بواسطة سلوى زكزك | نوفمبر 6, 2023 | Cost of War, News, العربية, بالعربية, تقارير
يعرف السوريون\ات الحرب جيداً، اختبروها بكل عنفها، واختبروا كل أشكال القتل والتغييب والتدمير والجوع والنزوح واللجوء والموت داخل سوريا وخارجها. ماتوا على الحدود وفي البحر وفي بلدان الشتات الممتد. يعرف السوريون فلسطين جيداً، يعرفون شعبها ومعنى الحروب الطويلة والإصرار على حق البقاء أحياء على أراضيهم والتمسك بحق العودة.
ولكن معرفة الحرب لاتكفي للجمها. وإن كان لدماء الضحايا وخاصة المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ وعجزة قول بليغ وصريح دونما إفصاح: “يجب وقف هذه الحرب وفوراً.”
يمكن القول إنه ثمة تبدل شبه عام وخاصة في سورية في الموقف من الحروب، لم تعد الغالبية تراها حلاً ولا وسيلة لتثبيت الحقوق أو استعادتها، ومن كان يخاف متردداً في إعلان مسؤولية مشرعي القتل والتدمير عن دم الضحايا، بات يعلن موقفه بعالي الصوت، وإن شابَ ذلك بعض التردد خشية ردات فعل أولي الأمر.
ترددت عائشة في إعلان رفضها لحماس مع أنها افتتنت بطريقة الاختراق الفلسطيني، كان ثمة إبهار ينتصر لإرث طويل من الظلم والتمييز وهضم الحقوق الأساسية ونكرانها. يحيا السوريون كما جلّ أبناء منطقتهم في خضم هزائم داخلية وإقليمية. لا يملكون قرار الحرب ولا قرار السلم، ويعيشون في مواجهة ركون وصمت ممتد وضعيف، صمت مرتهن للأقوى ومتلاعب به.
تخاف عائشة إعلان موقفها في بيئتها الضيقة لأنهم سيخونونها، سيعدونها ضد القضية الفلسطينية وضد أشقائها الفلسطينيين. حاولت أن تطرح وبشكل موارب فكرة الحوار، فكرة أننا تعبنا من حرب الاستنزاف الطويلة والتي تُقدم كمبررات لترك بلادنا ساحة حرب مستمرة، لكنها فشلت، لم تجدِ نفعاً كل محاولاتها لفصل حق المدنيين بالحياة والحماية عن التحكم بقرار المدنيين ومصادرته ضمناً وعلناً تحت شعارات كرهتها الشعوب وتحاول الهرب منها. لكن لا فكاك أبداً، كل طرف يعتبر المدنيين ملعبه، مساحة لصراعاته، ومداً بشرياً يحق له التصرف به، بل وإهداره، تصرخ عائشة لقد دفعنا طويلاً أثمان حروب بالوكالة يراق فيها دمنا وتهدر حيواتنا.
في الحقيقة يبدو أن اختلاف المواقف لم يكن يخص الموقف من الضحايا المدنيين أبداً، فالمواقف هنا حاسمة ضد الحرب وضد المعتدين وضد كل أشكال وأدوات القتل الهمجية والمنفلتة من كل الضوابط الإنسانية والأخلاقية، مواقف متضامنة مع المدنيين العزل حتى درجة التشارك في ذات السردية. يعرف السوريون\ات جيداً معنى هدم البيوت والنزوح واللجوء إلى المدارس والجوامع والشوارع، تقول سوسن: “عندما أرى الصور أستعيد رائحة البارود وغبار الهدم وتداهمني شراسة الخوف من كل شيء، لا شيء مجهول في ظل تغول مرعب يهدف إلى الإبادة دون أي رادع أو تردد أو التزام. لكن الرعب متجدد والموت عام مع أنه متعدد ومتنوع الأشكال.” وأضافت سوسن بأنها لم تعد قادرة على النوم منذ السابع من أكتوبر، خاصة بعد حادثة خسارة المراسل الصحفي وائل الدحدوح لأفراد من عائلته حيث لجأوا لأماكن وصفت بأنها آمنة، حادثة مأساوية ومثلها الكثير من الحوادث التي حفرت عميقاً في وجدان السوريين والسوريات وحرمتهم من النوم ومن راحة البال أيضاً، في ظل احتمالات حرب مفتوحة قد تطال سوريا أيضاً، لم يعد أحد قادراً على تقبل الحرب ولا استعادة أحداثها وتفاصيلها.
