بواسطة محمد الواوي | فبراير 5, 2024 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
يواجه طلاب/طالبات الثانوية العامة العام المقبل تحدياً غير مألوف بعد تخلي وزارة التربية السورية عن الامتحانات التقليدية واستبدالها بنماذج مؤتمتة، وأثار القرار جدلاً في الوسط التعليمي من ناحية التوقيت وعدم تهيئة الأجواء المناسبة بشكل كافٍ.
وأقرّت الوزارة نهج الامتحانات المؤتمتة للعام الدراسي الحالي، وبناء عليه، استعدت المدارس للتأقلم مع الأتمتة قبل أن ترجئ الوزارة تطبيق النموذج الجديد إلى العام المقبل بشكل مفاجئ ما أربك الطلاب/الطالبات والمدرسين/المدرسات على السواء.
وأعلنت وزارة التربية في كانون الأول العام الماضي أن امتحانات شهادة الثانوية العامة بفروعها كافة ستكون مؤتمتة في العام الدراسي 2023-2024، وأرجعت الوزارة قرارها إلى ما وصفته بـ”حرصها على تطوير العمليّة الامتحانيّة وبناء خطتها وفق رؤية تتناسب مع التطوّر العالميّ والتحوّل الرقمي”.
وذكرت في بيان أنّ مواد الشهادة الثانوية العامّة بفرعيها العلميّ والأدبيّ جميعها ومواد الشهادة الشرعية المشتركة مع الفرع الأدبيّ ستصبح مؤتمتة كلياً، وينطبق ذلك على مواد الثقافة العامّة والعلوم الإنسانيّة في الشهادة المهنية ما عدا اللغة العربية التي ستكون مؤتمتة جزئيّاً؛ أمّا فيما يخصّ المواد المهنيّة التخصّصيّة للصفّ الثالث الثانويّ المهنيّ فستوضع الأسئلة وفق آليّة تحددها مديريّة التعليم المهنيّ، وبينت التربية أنّ بعض المواد في الامتحانات النصفيّة والتجريبية للعام الدراسيّ الحاليّ ستكون وفق نماذج امتحانيّة مؤتمتة وموحّدة مركزيّة.
العودة إلى التقليدي
وبشكل مفاجئ، تراجع مجلس الوزراء بتاريخ 30 كانون الثاني 2024 عن نهج الامتحانات المؤتمتة هذا العام، وبالتالي العودة إلى النهج المقالي، على أن يطبّق النظام المؤتمت بدءاً من العام الدراسي المقبل (2024-2025)، وبشكل متدرج.
وسوغ المجلس قراره بـ”الحرص على توفير البيئة المادية واللوجستية المناسبة لتذليل الصعوبات والعقبات أمام هذا النهج”، وجاء ذلك بعد مناقشة ورقة العمل المقدمة من قبل وزير التربية حول تقييم نتائج الاختبار النصفي المؤتمت الموحد للشهادة الثانوية للعام الدراسي 2023-2024.
ولاقى القرار الأخير تبايناً في آراء الطلاب/الطالبات والمدرسين/المدرسات، ظهر قسم منها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي استطلاع “صالون سوريا” لهم، حيث يرى بعض الأهالي أن التراجع عن الأتمتة تزامن مع انتصاف العام الدراسي وتحضير المتقدمين والمتقدمات أنفسهم للدورة الامتحانية.
آراء المدرّسين والمدرّسات
ترى هبة (مدرّسة خصوصية لمواد الفيزياء والكيمياء والرياضيات- ريف دمشق) أن للامتحان المؤتمت سلبيات وإيجابيات، وعند الحديث عن الإيجابيات، فإن عملية التصحيح ستكون أسرع وأكثر دقة، إلى جانب التخلص من فكرة لوم المصححين/المصححات والأوضاع العامة التي جرت فيها عمليات التصحيح نتيجة بعض الأخطاء البشرية، كذلك ستختصر الوقت في مراجعة اعتراضات الطلاب على الأوراق الامتحانية.
تعدد هبة بعض السلبيات، إذ يحصل الطالب/الطالبة سابقاً على قسم من علامة السؤال بناء على طريقة الحل حتى لو كان الجواب خاطئاً؛ أما في الأتمتة فعلى الرغم من أنها ستكون شاملة للكتاب كله لكن الطالب أو الطالبة فقد/ت فرصة الحصول على علامة التطبيق وفهمه للقوانين؛ حيث ستكون العلامة محصورة بالناتج النهائي فقط.
يقول مجد (مدرّس لغة إنكليزية- دمشق) إن أسئلة النصوص والقواعد ستتحول إلى مؤتمتة، ومن الإيجابيات بالطبع أن عملية التصحيح عبر الحاسب ستكون أسرع وأكثر دقة قولاً واحداً، ويذكر أن بعض الطلاب فرح بهذا النموذج كون الإجابات اختيارية.
يدعم مجد الامتحان التقليدي أكثر من المؤتمت لأنه يختبر قدرة الطالب/ة على فهم النصوص والقواعد عبر نقل الإجابات إلى ورقة الامتحان كتابة، ومن ناحية أخرى يقيس الموضوع الكتابي أيضاً إمكانية الطالب/ة في بناء المقدمة والخاتمة وربط الجمل واستعمال علامات الترقيم بشكل صحيح.
تنقل هبة عن بعض طلابها وطالباتها تصوراتهم بأن بنظام الأتمتة في صالحهم، تردف بالقول: “لكن الحقيقة أن الأسئلة المؤتمتة في المواد العلمية ليست اختياراً للإجابة فقط، بل ناتج عملية حسابية كاملة”.
وعممت وزارة التربية نهاية العام الماضي مجموعة استرشادية “تجريبية” من نماذج الامتحان المؤتمت للشهادة الثانوية بفروعها كافة، منوهة إلى أن عدد الأسئلة وزمن الاختبار يختلف بين مادة وأخرى حسب الشهادة وطبيعة المادة لكل سؤال، وعليه ستحدد لاحقاً المدة الزمنية لكل مادة عند إصدار جدول الامتحان النهائي.
وتنوه المدرّسة هبة إلى أن بعض الطلاب/الطالبات يعتقدون أن الامتحان المؤتمت فرصة للاختيار التقريبي؛ فضلاً عن أن بعض مفردات الأسئلة النظرية ستساعدهم في التذكر لاختيار الإجابة الصحيحة. على الطرف الآخر، وصف قسم آخر النماذج المؤتمتة التي نشرتها التربية بأنها معقدة وتتطلب وقتاً أطول للحل.
تعتقد هبة أن تطبيق النظام المؤتمت بشكل مباغت ربما يكون صعباً بالنسبة للطلاب/الطالبات، متمنية عرض نماذج الأسئلة المؤتمتة على طلاب/طالبات الصفوف الدراسية مثل العاشر والحادي عشر بهدف التأقلم معها قبل إدخالهم إلى امتحان مصيري.
