شق العود السوري طريقه نحو لائحة التراث الثقافي غير المادي الذي أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” عام 2022، وذلك لعذوبة صوته وصناعته اليدوية المتقنة الممتدة لعقود طويلة، ليلتحق بصناعة نفخ الزجاج كعنصر تراثي جديد. إلا أن تحديات صعبة تواجه حالياً صناع العود، بدءاً من تكاليفه وصولاً إلى تراجع حركة السياحة التي انعكست سلباً على ازدهار هذه الصناعة، بعد أن كانت تعتمد بجزء يسير منها على السياح ما قبل اندلاع الحرب السورية. التحديات والعراقيل بمساحة لا تتجاوز المترين تتسع لشخصين فقط، اضطر صانع العود أنطون طويل الانتقال مرغماً إلى محله الضيق بعد أن كان يشغل مساحة كبيرة في سوق التكية السليمانية، الذي احتضن أكثر من 60 حرفياً من حرفيي العود والزجاج المنفوخ والسيف الدمشقي والخط والحلي والأزياء الفلكورية لمدة 52 عاماً بمساحة تصل إلى 11 ألف متر مربع منذ عام 1972. حالة أنطون طويل ناجمة عن صدور قرار إزالة التكية عام 2022 التي كانت محلاتها بصيغة عقود إيجار لتتحول فيما بعد إلى عقود استثمار سياحية. يقول طويل عن تجربته: “ورثتُ صناعة العود عن أبي منذ قرابة ثلاثين عاماً حين كان موجوداً في التكية السليمانية التي كانت مجمعاً لحرفيي المهن اليدوية وملتقى لأقدم الملحنين السوريين.”
تسببت إزالة التكية السليمانية وترحيل الحرفيين منها بعد أن كانوا يشغلونها لأكثر من خمسين عاما، بأضرار معنوية كبيرة، لاسيما كونها تُعد نقطة استقطاب جذابة للسياح العرب والأجانب ولعموم السوريين الذين كانوا يقصدونها من مختلف المحافظات السورية. يضيف أنطون طويل: “أصبت بالإحباط والاكتئاب لمدة أربعة شهور، الانتقال من مكان كان يغص بالحرفيين ويعد معلماً سياحياً ضخماً في البلاد كنت قد اعتدت عليه لسنوات طويلة إلى مكان ضيق ليس بالأمر السهل على الإطلاق، شعرت بالخذلان، كان محلي يضم قرابة 300 عود، بينما هنا بالكاد يتسع لعشرة أعواد”.
بخسارة التكية السليمانية، خسر الحرفيون معها بوصلتهم السياحية الأولى ومصدر رزقهم الحيوي وشريانها النابض، إذ أحدثت عملية الانتقال الإجباري ضرراً مادياَ جسيماً، ليتحول من مكان له مريدون وعشاق لا يهدأ من الزحام ويشهد غلياناً واندفاعاً إلى الشراء، إلى مكان يعاني من أزمة شراء وضعف في منسوب الإنتاج. يشرح صانع العود الوضع أكثر: “تراجعت كثيراً وتيرة الإنتاج، وبالتالي حركة الشراء، هناك حيث الأعواد والمعدات تتسع في المحل، بينما هنا اضطررت إلى إيداعها عند أصدقائي في ورشات عملهم، ويصعب عليّ تشغيلها لغلاء الوقود بسبب استخدام المولدات في ظل انقطاع الكهرباء الدائم.” ويضيف: “كنا معروفين من قبل الأوربيين، حيث كنا نصدر لهم عشرات الأعواد شهرياً، لكن الأمر تغير بعد إزالة التكية، تم القضاء على الذاكرة التراثية”. إلى جانب ذلك، يجد صانع العود أنطون نفسه أمام عائق جديد وهو أجور النقل عبر شركات الشحن الدولية في حال فكر بالتسويق عبر الإنترنت، ما انعكس سلباً على حركة البيع للخليج وأوروبا. ويوضح صعوبة هذا العائق: يكلف شحن ظرف صغير إلى ألمانيا حوالي 150 ألف ليرة سورية، ما بالك بالعود الذي يأخذ وزناً وحجماً، أحاول التركيز على الزبائن الذين يأتون إلى هنا في زيارة خاطفة، المشكلة الحقيقية تكمن في أجور الشحن”. تعد ارتفاع أسعار المواد الأولية الداخلة في صناعة العود السوري سبباً مباشراً في تضاعف ثمنه الذي وصل قرابة 700 ألف حسب مواصفاته، بينما كان يتراوح سعره قبل عام 2011 حوالي 5 آلاف ليرة سورية فقط. هذا الغلاء انعكس سلباً على كمية الإنتاج، ويشرح صانع العود أنطون طويل أكثر مصدر ارتفاع الأسعار: “غلاء مادة الخشب وهي أساسية في صناعة العود بالرغم من كونها محلية، إلى جانب الأوتار التي تعد من الأكسسوارات نستوردها من الصين التي تكون أيضاً مكلفة”. ويُعتقد أن جذور صناعة العود تعود إلى فترة حكم الأكاديين في العراق. وتمر عملية تصنيع العود السوري بمراحل عديدة تصل إلى 41 مرحلة كي يخرج بهذه الصورة الجمالية المتقنة وشكله الشبيه بفاكهة الكمثرى. وعن هذه المراحل، يشرح طويل: “يتكون العود من صندوق خشبي، يِصنع من أنواع مختلفة من الخشب، أهمها شجر الجوز الذي يتميز بعمره الطويل ويمنح الصوت عذوبة خارقة، فسجل عام 1879 أول عود مصنوع من الجوز في سوريا، بعد شراء كميات كبيرة من الحطاب، نقطع الخشب ونقوم بتجسيمه وفق مقاسات متنوعة تصل إلى 15 قطعة لنجمعها سوية وتصبح على هيئة صندوق خشبي مفرغ، كما تم إدخال خشب الأرز على الوجه السطحي للعود، ليتم شد خمسة أوتار في مشط الآلة الذي كان قديماً يصنع من أحشاء الحيوانات وتحولت إلى مزيج من النحاس والنايلون.”
يستغرق أنطون زمناً يتراوح بين العشرة أيام لغاية الشهرين في صنع العود، وذلك حسب التفاصيل المراد الاشتغال عليها من حفر وتنزيل الصدف وتلبيس الموزاييك وإغراقه بالزينة، ويوضح ذلك: “لكل عود خصوصية، حسب طلب الزبون، هناك من يفضل البدء بالعود التركي الذي يختلف عن العربي فهو أصغر بالحجم وأخف وزناً ويسهل حمله، بينما هناك من يفضل العربي ويتفنن بالزخرفة عليه.” إقبال على آلة العود لدى فئة الشباب لاتزال آلة العود الموسيقية التراثية تلقى إقبالاً لدى فئة الشباب السوري رغم تطور الآلات الموسيقية الغربية ورواجها مؤخراً. تقول ألين (19 عاماً) وهي تحاول أن تفاصل والدتها على سعر العود: “انتظرت انتهاء امتحانات الجامعة للبدء بدورة تعليمية على آلة العود التي أطرب لسماع صوتها، اشتريت الآن عوداً جديداً بالرغم من ثمنه الباهظ، سحرت بصوته عندما سمعته للمرة الأولى أثناء حفلة سهر لوالدي وأصدقائه”. لجأ عبد (30 عاماً) إلى أنطون لإصلاح الأوتار وشدها جيداً بعد أن أخذت بالارتخاء قليلاً، وقال لنا: أواظب على آلة العود التراثية منذ خمس سنوات تقريباً. اكتشفت صوت هذه الآلة مصادفة عند تدشين مطعم بدمشق القديمة وكان شقيق صديقي ضمن العازفين خلال الافتتاح.” ويُتابع حديثه: “العود متنفس جميل لي في ظل الضغوط الاجتماعية التي نعيشها، صوت الآلة جميل وعذب ينتشلك من الحاضر إلى بوابة الماضي وكأنك بزمن فريد الأطرش وعبد الحليم.”