يرفض السوريون والسوريات الحرب وأي امتداد لها، لا قدرة لهم على تحمّل خسارات مرهونة ومفروضة من قبل الأقوى.
يصرخ السوريون\ات “لماذا تركت أهل غزة وحدهم يا الله!” وهم يعلمون أن الخسارات المتعاظمة والواسعة لن تغير الصورة العامة للمشهد الدامي ولا الوقع القاسي والتمييزي الظالم في أصله، بل ستترك ندباً غائرة لمئات السنين القادمة. بات الجميع يخاف من شدة العنف المتصاعد والمتسلسل والقاتل لأي أمل بالسلام والعيش الكريم والحفاظ على الحقوق وخاصة الحق بالحياة.
من جهتها، سخرت نهاد بمرارة فائقة من بعض الدعوات التي وجهت عبر وسائل التواصل الاجتماعي لفتح معبر رفح لإجلاء الأجانب والجرحى والمرضى، أو لتأمين خط إنترنيت خاص لغزة لمتابعة ما يجري عن كثب ولإيصال الحقائق وعدم ترك أهل غزة في العتمة والصمت المطبق. يعرف الجميع أن النداءات الشعبية في بلاد لا يتم فيها احترام رأي شعوبها لن تصل أسماع أحد. لن يسمع أحد من المتنفذين أوأصحاب القرار أو المسؤولين أو القتلة، أصوات التضامن والمتضامنين في بلاد تسودها تقاليد ثابتة ومبرمة في إسكات كافة الأصوات المناهضة لتغول طرف ضد طرف أو للمطالبة بالحقوق المشروعة.
ثمة سبب آخر لاستنكاف السوريين والسوريات عن إعلان التضامن، رغم كل الخيبة والصدمة التي ألمت بهم من هول ما يحدث لأشقائهم وخاصة المدنيين العزّل، هم متعبون جداً، يتجلى نضالهم الحقيقي على أفران الخبز وفي الأسواق لتأمين الحد الأدنى من العيش وفي الشوارع البائسة بانتظار وسائل نقل لن تأتي أبداً، وإن وصلت ستصل بأسوأ حال وأرذل شكل. تقول لينا: “الميت لا يجر ميتاً، ونحن موتى على قيد الحياة، لابل يترجى بعض السوريين الموت باعتباره حسن الخاتمة والمنفذ الوحيد للراحة الأبدية والخلاص النهائي من ظلمة العيش وقساوته وانغلاق كل أبواب الانفراج.”
الدم ليس وجهة نظر، والسوريون والسوريات مجروحو الكرامة، لم يتضامن معهم أحد في موتهم، تركوا لوحدهم وفقدوا كل أشكال التضامن، ضاعت خارطة التضامن. من الصعب جداً أن ينسى الغرقى تنكر الآخرين لهم، وفاقد التضامن لا يعطيه ويعجز عن التضامن مع سواه.
يمكن اعتبار تغيّر مواقف السوريين والسوريات وتباين ردود أفعالهم محصلة طبيعية لسلسلة كاملة من التهميش والانزواء عن الشأن العام. الدم ليس وجهة نظر مطلقاً، لكن الموتى لا يمكنهم نقل الموتى الآخرين إلى المقابر. بلاد تحولت إلى قبر كبير، بلاد الأكفان أوطاني، وأهل غزة يُبادون بتعنت وهمجية غير مسبوقة يتحمل مسؤوليتها الجميع، والنأي بالنفس عن الإدانة مجزرة جديدة ومستمرة، وأشد أنواع القتل فتكاً هو الصمت، ومن يملك المقدرة على الفكاك من وصمة وعقدة الصمت قد يكون هو الناجي الوحيد.
