الطالعات يهْدمن بيت المقاطيع

الطالعات يهْدمن بيت المقاطيع

منذ بدء المظاهرات في السويداء، خرجت النساء من مختلف المراحل العمرية وبصوت يصدح عالياً مطالباً بالحريّة، لتتحول أغنية ياطالعين الجبل، إلى يا طالعات من الجبل ترددها بشغف وفخر شفاه النسوة اللواتي هدمن كلّ أنواع الظلم الذي بدأ من الأسرة لينتهي بنظام كامل قائم على قوانين تمييزية ضدّ النساء.

لم تقف الشعارات عند المطالبة بالقضاء على الفساد بكافة أشكاله، بل طالبت النساء بالمساواة: “الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات فالمرء إما أن يكون حرّاً أو لا يكون“، هكذا رفعت النساء والفتيات والرجال الأحرار شعاراتهم، ورفعوا أيضاً لافتات تقول: “طالعات سوريات للحرية للعدالة للمساواة مشاركات وشريكات“.

وظهرت النساء على الشاشات وخرجن إلى الساحات يطالبن بالمواطنة المتساوية والمساواة مع الرجل أمام القوانين في لفتةٍ تؤكد أن هذا هو الوقت المناسب وكل وقت هو الوقت المناسب تحدّياً لعقود كانت تتحكّم بحقوق النساء وتعتبر أن الوقت ليس مناسباً للمطالبة بحقوقهن فالأولوية للقضايا الكبرى.

عقود من الاضطهاد والتعسّف بمظهر متحرّر

عانت المرأة في السويداء ذات الغالبية الدرزية، مثلما عانت المرأة في كافة المحافظات السورية من الاضطهاد والتعسف في القانون الذي يأتي لصالح الرجل دوماً وخاصّة عند التطبيق. فهنا المرأة من حيث الظاهر متحررة يمكنها الخروج للعمل والقيام بأعمال كالرجل ومعه، ويمكنها مشاركته في الأفراح والأحزان، ولها قوتها ورأيها، وكذلك قانون المذهب الدرزي يمنع تعدد الزوجات ويعطي للمرأة حقاً في الميراث، ولها الحق في اختيار شريكها، لكن عند التطبيق تختلف الموازين.

يحكم الطائفة الدرزية قانون أحوال شخصية مذهبي خاص بالموحدين الدروز يرجع ببعض أحكامه للشريعة الإسلامية حسب المذهب الحنفي فيوافقه أحياناً ويخالفه أحياناً أخرى فالقانون المذهبي يمنع تعدد الزوجات ويمنع الطلاق بالإرادة المنفردة.

ويتوافق معه في نقاط تضطهد النساء من مثل أنه يجيز زواج الطفلات كما في المادة الأولى من القانون: “ﻴﺠﻭﺯ ﺍﻟﺨﺎﻁﺏ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻟﺯﻭﺍﺝ ﺒإﺘﻤﺎﻤﻪ ﺍﻟﺜﺎﻤﻨﺔ ﻋﺸﺭﺓ ﻭﺍﻟﻤﺨﻁﻭﺒﺔ ﺒإﺘﻤﺎﻤﻬﺎ ﺍﻟﺴﺎﺒﻌﺔ ﻋﺸﺭﺓ ﻤﻥ ﺍﻟﻌﻤﺭ“.

ويمكن أن يأذن شيخ العقل أو القاضي بالزواج  كما تقول ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ 2:

“لشيخ العقل أﻭ ﻗﺎﻀﻲ ﺍﻟﻤﺫﻫﺏ أﻥ ﻴﺄﺫﻥ ﺒﺎﻟﺯﻭﺍﺝ ﻟﻠﻤﺭﺍﻫﻕ ﺍﻟﺫﻱ أﻜﻤل ﺍﻟﺴﺎﺩﺴﺔ ﻋﺸﺭﺓ ﻤﻥ ﻋﻤﺭﻩ ﻭﻟﻡ ﻴﻜﻤل ﺍﻟﺜﺎﻤﻨﺔ ﻋﺸﺭﺓ إﺫﺍ ﺜﺒﺕ ﻟﺩﻴﻪ ﻁﺒﻴﺎ أﻥ ﺤﺎﻟﻪ ﻴﺘﺤﻤل ﺫﻟﻙ، ﻋﻠﻰ أﻥ ﻴﻜﻭﻥ إﺫﻥ أﺤﺩ ﺸﻴﺨﻲ ﺍﻟﻌﻘل أﻭ ﻗﺎﻀﻲ ﺍﻟﻤﺫﻫﺏ ﻤﻭﻗﻭﻓﺎً ﻋﻠﻰ ﺇﺫﻥ ﻭﻟﻲ ﺍﻟﻤﺭﺍﻫﻕ“.

وتحتاج المرأة إلى ولي لإتمام الزواج وهو شيخ العقل أو قاضي المذهب في حال عدم موافقة وليها دون مبرر. وتلزم المرأة بالطاعة وتعتبر ناشزاً إن تركت بيت الزوجية أو منعت زوجها من معاشرتها كما في المادة 23:

التي تقول: “ﺍﻟﺯﻭﺝ ﻤﺠﺒﺭ ﻋﻠﻰ ﺤﺴﻥ ﻤﻌﺎﺸﺭﺓ ﺯﻭﺠﺘﻪ ﻭﻤﺴﺎﻭﺍﺘﻬﺎ ﺒﻨﻔﺴﻪ ﻭﺍﻟﺯﻭﺠﺔ ﻤﺠﺒﺭﺓ ﺃﻴﻀﺎ ﻋﻠﻰ ﺇﻁﺎﻋﺔ ﺯﻭﺠﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻭﻕ ﺍﻟﺯﻭﺠﻴﺔ ﺍﻟﻤﺸﺭﻭﻋﺔ“.