يكتبُ الروائيّ السوريّ مازن عرفة (1955) نصّه بحرارةٍ تُشعلها الذاكرةُ ويطاردها الخوفُ وتُشتّتها السورياليّة المُطلقة. هذا ما نتلمّسه في أعمالٍ سابقةٍ له مثل “الغرانيق” و “سريرٌ على الجبهة” وصولاً إلى أعماله الجديدة “الغابةُ السّوداءُ” و “داريّا الحكاية”؛ يُمعن “عرفة” في تقديم مشاهداته السوريّة من بوّابة تجربته الذاتيّة ومحاكاته لواقع عايشه بالتفاصيل، ومرَّ عبرهُ بقسوة، ربّما احترق فيه ولم يُعد حتى الآن، لذلك لازال إنتاجه الأدبيّ عن سوريا دون تردد.
ثمّة فروق نقديّة توقّفنا عندها مع جديده اليوم، مثلاً حجم النصّ في كلّ رواية وأسلوبها ومعمارها الفنيّ. هناك تجريبٌ سرديٌّ لا ينتهي، ربّما مُشتّت، وآخرُ سبق وأن اختبرهُ قبل أعوام في أعمال سابقة. يتميّز صوته الروائيّ بزخمٍ مضطربٍ من الصور واختلاط الواقع بالحلم حتى حدود غير معقولة من الخيال والألم.
صدر للكاتب مؤخراً رواية “الغابة السوداء” (منشورات رامينا – لندن 2023)، ورواية “داريا الحكاية” (منشورات ميسلون – باريس 2023) واللتان كانتا “رواية واحدة، وجهين متقابلين متشابكين لعوالم “البلاد” وعوالم “الغربة”، حسب ما قال “عرفة”، وللمزيد حول ذلك أجرينا معه الحوار التالي:
عمر الشيخ :هناك تداخلٌ ما بين وقائع شخصيتك الحقيقية، والشخصية التي تعيش صراعات “الغابة السوداء”، مثلا تذكر دراستك في بولونيا وبعض التفاصيل التي يمكن الوصول إليها ببحث بسيط عن سيرة حياتك الحقيقية، كأنك تحاول اقتراح حياة تبحث عنها أو عشت شيئاً منها، ألا ترى ذلك ضُعفاً في التجربة يستنزف قصص “الأنا” حتى الرمق الأخير؟
مازن عرفة: أستخدم في جميع رواياتي “الأنا ـ الراوي”، وهي مفضّلة لي بدلاً من “الراوي. العالم”، لأنّها أكثر قدرة على التعبير عن المشاعر والعواطف والتجارب الشخصيّة، وهي ترتبط عميقاً برؤيتي للحياة، وطريقة التعبير عنها. الحياة هي بالنسبة لي رواية (أو بالأحرى مزيج من الرواية/ الفيلم)، وأنا أعيشها كما لو أنّني في قلب شكل من “المُحاكاة الإلكترونيّة”، يُختزل فيها دور “الإرادة” إلى أشكال من “الاستيهامات” و”أحلام اليقظة”ـ سواء على المستوى الفرديّ أو الجمعيّ.، مقابل نوع من “الحتميّة الخفيّة” المتحكمة بنا (“العولمة”، خاصة بشكلها “الاستهلاكيّ الاقتصاديّ. الثقافيّ”، و”شبكات التواصل الاجتماعيّة الإلكترونيّة”، و”احتكارات الأسلحة والمخدّرات والجنس” العابرة للحدود بكافة أشكالها، وليس آخرها “الماورائيّات الدينيّة”).
أحاول دائماً عبر هذه “الأناـ الراوي” تسجيل تفاصيل الحياة اليوميّة، لكنّي أتركُ الفانتازيا تلعب بالوقائع، باستخدام مزيج من “الواقعيّة السحريّة”، و”السورياليّة”، و”الكوميديا السوداء”، الأقدر على التعبير عن “استيهاماتنا”، و”أحلام يقظتنا”. لذلك، يُسيطر الشكل “الأوتوبيوغرافي. الفانتازيّ” على ما أكتبه، وهو ما يتوسع دائماً بآفاق تجربتي الإنسانيّة، في تنوعات الزمان. المكان.
إضافة إلى ذلك، لا أجد في “الأناـ الرواي” أيَّ ضعف أو استنزاف لديّ، فهي تمثيل لـ”الأنا الجمعيّة” بغناها، التي تتمزّق وتتبعثر باستمرار في مجتمعاتنا العربيّة إلى عشرات الشخصيات. تعود هذه “الانفصاميّة التعدديّة”ـ مثلاً في المجتمعات السوريّة، والعربيّة الشبيهةـ إلى أن الفرد هو نتاج مجموعة من البُنى المتشابكة؛ سياسيّةـ اجتماعيّةـ تاريخيّة. وتتمثل بـ”الاستبداد الشرقيّ البطريركيّ”، “والعسكرة الأمنيةـ الستالينيّة، و”الذهنية الدينية الدمويّة المتوحشةـ الجّهاد”. هذه البُنى تجعل من الفرد الواحد ممزقاً بالكامل إلى عدّة شخصيات، تحدّد هويتهُ المُتقلبة بينها؛ الظروف المتغيّرة، فيلعب في الوقت نفسه أدوار الازدواجيّة لثنائية “الديكتاتورـ البطل الثوريّ”، أو “الجلادـ الضحية”، أو “الطائفيّ. العلمانيّ”، على سبيل المثال، مع القدرة على تلّبس أيّة شخصية منها، واقعياً، حسب الظروف التي يعيش بها.
عمر الشيخ :إلى أيّةِ درجةٍ تعتقدُ أنّ النجاة-الآن، ومأساة-الماضي، هي فرص حياتيّة تُتيح مساحة آمنة للحكاية التي تريد تتويجها كتاريخ ربّما أو كـ توثيق فنيّ للألم السوريّ على طريقتك الأدبيّة؟
مازن عرفة: تنتظم جميع رواياتي في إطار “الحكاية السوريّة”، بمعناها الواسع، أينما يعيش السوريّ، بما فيه عالم المنافي. في العادة، تبدو العودة إلى الماضي نوعاً من “النوستالجيا المرضيّة” ـ بالنسبة لي، ما بين أربعينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث عشتُ طفولتي وشبابي، قبل انتشار الشكلين المتوحشين لـ”العسكرة” و”المدّ الدينيّ، الوهابيّ خاصة”ـ، إذ ينبغي للمرء أن ينظر للمستقبل بآمالٍ متجددةٍ. لكن عندما أنظر للمذبحة السوريّة الحالية، بآلام الحاضر وسوداويّة المستقبل المجهول أمامنا، أضطر للعودة إلى ماضي حياتنا ببساطتها، سواء الريفيّة أو المدينيّة. لا يكتفي كلٌّ من “البوط العسكريّ” والسيف الإسلاميّ” بتشويه سرديّة حكاياتنا؛ بل ويسعيان إلى خلق ترهات جديدة تلغي بساطتها وجمالياتها الإنسانيّة. لذلك، فالتوثيق الروائيّ لـ”الحكاية السوريّة”، على طريقتي بالفانتازيا، تجعلها عابرة لـ”الزمان ـ المكان”، كنوعٍ من مقاومة “الذاكرة الجمعيّة” ضدّ العبثيّة المتوحشة التي نعيشها!
