بواسطة عامر فياض | مايو 30, 2024 | Roundtables, العربية, بالعربية, مقالات
“كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض”. ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي أبدع بريشته وألوانه وخياله الخصب حيوات شاسعة ومتكاملة ومتنوعة، صوَّرها بطرقٍ تعبيرية شاعرية، حكائية، غنائية، حالمة، محمَّلة بالأبعاد النفسية والعاطفية والروحية، حافلة بالإيحاءات والصور والحكايات والذكريات، وأظهر من خلالها قدراتٍ فنية استثنائية في تحويل الخيال والذاكرة والأساطير الشعبية إلى تجلياتٍ بصرية لونية، ليبرز كواحدٍ من أهم مؤسسي الحداثة التشكيلية في سوريا، وكمرجعية في علم التكوين الفني واللغة البصرية وفلسفة الألوان.
ولد نذير نبعة (1938- 2016) في منطقة بساتين المزة، التي شكلت طبيعتها الساحرة هاجسه اللوني الأول وساهمت في إغناء موهبته الفطرية، وتحريض بصره على التقاط المشهد الفني، فبدأ منذ طفولته برسم بعض الزخارف والورود على ثياب الفلاحات التي كانت والدته تقوم بخياطتها وتطريزها. وخلال دراسته الإعدادية برزت موهبته الفنية من خلال تقديم بعض الرسوم، التي تنتمي للمدرسة الانطباعية، كالمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة والبورتريه، والتي أظهرت مدى قدراته على فهم واستخدام بعض قواعد الفن التشكيلي، وقد ساعدته موهبة المتفردة على المشاركة في معرض “الجمعية السورية للفنون الجميلة” عام 1952، وهو في عمر الرابعة عشر، إلى جانب 38 فناناً من الذين قُبلت لوحاتهم في معرض الجمعية التي أصبح حينها واحداً من أعضائها وشارك في معظم معارضها السنوية حتى حصوله على الشهادة الثانوية عام 1958.
في عام 1959 سافر نبعة إلى القاهرة ليدرس فن التصوير في كلية الفنون الجميلة هناك، حيث تتلمذ على يد كبار أساتذة الكلية، مثل حسين بيكار وعبد العزيز درويش وعبد الهادي الجزار وحامد ندا، واطلع على عالم الفن القديم، الآشوري والبابلي والفينيقي والفرعوني واليوناني والروماني، إلى جانب دراسة أساليب الفن المعاصر بمختلف مدارسه التشكيلية. وخلال دراسته بدأ يظهر كفنان متفردٍ يَشقُّ طريقاً فنياً يختلف عن السائد، فنال درجة الامتياز عن مشروع تخرجه من الجامعة، وهو بعنوان “عمال مقالع الحجارة” الذي استلهم موضوعه من زياراته لقرية برقاش، القريبة من القاهرة، ولقائه بعمال مقالع الحجارة. وقد عالج الموضوع بطريقة تعبيرية حداثوية ومتحررة من الحالة التصويرية التقريرية، إذ يبدو التكوين في اللوحة حياً وحيوياً ومتحركاً، يوحي بحالة من النشاط واستمرارية العمل وكأننا أمام شريط سينمائي.
نحو هوية فنية سورية
بعد عودته إلى سوريا عام 1964 راح نبعة يبتكر أسلوبه الفني التعبيري الخاص، الذي يوفِّق بين التقنية والمضمون ويؤسس لاتجاهاتٍ وفضاءاتٍ فنية تحمل ملامح محلية، فبات يستلهم موضوعاته الفنية من فنون البلاد وتراثها الشعبي، بما يتضمنه من قيمٍ إنسانية وجمالية، وقد ساعدته مرحلة إقامته في مدينة دير الزور، التي عمل كمدرسٍ للتربية الفنية في بعض مدارسها، أن يُغني لوحاته برؤى وفضاءات تشكيلية ساحرة وشاسعة، استوحاها من التفاصيل الجمالية المدهشة للبيئة الريفية وألوانها الرحبة، ومن المثيولوجية الفراتية، والمناطق الأثرية الغنية بالرموز، والتاريخ الآشوري والسومري، والأساطير القديمة للبلاد وملاحمها الشعبيية الغنية بالحكايات، والتي ربطها بالحاضر بعد تجسيدها بشكلٍ تعبيري حكائي، ليُشكل من خلال تلك الموضوعات ملامح هوية فنية سورية أصيلة، تجلت بشكلٍ واضح في معرضه الأول الذي أقامه عام 1965، في صالة الفن الحديث في دمشق. وقد حظي المعرض حينها باهتمام ثقافي بالغ، وكرَّسه كفنان صاحب بصمةٍ إبداعية متفردة ورؤيةٍ تجديدية مؤثِّرة، ساهمت في تطوير وإغناء الحركة التشكيلية في سوريا آنذاك. ومن أبرز لوحات المعرض: “ننليل”، “عشتار”، “العجاج”، “خسوف القمر”، “الزير”، “صرخة سيزيف”، “الحوت يبتلع القمر” و “كاهنة مردوخ”، وهي اللوحة التي تم اقتناءها من المعرض. وقد استطاع نبعة من خلال تلك الأعمال أن يبتكر مدرسته الواقعية الخاصة التي مزجها مع التعبيرية والرمزية، ليُقدم اقتراحاتٍ وموضوعاتٍ بصرية رائدة ومثيرة للاهتمام، تجاوزت الأنماط الفنية السائدة في تلك المرحلة، حيث تناول أكثر من فكرةٍ وموضوع في اللوحة الواحدة، من خلال تكوينات غنية ومبتكرة ومتنوعة، مزجت العديد من العوالم والفضاءات والمشهديات، قدمها بلغةٍ تعبيرية سردية، استندت إلى المفاهيم الفنية المعاصرة وابتعدت عن المباشرة والتقريرية.
فنان ملتزم بالقضايا الإنسانية والوطنية
بعد وقوع نكسة حزيران عام 1967 برز نبعة كفنان ملتزم بقضية الإنسان العربي والفلسطيني، ومدافعاً، من خلال فنه، عن حقه باستعادة أرضه ووطنه وكرامته، فانتهج أسلوباً فنياً جديداً، جمع بين ثورية الموضوع وفنية التعبير، وتناول في معظم لوحاته الفدائي الفلسطيني البطل، وأظهره بشكلٍ أسطوري وملحمي، ومنحه الكثير من صفات البطولة والخلود بوصفه المُنقذ والأمل. ولم يكتفِ نبعة بذلك فقط بل انتسب في تلك الفترة لمنظمة التحرير الفلسطينة، وصمم شعارها وعدداً من ملصقاتها وشعاراتها السياسية، التي أصبحت جزءاً هاماً من الذاكرة البصرية الفلسطينية، بالإضافة لتصميم أغلفة عددٍ من الكتب والمجلات التي تناولت الواقع الفلسطيني والمقاومة، كمجلة “فلسطين الثورة” التي صمم ماكيت عددها الأول وساهم في وضع رسوم بعض أعدادها، هذا إلى جانب إبداعه لمجموعة من الرسوم الغرافيكية، بعنوان “الأرض المحتلة”، استوحاها من قصائد عددٍ من الشعراء الفلسطينيين، كالشاعر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وراشد حسين. وقد استطاع من خلالها أن يقدم نفسه كفنان غرافيك محترف ومُلهم، يجمع بعبقريته الفنية، بين أفكاره الوطنية وأدواته التعبيرية الفنية.
وفي عام 1968 وبعد انتصارات معركة الكرامة زار نبعة وعدد من أصدقائه الفنانين المصريين معسكرات الفدائيين الفلسطينين في الأغوار، فأثمرت الزيارة، التي استمرت لمدة 15 يوماً وكانت مُلهمة لنبعة وأصدقائه، عن إقامة معرض فني مشترك، مستوحى من حياة الفدائيين وبطولاتهم وعملياتهم الفدائية، وقد جال المعرض حينها في عدد من المحافظات السورية، وبعض العواصم العربية كالقاهرة وعمان.