وتقول: “سيخفضون الوقت في النظام المؤتمت لكن برأيي أنه بحاجة لوقت أطول من التقليدي لأن كل سؤال حاصل عملية رياضية مختلفة عن الآخر”.
وشرع الأساتذة في تدريب الطلاب والطالبات على الامتحانات المؤتمتة فعلياً، لكنهم سيعودون مجدداً إلى تدريس المناهج بشكل تقليدي هذا العام فقط بعد تأجيل وزارة التربية تطبيق النظام المؤتمت إلى العام القادم. تؤكد هبة بأنها بدأت بتمرين الطلاب/الطالبات في كل درس على حل السؤال عبر اختيار الإجابة الصحيحة أو إكمال مصطلح معين وتقسيم كل طلب في المسائل المعقدة إلى مسألة مستقلة.
لم يعدّل مجد -بشكل جوهري- طرائق تدريسه لمادة اللغة الإنكليزية لطلاب/طالبات الثانوية العامة، يقول: “مثل كل مرة أدرسهم القاعدة والدرس وتشكيل السؤال والجواب وشرح المفردات والألفاظ والمرادفات ضمن حصص مستقلة، ثم بعد ذلك أخبرهم بأن الأسئلة ستكون على شكل اختيار من متعدد”.
ويضيف مجد: “بعد إرجاء النظام المؤتمت سوف نعود إلى الطرق التقليدية في التدريس والتركيز على عدة نقاط منها أسلوب كتابة الموضوع”.
إلغاء الدورة التكميلية!
وفي سياق متصل، كشف وزير التربية محمد عامر المارديني ضمن لقاء مع قناة “الفضائية السورية” في كانون الأول العام الماضي أن مجلس الوزراء وافق على إلغاء الدورة الامتحانية الثانية (التكميلية) للشهادة الثانوية العامة، لكن المرسوم رقم 1 لعام 2024 سمح لطلاب/طالبات الشهادة الثانوية العامة بمختلف فروعها بالتقدم لدورة امتحانية واحدة فقط خلال العام الدراسي الواحد على أن يبدأ تطبيق هذا النظام ابتداء من العام الدراسي المقبل 2024-2025.
بواسطة رهادة عبدوش | يناير 29, 2024 | العربية, بالعربية, مقالات
لنتفق أن العيد لم يعد كما كان، لذلك كل ما ترد كلمة عيد في هذا المقال فهي لا تمتّ للواقع بصلة بل هي من وحي الخيال.
اقترب العيد، وقرّرتُ التجوّل في السوق، للتعرّف على أحواله بعد قطيعةٍ طويلةٍ، وكان أول المحلّات وآخرها محل شوكولا غراوي بواجهته المعروفة في ساحة يوسف العظمة مقابل الهافانا بدمشق. دخلت المحل البارد المعتم الذي سرعان ما تغيرت ألوانه عندما رأيت صفوف الشوكولا برائحتها وأشكالها الجميلة التي أشعلت في قلبي الدفء وأنارته، وعلى الفور سألت عن أسعارها، أجابني البائع هنا أسعار الشوكولا عادية وسعرها مناسب حيث أنّ سعر الكيلو 650 ألف ليرة سورية، سألته عن هذا الشكل بالبندق أو هذا بحشوة الكراميل ومن بعيد دون أن ألمسها وأتذوقها -كعادتي قبل عقدٍ من الزمن- أجابني السعر واحد لها كلها وهو 650 ألف ليرة سورية.
واتفق أن الشوكولا كانت من أساس الضيافة في العيد عند الكثير من السوريين، وأن سوريّاً من عائلة غراوي كان أول من أدخلها إلى البلاد العربية، وذلك عام 1805 عندما بدأوا باستيراد ألواح الشوكولا وإذابتها، ومن ثم تصنيعها لتمتدّ وتنتشر بين البيوت، ومن البزوية (سوق دمشق الأشهر) انطلقت تلك الحرفة لتتوسع وتتطوّر وتتدرّج أشكالها وأسعارها بشكل يناسب مدخول العائلة السورية، إلى أن تغيّر كل شيء.
كنا في الأعياد ندخل سوق البزورية والقصاع و الصالحية نتجوّل بين محلّات الشوكولا نتذوق من هذه وتلك، نشبع بطوننا وعيوننا قبل أن نشتري كيلين أو ثلاثة للضيوف و أهل البيت، وكل ذلك بترحاب البائع وتأهيله فقط قبل عقدِ من الزمن.
أنواع كثيرة من الشوكولا على رفوف المحلات غراوي بأسماء أولاده المتعددة، والزنبركجي وجونيفا ولي، وسليق، اشتهروا وأحبها السوريين أكثر من جيليانGUYLIAN و باتشي PATCHI و توبليرون TOBLERONEوجالكسي GALAXYو مارس MARS والأشهر من العلامات التجارية العالمية المعروفة ونشرت محبة السوريين سوقها لتتعرّف عليها دول العالم ويطلبوا غرواي وسليق أكثر من باتشي ومارس، لما لها من طعمٍ وشهرةٍ في الذاكرة.
تلك الشوكولا المرة والحلوة والسادة وهذه المحشية، تختلف بأنواعها وتتفق أنّها ترفع مستوى السعادة والشعور بالراحة و تعمل على تحسين المزاج والحالة النفسية.
لما تفرزه من مواد مضادة للأكسدة التي تحسن صحة البشرة والوظائف الدماغية.
كل ذلك لم يعد يعني السوريين بشيء، ففي عام 2015 بدأت أسعار الشوكولا بالارتفاع قليلاً حيث بدأت أسعار الزنبركجي من 4500 ليرة وأسعار شوكولا لي من 3200 ليرة وأسعار ماكس 2400 ليرة أما الأغلى فهي لشوكولا غراوي فوق التسعة الاف ليرة. ولأن كل المنتجات تتغيّر أسعارها مع الدولار ابتداءً من جرزة الكزبرة وليس انتهاءً بالعقارات، لذلك لا بد ّمن المقارنة مع سعر الدولار آنذاك وكذلك الرواتب والأجور.
عام 2015 كان سعر الدولار في الشارع يصل إلى ما بين 310 و315 ليرة. أما الرواتب فكانت بمعدل ال 150 دولار، ما يعني أنّ متوسّط راتب الموظف كان يشتري حوالي العشرة كيلو غرامات من الشوكولا.
وتوالت السنوات وتغيّرت الأسعار وراحت الأعياد وعادت بأشكال مختلفة، بين عيد الميلاد ورأس السنة وعيدي الفطر والأضحى وعيد الفصح، والتي اتفقت على حبّة الشوكولا على الأقل.