عمر الشيخ :ما بين فصلي “الصور” و”المتاهة” حتّى النهاية؛ يُلاحظ في روايتك “الغابة السوداء” أن هناك انفلاتاً مفاجئاً من تجميع خطوط الحكاية عبر الشخصيات المحيطة بالشخصية الرئيسية التي تحكي بضمير المتكلم (أنا)، وتقذف بالقارئ إلى هلوسات لا تنتهي بين الماضي السوريّ والحاضر الألمانيّ، ألا تخشى على شكل معمار روايتك من التشتّت؟
مازن عرفة: بالعكس، التشتّت ليس في بنية الرواية، وإنّما في حياة “المهجر السوريّ”، وهذا ما أحاول أن أعكسه بكتاباتي. لا تنس أن هناك ما لا يقلُّ عن ثلاثة عشر مليون مهجر خارج سورية، وعدداَ آخر كبيراَ داخلها. وبالأصل كلّ منّا يعيش “المنفى” في داخله، سواء كان فيها أو خارجها. لكنّ الأزمات النفسيّة تتراكب لدى كلّ منا كمُهجرين، خاصة إلى أوروبا، تلاحقنا “كوابيس المذبحة السورية” ليلاً، لنستيقظ على كابوس نهاريّ آخر، مرتبط بضياع ذواتنا في مجتمعات نفتقد فيها الحميميّة الشرقيّة. نحن نعيش الحنين إلى “الحكاية السوريّة”، لكنّه تمّ تدمير أُسسها الماديّة! وإذا عدنا، لن نجد بيوتنا ومراتع ذكريات طفولتنا وشبابنا. وفي الوقت نفسه نحن نعيش في أوروبا دون “حكاية”، في حين أن أطفالنا سيبنون حكاية شخصية لهم؛ ألمانيّة، فرنسيّة، سويديّة…إلخ، أي حكاية سيقتلعون فيها بالكامل من جذورنا.
“ظلمة الغابة السوداء” تعيش في ذواتنا، على طريقة “جوزيف كونراد” في روايته “قلب الظلام”، التي نُشرت في نهاية القرن التاسع عشر، وأعادها فرانسيس كوبولا فيلماً “القيامة الآن”، في نهاية القرن العشرين. ومع أنني أستقي فكرة الظلمة من هنا، إلا أن “الغابة السوداء” لدي تصبح “الغابة المُنيرة”، عندما نتخفف من آلامنا بروايتها حكاية. والحكاية تعني الذاكرة والجذور، وبالتالي التماسك قدر المستطاع في وجه التشتّت والتمزق.
عمر الشيخ :هناك مسرحةٌ سورياليةٌ في الجانب الخاص بهلوسات بطلك في رواية “الغابة السوداء” وكأنّنا نتلمس نوعاً من “أدب الشواش” هنا. برأيك إلى أي حدّ يمكن للكاتب إعادة تدوير “ثيمة” الأحداث بما أنك تناولت حالة “الشواش” في روايتك السابقة “الغرانيق” بشكل كبير أيضاً؟!
مازن عرفة: في “الغرانيق” كانت شخصية “الأناـ الرواي” أكثر من مشوشة، كانت متقلبة بانفصاميّة متشظيّة، بسبب عدم القدرة على اتخاذ موقف. كان هو “الشاب الثوريّ العنيف”، الذي سيتحول بظروف القمع إلى “إسلاميّ متشدد”، وفي الوقت نفسه هو “الزعيم الجنرال الديكتاتور”، و”المثقف الانتهازيّ المتقلّب”؛ جميعها وجوه لفرد واحد، حسب الظروف التي يعيشها. تطورات “الثورة السوريّة”، والعنف الدمويّ والتهجير الديموغرافيّ الذي سيرافقها… كلّ هذا جعل من الصعب اتخاذ مواقف حاسمة فيها، ناهيك عن لعبة “الضحيةـ الجلاد” المتبادلة لدى الفرد نفسه. المهجر السوريّ في “الغابة السوداء” يعيش واقعاً جديداً، فبالإضافة إلى تمزقاته التي يحملها في داخله من البلاد، ستنمحي شخصيته بالكامل (وبالتالي هويته)، في “اللا بلاد”؛ في مجتمعات مريعة، تفتقد الحميميّة والدفء الإنسانيّ والتكافل الاجتماعيّ في بنيتها، بعكس ما اعتاد عليه كشرقيّ. ويتحول بعد اقتلاعه من جذوره إلى أكثر من مُهمش، إلى مسحوق بالوحدة المُريعة، دون أن يستطيع الاندماج بما حوله، وتتحول حياته إلى عالم من الهلوسات مرتبطة بتمزقاته، وكأنّه يعيش في “محاكاة” مرعبة. نحن نعيش الشّواش والتمزق والضياع و”المنفى” في داخلنا أصلاً، لكنّها تزداد حدة في مجتمعات الغربة. ربما تلملم “حكايتنا” بعضاً من ذواتنا، وتعزز “الذاكرة الجمعية” كهوية، تصمد في وجه غربة نفوسنا، سواء كنا في البلاد أو خارجها.