والمادة 36 تقول:” ﺍﺫﺍ ﺘﺭﻜﺕ ﺍﻟﺯﻭﺠﺔ ﺒﻴﺕ ﺯﻭﺠﻬﺎ ﺒﺩﻭﻥ ﺴﺒﺏ ﻤﺸﺭﻭﻉ ﺃﻭ ﻜﺎﻨﺕ ﻓﻲ ﺒﻴﺘﻬﺎ ﻭﻤﻨﻌﺕ ﺯﻭﺠﻬﺎ ﻤﻥ ﺍﻟﺩﺨﻭل ﺇﻟﻴﻪ ﻗﺒل ﻁﻠﺏ ﻨﻘﻠﻬﺎ ﻟﺒﻴﺕ ﺁﺨﺭ ﺘﺴﻘﻁ ﻨﻔﻘﺘﻬﺎ ﻤﺩﺓ ﺩﻭﺍﻡ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﻨﺸﻭﺯ“.

و تعاني المرأة الحاضنة من مخاوف إسقاط الحضانة منها في حال زواجها من رجل غريب .

الوصية الذكورية وانتهاك الحق

وبالرغم من أن البنت تعتبر حاجبة للإرث بخلاف المذهب الحنفي، إلا أن الكارثة الإنسانية والأخلاقية التي تصيب النساء هي استخدام المادة القانونية التي تسمح بالوصية بكامل التركة حيث أنّه ” ﺘﺼﺢ ﺍﻟﻭﺼﻴﺔ ﺒﻜل ﺍﻟﺘﺭﻜﺔ ﺃﻭ ﺒﺒﻌﻀﻬﺎ ﻟﻭﺍﺭﺙ ﺃﻭ ﻟﻐﻴﺭ ﻭﺍﺭﺙ” . ومن هنا تبدأ معاناة المرأة التي تخضع لهذا القانون ويستخدمها المجتمع الذكوري ضدها فقي أغلب الحالات يوصي الوارث بكل ما لديه للذكور من العائلة ويترك للنساء من بناته أو أخواته أو زوجته ما يسمى ب”غرفة المقاطيع” حيث يتم إبقاء غرفة من منزل الأهل للإناث اللواتي لا يبقى لهن معيل مثل المطلقة أو الأرملة التي لا تملك شيئاً، وكذلك للبنت العزباء طالما أنها لم تتزوج ولا تملك معاشاً.

وبالمقابل يكون لهذه المرأة من الغرفة حق الانتفاع فقط، وهو ما يعني بأنه لا يحق لها أن تبيعها أو تورثها لأولادها، فقط يحق لها الانتفاع بها كأن تقوم بتأجيرها أو السكن فيها وهو ما يعني حرفياً حرمانها من ميراثها الشرعي.  

 فـ”الوصية المطلقة حسب المادة ٣٠٧ من قانون الأحوال الشخصية في المذهب الدرزي تنص على أن تنفذ الوصية للوارث أو لغيره بالثلث أو أكثر، ما يعني أنها شاملة بكامل التركة، ويمكن التوصية بها جملةً، حتى لغير الوارث، وهي غير محددة أو مقيدة بحدود الثلث من التركة.”

سلام لن يتحقق دون الشريكات

ولأن السلام لن يتم دون مشاركة النساء في جميع مستويات صنع القرار، وفي عمليات حل الصراعات والمفاوضات كما جاء في قرار مجلس الأمن 1325 كأول قرار  يهدف إلى ربط تجربة النساء في النزاعات المسلحة بمسألة الحفاظ على السلام والأمن الدوليين لذلك لا بدّ من زيادة تمثيل المرأة على جميع مستويات صنع القرار في المؤسسات الوطنية والإقليمية والدولية وفي آليات منع نشوب الصراعات وإدارتها وحلها، واتخاذ تدابير خاصة لحماية المرأة والفتاة من العنف القائم على نوع الجنس.

وهذا لن يتحقق نهائياً إلا بخروج المرأة السورية لتهدم بيديها بيوت المقاطيع بكافة أشكالها وأماكنها من خلال العمل للوصول إلى قانون أسرة عصري يحمي النساء والرجال والأطفال بمختلف احتياجاتهم وانتماءاتهم دون النظر إلى الدين أو المذهب أو الطائفة يجمع السوريين  والسوريات في ظل دستور يحمي المرأة الإنسان  ويمنحها حقوق المواطنة والمواطنة المتساوية.

هوامش

١- ياطالعين الجبل أغنية من التراث الفلسطيني كانت تغنّيها النساء لتنبيه السجناء الفلسطينيين بأن هنالك عملية فدائية وشيكة وكي لا ينتبه السجّانون كنّ يغنينها مشدداتٍ على حرف اللام.

وجوه أخرى للتحرش

وجوه أخرى للتحرش

عبر وسائط النقل وفي داخلها تحدث عمليات تحرش مباشرة وغير مباشرة، ويتم التعامل معها بالصمت غالباً، وكم اضطرت نساء وفتيات لمغادرة وسائط النقل لعجزهن عن لجم أو رد واقعات التحرش ومحاسبة المتحرشين. تخاف النساء من المواجهة غالباً، والأكثر مدعاة للأذى هو تحميل المجتمع والضحايا لأنفسهن المسؤولية الكاملة عن وقوع التحرش.