ولكلّ سنة ثقلها المختلف إلى أن أتى عام 2022 حيث بلغ سعر صرف الدولار الواحد 3015 ليرة سوريّة ووصل في نهاية العام إلى 6300 ليرة للبيع للدولار الأمريكي، وبمتوسط راتب يصل إلى الأربعين دولاراً في الشهر، أما أسعار الشوكولا فقد ارتفعت لتتراوح بين الأربعين والستين ألف بمعدلها الوسطي، وبحسبةٍ ما بين الدولار والراتب يعني يمكن شراء كيلو غرام من الشوكولا بالراتب كله.
وفي عام 2023 اختلفت أسعار الشوكولا من أول العام لآخره مع اختلاف الأخضر والذي اختلفت أسماؤه ما بين الفول والعوجا وأحياناً حبيبنا، لتستقر الشوكولا في آخر متابعة لها وبحسب الأسعار المعلنة على صفحة الفيس بوك للراغبين ات بالشراء لتصبح مايلي: شوكولا لي (USD $35.54) سليق (USD $39.69) لي (USD $35.54) زمبركجي (USD جونيفا (USD $31.24) غراوي (USD $82.43).
أما الراتب فهو مئتي ليرة سورية ما يعادل بحسب سعر الصرف اليوم 15 دولار أي يمكن شراء وقيتين شوكولا بحدود 25 قطعة شوكولا تلفّ بكيس من الورق، ويعود ربّ البيت إلى بيته بجيوب فارغة وعيون حمراء.
أما بالنسبة لي لم أتابع مسيرتي في سوق الشوكولا وقرّرت صنعها بنفسي حيث اشتريت لوح شوكولا من بائع الجملة وبدأت بتذويبه مع الزيت النباتي ومسحوق النسكافيه، وسميت ماركتي جكارة بالشوكولاتة.
بواسطة عامر فياض | يناير 9, 2024 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
يصعب الحديث اليوم عن التوجهات والأفكار العلمانية في سوريا، في ظل الواقع الذي وصلت إليه القوى والتيارات العلمانية، بعد انحسار وجودها وتراجع دورها وتأثيرها على حساب الدور الذي باتت تلعبه المؤسسات والتيارات الدينية أو الاجتماعية، على اختلاف أيديولوجياتها وتوجهاتها. وعند سؤال بعض الشباب عن التوجهات العلمانية في سوريا وعن مفهوم العلمانية بشكلٍ عام، كان واضحاً مدى التباس فهمهم للعلمانية، فبعضهم يراها مجرد فكر مادي يقوم على الإلحاد، أو أنها فكر يتبنى العلم ويسعى لنشر ثقافته، أو أنها نظام اجتماعي مدني يسعى لقوننة الحريات العامة، وهو ما يؤكد غياب أي مرجعياتٍ علمانية يمكنهم أن يحتذوا بها، أو أن يلجؤوا إلى خطابها لقراءة واقع العلمانية في سوريا، أو حتى لفهم أفكارها التي باتت مغيبة وفارغة الجوهر والمضمون.
ولفهم الواقع الذي وصلت إليه التوجهات العلمانية اليوم لابد من العودة إلى ماضي الحركات العلمانية في سوريا وتحديداً إلى نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي. وعن قراءته لتلك المرحلة، التي كان شاهداً عليها، يحدثنا اليساري والشيوعي السابق يوسف (65 عام): “معظم التوجهات العلمانية كانت تفتقد لأي خطابٍ علماني جذري وعميق أو واضح الهوية، وكانت محصورة ضمن القوى والتيارات اليسارية وبعض المنظمات المدنية، التي كان يقتصر وجودها على دمشق وبعض المدن، التي شهدت انفتاحاً وحراكاً ثقافياً، وتتمحور نشاطاتها حول بعض المواضيع والقضايا المجتمعية المستهلكة، كمناصرة تحرر المرأة وحقوق الطفل، وحملات مناهضة الزواج المبكر”. ويضيف: “معظم القوى المحسوبة على العلمانية كانت تحكمها الشللية والعلاقات الشخصية وتعاني من ضعفٍ كبيرٍ، جعلها عاجزة عن تشكيل جسمٍ موحد وهوية واحدة، أو الإجماع على رؤية وطنية أو فكرية مشتركة، لذا ابتعدت خطاباتها وممارساتها عن ملامسة أهم وأبرز القضايا السورية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الملحة، لتتبنى أفكاراً عامة لا تعني الشارع السوري، فيما اكتفى بعض العلمانيين بتأسيس منتدياتٍ وتجمعاتٍ مُصغرة ذات صبغةٍ ثقافية أو مدنية إجتماعية، تضم أعداداً قليلة من أصحاب الثقافات والتوجهات الفكرية المتنوعة، دون أن تتبنى أي فكر علماني حقيقي ومُعلن، أو خطاب سياسي وطني وعملي”.
يتقاطع رأي المدرس المتقاعد كمال (62عاماً / عضو سابق في حزب العمل الشيوعي) مع وجهة النظر السابقة، إذ يرى أن معظم توجهات التيارات العلمانية في تلك المرحلة قد فشلت لأنها “لم ترتقِ إلى مستوى الممارسة المطلوبة، وانحصرت ممارساتها في التنظير والشعارات، فيما كان يغيب عنها أي فهمٍ لطبيعة وخصوصة المجتمع السوري، وأي آلية عملٍ واضحة من شأنها أن تحول الأفكار العلمانية إلى ممارسات تنسجم مع ذهنية المجتمع، وهو ما جعلها عاجزة عن تحقيق قاعدة شعبية أو إحداث أي تغيير سياسي أو اجتماعي نوعي”. بحسب المدرس كمال الذي يضيف: “معظم أفكار وتوجهات تلك التيارات كانت ذات طابع ثقافي ومدني، وتتشابه طبيعة نشاطها مع نشاط الأحزاب المدنية والاجتماعية، كتقديم بعض الندوات والمحاضرات والأنشطة الثقافية والمجتمعية، إذ كان من النادر أن نجد تياراً راديكالياً يمتلك أيديولوجية علمانية واضحة، لها أفكارها وأدبياتها الخاصة، ولا يخلط بين الخطاب العلماني واليساري والمدني والثقافي”.