التوجه نحو الفن المعاصر
سافر نبعة عام 1971 لمتابعة دراسته الفنية في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، والتي وضعته وجهاً لوجه مع الثقافة الغربية والفن العالمي المعاصر، فكان، إلى جانب دراسته، يزور المتاحف والمعارض الفنية ويطلع على تجارب الفنانين المعاصرين، ليطور معارفه وثقافته وخبراته التقنية التي أغنت وعمقت رؤيته الفنية، فنال مشروع تخرجه، وهو عمل عن النباتات، جائزة المدرسة. وقد شكلت تلك المرحلة منعطفاً فنياً بارزاً في طريقة التعبير الفني عند نبعة، تجلت من خلال المزج بين التجريدية والواقعية. وعند عودته إلى دمشق، عام 1974 تجاوز كل الأشكال الفنية التي لجأ إليها في المراحل السابقة ليتجه إلى مدرسة الواقعية السحرية، التي يُعد من أبرز مؤسسيها وروادها في سوريا، فرسم النباتات، والمناظر الطبيعية، والطبيعة الصامتة، والوجوه، وعوالم المرأة، هذا إلى جانب استمراره في تناول موضوعات البيئة الشعبية والرموز والتفاصيل المُستقاة من التراث السوري، ولكن برؤية تجديدية معاصرة، حافظت على روح التراث وأصالته وقيمه الجمالية والروحية دون إهمال تقنيات الفن المعاصر، ليؤكد نبعة، مرة أخرى، مدى انتمائه للهوية السورية، وأن الفن لا ينبغي أن ينفصل عن البيئة والواقع المحلي. ومن أبرز لوحاته في تلك المرحلة: لوحة “نباتات ووجه”، “تفتح الزنابق”، و “عازفة المزمار” وغيرها.
الدمشقيات
خلال مرحلة “الدمشقيات” التي بدأها عام 1975 اتجه نبعة، بشكل أكبر، نحو مفاهيم الحداثة والمزج بين أكثر من مدرسة وتقنية وأسلوب في اللوحة الواحدة، محاولاً تقديم اللوحة التي تنتصر للفن المعاصر وتقنياته، والتي أسماها لوحة “الفكرة” كونها تحمل كثافة بصرية شاسعة وتتضمن العديد من التكوينات والتفاصيل وتخلو مساحتها من أي فراغ. ويقول الناقد صلاح الدين محمد عن تلك المرحلة :”بالنسبة لنا لو أن نذير نبعة لم ينجز هذه المرحلة لكان هناك فجوة في سلم ارتقاء الفن السوري ومعطياته”.
ومن خلال لوحات الدمشقيات، التي تحولت لمرجعية أسلوبية ألهمت الكثير من الفنانين، أبرز نبعة تفاصيل الحياة الدمشقية من زوايا مختلفة، فأعاد بناء أزقة وحارات المدينة القديمة بطرق تعبيرية غنائية وحالمة وغنية بفضاءات جمالية مكثَّفة، كما تناول الذاكرة التراثية للمدينة وبعض فنونها الشعبية وصناعاتها اليدوية الفنية التقليدية كالزخارف والصدفيات، وأضاء على الكثير من التفاصيل والرموز الدمشقية العالقة في الوجدان الجمعي السوري. وفي إحدى لقاءاته يقول نبعة عن لوحاته الدمشقية: “أعتبر هذه اللوحات قصيدة عشقٍ غنائية طويلة لمدينة دمشق، لأنها بالنسبة لي هي الأم، الأخت، الحبيبة، المدينة والوطن”.
وفي لوحات “الدمشقيات”حضرت المرأة على نحو فريد وملفت، وبحالاتٍ وتفاصيل متنوعة، وضمن فضاءاتٍ لونية، أضفت على اللوحة المزيد من السحر والجمال والتناغم، فظهرت ضمن البيوت الشعبية وأجوائها الحميمية والأليفة، ومحاطة بالزخارف والنقوش والأواني الخزفية والصدفيات، بشكلٍ يبرز عمق ترابط المرأة مع تلك العناصر الفنية المحفورة في وجدان وذاكرة الدمشقيين. كما ظهرت المرأة أيضاً وهي محاطة بالمصابيح والسيوف والمباخر وأطباق القش وغيرها من التفاصيل الفنية الدمشقية، أو محاطة بالأزهار ونباتات الزينة وزجاجات وأصص الورود، وثمار الرمان، وأغصان الياسمين، وسنابل القمح. وفي لوحات أخرى ظهرت وهي تعزف على الآلات الموسيقية التقليدية كالعود والناي، كما ظهرت وهي ترتدي الأزياء التقليدية، المليئة بالنقوش والألوان، وتتزين بالحلي والجواهر والأساور والأقراط والعقود، بشكل بديعٍ ومتناغم، أضفى الكثير من الحيوية والرشاقة على اللوحة. ومن أشهر لوحاته الدمشقية: “هلال” ،المساء”، “الربيع”، بدوية”، ” البحر”، “ست الحس”.
ويُعد نبعة من أبرز الفنانين التشكيليين السوريين والعرب الذين تناولوا موضوعات المرأة بشكلٍ موسع، لذا لقب بـ “رسام المرأة العربي”، كما أنه، وخلافاً لكثيرٍ من الفنانين، لم يُظهر المرأة بشكل إيروتيكي بحت أو تصويري مباشر، وإنما تناولها بكل حالاتها الجمالية والنفسية والوجودية وبوصفها رمزاً للعطاء والخصوبة والحياة، فقدمت لوحاته المرأة القادمة من الأسطورة والأحلام، المرأة التي تفيض سحراً وأنوثة وجمال، المرأة التي تعزف الموسيقى، المرأة التي تشبه المدينة، المرأة المتماهية مع الطبيعة، المرأة التي ترمز للأرض والوطن، والمرأة الحبيبة والأم، والتي تهب معنى للحياة والوجود.
التجليات
في التسعينيات اتَّجه نبعة نحو مرحلة فنية جديدة، أسماها “التجليات”، انتمت معظم أعمالها للمدرسة التجريدية، واستمرت حتى نهاية حياته، وقد ابتعد فيها عن الجانب التزييني والزخرفي وعن الأجواء الشرقية والأسلوب الانطباعي والواقعي، ليتجه نحو فلسفة الألوان وتجلياتها وفضاءاتها الشاسعة وحركاتها التعبيرية الرمزية والمتداخلة بشكل متناغم ومتحاور في مساحات اللوحة الفنية، التي تطرح الكثير من المفاهيم التشكيلية التقنية المعاصرة. وقد استوحى ألوان لوحاته من الطبيعة السورية وبراريها وجروفها الصخرية، وحمَّلها بالكثير من الأفكار والعواطف والذكريات، ضمن فضاءٍ تصويري واسع الأفق، يوازن بين الموضوع والجانب الفني التقني الأكاديمي. ورغم توجهه نحو الأعمال التجريدية واستخدامه لمختلف أنواع التقنيات الفنية، حافظت لوحاته على الروح الجمالية وعلى الشاعرية اللونية والحالة الحسية ذاتها.