على أحد مواقف الحافلات تتوقف سيارة خاصة حديثة وبحالة جيدة، يشير السائق لسيدة داعياً إياها لتستقل سيارته، بات المشهد طبيعياً في ظل زحمة المواصلات الخانقة، حتى أنه صار دارجاً ومقبولاً (رغم تحفظ البعض) أن تطلب بعض النساء من أصحاب أو سائقي السيارات العابرة التوقف، وخاصة في بعض المناطق المزدحمة أو المقطوعة والتي تنعدم فيها حركة المواصلات، عدا عن ارتفاع كلفة أسعار سيارات الأجرة بصورة غير قابلة للدفع أو حتى للتقبّل.

 لم تتردد السيدة بالصعود، كانت المرأة الوحيدة على الموقف وقدرت أن صاحب السيارة قد تعاطف مع وقوفها طويلاً في منطقة مزدحمة جداً، كما أن تطابق وجهتيهما شكل دافعاً قوياً ومطمئناً لتشاركه رحلته.

فور صعودها، عرّف الرجل عن نفسه، منح نفسه لقب المهندس وصرّح باستعراض مبالغ به: بأنه صاحب مكتب سياحي للرحلات الداخلية والحجوزات الفندقية. كان التقديم سخياً، يوحي بالاكتفاء وبالنزاهة، لكن المرأة شعرت بأن هذه المقدمة كانت فخاً، هي وبشكل شخصي لا تحب المكاتب السياحية ولا أصحابها، تعرف تماماً أن نشاط بعضها يتجاوز وظيفته الحقيقية، والأهم أنها غير مضطرة للتصديق. عرفت عن نفسها وعن عملها أيضا، لكنه قام فوراً بطلب رقم هاتفها مؤملاً إياها باستعداده لأي خدمة تطلبها خاصة وأنها امرأة وحيدة، أعلنت أنها ليست وحيدة أبداً! باتت كلمة وحيدة مدخلاً للتطفل، لفرض طلبات تبدو للمساعدة أو المساندة، لكنها في الحقيقة فخ ينصب شراكه المتلاعبون.

لم يغيّر جوابها شيئاً، أصّر وبسرعة على طلب رقم الهاتف فاعتذرت، أوقف سيارته على يمين الطريق وقال لها تفضلي! كان يقصد تماماً طردها! سألته بغضب: هل كانت الدعوة لمرافقتك إلى ذات الوجهة من أجل المساعدة أم من أجل رقم الهاتف؟ رد صارخاً وهو يشير لها بالمغادرة: (أنا ما بحب النسوان يلي بتستشرف علي)!

ثمة صورة نمطية يساهم الرجال في تعميمها وهي أحقية الأغنياء بالتحرش، وأحقية الشباب أو الأصحاء بالتحرش، يبدو أن كبار العمر وأصحاب الاحتياجات الخاصة والفقراء لا يحق لهم جميعاً التحرش، فهم وببساطة لا يملكون ما يمنحونه، هكذا يميل الجميع للتعبير مع أن هذا يتعارض قيمياً مع رفض المتحرش مهما كان وضعه المادي أو سنه أو شكله.

على زاوية ساحة شهيرة يتلاعب سائق ميكرو قديم الصنع بالأضواء في عز النهار، كان يقصد سيدة بعينها تقف بانتظار واسطة نقل، سخر رجلان واقفان من هزالة الموقف، قالا لبعضهما: ميكرو مهتري وعم يغمّز كيف لو معه مرسيدس! كان للسيدة رأي مختلف ولكنه مهين أيضاً: “زمّك (يعني قصير ونحيل القامة) وختيار على عيبه”! ابتعد الجميع عن إدانة التحرش المباشر عبر الدعوة غير المبررة من السائق لسيدة لا يعرفها، اتفقوا جميعهم على تقزيم السائق المتحرش وكأنه خارج دائرة من يحق له التحرش، وكأن التحرش فعل قوة لا يملكه إلا الأكفاء على فعله. يبدو أن المجتمع يبارك علناً التحرش لكن لمن يملك حق التحرش، إنها لمصيبة كبرى! كان بودي سؤال السيدة المعترضة على شكل الرجل والرجلين الساخرين من الباص الذي يقوده ذاك المتحرش عن موقفهما من التحرش ومن الرجل ذاته إذا ما تغير شكله أو عمر ونوع الحافلة التي يقودها.

ثمة مصيبة أخرى تحمي المتحرشين، وهي اتهامهم جميعاً بأنهم مرضى نفسيين، أي وبصريح العبارة فهم لا يتحملون نتائج تحرشاتهم ولا اعتدائهم الواقع مباشرة على النساء دون أي تفكير أو رادع. إن تعميم نظرية المرض النفسي هي محاولة فاشلة لحماية المتحرشين وإفلاتهم من العقاب، فلماذا لا تقع آثار أمراضهم النفسية إلا على النساء! وعلنا وفي الأماكن العامة وكأن النساء مستباحات بمجرد وجودهن في الفضاء العام، وكأن الرجال وحدهم من يحق لهم التحكم بالفضاء العام وممارسة كل الانتهاكات القانونية والاجتماعية والأخلاقية فقط بسبب هويتهم الاجتماعية! إن فائض القوة الذي يتربى الذكور متسلحين به يمنحهم قوة ودافعاً للتحرش دونما أي توقع للردع أو للعقاب.