وخلال تلك المرحلة وبينما كانت معظم التيارات والقوى العلمانية والمدنية مغيبة الصوت ومشلولة الحركة كانت المؤسسات والجمعيات الدينية تزداد انتشاراً وتُشكل لها حضوراً فاعلاً داخل المجتمع السوري، فمقابل تراجع أعداد الأماكن الثقافية (صالات السينما، المسارح، والمنتديات الثقافية وغيرها) في مختلف المحافظات، تم بناء أكثر من عشرين ألف جامع، وافتتاح مئات المعاهد الدينية لتحفيظ القرآن، وتعليم مختلف العلوم الشرعية، هذا بالإضافة لافتتاح جامعة بلاد الشام للعلوم الشرعية، وكلية الداسات الإسلامية وعشرات المدارس الشرعية الحكومية والخاصة. وإلى جانب ذلك ظهرت الكثير من الحركات الدينية التي توغلت في مختلف بيئات المجتمع لتنشر أفكارها الدعوية وتعاليمها الدينية، ومن بينها حركة القبيسيات، التي استتقطبت عشرات آلاف النساء واستطاعت فرض مناهجها التعليمية والدينية الخاصة، والفريق الشبابي الديني الذي حقق نشاطاً بارزاً بين أوساط الشباب وداخل الجامعات.
وبالنظر إلى تلك المفارقات المثيرة للجدل تتساءل المحامية وداد (48 عام)، التي تتبنى الفكر العلماني : “إذا كان القانون السوري يمنع إنشاء أي حزب على أساس ديني أو طائفي، فكيف يسمح القانون ذاته بإنشاء جامعات ومعاهد ومنشآت تعليمية وجمعيات وحركات دعوية ذات طابع ديني، وفي الوقت ذاته يمنع نشاط الأحزاب المدنية والسياسية التي كان يصعب الحصول على التراخيص اللازمة لتأسيسها ؟”. مضيفةً “وبينما يغيب قانون الزواج المدني عن المحاكم السورية، نجد بالمقابل محاكم دينية وطائفية خاصة بالأحوال الشخصية والزواج الديني، كالمحكمة المذهبية للطائفة الدرزية، ومحاكم الطوائف المسيحية وغيرها”.
وترى المحامية أنه من الصعب تطبيق الفكر العلماني في ظل القانون السوري:”حتى اليوم مازالت معظم القوانين، تستمد نصوصها من الشريعة الإسلامية، خاصة قانون الأحوال الشخصية وبعض القوانين المتعلقة بالمرأة وحقوقها وعلاقاتها ضمن الأسرة، والتي تُظهر الكثير من التمييز بينها وبين الرجل، لتضعها في منزلة أقل شأناً منه، ولا توفر لها الحماية اللازمة من الوصاية الذكورية والعنف الممارس ضدها، بل تحرمها من نيل استقلاليتها المنشودة وحرية قرارها المستقل عن تبعية العائلة والزوج الذي يمنحه القانون ميزاتٍ وسلطة كبيرة، تُبقي المرأة في موقع الضعف والخضوع له” بحسب المحامية وداد.
التوجهات العلمانية بعد عام 2011
“خسر معظمها ما تبقى لها من قاعدة شعبية وفقدت أي تأثيرٍ ممكن لها، بعد أن نأت بنفسها عن حراك الشارع السوري، عاجزةً حتى عن تشكيل خطابٍ سياسي وطني واضح وموحد، لتترك الساحة السياسية لقوى الأمر الواقع، ولتحضر بشكلٍ خجول وشبه معدم ضمن التشكيلات السياسية البارزة التي شكلتها المعارضة، كالمجلس الوطني السوري، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة. وقد اقتصر خطاب بعض العلمانيين على التنظير والتحليل السياسي وانتقاد تجمعات المتظاهرين الخارجة من الجوامع، دون أن يقدموا أي وجهة نظر بديلة أو خطابٍ علماني أو مدني يوافق تصوراتهم وأفكارهم، فيما تخلى بعضهم الآخر عن أفكارهم وشعاراتهم ومبادئهم ليلتقوا مع قوى يمينية ورجعية ضمن تحالفات براغماتية، أجبرتهم على تقديم كثير من التنازلات الفكرية والأخلاقية”. هكذا يصف الكاتب الصحفي سامر (43 عام) ذو الميول اليسارية واقع القوى والتيارات العلمانية خلال الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في سوريا عام 2011، والتي كان واضحاً للجميع غياب أي دور أو حضور مؤثر لها، ومقابل ذلك ظهر الكثير من التيارات والقوى الدينية، التي فرضت نفسها بقوة في الساحة السورية، لتحقق وجوداً ميدانياً بارزاً وقاعدة شعبية واسعة، مَكنتها من توجيه الاحتجاجات وفق فكرها وأجنداتها، التي أدت فيما بعد لظهور تشكيلات عسكرية وسياسية ذات طابع ديني عقائدي، مثل: كتيبة أحفاد الرسول، الأنصار، عائشة أم المؤمنين، الصحابة، وكتيبة صقور الإسلام، ومن ثم تشكيل ألويةٍ وجبهاتٍ عسكرية مثل: لواء التوحيد، لواء الحق، لواء الإسلام، الجبهة الإسلامية السورية، الجبهة الإسلامية الموحدة، وجبهة تحرير سورية، هذا إلى جانب حركة الفجر الإسلامية، وحركة الطليعة الإسلامية وغيرها من الحركات. وقد سعت معظم تلك التشكيلات لتطبيق الشريعة الإسلامية ولمحاربة وتكفير القوى والتيارات المدنية والعلمانية، وقد انضوى بعضها، فيما بعد، تحت جناح جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”.
وخلال الحرب كانت معظم المناطق التي سيطرت عليها المعارضة المسلحة يغيب عنها أي وجود للمؤسسات المدنية أو المحاكم القانونية، وتديرها المؤسسات والمرجعيات الدينية التي كانت صاحبة السلطة المطلقة في شتى المجالات. وفي المناطق الحكومية حصلت المؤسسات الدينية لمختلف الطوائف على امتيازات كبيرة، لم تحصل عليها في السابق، فأصبح لها نفوذ كبير ودور فاعل في المجال العام وضمن المجتمعات المحلية التي تتواجد فيها، وأصبحت تقوم ببعض الأدوار والخدمات المنوطة بعمل البلديات، وتتدخل في تنفيذ بعض المشاريع الخدمية والتعليمية والمجتمعية، إلى جانب جمع التبرعات وتقديم الخدمات الطبية والمساعدات المعاشية وتوفير فرص العمل للشباب.