عمر الشيخ :تبدو رواية “الغابة السوداء” تجربة أكثر اختزالاً عن رواياتك السابقة، من حيث الحجم وأسلوب البناء الأدبي وتكثيف الصور والجمل القصيرة، ووحدة الموضوع، وهي تعكس واقعيّة سحريّة من النوع المأساويّ، ولفتتنا جملة تقول “ماذا يعنني الاسم والهوية إذا لم ألتقِ أحداً كي أعرف عن نفسي؟” هل تعتبر تلك النظرة تبشيراً بالعدميّة الممتدة من سوريا إلى السوريين في لجوئهم؟
مازن عرفة: أعتمد في روايتي دائماً على عنصري “الغرابة” و”إثارة الدهشة”، في إطار عوالم مجنونة. في البداية، كنت أستفيض في الوصف رغبة في إيصال تفاصيل حياة يوميّة مُحددة. لكن في روايتيّ الأخيرتين؛ “الغابة السوداء”، و”داريا الحكاية”، وبسبب كثافة “الهلوسات” و”الكوابيس” و”اللّامعقوليّة”، التي تميزهما، وجدتُ أنّي بحاجة إلى تكثيف “المعنى” في كلمات جمل قصيرة، إنّما بطريقة شاعرية، تسمح بانفتاح المعاني على “استيهامات” مُتعددة. وقد تَطلّب هذا تطوير طرق التعبير الأدبيّ المكثف لدي، بحيث تقترب بعض النصوص فيهما من شاعريّة كثيفة، وأدى هذا إلى اختزال النص. لكن هذا لم يحدث عفوياً، ففي الأصل كانت كلتا الروايتين الأخيرتين رواية واحدة! وجهين متقابلين متشابكين لعوالم “البلاد” وعوالم “الغربة”. واضطررت إلى فصلهما بسبب إشكاليات النشر. رغم أن أوروبا تحترم “تعدّد الثقافات”، ضمن مفاهيم “حقوق الإنسان”، إلاّ أنّه في نهاية الأمر يبدو أن مفهوم “اندماج المهجر” يتطلب عملياً التحول إلى “برغي في ماكينة العمل الضخمة” لديها، والانغماس في “رتابة الحياة وإيقاعاتها السريعة”، ضمن تعقيدات مجتمعات عولمية متقدمة. وبالضبط من أجل هذا تستقبلنا أوروبا، وهي تفكر باحتياجاتها الاقتصادية. وإذا كان جيلنا يعاني تمزق “الهوية” في مجتمعات غريبة بالكامل، بعيداً عن حميميتنا الشرقية، فماذا سيحصل مع أجيالنا التالية، التي لن تتذكر سورية التي نعرفها، خاصة في ظل احتلالات يبدو أنها طويلة الأمد؟ ربما يحاول كلّ منها فرض قيمه الخاصة، بالارتباط مع تغيير “البنية الديموغرافية” فيها. هل ذلك عدمية، أو واقع…؟
عمر الشيخ :لاحظنا وجود صراع أخلاقيّ لدى البطل في تبرير سلوكيات أصدقائه في مجتمع منفتح مثل ألمانيا، وشيئاً من الإضاءة على “ازدواجيّة المعايير”، “العنصرية”، “التطرّف”، “فوبيا الدين”.. وتفكيك مفرداتهم وقصصهم وظهوره كضحية إلا قليلاً! أضف إلى أنّه على نحو ما يبدو رومنسياً بشكل غير معقول، هل تريد الإشارة إلى مدى السذاجة التي تعاني منها الشخصية السورية في المنفى؟
مازن عرفة: شخصياً أعد نفسي مواطناً أقرب إلى “الكوزموبوليتانية” بثقافات متعددة؛ “عربية”، و”فرنسية” و”بولونية” (عشت في بولونيا ما يقارب ستة أعوام)، والآن “ألمانية”، فلا أجد أي مشكلة لي في مجتمع غريب. لكن أفكر بجيل المهجرين السّوريين، خاصة الذين تجاوزت أعمارهم الأربعين، الذين قدم معظمهم إلى بلد أوروبي لأول مرة، يحملون في لاوعيهم “ما ورائياتهم الدينية”، و”نرجسياتهم وخيلائهم الشرقيّ” المرتبطة ببنى “ما قبل الحداثة”؛ “الطائفة” و”العشيرة” و”العائلة”، والأهم “اعتيادهم على الانفلات من القانون” في مجتمعات “الفساد العربيّة”. مثل هؤلاء سيصطدمون بشكل مريع بقيم مخالفة لهم ومستفزة؛ “سيادة القانون”، “المجتمعات اللادينية”، “ممارسة الجنس فيما قبل الخامسة عشر”، “مجتمع (الميم) بعوالم المثليين والمتحولين جنسيّاً”، “شرعنة تدخين الحشيشة”، “منع الأهل من ضرب الأطفال”، “حرية اتخاذ الأولاد قراراتهم، والانفصال عن أهلهم بحماية القانون”… هم لا يستطيعون منع جيل أطفالهم من الاندماج في هذه الحياة، ولا يسعهم سوى أن يتمزقوا، ولا يبدو الموقف عندئذ “موقف أخلاقيّ” أم لا. أنت أمام مجتمعات استقبلتك بكل احترام كـ”مهجر حرب” وقدمت لك المأوى والأمان وفرصة العمل الكريم، وهو ما افتقدته في بلدك، فماذا تفعل أمام قيمها الاجتماعيّة المغايرة.
عمر الشيخ :“داريا الحكاية” كانت تتسلسل ببداية ممتعة عن تفاصيل سورية عريقة في تاريخ المجتمع وعاداته وتقاليده، ما لبثت الرواية إلى أن تحولت إلى ساحة حرب، هل تحاول أن تظهر لنا بساط الحياة التي كانت وانقلابها مع وجود العسكر في السلطة؟
مازن عرفة: ليس فقط وجود العسكر في السلطة، وإنّما أيضاً انتشار المدّ الإسلاميّ، برمزيتهما معاً “البوط العسكريّ”، و”السيف الإسلاميّ”؛ وجها القمع للعملة نفسها، خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي. في جميع رواياتي، أحاول إعادة إحياء “الحكاية السورية” بجذورها، ليس كـ “نوستالجيا”، وإنّما في مواجهة “التشويه” الذي نالها من هذين الطرفين. في بداية “داريا الحكاية” استخدمت شكلاً من “الواقعية الشعريّة” لوصف حياة الناس البسيطة، قبل “عسكرة البلاد” بشكل شمولي. لكن، بالوصول إلى حاضرنا مع “الربيع العربيّ” وتداعياته المأساويّة، لجأتُ إلى نوع من “سوريالية اللّامعقول”، وهو ما لا يمكن وصف ما حدث فعلاً في الواقع إلا بها. يُضاف أنّه بواسطتها يمكن الذهاب من الخاص إلى العام، لتشمل ليس فقط المناطق السورية الأخرى، وإنّما أي مكان أو زمان تنتهك فيه كرامة الإنسان بوحشية الحروب ومجازرها.
عمر الشيخ :شعرنا في “داريا الحكاية” بالكثير من الاضطراب بسبب كمية الكره نحو شريحة اجتماعية تنتمي لها سلطة النظام في سورية، ألا يخيفك هذا الانحياز بوضع كلّ من ينتمون لتلك الشريحة بأنهم متهمون أيضاً، حتى لو لم يوافقوا على إرهاب تلك السلطة وأفعالها؟
مازن عرفة: ليس اضطراباً، وإنّما مواجهة واقع حدث فعلياً، حتّى نفهم كيف تطورت الأمور لاحقاً، بهذا العدد الهائل من القتلى والمعوقين والمهجرين المشردين، بما فيه مشروع “التغيير الديمغرافيّ” في سورية، وهو ما يتم الحديث عنه بالملايين بلغة الأرقام. استغلت السلطة الديكتاتوريّة العسكريّة التجييش الطائفيّ في قمع سلمية “الربيع العربي”، وهو ما أدى إلى ظهور “الأسلمة” بوجهها الوحشيّ ضمن ظروف إقليمية ودولية معقدة. وبالتأكيد، لا ينبغي تعميم رموز القمع من أي طرف على أي مجموعات أثنيّة أو دينيّة أو طائفيّة، إذ إن كثيراً من أفراد من هذه المجموعات لهم تاريخ نضاليّ طويل من أجل الحريّة ضد السلطة الديكتاتورية نفسها، قضى قسما كبيراً من حياته في المعتقلات، قبل في “الربيع العربي”، وشارك في بداياته السلمية. وهم أصدقاء شخصيون يعيشون الآن المنافي مثلنا. يستند مشروعي الروائيّ كلّه عن “الحكاية السورية” على مواجهة سوريالية ما حدث، بالسوريالية نفسها، كأحد أشكال الفانتازيا.