يجلس الرجل على المقعد الجانبي، يضع على ركبتيه كيساً من النايلون الأسود، لا يسمح ضيق الحافلة بالتخلص من احتكاك ركبتيه بركبتي السيدة المجاورة له، لكنها لوهلة شعرت أن ثمة ما هو أبعد من مجرد احتكاك فرضه ضيق المكان، بخفة حاسمة مدت يدها والتقطت يده التي يلامس بها فخذ السيدة متخفياً بكيس النايلون. أمسكت السيدة بيده الآثمة، حاول سحب يده لكنها شدت عليها وصفعت وجهه بيده، ثم صرخت بالسائق ليتوقف فلم يستجب، حاول الرجل اتهام السيدة بالجنون وبأن لها خيالاً مريضاً، قال لها بثقة: “استحي على عمرك.” كان يقصد أنها في سن تجاوزت فيه التحرش بها، وكأن التحرش فضيلة أو وسيلة لتثبت المرأة لنفسها أنها جميلة أو تستحق التحرش! تناقض مرعب تفرضه حزمة من المغالطات، كأن تقول امرأة لرجل يتحرش بها: “عيب عليك أنا في مثل عمر والدتك”، وكأن للتحرش سناً أو عتبة أو مبرراً! غضبت السيدة بشدة، صفعته بيديها الاثنتين وقالت له: “لن أسمح لك بلمسي، حتى لو كنت عجوزاً، من قال لك بأنني أنتظر شهادتك لتثبت بأني امرأة!”

يتحول الازدحام إلى مناسبة سانحة تسهّل التحرش، يستغله البعض لممارسة التحرش الجسدي المباشر خاصة وأن التهرب منه أو نفيه سهل ومبرر ويمكن عزوه إلى الازدحام لا غير. في الباص الكبير يمرر شاب متحرش كف يده على فخذ شابة واقفة أمامه، تشعر بذلك، يتضرج وجهها باللون الأحمر من شدة الخجل، تحاول تغيير وضعية وقوفها لكن الازدحام الشديد لا يسمح لها بذلك والمتحرش لا يتوقف عن التحرش، بل يمنحه ارتباك الصبية ومحاولة الدوران في المكان فرصة للالتصاق بمساحة أوسع من جسدها. تتدخل امرأة جالسة في مواجهة الشاب، لكن كل ما تفعله هو أن تنادي الشابة لتقف بجانبها. تدخّل هش وضعيف، لا يعاقب الشاب ولا يردعه ولا حتى يفضحه، بل يدعوه وبثقة بالغة لينتقل إلى ضحية أخرى بعد نصف متر من مكان واقعة التحرش الأولى، تصرخ الفتاة به، لكنه لا يتأثر أبداً، ولا يظهر أي استجابة وكأنه غير معني بتاتاً بما يفعله من اعتداء صارخ، تغادر الفتاة الباص مرغمة والصمت سيد الموقف.

تتحول وسائط النقل إلى بيئة خصبة للتحرش، تعاني النساء من التحرش ومن الصمت على المتحرشين، تفتقد النساء بشكل عام إلى كل وسائل الحماية والدعم في مواجهة المتحرشين. ويصل التحرش حدوده القصوى عندما يستغل سائقو وسائل النقل حتى العامة وظيفتهم لحجز أماكن محددة لنساء أو فتيات محددات، وربما يطلبون بعدها أرقام هواتفهن الخاصة وقد يعرضون عليهن خدمات خاصة مقابل تنازلات من النساء أيضاً.

وليس مستغرباً أبداً، أن يتدافع الركاب للفوز بمقعد في حافلة عامة بينما يقوم السائق بحجز المقعدين الأماميين لنساء لا يعرفهن من قبل أبداً، لكنه وبسبب الازدحام وصعوبة تأمين مقعد يبرر لنفسه دعوة نساء بعينهن للجلوس في هذه المقاعد دونا عن غيرهن، فقط لأنهن شقراوات مثلاً! و الطامّة الكبرى هي أن يتحول التحرش إلى امتياز، لا تعيه النساء وربما وإن وعينه يعتبرنه غير مكلف أبداً ولا ينتمي للتحرش كفعل اعتداء صريح وواضح لكنه مغلف بالصدفة أو بالرغبة بالمساعدة أو فعل الخير.

من المؤسف والضار جداً هو التعامل مع التحرش في وسائل النقل عامة أو خاصة وكأنه حل أو إجراء تلقائي وبسيط وبريء، وقد يخفف من سوء الأحوال العامة وخاصة أزمة النقل والمواصلات.

للتحرش وجه مباشر وصارخ وله آلاف الوجوه غير المباشرة والمتلاعب فيها وبالنساء من خلالها وخاصة التعامل معهن وكأنهن طرائد وقوعها محتم في حبائل المتحرشين، وجوه أخرى يتضافر فيها الاستخفاف مع ضعف النساء وخاصة في ظل سوء الأحوال العامة وغياب كل آليات الحماية والوقاية.

” المحرم الشرعي”.. عقبة جديدة تعيق تحرك النساء

” المحرم الشرعي”.. عقبة جديدة تعيق تحرك النساء

لم تستطع سهير الزعرور (27 عاماً) الالتحاق بزوجها المقيم في تركيا بعد أن منعها حاجز “هيئة تحرير الشام” أو ما يسمى بـ”مكتب أمن الحدود” من العبور بطريقة غير شرعية، لا حفاظاً على سلامتها وسلامة أبنائها، وإنما لعدم وجود محرم (رجل من عائلتها) يرافقها في رحلتها.

تقول سهير التي عادت تجر أذيال خيبتها بعد أن كانت متحمسة لدخول تركيا ولم شمل العائلة، أن أحلامهما اصطدمت بوجود “المحرم الشرعي”.