النشاط الديني يزداد انتشاراً
ويلاحظ اليوم حجم النشاط والحضور الكبير للجمعيات الخيرية والأهلية ذات الطابع الديني، ومن مختلف الطوائف، وذلك على حساب تراجع دور المنظمات المدنية والاجتماعية، حيث “استطاعت أن تستغل تردي الواقع المعاشي لكثيرٍ من الناس لتقدم لهم المساعدات الإغاثية والطبية، خلال سنوات الحرب ومن ثم خلال وباء كورونا وما تبعه من انهيار اقتصادي في عموم البلاد، وهو ما مكنها من الاستمرار بقوة ومن تحقيق الكثير من المآرب الدينية والسياسية، كممارسة بعض الطقوس الدينية في الأماكن العامة، واستقطاب بعض من تلقوا دعمها ومساعداتها لحضور الصلوات والشعائر الدينية وقراءة الكتب، والمشاركة بالاحتفالات والأعياد”. بحسب الناشط المدني طارق (44 عاماً) الذي يضيف: “استطاعت الكثير من الكنائس أن تلعب أدواراً اجتماعية وثقافية بارزة ومؤثرة، جعلتها تنوب عن مؤسسات الدولة في كثير من الأحيان، إذ كانت وما زالت تقدم الدعم النفسي والمادي واللوجستي لكثير من طلاب المداس وطلبة الجامعات، وتفتح لهم أبواب قاعاتها المُخدمة بالكهرباء والإنترنت لكي يقوموا بدراسة موادهم وتنفيذ مشاريعهم الجامعية. هذا إلى جانب دعم المواهب الفنية، الموسيقية والمسرحية وغيرها، لكثير من الشباب واليافعين، وتقديم القاعات المناسبة لهم للتدريب على نشاطاتهم ولتقديم عروضهم الفنية”.
ورغم ميولها اليسارية وتبنيها للفكر العلماني ترى الفنانة التشكيلية حنان (46 عام) أن ما فعله رجال الدين في السنوات الأخيرة قد عجز عنه معظم المثقفين والمفكرين العلمانيين والمرجعيات الإجتماعية: “في السويداء مثلاً استطاعت حركة رجال الكرامة (معظم أفرادها من شيوخ طائفة الموحدين الدروز) أن تحقق قاعدة شعبية ضمن أوساط المجتمع المحلي، نتيجة الدور الإجتماعي والأمني الذي لعبته، خلال سنوات الحرب وما بعدها، وخاصة بعد دعمها لمن امتنعوا عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، وتأمينها الحماية اللازمة لهم، فنالت ولاء الكثير من الشباب واستقطبت بعضهم إلى صفوفها، بمن فيهم أصحاب الفكر المدني وغير الديني”. وتضيف الفنانة حنان: “يؤكد الحراك الشعبي المستمر في المحافظة منذ أكثر من أربعة أشهر، حجم الدور الكبير والمؤثر لبعض رجالات الدين، رغم الطابع المدني العام الذي تتميز به المحافظة، فبمجرد إعلان دعمهم للحراك استطاعوا جذب الكثير من الشباب إلى الساحة، علاوة على المثقفين واليساريين والعلمانيين، الذين حادوا عن توجهاتهم المدنية والفكرية ليسيروا خلف خطاب شيوخ الدين ويأتمرون بتعاليمهم وتوجيهاتهم”.
ومقابل الحضور الكبير للنشاط الديني وقوة تأثيره في الوقت الحالي، نجد أن معظم ما تبقى من التيارات المحسوبة على العلمانية قد أصبحت مجرد تجمعات مصغرة ومتفرقة، تتبنى فكراً هجيناً، وتحكمها الأجندات السياسية والعلاقات الفردية، التي تجعلها مُهمشة الصوت وعاجزة عن إحداث أي تأثير ممكن. أما معظم منظمات المجتمع المدني التي ولدت خلال الحرب، والتي كانت تدعي أنها تتبنى الفكر العلماني، فقد كانت تفتقد للهوية الوطنية على حساب الهويات الدينية والاجتماعية والمناطقية، وتتحكم الأطراف الممولة بطبيعة عملها وتوجهاتها.
بواسطة علي محمد إسبر | ديسمبر 30, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي الآمال الضائعة للإيديولوجيات الدّاعية إلى قيام وحدة قوميّة بين العرب، وطُمِسَ بذلك فكر إنسان ممتاز، وأُهملت رؤيته التي تؤلِّف نظرة إبداعيّة عميقة في ماهيّة اللغة، تحديداً اللغة العربيّة، علاوة على ما عاناه في حياته من تجارب وجوديّة عنيفة واضطراب وجدانيّ وفقر وحرمان وعُزلة بسبب مواقفه السياسيّة، فضاعت شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة بين صراع السياسيين البعثيين على السُّلطة، وخضعَ لاستقطاباتهم وتنافراتهم ثم غُيِّبَت على نحوٍ نهائيّ جهود الأرسوزي لمواجهة الاحتلال العثمانيّ-التركيّ والاستعمار الأوروبيّ.
لكنَّ المهمَّ هنا ليس قراءة الأرسوزي قراءة إيديولوجيّة أو سياسيّة مُسْتَهلكة؛ بل الكشف عن العناصر الأصيلة في رؤيته الفلسفيّة للعالم، أو بالأحرى إظهار شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة التي احتجبت وراء غبار لعنة شهوة السيطرة على الحُكم.
لقد انصّبت عناية الأرسوزيّ على كشف ماهيّة اللغة العربيّة، ويمكن تصنيفه بصفته مؤسِّس تيار فلسفة اللغة في الثقافة العربيّة المعاصرة، غير أنَّ حقل الدراسات اللغويّة الذي أسّس له الأرسوزيّ بقي مجهولاً، علماً أنَّ الدراسات التي قدّمها فلاسفة اللغة الغربيّون، أصبحت مركز اهتمام الثقافة الغربيّة، بل العربيّة أيضاً، بدءاً من أواخر القرن الماضي، وصولاً إلى يوم النّاس هذا. إذ نجد حضوراً كبيراً بين أوساط المثقفين، ترجمةً وتأليفاً، لنصوص منقولة أو مستوحاة من جورج إدوارد مور (1873-1958م) أو برتراند رسل (1872-1970 م) أو لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1951 م) وغيرهم. علاوة على ظهور دراسات عربيّة كثيرة محكومة بالنزعة البنيويّة التي أسس لها فرديناد دي سوسير (1857-1913)؛ وفي المقابل لا نكاد نجد للأرسوزي ذِكْرَاً بصفته فيلسوفاً عربيّاً معاصراً عُني عناية حقيقيّة بقضيّة اللغة.
تعمّق الأرسوزي في ماهيّة اللغة العربيّة في “مؤلَّفه العبقريّة العربيّة في لسانها”، ووجد أنَّ اللسان العربيّ مكوَّن على نحوٍ اشتقاقيّ، فالألفاظ التي ينطق بها الإنسان العربيّ ترجع إمَّا إلى ظواهر إدراكيّة حسيّة، تحديداً صوتيّة-بصريّة مُستَمدّة من الطبيعة، أو إلى أُصول شعوريّة مُستَمدّة من النَّفْس الإنسانيّة.