وضمن مرحلة التجليات رسم نبعة، الملتزم بالقضايا الوطنية، مجموعة لوحات بعنوان “المدن المحروقة”، انبعثت فكرتها عقب ارتكاب إسرائيل لمجزرة قانا/ جنوب لبنان عام 1996، وقد تناول مأساة المجزرة بأسلوبٍ تعبيري تخلى فيه عن السخاء اللوني، الذي كان يُميّز أغلب لوحاته، ليستخدم تقنية الحبر الأسود، الذي عبَّر من خلال خطوطه وقتامته عن حجم المأساة، وأبرز وجوه الشهداء الشاحبة والغارقة في جحيم الموت والألم. وقد استمرت تجربة “المدن المحروقة” لعدة سنواتٍ، رسم خلالها، باستخدام أكثر من أسلوبٍ وتقنية وطريقة تعبير، لوحاتٍ عن بيروت وجنين وغزة، التي عاشت مختلف أشكال القتل والوحشية من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم بغداد التي تعرضت للقصف الوحشي خلال الغزو الأمريكي لها عام 2003. ويقول نبعة عن تلك التجربة في أحد لقاءاته: “أنا لم أرسم الدمار والأبنية المحروقة، وإنما رسمت الحرقة داخل صدري، وصدر كل مواطن عربي وهو يتابع انهيار هذه المدن وإحراقها، وهو عاجز عن القيام بأي دور”.
وفي سنواته الأخيرة رسم نبعة مجموعة رسومات بالحبر الصيني عن ممارسات تنظيم داعش في سوريا، أسماها “المفاتي”، كرمز للفتاوى التي كان التنظيم من خلالها يحاول تحليل العنف والقتل.
بعض مساهماته في مجال الثقافة
إلى جانب إرثه الفني الغني عمل نبعة في نهايات الستينيات مع مديرية الكتب المدرسية، إلى جانب الفنان ممتاز البحرة وعبد القادر أرناؤوط، في تصميم أغلفة ورسوم الكتب المدرسية، كما عمل في تلك المرحلة مدرساً في معظم أقسام كلية الفنون الجميلة في دمشق حتى عام سفره إلى باريس، وكان من أبرز وأهم أساتذة الكلية والأكثر تأثيراً في الطلاب الذين تتلمذوا على يده. وبعد عودته من باريس عاد للتدريس في الكلية، ثم أسس في العام 1980، بالتعاون مع الفنان فاتح المدرس وإلياس الزيات ومحمود حماد، قسم الدراسات العليا في الكلية، وعمل فيه أستاذاً لعدة سنوات، حيث تخرج على يده كبار الفنانين السوريين الذين أصبحوا من رواد الفن التشكيلي في نهايات القرن الماضي.
وإلى جانب التدريس عمل نبعة في مجلة الطليعة، التي كانت تستقطب أبرز الأسماء الثقافية والفنية السورية، حيث كان مسؤولا عن تصميم غلاف المجلة الأسبوعية، وعن إنجاز الرسوم الداخلية، بالإضافة لصفحة خاصة به كرسام للمجلة، وقد أصبحت رسوماته في تلك المجلة مرجعاً هاماً لكثير من الفنانين الشباب، الذين عملوا في نفس المجال، بعد أن رفع من سوية فن الرسم الصحفي والغرافيك. وبين عامي 1975 و 1976 عمل نبعة رساماً في مجلة الموقف الأدبي، التي كان يرأس تحريرها الكاتب زكريا تامر، وكانت تلك التجربة غنية وفريدة من نوعها، إذ كان الرسم في المجلة عملاً فنياً موازياً للعمل الأدبي (الشعري أو القصصي)، يُدرج إلى جانبه في صفحات منفردة، ليعَبِّر عنه بلغة تشكيلية تقدم للقارئ متعة بصرية تعادل المتعة الأدبية، ولشدة ما كانت تحمله تلك الرسوم من حالة شاعرية وقصصية وسردية وخيالية، أسماها البعض :”أشعار نذير نبعة المرسومة”، وكان كثير من القراء يحتفظون بالمجلة لكي يتأملوا رسومات نبعة التي كانت تُشكل ما يشبه المعرض الفني داخل المجلة.
وإلى جانب ذلك كان نبعة من أبرز مؤسسي مجلة “أسامة”، التي تعتبر من أهم مجلات الأطفال في سوريا حتى يومنا هذا، وهو من صمم غلاف عددها الأول، وكان، إلى جانب ممتاز البحرة ولجينة الأصيل، أول الفنانين الذين رسموا في المجلة وصمموا عدداً من أغلفتها لعدة سنوات، ليشكل إلهاماً ومرجعاً للرسامين الذين جاؤوا من بعده. كما ساهم، بالتعاون مع دار الفتى العربي، في إنجاز رسومات سلسلة من الكتب التي شارك فيها أهم وأشهر الفنانين والكتاب، بالإضافة لمساهمته، بالتعاون مع دار النورس، في إصدار كتب شعرية للأطفال، هذا إلى جانب تصميم وإنجاز الديكورات المسرحية لعددٍ من مسرحيات الأطفال ومسرحيات المسرح القومي ومسرح العرائس.
أبرز معارضه :
– المعرض الفردي الأول في صالة الفن الحديث/ دمشق/ عام 1965
– المعرض الفردي الثاني في صالة الصيوان/ دمشق/ 1966
– معرض في صالة الصيوان/ دمشق/ 1968
– معرض في صالة غاليري ون/ بيروت/ 1969
– معرض في المركز الثقافي العربي/ دمشق/ 1979
– معرض في متحف الشارقة/ 1996
– معرض في غاليري بوزار/ دبي/ 1997
– معرض في مهرجان القرين الثقافي/ الكويت/ 1998
– معرض استعادي في مركز المجمع الثقافي في أبوظبي/ 1998
– معرض في متحف الفن الحديث/ الكويت/ 2001
– معرض التجليات في غاليري أتاسي/ دمشق/ 2003
– شارك في العديد من المعارض المشتركة في القاهرة، مدريد، باريس، سان باولو، بولونيا، إيطاليا، طوكيو، موسكو، براتيسلافا وغيرها.
بعض الجوائز والتكريمات:
– جائزة معرض غرافن آي/ عام 1967
– جائزة تقديرية من بينالي الأسكندرية الدولي/ 1968
– جائزة المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس/ 1974، عن مشروع تخرجه.
– دبلوم في مجال الغرافيك من معرض لايبزج الدولي/ 1978
– دبلوم في مجال رسوم الأطفال من معرض براتيسلافا/ 1979
– الجائزة الفضية للمعرض الدولي السادس لرسوم كتب الأطفال/ مؤسسة نوما اليونيسكو/ اليابان/ 1989
– جائزة لجنة التحكيم في بينالي القاهرة الدولي/ 1995
– دبلوم شرف من بينالي القاهرة الدولي/ 2004
– وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة / 2005
أهم المراجع
– كتاب “نذير نبعة: عين على العالم.. عين على الروح”. تأليف: يوسف عبدلكي. الناشر: صالة تجليات للفنون/عام 2009.
– إحياء الذاكرة التشكيلية في سورية/ مختارات من مجموعة المتحف الوطني في دمشق. صادرة عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، والمديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا.
– لقاء مع الفنان نذير نبعة في برنامج “ينابيع” على قناة القرين/ الكويت.
– لقاء مع الفنان نذير نبعة على هامش معرض فناني بلاد الشام، عام 2000.
– لقاء مع الفنان نذير نبعة، منشور في مجلة العربي/ أرشيف.
– لقاء مع الفنان نبعة، منشور في جريدة الثورة عام 2009/ أرشيف.
– مجموعة من لوحات الفنان نبعة من مراحل فنية مختلفة.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
بواسطة مايا غانم | مايو 16, 2024 | Cost of War, Culture, العربية, بالعربية, مقالات
لا بدَّ في مواقف الحزن القصوى، كمجمع عزاءٍ مثلاً، من وقوع حوادث مضحكة، لا يملك المرء فيها إلا أن يستسلم للضحك بعد مكابدة طويلة. للأسف، أو ربما لحسن الحظ، تنفلت الضحكة عاليًا في النهاية ويحدث ما كنا نخافه. الأمر ذاته في الحروب والأزمات الكبرى، خصوصًا في المرحلة التي تلي الحرب، لا بد لمواقف مشابهة من أن تحدث، أو بمعنى أدق، من أن تتوالد. وهل ثمة ما هو أحق من جراحنا الشخصية كي نضحك عليه!