وتفرض سلطات الأمر الواقع في إدلب العديد من المُحددات والقوانين على الحريات الشخصية، لا سيما فيما يتعلق بالنساء، مما زاد من معاناة النساء اللواتي يعشن حالة من التخبط والتضييق عليهن والتدخل في شؤونهن وحرياتهن الشخصية من قبل عناصر أجهزة ” هيئة تحرير الشام”.

باسم الدين تقيد الأخيرة تحركات النساء وتحد من أنشطتهن، وتتدخل بأدق تفاصيل حياتهن من خلال قائمة من الممنوعات التي اعتمدتها في سبيل ذلك، كحظر الاختلاط بين الجنسين في مدارس الأطفال منذ الصغر، وحتى في مختلف مجالات العمل أو الحياة اليومية دون وجود محرم، فضلًا عن ملاحقة “المتبرجات” وغير الملتزمات بـاللباس الشرعي.

وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد عمدت هيئة تحرير الشام إلى استئناف نشاط “جهاز الحسبة” أو ما يعرف بـ “سواعد الخير”، تحت مسمى “مركز الفلاح” في مناطق نفوذها، وذلك بعد إيقافها لمدة عامين نتيجة “ضغط شعبي ومظاهرات كبيرة طالبت بإخراجهم”.

وتتكون “سواعد الخير” من مجموعة دعاة وداعيات من جنسيات مختلفة، تتجول في شوارع إدلب بدعم من كتائب أمنية تابعة لهيئة تحرير الشام، وهي “تتدخل في الحياة العامة للسكان وتفرض عليهم قيوداً وأنماطاً معينة في السلوك” بحسب المرصد.

وكما حال سهير، كذلك منعت رابعة الصفو( 29عاماً) من السفر إلى مكان عملها، لعدم وجود المحرم الذي سيرافقها خلال رحلتها الشبه يومية من إدلب إلى مدينة سلقين.

تقول رابعة “إن ما تفعله هيئة تحرير الشام جراء التدخل في شؤون النساء يمنع خروجهن، ويحد من فرص عملهن وسط الظروف الصعبة التي تعيشها غالبية النساء، وخاصة الفاقدات للمعيل وسط الفقر والغلاء والنزوح”.

مشيرة إلى أنها اضطرت نتيجة منعها السفر بمفردها للانتقال والإقامة في مدينة سلقين، لتكون قريبة من مكان عملها في إحدى منظمات المجتمع المدني، ما أجبرها على دفع بدل إيجار للمنزل الجديد بعد أن كانت تسكن مجاناً في بيت أحد أقربائها بمدينة إدلب.

لكن التنقل ضمن المنطقة الواحدة حتى له محدوديته. لم تتوقع فاتن الزريق (22 عاماً) أن توضع في موقف محرج كالذي تعرضت له من قبل جهاز الحسبة التابع لهيئة تحرير الشام حين استوقفتها عناصرهم وسألوها عن سبب تجوالها في شوارع إدلب بلا محرم مساءً، و”بصعوبة” سمح لها بمتابعة طريقها بعد “محاضرة طويلة، وتهديد ووعيد بألا تعيد الكرة ثانية” كما تصف.

تعمل فاتن في إحدى صالات الحفلات في مدينة إدلب، وعملها يحتم عليها العودة ليلاً بعد انتهاء عملها في الصالة، وتتقاضى لقاء عملها راتباً شهرياً يساعدها في الإنفاق على طفليها اليتيمين، بعد وفاة والدهم بالقصف الذي طال مدينتهم سراقب أواخر عام 2019.

تقول فاتن لـ”صالون سوريا” ” ليس كل من يمشي في شوارع المدينة ليلاً شخص سيء أو بلا أخلاق، نحن نوضع دائماً موضع المتهم لمجرد خروجنا بأنفسنا وبلا محرم” وتتساءل ” هل على فاقدة المعيل مثلاً أو ممن ليس لديها محرم بالأصل يرافقها في جميع شؤون حياتها أن تنصاع لأوامر هيئة تحرير الشام وتمنع نفسها من الخروج، وإن فعلت ذلك من ستراه سيساعدها ماديا؟ هل ستمنحها الهيئة ما تقتات به مع أطفالها “.

المرشدة النفسية والاجتماعية هلا غنوم (31 عاماً)، تحدثت عن تهميش المرأة ومعاناتها من التمييز القائم على النوع الاجتماعي، وحرمانها من الموارد والفرص مقارنة مع الرجال الذين يتصدرون مواقع أعلى وأكبر.

وأرجعت الأسباب إلى “التدخل في شؤونهن وتحركاتهن والحد من نجاحاتهن من قبل سلطة الأمر الواقع من جهة، وغياب وعي مجتمعي كامل لأهمية وجود المرأة في أماكن متنوعة تختلف عن الصورة النمطية للمرأة التي يتوجب عليها فيها أن تكون ربة منزل وحسب ، وهو ما يجبرها على المشي بخطوات بطيئة لكيلا تكون بمواجهة المجتمع” بحسب قولها.

وترى الغنوم أن المرأة في إدلب بحاجة لإتاحة الفرص ومنحها مساحة أكبر للتحرك والعمل وإثبات ذاتها، وخاصة بعد أن وجدت نفسها أمام مسؤوليات لم تعتدها سابقًا، كإعالة أطفال أو معاقين أو إخوة أو أهل بمفردها.