ويوضِّح الأرسوزي حقيقة الألفاظ التي ترجع إلى ظواهر طبيعيّة صوتيّة بصريّة، فتمثيلاً لا حصراً: نجد أنَّ الكلمة “خَشَّ” هي صورة صوتيّة-مرئيّة، ناجمة عن “حركة في عُشب يابس”. وهذه “الصُّورة” أصبحت على المستوى اللغويّ نواةً لتوليد أفعال ومشتقات جديدة مثل: خَشُنَ، خشَبَ (=جَفَّ)، خَشَعَ، إلخ؛ ومِنْ خَشَّ بتحويل الخاء إلى حاء يمكن اشتقاق حَشَّ والحَشيش؛ وبتحويلها إلى عين نحصل على عشَّ والعِشّ، وإلى ما هنالك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يُبيِّن الأرسوزي أنَّ الإنسان العربيّ لم يقف بالنسبة إلى بناء الألفاظ التي ينطق بها عند حدود الصُّور الطبيعيّة الصَّوتيّة-البصريّة فقط، بل اعتمد على التّصويت الطبيعي عند الإنسان، أي الأصوات التي تُعبِّر عن حالات شعوريّة معيّنة مثل “أَنَّ” التي تدلّ على التوجُّع أو التألُّم، فظهرت أفعال ومُشتقّات وفق الآتي: فبإلحاق الهمزة جاءت “أنا”، وبإلحاق التّاء “أنتَ”، أنتما، وبقيّة الضمائر. ومن “أَنَّ” اشتُقَ الفعل أَنَّبَ (=عنَّفَ)، والاسم الأنين، وإلى ما هنالك.
وركّز الأرسوزيّ على أنَّ الذهن العربيّ لم يقتصر -في عمليّة تكوين اللسان العربيّ-على الصُّور الصوتيّة المرئيّة أو الأصوات المُعبِّرة عن حالات نفسانيّة، بل نهج نهجاً اصطلاحيّاً أيضاً، يقوم على إظهار الحروف عن طريق التداعي، فالحروف الأسهل من حيث تسلسل الظهور تتوالد لتكوِّن صورة تصبح موضوعاً للفكر، ومدلولاً عليها في الوقت نفسه بألفاظ، فمثلاً من حرف الباء (ب) صنع التداعي أسماء من قبيل الـ:”أَبّ”، و”الأُبّهة”، وأفعال من قبيل أَبِهَ، أَبى….
وعُني الأرسوزيّ بكشف مناهج تكوين الألفاظ في اللسان العربيّ، فاكتشف أنَّ هناك صوراً صوتيّة ذوات أصول فيزيولوجيّة، فمثلاً هناك صور صوتيّة ترافق حركة عضلات الفمّ من قبيل: عَضَّ، وهنا يشتق الذهن مع المحافظة على الإيقاع بإضافة حرف أو بتحويل آخر، فبالإضافة نحصل على عَضَبَ (=قطَعَ)، وبالتحويل، أي بتحويل العين إلى قاف، نحصل على “قَضَّ (=ثَقَبَ)”. هذا، وبالطريقة نفسها اشتُقَ فعل “قَدَّ (=قَطَعَ)” ثم “قَدَرَ(=قَسَمَ) ومنها: القَدَر؛ وقَدَسَ (قَطَعَ)، ومنها: “القُدْس (=الحجر المقطوع)” وتوالت المشتقات مثل القُدُّوس، والمُقَدَّس، والقداسة، والتّقديس، وحُمِّلت بمعان مختلفة، إلخ.
ولقد فهم الأرسوزيّ اللغة فهماً يدلّ على عمق نظرته، فهو يُرجعها إلى غريزة متأصِّلة في الإنسان أسماها “غريزة الكلام”، ووجد أنَّ غريزة الكلام موجودة على نحوٍ متفوِّق عند العرب، منذ فجر التّاريخ، بدلالة أنَّ علم اللغات المقارن يكشف وجود قواعد مشتركة بين اللسان العربيّ واللغات الهندو-أوروبيّة من ناحية، إضافةً إلى كشفه وجود اشتراك في المفردات وأساسيات النحو بين اللسان العربيّ واللغات الساميّة من ناحية أخرى، وهذا يثبت أنَّ الإنسان العربيّ خاض تجربة كونيّة نادرة في تكوين لغته، كان لها تأثير عالميّ لا يمكن نكرانه. والحقيقة أنّنا إذا أرجعنا اللغة العربيّة إلى أُصولها الكنعانيّة (=الفينيقيّة)، لوجدنا كلام الأرسوزي صحيحاً، إذ قام اليونانيون بتعديل الأبجديّة الكنعانيّة (الأوغاريتيّة)، بما يتناسب مع لسانهم الهندو-أوروبيّ. ولا شك في أنَّ استخدام اليونانيين للأبجديّة الألفبائية-الصوّتيّة الكنعانيّة أسهم في تطوير طُرق التّفكير النّظريّ عند اليونانيين لما في اللغة الكنعانيّة من إمكانيّة تؤهِّل الناطقين بها للقيام بعمليات التّفكير المجرّد. هذا، وحينما وصل التجار والمستعمرون اليونانيون إلى أتروريا (=منطقة وسط إيطاليا الحالية)، ونشروا الثقافة الهيلينية في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. أدخلوا الحروف اليونانية-الكنعانيّة لتشكيل الأبجدية الإتروسكانية (=الإيطاليّة القديمة). التي عُدِّلت من قبل الرومان، وأصبحت أبجدية أساسيّة لأوروبا الغربيّة.
لقد امتاز الأرسوزي من بين مختلف المُنَظِّرين القوميين العرب بأنّه دخلَ إلى السياسة من بوابة الفلسفة، وهذا ما جعل طريقة تفكيره أكثر عُمقاً وأبعد غوراً؛ إلا أنَّ لهذه الطريقة في التفكير مخاطرها، فقد جعلته مُفكِّراً يوتوبيّاً، إذ بنى آماله على حُلم ضائع بتكوين دولة مثاليّة تكتنف أبناء أمّة عربيّة واحدة أسماها “الجمهوريّة المُثلى”، ويقدّم الأرسوزي في كتاب له يحمل الاسم نفسه (=الجمهوريّة المثلى) تحليلات لمعنى هذا الاسم عينه، مستخدماً بصيرته اللغويّة الفذّة في تفسير معنى كلمة جمهوريّة، فيوضِّح أنّها منحوتة مِن “جم” وتدلّ على (الجمّ الغفير)و(جهر) وتعني إفصاح كلّ فرد من النّاس عن رأيه في ما يتعلّق بتنظيم الشؤون العامة. وحدّد الأرسوزي معنى كلمة “المُثلى” على أساس أنّها مأخوذة من “المَثَل الأعلى”، أي من الكمال، تبعاً لتكوين كلمة الكمال نفسها. وشرحَ تكوين كلمة كمال شرحاً لغويّاً رائعاً: كمُلَ من كُم الزَّهرة، وحرف “ل” المُلحق بـ”كم” يُفيد هنا معنى النموّ، فالكمال-وفق قوله-مُستوحى من برعم يستكمل شروط كِيانه بالزهرة.