بعد مضي نحو ثلاثة عشر عامًا على الحرب السورية، بكل ما جرّته على شعبها من تشرد وفقر واغتراب، لا تزال تتجلى إلى اليوم، مخلّفات تلك الأزمة بأشكالٍ عدّة. سأختار منها المضحك فقط، تخفيفًا عن الجميع، تاركةً لغيري الحديث عن القهر والأسى. علمًا أن ما سيُذكر مبكي في جوهره، على غرار ما قاله المتنبي: ” لا تحسبنّ رقصي بينكم طربًا، فالطير يرقص مذبوحًا من شدة الألمِ”.
دَعَوات مبتكرة
لا غريب أن المنتَج الأساس في الحروب كلها، مشردون يجوبون الطرقات ويفترشونها. إما ضاقت بهم السبل، أو استسهالًا، لا فرق، إلا أنهم يلجؤون إلى التسول طريقةً يكسبون بها لقمة العيش، ما جعل التمييز بين المحتاج وغيره أمرًا صعبًا. وفي غياب وجود إحصائيات رسمية لأعداد المتسولين في سورية، نعتمد على “حسّنا العالي” في تقدير العدد الآخذ في ازدياد، وفي كشف المتسول المحق من المتسول الكذّاب. ما أثار اهتمامي أكثر من العدد المهول، هو الأسلوب المبتكر للفت الانتباه. بات المتسول على علمٍ بدواخلك وأمنياتك، فهو في النهاية من الشعب، وإلى الشعب يعود. فإذ به يلعب على هذا الجانب، يدغدغ فيك رغباتك الدفينة وأسرارك الخفية التي لا تبوح بها حتى لنفسك.
منذ أيام، اقترب مني أحد أفراد هذه الجماعة، وأصرُّ على تسميتهم جماعة، لأني أكاد أجزم بوجود تنظيم سري لهم، يجتمعون ويتباحثون في شؤون المواطن ونقاط ضعفه والكلمات المفتاحية التي تحرك مشاعره. اقترب وقال: “الله يسفّرك”! نظرت إليه بذهول، كيف تحولت تلك الدعوات من “الله يخليلك أهلك” وما إلى ذلك، إلى “الله يسفّرك”!
مرة أخرى قالت لي إحداهن: “الله يبعتلك نصيبك عَ ألمانيا أو عَ دبي” ما كان مني سوى أن أضحك أمام هذه الابتزازات العاطفية. وللصدفة كان صديقي المغترب معي، وحين جاء دوره في الدعوات، لم تفلح معه دعوة “الله يسفّرك” التي سبق وتحققت. واعترف لها، لسوء حظه، أنه في زيارة. طمعت الأخت بمال المغترب الذي كان، لكنها لم تحصّل في النهاية سوى خمسة آلاف ليرة سورية، متأففة أن ما نالته أقل من نصف دولار!
زواج بيرفع الراس
من تداعيات الحروب أيضا، كثرة الزيجات. ولكن هل كل الزيجات زيجات! اختلفت معايير الزوج المثالي مع تفاقم الأزمة. لدرجة أصبحت فيها المزية الأساسية للزوج، اغترابه. وكلما كانت سنوات اغترابه أكثر، كلما كان أفضل، إذ إنه سيحمل جنسية البلد الحاضن، أي على مبدأ النبيذ المعتق.
الاسم لا يهم، وكذلك العمر والحالة الاجتماعية والمهنة، هذه أمور ثانوية نسأل عنها لاحقًا، لدرجة بتنا نقول: “زوّجنا البنت ع ألمانيا” أو “الشب كتير أكابر، ما عاد نذكر من أي عيلة، بس عَ كندا”.
ليت الأمور توقفت عند هذا الحد. صار معيار تقييم نجاح الأنثى في العلاقات، المسافة التي تقطعها كي تلتقي بالزوج. وكأننا في ماراثون، الفائزة ليست الأسرع، إذ ليس من خط نهاية نصل إليه ونقطع الشريط، بل من تبتعد أكثر. وبذلك، توفَّر للفتيات أسلوب مفاخرة جديد، إذ قالت لي إحداهن: “والله إجاني عريس ع هولندا، حركيلنا حالك، مانك شاطرة”.
ومنذ ذلك الوقت، وأنا أبحث عن الحركات التي فعلتها تلك المحظوظات المسافرات القاطعات مسافات، دون جدوى. انتسبت مؤخرًا إلى نادي رياضي، علّني أزيد من لياقتي وأدخل السباق. لكنّي أخاف أن أتحمس كعادتي، فأستمر في الركض وأصل إلى القطب الجنوبي. لا أعتقد أن ثمة مغتربين هناك!
الألمانية هي اللغة الأم
سألت صديقي عن زميلٍ لنا إن كان يتعلّم الألمانية حقًا! أجابني: “شو الغريب؟ أبو حسن الخضرجي عنا بالحارة عم يتعلم ألماني”. أينما تحركت وكيفما التفتت، في المقهى والشارع والسينما وحتى في أثناء نومك، هناك من يتعلم الألمانية. باتت لغة العصر. قد يبدو الأمر مبهجًا ومدعاة فخر. لغة جديدة تعني ثقافة جديدة. لكن الأمر ليس كذلك أبدًا.
حين كنت في معهد اللغة الألمانية منذ سنتين، اقتصر تعلّم بعضهن اللغة على الأساسيات، بحجة أن “لَمْ الشمل” لا يتطلّب أعلى من المستوى الأدنى! تفاجأت بجرأة بعضهن. اللغة صعبة وليست أمرًا يؤخذ استسهالًا. ستقولون لي: تعلمتِ اللغة إذًا!
وهنا موضوع آخر، أصبح تعلُّم اللغة محط شك، وخصوصا بالنسبة للفتاة. إذ يوحي بوجود عريس محتمَل، أما الدراسة سعيًا خلف فرصةٍ ما، لهو أمر مستبعد! يبدو أنه مستبعد حقًا. دليل أنني في سوريا الآن أكتب ما أكتبه وبلغتي الأم التي أحب.
اقتصاد ملون جديد
مع انهيار العملة السورية، انهار الشعب والبلد. بينما ازدهر المغترب وأبو المغترب وأم المغترب وأخوات المغترب! غدت حياة كل هؤلاء معلّقة إلى سعر الأحمر والأخضر. يأملون أن ترتفع قيمته دون اكتراث لقيمة الليرة، إضافة إلى أن هبوطه لن يسهم في خفض أسعار السلع التي تعرف طريقًا واحدًا فقط، لا تسلك سواه، صعودًا وبسرعة قياسية.
أُضيف إلى طابور البنزين والخبز، وصفد البيض في المؤسسة الاستهلاكية، طابورٌ آخر، هو طابور الحوالات المالية، عدا عن تلك الطوابير الخامسة المخفية في الأزقة وعتمة الطرقات.
ولدت كذلك شيفرة جديدة بين أبناء الشعب، إذ نقول: “بدك تبيع أو تشتري، بندورة ولا خيار؟” في إشارة إلى العملات الصعبة. حتى انقلب الأمر الذي بدأ مزحة، أزمة وجودية. فالخيار والبندورة في الواقع، يحتاجان إلى قرض كي تبتاعهما!
تحويل الأزمات إلى نكات
يقال إنه متى كَثُر الكلام المضحك وقت الكوارث فإنها كارثة أكبر. لكن ما الذي نملكه أمام هذه الكوميديا البشرية سوى أن نضحك! هل تنفع الشكوى! إذًا لا بد من تحويل أزماتنا إلى نكات، والأكثر من ذلك توثيقها. فهي إرثنا المتجدد والمتحوّل بتحولنا. قد تكون هذه المواقف المضحكة المبكية، في جزءٍ منها، من يوميات المواطن السوري عامةً، ويومياتي أنا، ابنة اللاذقية خاصةً، أو لنقل ابنة “الحفرة السعيدة” كما يسميها أحد مثقفي اللاذقية. حتى مثقفونا باتوا يضحَكون ويُضحِكون. “الحفرة السعيدة”! يبدو أننا في حفرة فعلًا، ضحكنا أم بكينا، سيرتد الصدى ويصم آذاننا عن سماع أصوات العالم، ويحجب ضوضاءنا عنه.