وبحسب تقرير صدر عن الأمم المتحدة في تشرين الأول 2021 بين أن سوريا تعد من أخطر الدول على المرأة، حيث احتلت سوريا المركز الثاني في ذيل “مؤشر السلام والأمن للمرأة” (WPS)

ووفق المؤشر، فإن سوريا هي الأسوأ عالميًا فيما يتعلق بالعنف المنظم، والأسوأ إقليميًا فيما يتعلق بسلامة المجتمع. وحلّل المؤشر وضع المرأة في ثلاثة أبعاد، هي الإدماج (التعليم، الإدماج المالي، التوظيف، استخدام الهاتف المحمول، التمثيل البرلماني)، والعدالة (عدم وجود تمييز قانوني، الانحياز، القواعد التمييزية)، والأمن (عنف الشريك، سلامة المجتمع، العنف المنظم).

قاصرات أمهات ومطلقات في إدلب

قاصرات أمهات ومطلقات في إدلب

“لا تذهبي إلى العمل ولا تزوري صديقاتك، لا تخرجي بمفردك ولا تستخدمي الهاتف الجوال، أنت مطلقة وصغيرة، ولقمة سائغة لدى ضعاف النفوس” هذه عبارة من قائمة طويلة من اللاءات، التي تتردد باستمرار على مسامع الطفلة هنادي المصطفى (15 عاماً) وهي من بلدة حربنوش شمال إدلب.

هنادي عادت إلى منزل أهلها مكسورة القلب والخاطر، بعد أن وقعت ضحية الزواج المبكر بسن الثالثة عشرة، لينتهي زواجها بالطلاق بعد فترة وجيزة، وتجد نفسها مُدانة من المجتمع، ومُراقبة من قبل الأعراف والعادات التي تظلم المطلقة وتتحكم بتحركاتها وجميع تفاصيل حياتها .

قصة هنادي لا تختلف عن كثير من القاصرات اللواتي أجبرن على الزواج بأعمار مبكرة نتيجة فقر الحال وسوء المعيشة وانعدام الأمن إلى جانب هيمنة الأعراف المجتمعية، لينتهي بهن الحال غالباً إلى الطلاق بسبب قلة خبراتهن الحياتية، وانعدام الاستقرار العاطفي، وغياب الوعي بمسؤوليات الحياة الزوجية .

تتحدث هنادي لصالون سوريا عن زواجها المبكر بالقول: “كنت عائدة من مدرستي حين طلب مني والدي التوقف عن ارتياد المدرسة للزواج من شاب تقدم لخطبتي يكبرني بأكثر من 12 عاماً .”

غادرت هنادي مدرستها وطفولتها، واعتقدت أن “طاقة الفرج” فتحت أمامها، لأنها لم تكن تعرف عن الزواج سوى حفلة الزفاف وشراء الحلي وارتداء الفستان الأبيض، لكن الصدمة كانت بأن زواجها لم يستمر سوى شهرين فقط، وعن معاناتها تقول: “لم أستطع تحمل زواج لست مستعدة له؛ ووجدت نفسي أمام مسؤوليات تفوق عمري بكثير، ولم أتمكن من تحمل عصبية زوجي ومزاجيته، وانتقادات أهله المتكررة لتصرفاتي، فعدت إلى منزل أهلي وطلبت الطلاق .”

وتتمنى هنادي أن تتعافى من هذه التجربة وأن تعود إلى مقاعد الدراسة لتستعيد تحقيق أحلامها. 

تشترك بهذه المعاناة لينا السماحي (18 عاماً) النازحة من مدينة معرة النعمان إلى مخيم في مدينة أطمة الحدودية مع تركيا، التي تزوجت بعمر الرابعة عشرة، ولا تزال قضية طلاقها متعثرة وعالقة في المحاكم الشرعية، وعن ذلك تقول: “بعد وفاة والدي ونزوحنا من مدينتنا اضطررت للإقامة مع أمي وأخوتي الستة في مخيم عشوائي يفتقد مقومات الحياة، لذلك قررت أمي تزويجي لشاب تقدم لخطبتي ظناً أنه سيخلصني من حياة النزوح والتشريد، ولكن سرعان ما خرجت من هذا الزواج بلقب مطلقة، باعتبار زواجي استمر سنة واحدة فقط، ثم طلبت الطلاق من زوجي الذي كان يضربني ويعنفني باستمرار، مستغلاً صغر سني وفقر حال أسرتي .”

تمردت لينا على الضرب والإهانة وطلبت الانفصال، لكن زوجها اشترط عليها التخلي عن جميع حقوقها مقابل الطلاق، وعندما رفضت أمها ذلك، قررت أن تحصل حق ابنتها عن طريق المحاكم.

تعود الكثير من القاصرات لبيوت ذويهن كمطلقات ومعهن أولادهن، الأمر الذي يزيد من أعباء الحالة الاقتصادية ويزيد الوضع سوءاً.

كعبير العبيدان (17 عاماً) من مدينة إدلب، والتي تخلت عن مهرها مقابل حضانة ابنتها، وعن ذلك تقول: “تزوجت بسن الرابعة عشرة، وبعد إنجاب طفلتي الأولى اكتشف زوجي أنني لست الفتاة التي كان يحلم بها وقرر الزواج من فتاة أخرى، ما أدى لنشوب خلافات كثيرة بيننا، وحين طلبت الطلاق اشترط علي التخلي عن المهر مقابل حضانة ابنتي، فوافقت على ذلك، لكن أهلي قرروا إعادة الطفلة إلى أبيها لتزويجي من رجل آخر، لأنني لا أزال في مقتبل العمر والفتاة من وجهة نظرهم ليس لها سوى منزل زوجها، فرفضت الزواج الثاني وهددت بالانتحار في حال حرماني من ابنتي.”