وينفر الأرسوزيّ نفوراً كبيراً من واقعه العربيّ الذي كشف فيه خطر تحوّل الإنسان العربيّ إلى عبد، ويُفْهم معنى العبوديّة، وفق منظار الأرسوزيّ، على أساس أنَّ الإنسان العبد هو الذي يكون آلة أو أداة بيد نفسه أو بيد غيره من النّاس: يكون عبداً لنفسه إذا حوّلَ طاقاته الخلّاقة إلى أداة للحصول على شهواته، ويكون عبداً لغيره إذا استهلك مواهبه في خدمة الأقوى. ويطالب الأرسوزي باستبدال الإنسان الحرّ-النبيل بالإنسان العبد-الأداة. وهنا يفجِرّ الأرسوزي بعبقرّيته اللغويّة السَّاحرة ينابيع مأساة الإنسان العربيّ، فكلمة “حريّة” في رأيه اشتُقت من كلمة “حرب”، ونبيل اشتُقت من “النِبَال”، أي السِّهام التي يُرمى بها الأعداء؛ لذلك يصعب على الإنسان أن يحتفظ بإنسانيته أو بالأحرى بحرّيته إلا إذا كان مُحارباً رامياً لأعداء إنسانيته بالويلات!
جمع الأرسوزي في شخصيته بين عالم اللسانيات والمفكر السياسيّ؛ فعاش حياةً تنوس بين الهدوء والاضطراب، ولا نجد شبيهاً للأرسوزي الآن أقرب من المفكِّر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي جمع في شخصيته هو أيضاً بين عالم اللسانيات والمفكّر السياسيّ؛ إلا أنَّ الفرق بين الأرسوزي وتشومسكيّ فرق كبير جدّاً، فالأرسوزيّ عاش حياة قهر مستمر وفي أعمق لحظات معاناته كان هدفه بناء أمجاد أمّة عظيمة فقدت القدرة على النّهوض؛ بينما تشومسكي عاش حياة حافلة بالأمجاد في على أرض جمعت شعوباً من مختلف أنحاء العالم، وكوّنت أمّة عالميّة. لقد نجحت أُمّة تشومسكي الطارفة ولم تنجح بعد أُمّة الأرسوزيّ التليدة.
المراجع:
زكي الأرسوزي، المؤلفات الكاملة، دمشق، 1972.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
بواسطة وداد سلوم | ديسمبر 27, 2023 | Culture, العربية, بالعربية, غير مصنف, مقالات
حسب تعبير موباسان (إن هناك لحظات منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة)، والقصة القصيرة تبدو النوع الأدبي الأقرب إلى روح العصر الذي اتسم بالسرعة والاختزال فتناسلت أنواع جديدة منها كالأقصوصة والقصة القصيرة جداً (ق.ق.ج) إمعاناً في الاختصار. والحقيقة أنها حافظت على جمهورها دوماً وذلك بقدرتها على اقتناص اللحظة والإبحار بالقارئ في تلك المسافة القصيرة من السرد بتركيز وانتقاء مهمين.
وفي هذا السياق صدر مؤخراً عن دار موزاييك للطباعة والنشر مجموعة قصصية بعنوان (هو؟) للكاتب والقاص السوري فراس الحركة وهو الحائز على جائزة زكريا تامر للقصة القصيرة عام 2008 وجائزة اتحاد الكتاب العرب للنصوص المسرحية عام 2009 عن مسرحيته (صاحب النساء السبع).
تحمل المجموعة عنوان (هو؟)، وإذ ينتهي العنوان بعلامة استفهام يفتح باب السؤال لدى القارئ للبحث عن دلالة ضمير الغائب فهو ليس إخبارياً، لكنه عنوان القصة الأخيرة في المجموعة والتي سيتوقف القارئ عندها كما العديد من القصص التي تفتح باب التفكر والتأويل لإماطة اللثام عن مآل النص وتفكيكه في محاولة البحث عن المرامي البعيدة والقريبة التي يأخذنا إليها الكاتب. إذ يصور الذات الإنسانية في تشظيها سابراً عوالمها الداخلية وصراعاتها المشحونة عاطفياً في مشهدية تصويرية تميل للغرابة حيناً وبلغة تقترب من الشعر حيناً.
وعلى مدار ثماني وعشرين قصة حوتها المجموعة ينوع الكاتب أسلوبه فيتجاوز الترتيب الزمني للحدث منطلقاً من المشهد الأخير في بعضها مستعيداً خيوط السرد عبر تصاعد الحالة النفسية للشخصيات أو من المشهد الذروة ليفكك الحدث الذي يستنتجه القارئ ويقوم بتركيب خيوطه، فالقارئ هنا وغالباً يشارك الكاتب في إعادة بناء القصة في خياله عبر الإيحاء الذي يعتمد عليه الكاتب، ومفككاً الغموض الذي لجأ إليه ليستدرج القارئ نحو المشاركة في تخيل الحدث واتباع خيوطه المتعددة والمتشعبة.
يتخذ القاص فراس موقع السارد الذي يقوم بوصف وسبر العالم الداخلي للشخصيات جاعلاً الحدث في هوامش السرد منتقياً مواضيعه من المحيط بحيث يملك عوالم أبطاله النفسية والذاتية غالباً مقدماً المقولة على القص تارة كما في قصة الطريق أو الصندوق الأسود وممسرحاً القص تارة أخرى كما في قصة العازف أو الأبواب ومحاولاً فتح العوالم النفسية لشخصياته وهواجسها وانفعالاتها وهمومها وهذا ما جعل الإبهام والغموض حاضراً في السرد وترك الباب مفتوحاً أمام القارئ كما في قصة انتقام مسلطاً الضوء على معاناة الفرد أمام المجتمع القاسي والمستكين لقوالبه الجامدة والمتخلفة وظلمه للإنسان سواء بقوة العادات والمفاهيم المتخلفة أو بقوة السلطة الراسخة والتي تسعى لإدامة قيودها وذلك الصراع بينهما والذي ينتهي غالباً لصالح الأقوى.