عمر الشيخ :هناك نوع من الموافقة الضمنيّة على استخدام “أدبيات إعلامية” ليست دقيقة، كانت قد أنتجتها فئة من “المعارضة السورية” ألا تعد ذلك شحاً بالمخيلة لإعادة انتاج مفردات رمزية تبعد العمل عن خانة التصنيف الفوريّ بأنه مراجعات أدبية عن تقارير واقعية لأحداث وثقها الإعلام؟
مازن عرفة: الرواية هي رؤية أدبيّة ـ فانتازية، تحاول أن تنتقل من خصوصيّة منطقة، للتعميم على جميع المناطق السوريّة. لكنّها تنهض في الوقت نفسه على وثائقيّات محدّدة؛ الأول منهاـ وهو الأهمّ. ما شهدته أنا نفسي شخصياً، وقد عشتُ هذه الفترة في بلدتي بريف دمشق الغربيّ، المُلاصقة لداريا، بكلّ أجواء جنون المجازر الوحشيّة السائد وقتها، وربّما نجوت بحياتي منها بالصدفة. وثانياً شهادات أصدقاء من أهالي داريا أنفسهم، الذين نجوا من المجازر فيها بأعجوبة. لكن إلى جانب ذلك، كانت هناك مفاتيح مهمة، هي تلك الوقائع الموثّقة بالفيديوهات، ومن قبل منظمات دولية. الكثير منها هي من وثائقيات النظام الديكتاتوري نفسه، التي يفتخر بها. لا توجد عائلة في سورية إلا ولها قتلى في “المُعتقلات السوريّة”، وتحت “البراميل المتفجرة”، ومهجرين مشردين لكني في روايتي كنت موضوعيّاً، فالفصل الرابع، وهو من أهم الفصول التوثيقيّة، الغارق بالكامل بـ”سوريالية الجنون اللّامعقول”، يستند على واقعة قامت فيها “داعش” بسحق أحد الجنود تحت جنازير دبابة، مقابل وقائع شبيهة قام بها الجنود المتعصبون وميليشياتهم في الطرف المقابل. الضحية في كلّ الأحوال هي “الإنسان السوريّ”.
عمر الشيخ :انتقدت في ختام روايتك “لغة الدّم” ألاّ ترى أنك أيضاً استخدمت ذات اللّغة في تجسيد الوجع السوريّ في هذا العمل، ألا يمكن للأدب أن ينجو من الدم؟ وإذا كان الجلاّد شريراً هل يجب أن نكون أكثر شراً منه لنرفع صوتنا؟ ألا ترى ذلك تجريداً من الإنسانيّة يجرنا نحو وحشية مطلقة؟
مازن عرفة: الراوي في “داريا الحكاية” يحمل جُثث المجازر في داخله، ترافقه في الذاكرة دائماً، هي “حكاية السوريّ” أينما تنقل. الجُثث برمزيتها ضاجة لا تهدأ، إلا إذا تم رواية حكاياتها للزمن. حدث هذا أيضاً في “الغابة السوداء”، حيث ستتحول في داخلنا إلى “الغابة المُنيرة”، بمجرّد أن نروي حكاية مآسينا، ونتخّف بذلك من آلامها. الهدف من رواية “الحكاية السوريّة” في “مشروعي الروائيّ” هو تحدي رموز القمع بكافة أشكاله، وتوثيق مجازره، وإنّ عن طريق الفانتازيا، حتّى لا ننسى. وسيأتي الزمن المناسب، ويحاسب التاريخ رموز القمع هذه بكافة أشكاله. ليست وظيفة الأدب التغيير السياسيّ المباشر، وإنّما هو نشر الوعي بقيم الحياة الإنسانيّة واحترام حقوق الإنسان وكرامته.
منذ البداية ندرك أن رغبة الكاتب باسم خندقجي في روايته “قناع بلون السماء” تتخطى هاجس دحض قصة دان براون عن مريم المجدلية في رواية شيفرة دافنشي، إلى التلويح بأهمية كشف الزيف الذي عممته الحركة الصهيونية على العالم، خشية أن يكرسه الزمن لدى الأجيال الجديدة بينما مازال هناك فلسطينيون تُغيّب حياتهم بقسوة، فالبطل نور دارس الآثار يرى أن في إحياء حكاية مريم المجدلية المغيبة قسراً إحياء لهويته المسلوبة والتي تعمل دولة الاحتلال على محوها، إذ أغفلتها كتب التاريخ المتبناة من قبل المؤسسة الدينية الرسمية وأهملت إنجيلها، رغم أنها أقرب التلاميذ للمسيح. ويرى ذلك في صلب تفكيك التفاصيل المعرفية والثقافية والتاريخية للدولة المستعمرة من أجل تمزيق الأقنعة التي تحتال بها على العالم عبر إحياء حقائق أغفلها التاريخ. هكذا تعيش رواية في قلب رواية خندقجي وتنتظر أن يكتبها بطله، فتتشابك الروايتان وتستمد إحداهما الإشارات من الأخرى، في سرد يجدله بطريقة مثيرة للانتباه، مليئة بالإسقاطات من الحكاية إلى الواقع إذ يستطيع القارئ أن يلاحظ كيف يوازي بين رموزه ليمنح الحياة لإحدى روايتيه من الأخرى وبالعكس، بينما يقوم بطله نور بإطلاعنا على الحقائق التي وصل إليها وطريقته بالتقصي، في أسلوب شيق وذكي يخرج من البكائيات إلى المغامرة في التعامل مع واقع الاحتلال الضاغط. يعيش البطل أزمته العامة تحت خطر الاعتقال والاختطاف والحرمان من الحقوق كما حدث مع صديقه مراد في مخيم يضيق بسكانه، إضافة لأزمته الخاصة في أسرته التي سُلب تاريخها النضالي وتراثها العريق فانكفأت للصمت. كانت ملامح نور الأوربية الشبيهة بملامح الأشكناز تساعده في المواقف الحرجة كما لو كانت قناعاً يساعده في التنقل، إلى أن دعمتها الصدفة بقناع آخر، حين عثر على هوية إسرائيلية باسم أور شابيرا في معطف ابتاعه من سوق الخردوات، فاستطاع التحرك بحرية ودخول القدس للعمل ومن ثم الالتحاق ببعثة أثرية في سهل هر مجدون سعياً وراء مشروعه الروائي. يقدم باسم خندقجي عبر تنقلات بطله صورة حية عن الداخل الفلسطيني الذي يتقلب على السفود، في ظل محاولات تهويد القدس وتهجير سكان حي الشيخ جراح والهجوم المتكرر على الأقصى ومقاومة الفلسطيني الأعزل، كما نتعرف على حياة سرية للقدس كوجود جماعات صوفية فيها، ونرى وجه السكان الآخر (المحتلون) عندما يزور المستوطنة القريبة من مكان البعثة الأثرية، متتبعاً آثار المجدلية. يوازي الكاتب بين نور والفخار المكسور في الحفريات بينما يشعر نور أثناء التنقيب أنه يلتحم بالأرض، ويصبح معها جسداً واحداً، كأنه يستعيد انتماءه الذي جرد منه وهويته المسلوبة، وثقته بنفسه منفصلاً عن العالم الذي أنكره كما أنكر بطرس المسيح.