وتضيف عبير بكآبة ارتسمت على وجهها: “حين أحمل طفلتي بين ذراعي أحن لطفولة لم أكملها، وأتمنى أن أربيها أفضل تربية وأحيطها بالرعاية والحنان.”

وبلغ عدد حالات الطلاق المسجلة في شمال غرب سوريا الخاضع لسيطرة حكومة الإنقاذ خلال شهر أيار الماضي 279 حالة طلاق، بينما زادت حالات الزواج عن ثلاثة آلاف حالة بحسب وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ السورية.

المختصة بالإرشاد النفسي نور السبيعي (32 عاماً) من مدينة سرمدا تتحدث لـ“صالون سوريا” عن أثر الطلاق على القاصرات بالقول: “ساهمت ظروف الحرب بانتشار ظاهرة زواج القاصرات، وخاصة في بيئات النزوح، حيث يضطر الكثير من الآباء إلى تزويج بناتهم في سن مبكّرة تحت وقع الظروف الصعبة.”

وتضيف السبيعي: “تترتب على زواج القاصرات الكثير من المآسي الاجتماعية والنفسية، حيث يعد زواج الفتاة القاصر بمثابة تعدٍ على طفولتها، وتدمير كامل لمستقبلها، لأنها لم تكتسب المعارف الحياتية بعد، فتكون غير قادرة على حل مشاكلها والتعامل السليم مع زوجها، وكيفية العناية بالأسرة والزوج والأطفال، والتعامل مع محيطها الاجتماعي، الأمر الذي يعرضها لمشكلات كثيرة تنتهي بالطلاق بعد فترة قصيرة من الزواج.”

وتشير أن القاصر التي تعيش تجربة الطلاق تمرّ باضطرابات نفسية عميقة، خاصة أنها تكون في مرحلة بناء الشخصية، الأمر الذي يؤثر سلباً على نفسية الفتاة، ويقلل الشعور لديها بأهمية الحياة ويساهم بانخفاض تقديرها لذاتها، وفقدان الثقة بالنفس.

وتلفت أن المجتمع لا يدعم الفتاة المطلقة، بل يلومها على وصولها إلى هذه المرحلة، مما يولد لديها الشعور بالعزلة والاضطراب والتوتر والقلق، ويخلّ بمهارات التواصل مع الآخرين .

وتشدد السبيعي على ضرورة تشجيع الفتيات على إكمال تعليمهن فضلاً عن فرض قوانين صارمة وتوعية الأهالي بمخاطر الزواج المبكر الذي يعد “جريمة بحق الطفولة“ بحسب قولها.

مصائر زواج السوريات من المقاتلين الأجانب

مصائر زواج السوريات من المقاتلين الأجانب

الفقر وانعدام الأمن والاستقرار هو ما دفع أبو عمر (٤٥عاماً) من معرة النعمان لتزويج ابنته نسرين (١٧عاماً) من أول متقدم لخطبتها، وكان مقاتلاً مهاجراً يعمل ضمن أحد الفصائل العسكرية في المنطقة، لكن هذا الزواج لم يدم طويلاً فقد عادت نسرين إلى بيت أهلها بعد عام من زواجها بصحبة طفلها وذلك بعد أن انتقل زوجها للقتال على إحدى جبهات ريف حلب، ومنذ ذلك الحين انقطعت أخباره بشكل نهائي، وقد تعددت الروايات بين مقتله وعودته إلى بلده.

نسرين واحدة من نساء كثيرات في إدلب وريفها وقعن ضحية الزواج المجهول من مقاتلين مهاجرين وأجانب، حيث بدأت تنتشر ظاهرة زواج النساء السوريات من المقاتلين الأجانب الذين بدأوا بالتوافد إلى سوريا منذ بداية النزاع للمشاركة في القتال، وانضموا إلى الفصائل الإسلامية المسلحة المقاتلة في المنطقة  وهؤلاء المقاتلون سرعان مابحثوا عن الزواج بعد شعورهم بأن بقاءهم في سوريا سيستمر لسنوات طويلة، لتقع كثير من النساء ضحايا الظروف الصعبة بعد مقتل الزوج أو اختفائه، ما يؤدي إلى أن تعيش هؤلاء النساء مع الأطفال الناتجين عن هكذا زيجات.

 حياة اجتماعية واقتصادية بالغة الصعوبة والتعقيد

أجبرت الظروف الثلاثينية رزان العبد من بلدة بنش على القبول بالزواج من أحد المقاتلين المهاجرين، فقد تقطعت بها السبل بعد وفاة والديها في غارة جوية، وبقيت وحيدة تتنقل بين بيوت إخوتها، وتقول رزان عن تجربتها: “كنت دائما أشعر بأنني عالة على الجميع، وبسبب تقدمي بالسن وافقت على الزواج بمقاتل يعمل ضمن فصيل هيئة تحرير الشام ويكنى بأبي طلحة الليبي وهذا كل ما أعرفه عنه، لأنه كان دائماً يتهرب من أي سؤال يخص تفاصيل حياته، ويغضب إذا سألته عن نسبه واسمه الحقيقي متذرعاً بأسباب أمنية، فكنتُ أخفي انزعاجي كونه كان يعاملني معاملة طيبة، استمر زواجنا قرابة العامين والنصف رزقت خلالها بطفلين.“

تصمت رزان قليلاً ثم تتابع بغصة : “خرج أبي طلحة في إحدى المعارك ليأتيني بعدها خبر وفاته، وجدتُ نفسي وحيدة مع طفلين مجهولي النسب، فبدأت أعمل في الأراضي الزراعية طوال النهار من أجل تأمين قوتي وقوة أطفالي الذين ليس لديهم معيل.”