يفضح المجتمع المتخلف وما يرتكبه بحق الأفراد إذ يكيل دوماً بمكيالين في سبيل الحفاظ على مقدساته ومقولاته التي كرسها عبر الزمن فيطلق أحكامه المستمدة من المفاهيم المتخلفة والخرافات والتي درج عليها كما في قصة ابن الجنية ليبرر أفعالاً وأحداثاً يخاف أن تتداولها الألسن حيث تصبح البنية النفسية لهذا المجتمع مهددة حين ترى الحقيقة. إنه المجتمع القائم على أوهام وكذبات صنعها بنفسه عبر الزمن . ففي قصة ابن الجنية نرى البطل فاضل والملقب بالنمر رغم كل أفعاله الحميدة وصفاته النبيلة التصق به لقب ابن الجنية ما جعله غير مرغوب به رغم أن هذه الجنية أمه لم تكن سوى مناضلة ساعدت الثوار في الجبال وماتت بتسمم جراحها، وكما تموت الحقيقة بالنكران يبقى اللقب العار ابن الجنية متوازياً مع ابن الحرام ومرفوضاً مثله.
وكما في قصة أطلال حيث يقوض الواقع أحلام الإنسان وقصص الحب التي تموت بيد الواقع ولا يبقى منها إلا الذكريات التي يطمسها الزمن مع تقدم الحياة التي لا ترحم فالحبيبة تتزوج ممن لا تحب ومكان اللقاء (البيادر) تقوم عليه البيوت الإسمنتية هكذا يحل الجماد محل العواطف.
وفي قصة الدم نرى انتقال المعركة من الرصاص الحي إلى الكلمة التي في النهاية تغتالها السلطات حين تعتقل الكاتب. السلطات التي تعيد إنتاج الحزن وتجعله مستمراً ورفيق جيل الشباب في قصته (ذلك الحزن) حين تعتقل رفيقهم الذي عاد إلى البلد بعد غياب طويل.
مثلما تغتال المفاهيم الجامدة قصص الحب وتقسر الشاب في قصة أنا قدرك للتخلي عن الحبيبة نتيجة إعاقتها والزواج بأخرى .
يبرع الكاتب في وصف لحظة الذروة في الانفعال العاطفي والصراع النفسي للشخصيات التي تنتقل بين ضمير المتكلم وضمير الغائب وذلك في مشهدية تصويرية تأتي على لسان القاص محاولاً تصوير تلك الانفعالات والصراع الذاتي المكتمل مع المحافظة على إشارات مفتوحة توحي بالنهايات.
لا تأتي القصص في سوية واحدة فهناك موضوعات مطروقة سابقاً كواقع المرأة المستلبة الراضخة لمشيئة المجتمع الأبوي ومعاناتها في انكسار قصص الحب وقتل الذات وتحويلها إلى أداة إنجاب وعمل لا أكثر بينما تموت المحاولات الصغيرة ويبقى صوتها ضعيفاً، مؤكداً أن تحرر المرأة لا يكون إلا بيديها. يحاول الكاتب التجديد في أسلوب الطرح وليس الموضوع وهذا ينطبق على أكثر من موضوع كما في قصة الأبواب أو الطريق حيث يجسد الجماد ويؤنسنه على طريقة أنسنة الحيوان وإنطاقه في كليلة ودمنة لتقديم العبرة والمقولة، ليصبح الطريق شخصية تتمنى وتريد أن تكون ذاتاً تملك وجهة وهدف وصول.
يقول غيورغي غوسبودينوف: “إن المتاهة قد تكون من وفرة المخارج وليس فقدانها.”
وفي قصة الأبواب نرى أنها مخارج لطرق تتنوع وتنفتح بين الداخل والخارج ، بين الذات والمحيط تتعدد وتتداخل وكل باب يُفتح أمامه طريق على هدف ويستعرض البطل المتمثل بضمير الغائب هذا الأمر باحثاً عن اكتمال رؤاه. أبواب سبعة بما يحمل الرقم سبعة من قدسية في الذاكرة الجمعية وحين يصل إلى الباب السابع إذ يجتمع الأمل مع الفرح والنور و معاناة البلاد وبحث الإنسان عن شرط الحياة يأتي صوت المذياع في بيان رسمي يرمز للسلطة التي تصادر كل اكتمال وكل كيان باحث فينتهي البطل إلى البكاء.
يقابل الأبواب النوافذ وهو عنوان قصة أخرى (نوافذ صامتة) إذ نرى خلف النوافذ قصصاً مختلفة يجمعها الفقد والغياب والموت والإحساس بالاغتراب حيث يجتر الإنسان آلامه الخاصة . هذه الحيوات المتعددة كمثل مشاهد سينمائية أو عروض مسرحية يقوم كل منها بدوره دون تأخير.
لا تختلف معاناة الكاتب عن أبطاله فيصور تشتت المثقف واحتدام الصراع في داخله للبحث عن ذاته وعن تحقيقها إذ يرتقي من النواح إلى مرحلة القرار في قصة ارتقاء.
أما في قصة ارتكاب وحيث يصور أعماق الكاتب المشتتة والدؤوبة نحو التجلي وذلك عبر مونولوج داخلي يتنوع خطه البياني بين الذروة والقاع بين الانتشاء والبكاء وحالات متلاحقة تجعله يكشف غربته الداخلية وتناقضه مع المحيط وظروف الواقع والآلام التي تلتهم الإرادة وتحاول قتل اللحظة المبشرة بولادة الإبداع.
يبحر الكاتب في تلافيف العقل باحثاً عن رؤاه كصوفي يحتدم العالم في داخله فيقطر الواقع المر ويتطهر منه باكتمال الفكرة والإبداع الموازي للنور.
تبدو ذروة هذا الاغتراب والتشظي في قصته (هو؟) وضمير الغائب هنا إشارة إلى الظل رفيق الجسد في الضوء لكن ظل الأنا المتكلمة هنا وهو الكاتب يتجسد في العتمة يقول: (أفغر عيني في العتمة أجد الظل).
والظل ليس انعكاساً لجسم مادي بل هو ذات أخرى تنفصل عنه وتتجسد لعلها الحلم ولعلها المكبوت ولعلها الذات المتمردة المشاكسة حيث يفعل ما لا يجرؤ عليه الكاتب ساخراً منه ومن جبنه وعجزه إنه الكائن الحر المدفون في داخلنا.
وهذا الفصام يبدو جلياً في قصص فراس الحركة إذ يغوص في العوالم النفسية والداخلية للشخصيات واصفاً انفعالاتها وهواجسها ويوجهنا إلى البحث عن الشبيه. اللغة عند فراس لاعب ماهر إذ تعبر بدقة عن تلك الإرهاصات وتميل إلى الشعر أحياناً مختزلة ومكثفة لكن يؤخذ عليه الإسهاب في الوصف في بعض الأحيان ما لا يخدم البنية القصصية ويشتت القارئ.
(هو؟) مجموعة مختلفة في البناء والأسلوب تبشر القصة القصيرة بفتوحات جديدة سجل فيها فراس الحركة اسمه بمهارة.