قناع لكل البلاد كانت هوية أور قناعاً لنور، بينما نشاهد أن الاحتلال ألبس البلاد كلها قناعا ليخفي الماضي الذي لا مكان له فيه، فأعاد رسم الجغرافيا على هواه، وزرع سفوح الجبال بالأشجار ليدفن بقايا القرى المهجّرة والمدمرة، وآثار الفلسطينيين المهجرين. وهو ما ذكرته عدنية الشبلي في روايتها “تفصيل ثانوي” إذ تختفي من الخارطة عشرات القرى الفلسطينية ويصبح مكانها منتزه كندا، وما يؤكده الكاتب اليهودي أبراهام يهوشع في روايته، كما يخبرنا خندقجي، حيث يجعل الفلسطيني حارسا للغابة ويقطع لسانه فيقوم هذا بحرق الغابة لتظهر الحقيقة عارية في بقايا القرى المطمورة. لكن خندقجي لم يستخدم أسلوب عدوه رغم كل ذلك، بإلغاء وجود الآخر وتاريخه في معرض دفاعه عن وجوده التاريخي، فالبحث الذي أنجزه نور في دراسته كان عن ثورة باركوخبا اليهودية بعد سنة من صلب المسيح ضد الرومان، والتي أخمدت على يد الفيلق الروماني السادس الذي عسكر في منطقة تنقيب البعثة الأثرية. يزيد استخدام القناع الهوية من تمزق نور النفسي حيث يصبح العدو ليس فقط في خارجه بل يعيش في جسده وهذا الالتباس يجعله في ذروة التوتر وعدم تحديد المفاهيم فيشعر بالخيانة والخجل من زميلته في البعثة الأثرية (سماء الحيفاوية) التي كانت تحاول شرح الحقائق للأعضاء الأجانب دون خوف. تنتهي أعمال البعثة بشكل طارئ بعد اشتعال المواجهات بين حماس والاحتلال فيقوم نور بإنهاء تمزقه النفسي بتمزيق الهوية القناع والذي يعني في اللغة العبرية المسخ، مستعيداً كيانه وانتماءه الذي يعلو على زيف الجغرافيا كأنه سماء ناصعة ويشتبك ذلك بإعلانه الانتماء لسماء الحيفاوية التي يراها في لحظة ما صورة المجدلية النورانية. تابع باسم خندقجي في روايته التي نالت البوكر العربية هذا العام، شد القارئ بلغة جميلة ومعبرة صادمة وسرد شيق وغني بالمعلومات يتنقل بين الميتا سرد والاسترجاع والمونولوج عبر أسلوب الرسائل الصوتية التي كان يسجلها البطل لوضع التصور الروائي لروايته أو للتواصل مع صديقه مراد رغم أنه لن يسمعها، و لتفريغ الغضب المحتقن جراء الازدواجية التي يعيشها وتقريعه لنفسه بتهمة الخيانة، كما تجلى الصراع الداخلي في حواراته مع أور شابيرا صاحب الهوية المتخيل في لعبة ذكية لإيصال صوته المقموع والمصادر، في غزارة تاريخية و كثافة أدبية لافتة. هكذا يلعب خندقجي وهو الأسير المحكوم بالسجن مدى الحياة وحيث كتب رواياته ودواوينه الشعرية، لعبة الثنائيات: بين الماضي والحاضر، فعمل نور وعمل مراد صديقه في السجن والذي ينجز رسالة الماجستير عن بنية الدولة الاسرائيلية الكولونيالية عملان يسيران في طريقين متعاكسين زمنياً ومترابطين بدقة. وثنائية المحتل اللاجئ، الحرية والسجن خلف القضبان أو في المخيم المحاصر، إلى ثنائية الهوية في شخصيته المقنعة بينما صديقته سماء وشمت على يدها (حيفا 1948) في دلالة انتماء لا يبطله إلا الموت أما أور شابيرا اليهودي فقد نسي هويته في معطف باعه في سوق الخردوات وأي هوية تباع في سوق الخردوات؟ لنصل إلى الثنائية التي يشير إليها منذ البداية وهي ثنائية الواقع والخيال فنور يتعجب كيف استطاع الخيال أن يقود شعباً لاستملاك بلاد ليست لهم، وتهجير أهلها والاستمرار بالخديعة التي يصفق لها العالم كتعويض عن الهولوكوست، مقارناً بين المخيم والغيتو ومتسائلاً عن مستقبل المخيم بعد سبعين عاماً! الخيال ذاته جعل براون يمنح المجدلية حياة متخيلة، هكذا يكتب الرواة رواياتهم، فهل للفلسطيني أن يعيد حكايته للتاريخ في رواية تقلب الطاولة على رؤوس الرواة جميعاً؟
بعد قطيعة استمرت اثني عشر عاماً، تعود العلاقات السورية السعودية من بوابة فتح الحج وقبول طلبات السوريين لأداء فريضته، على أن تنطلق رحلات الحجاج من مطار دمشق الدولي إلى مطار جدة، في إجراء قد يبدو أنه لن يكون الأخير وسيمهد لإعادة فتح السفارة السعودية في العاصمة دمشق وتوطيد العلاقات بين البلدين.
وكانت لجنة إدارة مصرف سورية المركزي أصدرت التعليمات الخاصة بتسديد عوائد الخدمات المترتبة على أداء مناسك الحج للعام الحالي ممن حصلوا على موافقة وزارة الأوقاف. وتنص التعليمات على إلزام جميع الراغبين بالحج الذين وصل عددهم قرابة 17500 شخص ممن استوفوا شروط العمر، بالإيداع النقدي بالقطع الأجنبي في الحساب المحدد من قبل وزارة الأوقاف لهذه الغاية لدى بنك البركة سورية بكل فروعه.
كلفة الحج تعادل راتب الموظف لـ 30 عاماً
تختزل الآية الكريمة “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً” حال السوريين الراهنة إزاء تأدية مناسك الحج الذي بات حكراً على شريحة اقتصادية معينة وذلك بسبب نفقات رحلة الحج والتكاليف الباهظة. تقول السيدة الستينية التي كان يراودها حلم الحج منذ سنوات عديدة: “منذ اندلاع الحرب وأنا أتمنى زيارة مكة المكرمة، لم تسمح الأوضاع بسبب تعليق الحج، وعندما عادت الأمور إلى مجاريها أصبحت التكلفة باهظة جداً. الأغنياء فقط من يستطيعون دفع ما يفوق 100 مليون ليرة سورية، هذا رقم فلكي بالنسبة لأسرة سورية متوسطة الحال”. تؤيدها بالرأي فاطمة (48 عاماً) التي تجد أن الحج للمقتدرين مادياً، فلم يعد بمقدور الفقير تأدية فرائض دينه في ظل هذه التكاليف المرتفعة، فالأولوية للطعام والشراب وحبوب الدواء ودفع إيجار المنزل، تختتم حديثها بالقول: “النية موجودة، لكن الاستطاعة عدم”. أما جهاد (55 عاماً) فيرى أن التكلفة الخيالية للحج تعادل راتب الموظف السوري درجة أولى لمدة 30 عاماً، ما يعني أن الأمر مستحيل لأصحاب الدخل المحدود، ويضيف ساخراً: “صارت الكعبة رفاهية ففرضوا علينا جمركة، التضخم أثر على أركان الإسلام”.