بواسطة وداد سلوم | أكتوبر 30, 2023 | Culture, العربية, بالعربية, تقارير
صدر كتاب “جدد القول، هموم وأوهام في الفكر الإسلامي” حديثاً عن دار الجديد للكاتب السوري محمد أمير ناشر النعم، والجدد حسب ما يشرح الكاتب في مقدمته هو القول الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء، وهي إشارة لسلوكه الدقة في وضع اليد على مكامن الخلل كما يراها وتقديمه رؤى في سبيل تجاوزها. ولعل تضمين الكتاب جانباً من سيرته الذاتية ما هو إلا تقديم شهادة حية لتلك الهموم التي تَلمسها بشكل شخصي، إذ يحدثنا عن نشأته في مدينة حلب والتحاقه بالمدرسة الخسروية ( الشرعية) التي تخرج منها أعلام في الفكر الإسلامي في عصر النهضة لكنه صدم بالأساليب التي كانت تمارس والأفكار التي تغذيها إدارة المدرسة من التعصب الديني والمذهبي ومحاصرة الأساتذة الذين يتميزون بآرائهم بتهمة الآراء الشاذة عبر تحذير الطلاب من تعاليمهم وفكرهم. إلا أن الكاتب اعتمد على نباهته فاقترب كما يمليه عليه تفكيره من هؤلاء الأساتذة بالمسافة التي هيأت له نمو فكره وتمكنه من تكوين الوعي ورفض ما يتعارض مع عقله، و رفد ذلك بالقراءة والاطلاع والانفتاح على الثقافات الأخرى وعلومها، وعدم الاكتفاء بمصدر واحد، حتى وصل إلى تكوين شخصيته الفكرية ونبذ التعصب وأراد الوصول الى التسامح الذي لا يستند على الإلحاد كنوع من رفض الأديان ولا على اللا يقين أو الشك بل أراد تسامحاً يستند على إيمانه ويقينه في قبول الآخر كما هو والتعايش معه.
مدخل إلى الكتاب
يبدو غريباً لأي قارئ استناد الكاتب في البداية إلى قول برنارد شو: “سيأتي على البشرية زمان يدينون فيه بدين واحد ويتكلمون لغة واحدة أما ذاك الدين فهو الإسلام المجدد وأما اللغة فالإنكليزية “.
الغريب هو أن يأتي هذا الكلام بعد ما رأينا من أحداث اختتم بها القرن العشرين كأحداث أيلول والتي وضعت العالم تحت الخطر الإسلامي واقترانه بالإرهاب وما تلا ذلك من ظهور الجماعات الاسلامية المسلحة والمتطرفة ونشاطها في العالم وخاصة بعد حرب أفغانستان، أضف ما يحدث في الغرب حيناً بعد آخر من حرق للقرآن أو رسوم مسيئة للرسول والضجة المرافقة لذلك.
ولعلنا نلاحظ على الجهة الأخرى، اعتناق بعض الغربيين للإسلام وخاصة بعد الربيع العربي وانخراط بعضهم في الجماعات المتطرفة تحديداً ومشاركتهم في حروبها في أماكن شتى. فهل هو تحقيق للنبوءة أم أنهم ضحية للتغرير بهم من قبل الدعاة واستغلال الخواء الروحي الذي يعاني منه الغرب ويتجذر؟
أزمة الثقافة الإسلامية
لا يحسّن هذا صورة الإسلام كدين ومعتقد ولا الثقافة الإسلامية التي ما زالت تتقهقر في الواقع، ويرى الكاتب أن الإسلام على وضعه الحالي لا يمكن أن يحقق نبوءة طالما لا يتجاوز عيوب أساليبه في التعاطي مع نفسه أولاً ومع الآخر ثانياً. متوقفاً عند مفاصل مهمة ومؤثرة لضرورة البحث عن الأسباب ودراستها للنهوض من جديد . أما المفكر الجزائري مالك بن نبي فقد وضع شرطاً لذلك وهو تجاوز أزمة الحضارة التي يعاني منها الفرد المسلم.
تتجلى ازمة الثقافة الإسلامية حسب رأي الكاتب في:
1 غوغائية في إدراك المفاهيم والمعطيات المعرفية الإسلامية،
2 خلل في التحويل والتطبيق.
