكرة الثورة. (مرقص، حوارات ، ص 15). وشتان بين التقدم الذي يعني الانتقال والحركة نحو الأمام، وبين الثورة التي قد تكون خطوة في طريق التقدم، لكنها لا تنتهي بالضرورة إليه، إذ قد تنحرف أو تغيّر مسارها. 

خاض مرقص معارك فكرية ضد الشيوعيين الذين لم يفهموا ماركس؛ لأنهم لم يقرأوه فشوهوا أفكاره، وخاض سجالاته ضد الماركسية الستالينية، وضد الدوغمائية وضد قطرية الماركسية وضد القومية المثالية المعادية للاشتراكية، وكتب كتاباً في نقد ساطع الحصري، وكان يرنو من وراء ذلك إلى صياغة ماركسية لينينية عربية، تجمع بين الاشتراكية والقومية معاً. واختلف مع المقاومة الفلسطينية، ليس بسبب أنه ضد تحرير فلسطين، بل لأنه كان يرى أن تحرير فلسطين يمر عبر الوحدة العربية والإرادة القومية العربية . لم يكن مرقص يعد نفسه قومياً عربياً، بل كان يرى أنه ماركسي ناصري، حيث يوافق جمال عبد الناصر بقوله: إن العرب أمة واحدة مؤلفة من شعوب عدة، ولا يوافق الأفكار القومية [ الحصرية] التي ترى أن الدول العربية مجرَّد كيانات مصطنعة لا بد أن تزول لقيام الوحدة العربية. (مرقص، حوارات، ص18).

ربط مرقص بين الوحدة والتعدد أو الاختلاف، وهذا الموقف يعدُّ من مآثر الفيلسوف السوري، فبينما تنكر الفلسفة والأيديولوجيا الماركسية التعدد، وتؤمن بما هو مشترك، نرى مرقص الماركسي السوري يخلق التعدد والكثير، وينثره في الواحد الفرد الصمد. والماركسية كما يرى مرقص لا تُنكر التعدد من حيث الأصل، لكن ” الماركسيون فيما بعد ذهبوا نحو الأقنمة [ من أقنوم ]، استغرقوا الاختلاف في الطبقات … فـ الحزب فـ القائد والرمز ودولة الأجهزة. الدولة انتصرت على المجتمع، السياسة على الاقتصاد، الفكر على الوجود وفي الحاصل كان المنتصر أكبر المهزومين.” ( مرقص، نقد العقلانية العربية، ص59).

من هنا نرى حضور فلسفة الاختلاف والفردية لدى مرقص، ولعل الفضل يعود إليه باستخدامه لأول مرة في مجتمعاتنا مصطلح المجتمع المدني بمفهومه الكلاسيكي الهيغلي، وهو ما يعني المجتمع البرجوازي، أو إن شئت فقل المجتمع الحر الديمقراطي. وهذا مما أضافه مرقص للوعي الماركسي الشيوعي، لأنه لم تكن لديه تلك الحساسية التاريخية حيال البرجوازية، ومع كونه اشتراكياً فإن اشتراكيته لم تتحول كما تحولت اشتراكية الأحزاب العربية الستالينية، إلى اشتراكية كليَّانية، بل كان مرقص يربط مفهومي الوطن والأمة بالديمقراطية حسب الفهم البرجوازي، فلا وطنية من دون حرية، ولا حرية من دون حقوق إنسانية أولاً، واقتصادية وسياسية وأضف ما شئت من الحقوق ثانياً. يقول مرقص بهذا الصدد: ” ولأن لا أمة بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون مجتمع مدني حر، من دون حقوق الإنسان أولاً، قبل وفوق حقوق المواطن، المواطن إنسان أولاً، المواطن مواطن المدينة أو المجتمع أولا ثم وبالتالي مواطن الدولة والسياسة.” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص862).

من هنا نلاحظ أن مرقص كان يقيم فلسفته في الدولة على أساس مادي من جهة؛ لأنه أعطى للحقوق الإنسانية التي هي طبيعية ومادية أولوية على الحقوق السياسية، وعلى أساس مثالي من جهة أخرى؛ لأنه كان يطمح لإقامة دولة الحق الواجبة لا الموجودة على أرض الواقع، فكان فيلسوف المثال والواقع السوري بلا منازع. 

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