بواسطة د. علي محمد صافي | مايو 10, 2024 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, مقالات
جورج طرابيشي فيلسوف وأديب سوري، يُعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين والقوميين العرب. ومن أكثرهم غزارة في إنتاجه الفكري وترجماته. وقد مرَّ في حياته – كما يروي هو – بست محطات كانت فارقة في مشواره الشخصي والفكري. أول تلك المحطات تجاوزه أو تحرره من ربقة المسيحية، التي تجعل من الخطيئة محور حياتنا. والثانية اقتناعه أن القضية الأساسية في التغيير الحقيقي، هي تغيير العقليات لا الأنظمة والسياسات، والثالثة تتعلق بالموقف من المرأة؛ لأن الموقف منها يتعلق بالموقف من العالم بأسره، والرابعة متعلقة بتعرُّفه على فرويد والتحليل النفسي، والخامسة اكتشافه تزييفات الجابري حيال موقفه من إخوان الصفا، والسادسة متعلقة بموقفه من الحرب في سورية ومن صمته حيالها، فهو لم يصمت ولكنه أصيب بخيبة أمل بأن الربيع العربي الذي استبشر به خيراً في البداية، كان بمثابة ردة إلى ما قبل الحداثة المأمولة، والغرق في مستنقع القرون الوسطى.( طرابيشي، المحطات الست في حياة جورج طرابيشي، موقع الجمهورية نت).
طرابيشي من مواليد حلب (١٩١٦-١٩٩٣). ويحمل الإجازة باللغة العربية، وماجستير في التربية، وقد عمل مديراً لإذاعة دمشق، بُعيد فض الوحدة بين سورية ومصر، وكذلك عمل رئيساً لتحرير مجلة دراسات عربية في بيروت، لكنه اضطر لترك لبنان بسبب الحرب الأهلية هناك، وانتقل إلى فرنسا وعمل في مجلة الوحدة، وتفرَّغ بالكلية للعمل الفكري مؤلفاً ومترجماً لعشرات الكتب الفلسفية والأدبية والتراثية.
تبنى طرابيشي في كتابه ” مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام ” فكرة احتضان الحضارة العربية للفلسفة، حيث ازدهرت الفلسفة في ظل هذه الحضارة، عكس ما أشاعه بعض الفكرين العرب – أمثال: أحمد أمين وعبد الرحمن بدوي والجابري- من أن هذا الاحتضان للفلسفة كان محصوراً بالغرب، وأن الشرق العربي كان محروماً من نفحات الفلسفة وإبداعاتها. (طرابيشي، مصائر الفلسفة، 1998، ص7 وما بعدها) فقلب معادلة التقدم والتأخر، وأعاد الأمور، بل الحقائق إلى نصابها، دون تحريفات الإيديولوجيا وتزييفات روَّادها من الغرب والشرق. ومع ذلك فقد أنكر وجود فلسفة عربية حديثة أو معاصرة، وهي إن وجت فهي ” فلسفة مترجمة، أو مولّدة بوساطة الترجمة. يصدق ذلك على توماوية يوسف كرم، ووجودية عبد الرحمن بدوي، وجوانية عثمان أمين…( طرابيشي، 206، هرطقات1، ص59).
لقد عمل طرابيشي على ترجمة أهم مؤلفات ماركس ولينين وفرويد وهيجل وسارتر وجارودي وسيمون دي بوفوار، ورغم أن تلك الترجمات لم تكن عن لغتها الأم، إلا أنه كان لها دور مهم في نشر الثقافة والفلسفة الأوربية في الأوساط العربية، وقد انعكست تلك الترجمات على أعمال طرابيشي، وتأثر بمدرسة التحليل النفسي، حيث طبق منهج التحليل النفسي على الرواية العربية، ويعود له الفضل في تناول الرواية العربية وتحليلها تحليلاً نفسياً، وإثرائها بالبعد الفلسفي الذي انعكس على كل كتاباته. ولا نتحدث هنا عن الترجمات، بل عن أعماله الخالصة ككتابه شرق وغرب، وعقدة أوديب، ولعبة الحلم والواقع، والأدب من الداخل…الخ.
أما فيما يتعلق بالمسألة القومية، فقد تناولها طرابيشي بتأثير من الفلسفة الماركسية، وكان يغلب عليه في بداياته الفكرية الطابع الثوري والماركسي، قبل أن يتحول إلى الاتجاه الليبرالي الديمقراطي، وقد ألَف في هذا الشأن: الماركسية والمسألة القومية، والماركسية والأيديولوجيا، والاستراتيجية الطبقية للثورة، وغير ذلك من المؤلفات التي يغلب عليها اتجاهه اليساري الماركسي. وكان موقفه وقتئذٍ من التراث العربي سلبياً، قبل أن يتحول لدراسته دراسة ناجعة ومثمرة.
ولعل أهم ما أنتجه الطرابيشي متعلق بمسألة نقد الفكر العربي، وقد بدأ مشروعه هذا بنقد نقد الفكر العربي لمحمد عابد الجابري، واستغرق ذلك من وقته ما يقارب العشرين عاماً. ورغم أنه بدأ رحلته مع الجابري، بإعجاب لافت بكتابه ” تكوين العقل العربي”، إلا أن طرابيشي سرعان ما انتبه إلى ملاحظات نقدية على هذا الكتاب أولاً ثم على المشروع النقدي للجابري ككل.
خصص طرابيشي لهذا النقد أربعة أعمال، كانت تتجه بشكل مباشر لنقد الجابري، وهي: نظرية العقل العربي، وإشكاليات العقل العربي، ووحدة العقل العربي، وأخيراً العقل المستقيل. لكن طرابيشي لم يبقَ حبيس آراء الجابري، ولا حبيس تزييفاته الأيديولوجية المقصودة أو غير المقصودة. حيث إن الجابري – حسب طرابيشي – عمل على تقسيمات شرقية وغربية، وخص الشرق بالبيان والعرفان، أما البرهان فهو من نصيب الغرب أو المغرب حيث ينتمي الجابري. وقدَّم طرابيشي عشرات الأدلة على تزييفات الجابري للتراث، بل للإرث العربي والإسلامي عموماً والمشرقي خصوصاً. وانتهى طرابيشي إلى ” أن دوائر العقل العربي الإسلامي متحدة المركز، سواء أكانت بيانية أم برهانية أم عرفانية، وهذا معناه أن النظام الابستمي لهذا العقل واحد، وبالتالي ما كان لهذا العقل أن يشهد أية قطيعة ابستمولوجية مهما تمايزت عبقريات الأشخاص وعبقريات الأماكن.” ( طرابيشي، 2002، وحدة العقل العربي الإسلامي، ص 405).
والذي يقرأ كتاب طرابيشي ” وحدة العقل العربي ” يدرك في آن معاً موسوعيته وعمقه في قراءة التراث الفلسفي والفكري العربي، حيث نراه من جهة يمسح على نحو أفقي أعلام الثقافة العربية من الفلسفة إلى اللاهوت إلى التصوف، يبدأ بابن سينا وينتهي بابن طفيل وابن رشد، يحلل الغزالي ويعرج على ابن حزم، ليصل إلى الشاطبي، ثم نراه يغوص في تحليل عمودي ليقف على أدق التفاصيل وأكثرها عمقاً.