بدورها، ترى نورمان (26 عاماً) أن المبالغ الباهظة غير المنطقية التي وصلت ما بين (85 ـ 200) مليون ليرة سورية كتكلفة رسمية لتأدية فريضة الحج من الأفضل أن تدفع لبناء المدارس أو كفالة اليتامى وإطعام الفقراء الذين هم أولى بالمال وتجوز عليهم الرحمة. يوافقها بالرأي عمار الذي يعتقد أن التبرع بهذه الأموال الطائلة للشرائح الأكثر عوزاً أو القيام بعمليات جراحية للمحتاجين قد يكون أكبر أجراً وإحساناً، بينما يجد الشاب الثلاثيني رامي أن يستثمر هذا المبلغ في مشروع شخصي له أو السفر به إلى أوروبا.
أصحاب الجيبة العامرة وحدهم من يحجون
في الوقت الذي يكابد فيه السوريون لتأمين لقمة العيش يومياً ويصارعون للبقاء في ظل تكاليف الحياة الباهظة، غير أن البعض منهم لا تشمله خريطة الفقر ولا حدود الجوع، لتجد الفئات الغنية نفسها قادرة على دفع مبلغ 6 آلاف دولار وفق سعر المصرف المركزي (13400 ألف ليرة سورية) بسهولة كبيرة، لنصبح أمام فجوة طبقية ساحقة. تكفل راتب بدفع مبلغ 125 مليون ليرة سورية لوالدته الستينية لتأدية مناسك الحج، وهي المرة الأولى لها، يقول الخمسيني وهو تاجر قماش في سوق الحميدية بدمشق: “هذا المبلغ يشمل تذكرة الطيران وحجز فندق 3 نجوم ووجبتي فطور وغداء ورسوم التنقل في الحرم، يفتدي المال خدمة الله وطاعته وهو فريضة من استطاع إليها سبيلاً، والحمد لله أنا مقتدر مادياً.”
يعترف عبد الخالق (58 عاماً) أن عمله في تجارة الطاقة الشمسية والدخل الشهري العالي الذي يجنيه يسمح له بتحمل تكاليف الحج، يقول: “لن أفوت الحج خاصة هذه هي المرة الأولى بعد 12 عاماً، سأعتبر نفسي أنني أخذت إجازة شهر كامل.” وقد دفع الرجل قرابة 185 مليون سورية مقابل خدمات مميزة وحجز فندقي 5 نجوم والترتيبات اللوجستية، ناهيك عن تكاليف التبضع التي سيتكبدها هناك.
تناوب الأشقاء الستة المنتشرون في أوروبا في على تقاسم مبلغ 6 آلاف دولار لإرسال والدتهم الخمسينية إلى الحج، حيث اقتطع كل واحد منهم جزءاً من راتبه لتكبد النفقات، يقول عثمان أحد الأخوة: “تشاركت مع أخوتي على اقتسام الكلفة وإسعاد والدتنا التي لطالما حلمت بهذه اللحظة، من غير المعقول أن نحرم أمنا من هذه السعادة، المبلغ ليس بكبير إذا قسم على الجميع، اختصر كل واحد منا بعض النفقات وأجلها للشهر القادم في سبيل تحقيق أمنية الوالدة.”
الحج بالنيابة
في ظل انعدام الدخل وتكاليف الحج الباهظة يلجأ بعض السوريين إلى توكيل شخص يعيش في السعودية للحج بالنيابة عن الآخر، حتى لو كان قادراً جسدياً لكنه عاجزاً مادياً، في محاولة لتقليص النفقات إلى النصف. هذا ما فعلته فادية (50 عاماً) التي فوضت صديقتها المقيمة في السعودية بالحج بالنيابة عنها مقابل دفع تكاليف بسيطة كالتنقل وشراء لباس الحج، وتشرح لنا تجربتها: “لا أستطيع أبداً دفع مصاريف الحج، طلبت من صديقة الطفولة الحج بالنيابة عني، ولم تمانع أبداً، حتى أنها عرضت استضافتي في منزلها، لكن بالرغم من عرضها السخي أجد نفسي عاجزة عن دفع تذكرة الطيران والفيزا، هذا حل جيد ومريح نفسياً ومادياً، إلى حين يرزقني الله والحج شخصياً”.
ويضيف المحلل الاقتصادي عابد فضيلة شارحاً الأمر أن الأثر الاقتصادي في تسيير أفواج الحج “عبء مادي على مدخرات الحجاج السوريين من القطع الأجنبي، لكنه في الوقت ذاته عبء محبب وشرعي ومرغوب على المستوى الاجتماعي، كما أن له آثاراً اقتصادية إيجابية تتمثل بالنفقات الاحتفالية التي تصرف عند عودتهم من الحج إلى بلادهم مثل كثرة الإنفاق على الضيافة والزينات والهدايا لصالح السوق السورية وإنعاشها”.
لا أخفي ارتباكي وأنا أكتب عن ديوان (تحت شجرة بوذا) للشاعرة فرات إسبر التي تخطت بشجاعة وصدق كل الخطوط الحمراء في الكتابة التي يضعها عالمنا العربي لدرجة أنني توقفت مراراً مبهورة بجرأتها وسعيدة أنها قفزت فوق الرقابة. ديوان أشبه بجدارية عن الوطن والغربة والحنين والحب واليأس والأحلام، شعر يزخر بمشاعر غنية بالحياة والماء والزهور والأشجار والدماء، ووجدت نفسي أمام تحد في كتابة مقال يُعبر عن روح الكتاب. لذا وجدت الأنسب أن أختار جملاً معينة من قصائد مدهشة الإبداع تختزن روح الشاعرة المبدعة. في مقطع بعنوان موت تُعبر الشاعرة عن نفسها: بقدر ما أحيا أموت وبقدر ما أموت أحيا –تزهر حياتي مثل ربيع– وأجمع أوراقها مثل خريف. ولم أعرف لماذا تذكرت عبارة سيمون دو بوفار (نحن لا نولد نساء بل نُصنع نساء) لأن فرات إسبر في ديوانها (تحت شجرة بوذا( كتبت عن المرأة كإنسانة وليست كأنثى. ورغم إعجابي الكبير بالشاعر نزار قباني وهو شاعر المرأة والحرية، فإن أغلب أشعاره كانت عن افتتانه بالأنثى المثيرة والساحرة، لكنه برأيي لم يغص كثيراً في روح المرأة كإنسانة، بل ظهرت نرجسيته الذكورية في جمل كثيرة (وما بين حب وحب أحبك أنت). لا أقارن على الإطلاق بين شعر نزار قباني [وهو أيقونه في الشعر والإبداع وبين شعر فرات إسبر]، لكن أصابني ذهول وأنا أقرأ عبارة ( حيضهن تخضر الأرض) هي عبارة ثورية وفيها تحد كبير لكل المفاهيم الدينية خاصة والاجتماعية التي تعتبر المرأة في فترة الحيض مدنسة لا يجوز أن تصوم ولا تدخل الكنيسة أو الجامع وبشجاعة امرأة تتفجر الحرية في أعماقها وتقدس المرأة كواهبة للحياة والحب. المرأة التي كانت في زمن مضى آلهة [آلهة الخصب والحب والإنتقام.. ]، تأتي عبارة (وبحيضهن تخضر الأرض) كإعلان ثورة لمفهوم الحيض الذي يُغني الأرض بالدم وعندها تنبت الأشجار والنباتات.