تبين رزان بأنها دفعت ثمن قبولها بهذا الزواج الذي دمر حياتها، وأكثر ما يؤلمها ويشكل الهاجس الأكبر في حياتها هما طفلاها اللذان سيحرمان من جميع الحقوق المدنية في التعليم والتملك والرعاية الطبية والهوية كونهما دون نسب أو أوراق ثبوتية.

وإذا كانت رزان هي من وافقت على هذا الزواج بمحض إرادتها، فإن معظم حالات الزواج التي جرت في الشمال السوري لم تكن فيها الفتاة صاحبة القرار في اختيار شريك حياتها، حيث يقوم الأهل بتزويج بناتهم حتى دون أخذ رأيهن في كثير من الأحيان وهو ماجرى مع القاصر رولا (١٦عاماً) التي أجبرها والدها على ترك المدرسة بعد نزوحهم من بلدتهم خان السبل وإقامتهم في خيمة قماشية في بلدة كفرلوسين على الحدود السورية التركية. قام والد رولا بتزويجها من أحد أصدقاء أخيها المجاهدين ضمن صفوف جبهة النصرة وهو رجل سعودي ويكبرها بخمسة وعشرين عاماً، وذلك للتخلص من مصروفها والستر عليها في ظل حالة الفوضى والفلتان الأمني الذي يسيطر على المنطقة، ولاعتقاد الوالد أن هذا الزوج سيضمن لابنته حياة مرفهة، خاصةً وأن العريس السعودي رجل غني وراح يغدق عليها وعلى أهلها بالأموال والهدايا.  وظن والد رولا أيضاًبأن وجود هذا العريس بقربها وقرب أهلها سيؤمن لهم الحماية والسلطة في مجتمعهم، إلا أن اعتقاداته كلها كانت خاطئة، فبعد الزواج راح الزوج يعامله رولا معاملة قاسية، فكان متشدداً في كل الأمور، وألزمها بوضع النقاب، وحرمها من الخروج من المنزل أو حتى زيارة أهلها، وكان يعنفها باستمرار لصغر سنها وجهلها بمسؤوليات الزوج والبيت، وفوق ذلك كله طلقها بعد أن أنجبت منه طفلة، وعادت إلى خيمة أهلها مكسورة الخاطر مع طفلة مجهولة النسب ومحرومة الحقوق.

حملة “مين زوجك؟”

وردا على انتشار هذه الظاهرة أطلق ناشطون في إدلب حملة “مين زوجك؟” في عام ٢٠١٨ بهدف توعية النساء بمخاطر هذه الزيجات عليهن وعلى أطفالهن، وذلك من خلال فرق عمل موزعة على القرى والبلدات.

وتتنوع الأسباب والدوافع التي تحتم على الأهالي القبول بتزويج بناتهم مثل هذه الزيجات وقد أوجزتها الخبيرة الاجتماعية هدى العوض (٤٧عاماً)من مدينة إدلب بالقول: “أهم تلك الأسباب تكمن في الجهل وقلة الوعي، بالإضافة للفقر المدقع والحالة الاقتصادية السيئة التي تعصف بالأهالي، فضلاً عن عزوف معظم الشباب السوريين عن الزواج لما فيه من تكاليف باهظة في ظل البطالة وصعوبة تأمين فرص العمل ما أجبر معظم الشباب على الهجرة بحثاً عن الأمان والرزق. وهو ما يفسر كثرة هذه الزيجات التي تنتهي بالفشل غالباً أو بالطلاق أو مقتل الزوج أو تركه لعائلته والانتقال إلى أماكن أخرى بحكم تنقل تنظيمه المستمر، أو عودته إلى بلده الأصلي تاركاً خلفه عائلته وأطفاله، لتبدأ بعدها رحلة الضياع.

ويشرح المحامي نضال العمر (٤٠عاماً) من معرة مصرين في حديث خاص الأثر القانوني المترتب على زواج السورية من أجنبي بقوله: “الزواج يجب أن يكون مبنياً على الوضوح ومعظم هذه الزيجات تتم خارج نطاق المحاكم الشرعية، وغالباً دون أن يفصح المهاجر عن اسمه الحقيقي، والاكتفاء بالكنى والألقاب والأسماء المستعارة، وهذا الغموض يعتبر من محرمات الشريعة الإسلامية ومن مفسدات الزواج.”

وأكد العمر بأن المحاكم الشرعية المنتشرة في الشمال السوري لا تعترف بالزواج من أشخاص مجهولي الهوية، ولا تقر بتثبيت نسب الأطفال، الأمر الذي يترتب عليه حرمان هؤلاء الأطفال من أبسط حقوقهم وهي الجنسية والنسب والعائلة، ما ينذر بأنهم سيواجهون حياة صعبة بكل ما تعنيه الكلمة.

ويقترح المحامي كحل لهؤلاء إقرار قانون يسمح للأم السورية بمنح جنسيتها لطفلها وهو ما لم يحصل حتى اللحظة.

ووفقا لإحصائيات حملة “مين زوجك” فقد بلغ عدد النساء المتزوجات من مقاتلين أجانب حتى آذار ٢٠١٨حوالي ١٧٣٥سيدة، ونتجت زيجات ما يقارب ١١٢٤ امرأة من هؤلاء النساء عن أطفال والذين يُقدر عددهم  بحوالي ١٨٢٦ طفلاً.