فطرابيشي لم يبقَ حبيس الملاحظات النقدية على الجابري، بل تجاوز ذلك لفهم التراث العربي بكل ما فيه، ولم يقتصر على قراءة الفلسفة اليونانية وامتداداتها الوسيطة والحديثة والمعاصرة، الغربية منها والشرقية، بل نراه قد قرأ التراث من نصوصه الأصلية، فكتب من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، ولم يكتفِ بذلك بل تطرق للفقه والتصوف واللاهوت المسيحي والإسلامي، وتناول كل ذلك بعقلية نقدية منقطعة النظير. والنقد لديه لم يكن نقضاً أو هدماً، بل كان نقده بناءً، غايته تصويب ما اعوج من منظور تنويري، فقد كان ينقد ليصوِّب، يَهدم ليبني، ويجرح ليبنّه الغافلين.
لم يكن طرابيشي كغيره من المفكرين، الذين اتجهوا لنقد التراث، فبقوا حبيسين في أقفاص ذلك التراث، بل إن طرابيشي كان يمسح التاريخ الفكري والفلسفي والديني، يسبر أغواره متسلحاً بالنقد أو التفكيك، بكل ما تعنيه هذه الكلمة أو هذا المنهج النقدي الخطير. فكتب كتابه الهام “هرطقات “، بجزئين الأول خصصه لهرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة، كشف فيه عن زيف بعض التصورات والمفاهيم والممارسات المتعلقة بهذه المفاهيم، كاشفاً عما يعتري الثقافة العربية المعاصرة من زيف وأضاليل تُسِيء للتراث والتاريخ العربي، الذي يراه طرابيشي بأنه حافل بقيم الديمقراطية والعلمانية، عكس ما ينشره متفلسفو العرب المعاصرون، الذين لم يروا في التراث غير أوراق صفراء لا تسمن ولا تغني من جوع، ولهذا نراه يخصص الجزء الثاني من كتابه ” الهرطقات ” لإشكالية العلمانية، كاشفاً ومبرهناً عن مظانها في تراثنا العربي.
أما بخصوص الديمقراطية فقد كتب يصف حاله يوم صار ديمقراطياً، فقال: ” ويوم انتهيت إلى أن أصير ديمقراطياً لم أرَ في الديمقراطية ايديولوجيا خلاصية، نظير ما فُعل بعقيدتي الوحدة العربية والاشتراكية، ولم أضع أي رهان من طبيعة عجائبية على تحول ديمقراطي يأتي عن طريق صندوق الاقتراع، إذ لم يقترن بتحول عقلي في صندوق جمجمة الرأس: رأس النخب كما رأس الجماهير.” ( طرابيشي، 2008 ، هرطقات 2، ص7).
استطاع طرابيشي وبحق أن يغوص لعمق القضايا التراثية بعقلية علمانية مستنيرة، وبأدوات ومناهج فلسفية وعلمية راهنة، فكك كل إشكاليات الفكر العربي، وعلى رأسها إشكالية البنية الشعورية للعقل العربي ذاته، وإشكالية وجدلية اللغة والعقل، منذ المرحلة الشفوية للثقافة، وصولاً إلى عصر التدوين (طرابيشي، 1998، إشكاليات العقل العربي، ص 9 وما بعدها) فلم ترهبه مقدسات اللاهوتيين، ولا أوثان الفلاسفة ولا أفكارهم ولا حدودهم الصفراء، وقدَّم لوائح امتياز لما للتراث العربي وما عليه. فنراه هنا يقيِّم مشروع حسن حنفي في موسوعته ” التراث والتجديد ” فهو يرى أن ” أجمل الصفحات، وأعمق الصفحات، وأكثر الصفحات أصالة، هي تلك التي خطها يراع حسن حنفي وهو يمارس تجاه التراث والذات الوظيفة النقدية، وبالمقابل فإن تلك الصفحات التي دبجها في تعظيم التراث والذات هي من أكثرها ضحالة، وابتذالاً…” ( طرابيشي، 1991، المثقفون العرب والتراث، ص 274).
وأخيراً قدَّم طرابيشي للأدب والنقد الأدبي والروائي ربما أول تجربة في التحليل النفسي والفلسفي الوجودي والماركسي والتفكيكي. وعشرات الترجمات لنفائس نادرة في الثقافة الفلسفية والأدبية والإنسانية. فكان بحق فيلسوفاً وأديباً في زمن خلا أو يكاد.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
بواسطة عامر فياض | أبريل 11, 2024 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها “سِكبة رمضان” التي تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون طعامهم من خلالها، وتحظى برمزية إنسانية خاصة، إذ يتم من خلالها إطعام الكثير من المحتاجين دون أن يشعروا أن في الأمر شفقة أو صدقة، كما أنها تربي الأطفال في العائلة على قيم المحبة والتضامن والكرم. وقد اعتادت معظم العائلات السورية، فيما مضى، أن تطهو كمياتٍ إضافية من الطعام، كي ترسل إلى أقاربها وجيرانها سكبة رمضان، وكانت، على اختلاف مستوياتها المعيشية، تتفنَّن في تحضير الأطباق الرمضانية التي تُزيّن مائدة الإفطار، كالكبب والمشاوي والشوربات والسلطات والفتات والمحاشي واليبرق والحلويات والعصائر وغيرها.
اليوم ومع تردي الواقع المعيشي والاقتصادي في عموم البلاد، باتت عادة “السكبة” تغيب عن طقوس رمضان، كغياب معظم الأطباق الرمضانية التقليدية عن موائد كثيرٍ من الناس، الذين أصبحوا يكتفون بتحضير طبقٍ واحدٍ أو طبقين بسيطين في أحسن الأحوال، وإن استطاعوا فسيكتفون بشراء بعض الحلويات الشعبية الرخيصة، كالمعروك والمشبك والناعم، بعد أن أصبحت النابلسية والمدلوقة والقطايف وغيرها من الحلويات الرمضانية حكراً على الأغنياء، كحال مختلف أنواع التمور والمشروبات الرمضانية التقليدية (التمرهندي والعرقسوس ومنقوع قمر الدين وغيرها) التي باتت أيضاً تغيب عن موائد الفقراء، بعد ارتفاع أسعارها بشكل كبير، وهو ما أدى إلى تراجع عدد البسطات الشعبية، التي اعتادت أن تبيعها في الشوارع ضمن طقوسٍ رمضانية خاصة.
“في السابق كنت أرسل إلى جيراني سكبة الكبب أو المحاشي أو الشاكرية أو أي طبق يحتوي على اللحوم، أما اليوم فقد بت أخجل من إرسال سكبة فول أخضر أو شوربة عدس أو برغل أو معكرونة أو أرز مع بعض حبوب البازيلاء، فالأطباق التي نحضرها اليوم أصبحت بسيطة وفقيرة وخالية من اللحوم والدسم، وبالكاد تكفينا”. هذا ما تقوله أم أيمن (64 عام/ ربة منزل) التي توقفت هذا العام عن إرسال سكبة رمضان لجيرانها، وتضيف: “بتنا عاجزين عن تحضير أبسط أنواع الحلويات المنزلية، وحُرمنا من معظم الأطباق الرمضانية التي اعتدنا تحضيرها لسنوات طويلة. ولكي نذكر أنفسنا بطعمها صرت أحتال على الواقع المعيشي المؤلم فأطهو طبق الشاكرية بدون لحمة، مع إضافة بعض البصل والبطاطا إلى اللبن، وأحشو الكوسا ببعض الأرز والبندورة، وأقوم بتحضير كبة البندورة أو كبة البطاطا المسلوقة، التي تخلو من اللحمة والمكسرات وتُقدم نيئة دون قلي أو شوي”.