تكتب فرات عن الله بحرية متصوف لا يحتاج لوسيط بينه وبين إلهه في مقطع بعنوان (انهض يا قلبي الينبوع): سكرتُ سكرتُ، اليوم بالدمع –
قلتُ لربي: آه يا ربي، هذا النبع قيدني بالدمع.
طفتُ في الأرض سكرى من شدة الوجد
وقلت لكل زهرة عند مفرق النبع –
ها قلبي – ها قلبي –
أطوف به بين الدرب والدرب
– بين الوهد والوجد .
تبحث فرات في كل شعرها عن مُسكن للحنين إلى وطن تعشقه، عارفة سلفاً أن لا دواء للحنين أتأمل ما كتبت: من يؤنس وحشة الضوء بعد هذا الكسوف؟ في سماء كلها سفر إلى جنه أو عدم نتقاسم الذكريات كأنها رغيف خبز نصف لي ونصف لذاكرتي التي تنقر ذاكرتي وتُشجعني على النسيان . هذه الذاكرة طوفان والزمن رسام بديع.
لكنها تعرف أن النسيان مستحيل وأن وجع الحنين لا دواء له تعبر عن وجع الحنين:
لي مدينة اسمها الأسى – ولي قلب اسمه الشوق !
لا يفصل المحيط فرات إسبر عن مدينتها الساحلية الجميلة جبلة، تعبر روحها المشتاقة إلى حد الوجد المحيط لتقف في موقف باصات جبلة، وتجلس قرب بحرها وتتأمل الزهور على نوافذها، وتحس بوجع الحنين والكارثة التي حلت بسوريا. لم تجعلها الغربة تنسى أبداً مدينتها جبلة ولا تنسى اللاذقية ودمشق وتتذكر أدق التفاصيل وباعة الكتب المستعملة في دمشق، فرات تحس أن للأمكنة أرواحاً وروحها مسكونه بعشق وطن يستحيل أن يخف.
أنام على حلمي بدون وسادة مسكونة بالوحدة حتى الموت.
وتعترف بهزيمتها حين تقول: أنا الغريبة التي أجيد اللغات والكتابة ولكنني لا أجيد قتل الحنين.
في مقطع بعنوان (رجفة): الشجرة ترتجف أمام الباب – أنظر إليها ، تنظر إلي – غصن أخضر منها، غصن يابس مني – اتحدنا في دورة الحياة – وكسرتنا الرياح.
لا أخفي إعجابي بالإبداع والفكر الحر حين تكتب: أحب الضعف كي يحبني الله
أحب القوة كي لا أحب الله. أهذا اختبار القوة أم اختبار الضعف يا الله؟
تكتب عن الحب:
اليأس خلق سماء بيننا أعطى معنى لي بأن لا أعود إلى المُتشابهات / أنت من طين وأنا من ماء. كلما جُبلنا إزددنا إبتعاداً
– أيها الحب، أغنية أنت في أذني التي لا تسمع، وفي عيني التي لا ترى، فاذهب إلى مصيرك حيث الصوفي والعاشق الواهمون بوجودك، ويصورونك بالبديع من الجمل.
ولا ثمار في القبل.
وجع الوطن ينخر في قلب فرات، موجع ومؤثر ما كتبته عن سوريا وعن جبلة وعن دمشق كم مؤلم أن تكتب: بلادي يُوقظها الدم من نعاسها، يضع خنجراً في صدرها ويدعوها للصلاة.
وتكتب: شقيقان نحن يا هابيل، شقيقان يا غراب، الأرض سدوم كلها والإنسان جرح يقطع بطنها.
وتضيف: أسمع صوت نساء الحارة الغريبات، الوحيدات، الحزينات. ومن رماد إلى رماد أنطفئ شوقاً ثم أموت.
كنتُ أتمنى لو أعيد كتابة الديوان كله (تحت شجرة بوذا)، فمن الصعب تقطيع الإبداع، لكني حاولت أن أنقل روح مبدعة حرة لا تعترف بالخطوط الحمر ولا بالسقف المنخفض للإبداع، لأن الإبداع الحقيقي لا سقف له وقد يصل إلى السماء ويتجاوزها. أخيراً أختم بعبارة كتبتها فرات: ليموت الوحش لتقتله الشاعرات.
قرأت الكثير من الشعر لشاعرات ومنهن مبدعات لكن كانت أغلب المواضيع التي تناولنها بشعرهن عن ظلم المرأة وآلام الحب، وظلم القوانين والرغبة بالتحرر والحرية، لكن ظل الخوف كوشاح يُغلف تلك القصائد. لم تكتب شاعرة عبارة ثورية كما كتبت فرات (بحيضهن تخضر الأرض)، ولم أقرأ لشاعرة حواراً لها مع الله بحرية دون أي اعتبار لجنات الخلد ولنار جهنم. فرات تتكلم مع رب العالمين الذي خلقها حرة أي تفكر بحرية، وتسأل وتعترض. أحد الفلاسفة يقول (الإنسان سؤال) .
أخيراً حين أنهيت قراءة ديوان (تحت شجرة بوذا) لفرات إسبر وجدتني أفكر في فيرجينيا وولف ولا أعرف لم فكرت بها بعمق وهي العظيمة التي أعتبر نفسي تلميذتها، فثمة رابط خفي بين كتابة فرات إسبر الحرة وبين كتب فيرجينيا وولف خاصة كتاب (غرفة تخص المرء وحده)، وهو كتاب نقدي للعديد من أهم روايات بداية القرن التاسع عشر. روايات لكاتبات عظيمات اضطرهن ظلم المجتمع أن يكتبن بطريقة تحميهن من الأذى والمحاكمة وربما القتل، كل الكاتبات اللاتي كتبت عنهن فيرجينيا وولف لجأن إلى أن تكون بطلة الرواية (مجنونة) لأن المجنون لا يُحاسب على أقواله وأفعاله، وكان صوت المجنون هو صوت الكاتبات.
فرات إسبر لا تحتاج أن يكون بطل شعرها مجنوناً فهي تملك روحاً حرة وجرأة، وربما من حظها أنها بعيدة عن العالم العربي الذي يتراجع في مجال الحرية ويدين ويُكفر.
نحن نحتاج في هذا الزمن إلى شاعرات تحديداً يقطعن الصلة مع ماض متخلف مع جرائم الشرف والعذرية، وربط شرف المرأة بالرجل الذي يُقرر حياتها. نحتاج إلى ثورة فكرية أولاً ثم تلحقها الثورة الأدبية والفنية. وأحب أن أختم بعبارة عظيمة للشاعرة الإيرانية (فروغ فرخ زاد) التي كتبت (أثمت إثماً مُشبعاً باللذة)، كان ثمن هذه العبارة أن طلقها زوجها وطردها والدها من البيت.