وإلى جانب عادة “السكبة” باتت طقوس العزائم بين الأقارب والأصدقاء والجيران تغيب عن شهر رمضان، بعد أن كانوا في السابق يتسابقون إلى دعوات بعضهم على موائد الإفطار والسحور، العامرة بأطيب وأشهى الأطباق الرمضانية، ضمن طقسٍ احتفالي فريد، كان يقوي أواصر العلاقات الاجتماعية ويضفي أجواء المحبة والبهجة على شهر رمضان، فاليوم باتت معظم العائلات عاجزة حتى عن دعوة أحدٍ لزيارةٍ عادية قد لا تكلفها سوى ضيافةٍ بسيطة، وذلك بعد أن تحول 90% من الناس إلى فقراء، وانعدمت قدرتهم الشرائية في ظل انخفاض مستويات الدخل، بشكلٍ يدعو للحزن، وارتفاع أسعار جميع السلع والمواد الغذائية إلى مستوياتٍ خيالية، فعلى سبيل المثال، بلغ سعر كيلو هبرة الخاروف 225 ألف ليرة (أكثر من نصف راتب موظف حكومي)، وكيلو هبرة العجل 150 ألف ليرة، ووصل سعر كيلو قطع الفروج إلى ما بين 60 و80 ألف ليرة، فيما تخطت أسعار معظم أنواع الخضار والفاكهة (بطاطا، بندورة، خيار، كوسا، باذنجان، تفاح، برتقال) حاجز العشرة آلاف ليرة للكيلو الواحد، ووصل سعر كيلو الفليفلة والثوم والموز إلى أكثر من عشرين ألف ليرة. وبالنظر لما سبق باتت تكلفة عزيمةٍ لخمسةٍ أشخاص على إفطارٍ رمضاني تقليدي قد تتجاوز راتب موظفٍ حكومي.
لمَّة العائلة والأقارب
تعتبر عادة اجتماع العائلة الكبيرة، في منزل الجد أو الأب، من أبرز عادات رمضان المتوارثة منذ عشرات السنين، حيث يلتقي الأخوة والأبناء والأحفاد، ليتشاركوا في تحضير أطباق الطعام والحلويات، وليجتمعوا حول مائدة الإفطار الحافلة بأجواء المحبة والفرح والألفة. لكن تلك العادة، كغيرها من العادات، فقدت بريقها وبات حضورها ينحسر بشكلٍ كبير خلال السنوات الأخيرة، نتيجة ما فرضته ظروف الحرب وتبعاتها، والتي أدت إلى تقطع أوصال العلاقات العائلية، وتَشَتُّت كثيرٍ من العائلات، نتيجة النزوح والهجرة إلى خارج البلاد، وتباعد المسافات وصعوبة التواصل حتى بين من يعيشون ضمن المدينة الواحدة، وذلك في ظل تفاقم أزمة الموصلات وارتفاع تعرفة النقل وأسعار المحروقات. وفي ظل ذلك الواقع لم يبق سبيلٌ لاجتماع كثيرٍ من العائلات إلا من خلال التواصل الافتراضي، عبر الواتساب والماسنجر وبعض وسائل الاتصال المتاحة، كحال عائلة الموظف المتقاعد أبو أحمد (67 عام) الذي يصف لنا شعوره خلال تناول الإفطار :”منذ طفولتي اعتدت خلال شهر رمضان على طقس الإفطار الجماعي مع الأهل والأقارب، ومن ثم مع زوجتي وأبنائي وزوجاتهم وأطفالهم فيما بعد، لكنني اليوم بتُّ أنا وزوجتي نتناول إفطارنا وحيدين، بعد أن هاجر أبناؤنا الثلاثة وعائلاتهم إلى خارج البلاد، وبات من الصعب لقاء أقاربي، فمن بقي منهم في البلاد، يقيم في محافظة أخرى”. ويضيف: “لم أتصور نفسي في يومٍ من الأيام، أنا الرجل الاجتماعي المُحب لطقوس العزائم واجتماعات العائلة، أن أجلس إلى مائدة الإفطار دون إخوتي وأبنائي وأحفادي الذين أتصل بهم يومياً خلال موعد الإفطار والسحور، عَلّي أشعر ببعض الألفة وأتجنب شيئاً من الشعور بالغصَّة التي ترافقني مع كل لقمة طعام أتناولها”.
طقوس مشاهدة التلفاز
اعتادت العائلة السورية خلال رمضان أن تمضي معظم وقتها، وخاصة بين فترتي الإفطار والسحور، أمام التلفاز لمتابعة مسلسلات الدراما السورية والعربية، التي كان يتم انتظارها طيلة العام، وبعض البرامج الاجتماعية والدينية والترفيهية وبرامج المسابقات والطبخ وغيرها، لكن ذلك الطقس الرمضاني بات اليوم يختفي نتيجة الانقطاع الطويل للكهرباء، التي جعلت التلفزيونات في معظم بيوت الناس عاطلة عن العمل، لتحرمهم حتى من مشاهدة حلقةٍ كاملة من أي مسلسلٍ من مسلسلات الدراما السورية التي يُفاخر صُناعها اليوم بتفوقها عربياً وبأنها عادت إلى ألقها، ناسين أن جمهورها الحقيقي محروم من متابعتها. وفي محاولة للتمسك بتلك العادة الرمضانية، بات بعض الناس يلجؤون لمتابعة بعض المسلسلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هذا في حال تمكنوا من تحمل تكاليف الإشتراك بباقات الإنترنت، وفي حال ساعدتهم سرعته على تحميل الحلقات، وهو ما يضطرهم للاكتفاء بمتابعة مسلسلٍ أو اثنين، من بين عشرات المسلسلات المعروضة، ولمشاهدة حلقاتها بجودةٍ منخفضة، وبشكلٍ متقطعٍ ومتباعد، بحسب توفرها على مواقع التواصل، إذ كثيراً ما يتم حذفها قبل أن يتمكنوا من مشاهدتها.
عمل الخير بات أمراً صعباً
فيما مضى كانت تنشط خلال شهر رمضان الكثير من الجمعيات الإنسانية والخيرية، التي يدعمها فاعلو الخير وبعض التجار والأثرياء، لتوزع الوجبات الرمضانية على الفقراء والمحتاجين خلال موعد الإفطار، سواء في الشوارع والجوامع، أو ضمن خيام الإفطار، أو من خلال زيارة بعض البيوت، لكن نشاط تلك الجمعيات انحسر اليوم بشكل كبير ليقتصر، وبشكل خجولٍ، على توزيع الماء والتمر وبعض الوجبات الخفيفة على بعض الناس في عددٍ محدود من الجوامع، وذلك نتيجة صعوبة جمع التبرعات وتراجع نسبة المتبرعين الذين تحول الكثير منهم إلى فقراء، حالهم كحال كثيرٍ من العائلات الميسورة، التي كانت في السابق تجمع كمياتٍ كبيرة من الأطعمة في علبٍ خاصة ليتم توزيعها على الفقراء في الشوارع والحدائق ومختلف الأماكن، بل أن بعض العائلات الفقيرة كانت تجمع ما فاض عنها من طعام الإفطار لتقوم بتوزيعه أيضاً، فيما كان الكثير من اللحامين و البقالين وبائعي الخضار والفاكهة وغيرهم يوزعون الكثير من الأطعمة والمواد الغذائية على عابري السبيل كنوع من أنواع الصدقة، لكن تلك العادات الإنسانية والخيرية باتت تغيب عن شهر رمضان بعد أن أصبح عمل الخير أمراً صعباً لا يستطيع معظم الناس إليه سبيلا.
بواسطة طارق علي | أبريل 10, 2024 | Cost of War, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي “عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟”، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: “بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد”، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا لقلّة ثقافة السوريّ، بل لانشغاله بدوره في طوابير الانتظار التي لا تنتهي.
ولأنّ الأمور في الحرب لا يمكن أن تنفصل عن بعضها بسبب ترابطية عجائبية فأين طاف بها الساقي تنسكب خمراً غير مكتمل التعتيق في كؤوس تظلّ فارغةً لا تملؤها إلّا جماعية الهموم، ومنها بيت القصيدة الثاني، “أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ… فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ”. أليس من فيض المعقول أنّ هؤلاء الأحبة هم الذين تفرغ منهم البلد تباعاً، أهلها وأناسها، شبابها وشاباتها، وأليس من الأغرب أن ينتهي في كل حديثٍ مع سوريٍّ ندمه أنّه لم يهاجر، أو اشتياقه لمهاجر ربما لن يعود؟
حين جاء العيد
انتهى رمضان بكل ما حمله من مواجع لآلاف الأسر التي صامت وأفطرت على شوربة العدس وبعض الخضار بأفضل الأحوال، تفاوتت وجبات تلك العائلات، ولكنّ الجامع بينها أنّ موائد الشهر على فقرها أرهقتهم، وكذا ساروا يوماً بيومٍ حتى جاء العيد وقد يبدو غريباً أنّ شعباً لا ينتظر عيداً.
لذلك أسبابٌ من السهل معرفتها دون الحاجة لمراكز دراسات تقرأ في الحال اليومي لهؤلاء الناس، وإن بدا الحال مغرقاً في الكآبة فهل هناك فرحٌ مقرونٌ بقهر يبدأ بجودة رغيف الخبز ولا ينتهي بأشهر انتظار أسطوانة الغاز وبينهما صلاةٌ موحدة: “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”.
معضلة مركّبة
وجد الآباء والأمهات أنفسهم قبل هذا العيد أمام معضلة مركبة أكثر مما كانت عليه قبل عامين، وقبل عام، وحتى قبل شهر، من ارتفاع أسعار لا يعرف التوقف، ارتفاع جعلهم عاجزين عن تحقيق أشهر طقس مرتبط بالعيد، وهو شراء ملابس لأطفالهم.
بحسرةٍ يتحدث المهندس جاد سلامة عن عدم تمكنه من شراء ملابس لأطفاله الثلاثة بسبب ما لقيه من ارتفاع كبير في أسعارها، حتى تلك الشعبية منها، مبدياً قلّة حيلته واستسلامه أمام عجزه عن اجتراح حلول لأمرٍ إن بدا رفاهية للكبار المدركين، ولكنّه مبعث فرحٍ تامٍ للأطفال الصغار الذين لا يعرفون من رمضان سوى أنّ نهايته مقرونةٌ بعيدٍ يعمّ فيه الفرح وتنتشر الألعاب ويرتدون فيه الملابس الجديدة.
يشرح جاد الوضع: “تكلفة ملابس كل طفل بين 400 و600 ألف ليرة سورية، أليست هذه كارثة! من أين سأجيئ بذلك الرقم المهول الذي يعادل خمسة أضعاف راتبي الشهري ثمناً لملابس ثلاثة أطفال من أدنى حقوقهم أن يرتدوا ثياباً جديدة ويحتفلوا بالعيد ويشعروا بروحانيته وطقوسه؟”
مشكلة جماعية
لم يكن الحال أفضل بالنسبة لكثر آخرين سألناهم عن شراء ملابس العيد لأطفالهم، فمثلاً اكتفت أم مازن (ربّة منزل) بالقول: “لا حول ولا قوة إلّا بالله، حتى بهجة العيد صارت مفقودة، كيف سنشرح لأطفالنا ما نمرّ به وكيف أنّنا مرغمون على ارتداء ذات الملابس حتى تهترئ!”
بدوره يسأل مجيب راشد وهو موظف آخر بعد جولة مستفيضة بالأسواق لذات الغرض عن دور الرقابة والتموين في ضبط الأسعار التي تقفز من شهر لآخر بقوله: “ألم ينخفض سعر الدولار كثيراً وحافظ على ثباته منذ شهرين على الأقل فلماذا ترتفع الأسعار بين يوم وآخر!، سألت عن سعر ملابس لطفلتي في نفس المحل وبفارق يومين اختلف السعر”.
سوق الفقراء للأثرياء
بدا الأمر أكثر غرابةً عند زيارة سوق البالة الكبير في دمشق (سوق الإطفائية)، هناك حيث جنّت الأسعار مرّة واحدة على ما قاله زائرون للسوق بقصد الشراء، أو على الأقل محاولة الشراء من سوق الفقراء، ليتضح أنّ الأسعار قفزت فجأة إلى الضعف على الأقل.
برر صاحب أحد المحال هذا الارتفاع نتيجة قلّة البضائع ومنع استيرادها والاضطرار للحصول عليها تهريباً من لبنان غالباً وبالدولار وبطرق صعبة ومكلفة جداً، وأكمل يقول: “ارتفاع الأسعار هذا طبيعي بعد موسم كامل من الكساد في المبيعات”.
وبصورة وسطية تتراوح أسعار الجينزات كمثال بين مئة ومئتي ألف ليرة سورية، وبعض الأحذية وصلت إلى 600 ألف ليرة، أما الكنزات فمتوسط سعرها 60 ألف ليرة، والفساتين كان من الصعب حصر أسعارها لشدة تفاوتها بين محل وآخر بغرابة شديدة توحي بأنّ السوق فجأة تحول لأثرياء العاصمة نابذاً فقراءها.
“شعرت أنني في سوق الصالحية ولست في سوق الفقراء، الأسواق جميعها تلفظنا، كيف يعيش أولئك الباعة دون مبيعٍ!” هذا ما قاله أحد الزائرين للسوق والذي كان يتحدث ممسكاً بحذاء “مستعمل” يتفحصه بعينيه ويكرر سؤاله للبائع: “هل فعلاً سعره 500 ألف؟”
مصائب قوم
جنون الأسواق ذلك أفضى لنشاط في عمل الخياطين بحسب رئيس جمعية الخياطة توفيق الحاج علي الذي أشار في تصريحات لموقع محلي أن “إقبال الناس على إصلاح الملابس أو تصغيرها سببه ارتفاع أسعار الجديدة بشكل مضاعف عن العام الماضي وهذا أدى إلى تزايد الإقبال على تدوير الملابس القديمة لدى الخياطين بنسبة تتجاوز 40%، في ظل تدني القدرة الشرائية لدى الأهالي، وتالياً يعتبر هذا الحل تدبيراً اقتصادياً في ظل عدم قدرة 60% من الأسر لشراء الملابس الجديدة”.
ليس واضحاً كيف حسم رئيس الجمعية أمر الأرقام بدقة، فإن كانت فقط 60 بالمئة من الأسر لم تستطع شراء ملابس جديدة لأولادها فهذا أمرٌ سيء ولكنّه غير كارثي تماماً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار شمولية دراسات الأمم المتحدة التي تؤكد أنّ 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وهذا المؤشر يعني عدم قدرتهم على تأمين الطعام بصورة متواصلة.
مكرهٌ أخاك لا بطل
وبمعزلٍ عن لغة الأرقام الجافة إلا أنّه ثمّة وقائع لا يمكن تجاهلها وهي فعلاً تؤكد نشاطاً في عمل الخياطين استناداً لتمكنهم من تقديم أسعار منافسة للسوق على صعيد الإصلاح والحياكة والترميم وهذا ما شرحه الخياط معاذ جبلاوي.
يقول معاذ: “الناس يعلمون أنّهم لن يحصلوا على أفضل خامة ملابس لدينا، ولكنّهم ببساطة سيحصلون على مجرد كساءٍ، على قساوة التعبير ولكن هذا هو الحال، لأنّهم لو أرادوا تفصيل ملابس من خامة ثقيلة فسيكون سعرها ينافس أفضل بضائع السوق”.
ويضيف: “ما يدفعه الزبون لدينا هو قروش أمام ما سيدفعه في السوق، لأنّه أساساً يعتمد على الترميم وإعادة استخدام المستخدم أساساً”.
ومن ناحيته يشرح عبّاس غانم وهو خياط آخر الأمر من وجهة نظره: “الأمر ليس مرتبطاً بالتفصيل، فالزبائن تأتي لتعيد ترميم القديم وتضييق ملابس الأخ الأكبر ومنحها للأصغر وهكذا، لا، الانتعاش ليس توصيفاً دقيقاً، هو إقبال متزايد نعم، ولكن له ظروفه التي لا تحقق ما يستحقه المواطن ولا تغنينا في الأرباح.”