أما الغوغائية فهي ” في عدم الدقة في النقل والتقصي حول الأصل” وفي التحقيق، واعتماد بعض المفاهيم دون الأخرى وعدم ضبط معناها ودلالاتها، أو مراعاة تماسكها وطغيان جانب على آخر. يقول الكاتب :” إن شرط الإحاطة ضروري لبناء تصور واضح ومتناسق بين الكل والجزء ومن غير ذلك سيكون المسلم في مرحلة تأتأة عقلية”. فهناك مثلاً الكثير من الحوادث والأحاديث نسبت للرسول دون تدقيق ومن قبل أشخاص عاشوا بعده على الأقل بمئة عام معتمدين على الذاكرة الشفوية التي ولا شك عرضة للتضخيم والأسطرة وخاصة حين تتناول شخصاً هو نبي الله وامتد هذا إلى ما نُقل وأُشيع عن الحوادث المفصلية في التاريخ الإسلامي وآراء ومقولات تنسب للمذاهب المختلفة محاولة التقليل من شان أحدها على حساب الآخر.
كما هناك الخلط بين العادات والدين ووضع العادة مكان الدين وتقديسها بينما تختلف العادة من زمن لآخر ومن بيئة لأخرى. وكذلك تقديس الأقوال ومعاملتها معاملة النص الأصلي؛ فالقول والتفسير يعتمد على قدرة الشخص على الفهم ومرجعيته الثقافية .
يضاف لذلك، الهوة بين المفاهيم والتطبيق والحاجة إلى إعادة تعيين المفاهيم، إن الاعتراف بالخلل وأزمة الثقافة الإسلامية هو البداية للخروج من بؤرة موحلة تغرق فيها.
الفقه الإسلامي المعاصر
يميز الكاتب بين الفقيه والمتفقه للتمييز بين العالِم والمدَّعي وعبر استعراض تاريخي نتعرف على مجموعة من الفقهاء ظهروا مع عصر النهضة يصفهم الكاتب بالعبقرية والموهبة والعقل الراجح قاموا بوضع أحكام الفقه الاسلامي بدقة وإحكام ولكن من جاء بعدهم بدد و هدر ما تركوه من ثروة معرفية وثقافية في فهمهم الخاطئ لدور الفقيه إذ أخذوا يتدخلون في حياة الإنسان في الشاردة والواردة ويطلقون فيها فتاوى وأحكاماً حتى صار فقهاً متقزماً. وانقسموا إلى فريقين الأول مذهبي تقيد بأحكام مذهب معين والثاني أنكر المذهبية وأراد العودة للكتاب والسنة وبدأ بينهما التكفير واللعنات والشتائم. وكانت كليات الشريعة ترفد كلا من الفريقين بفقهاء جدد ومشرعين لم يخرجوا عن الطريق الذي رسم لهم رغم أن بعضهم كان جاداً في طلب العلم.
تكاثرت الفتاوي التي لم تقتصر على العبادات بل طالت حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحملت صيغة وقوة الإلزام وأحكمت الطوق على عنق الإنسان وحرمته الحياة الطبيعية وسبيلها في ذلك العودة إلى الذاكرة لاستنباط الأحكام دون تمريرها بالمحاكمة المنطقية والعقلية التي تتطلبها التغيرات الحضارية والزمنية.
فخرجت عن جوهرها الحقيقي وهو تيسير أمور الناس في ظل التطورات اللاحقة والمتسارعة وصارت في الواقع عرقلة للحياة العامة سواء على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو الحضاري أو العلمي ويذكر الكاتب أمثلة كثيرة منها فتاوى الطلاق وأخذهم بالطلاق الشفوي وتأمين الزوج المحلل وتحريم الاحتفال بالأعياد والمناسبات الاجتماعية كعيد الأم أو معايدة الأديان الأخرى وتحريم التجنيس للمغتربين وتحريم الالتحاق بالجامعات نظرا للاختلاط فيها كما حدث في الجزائر وتحليل صيغ العقود للتجار وغيرها كثير.
ولعل قضية الانتحار مثال ساطع لعدم مواكبة الفقه للوقائع الجديدة. فمع التطور العلمي في الطب التشريحي والطب النفسي تغيرت النظرة عالمياً إلى الانتحار وعرف ضمن سياق الأمراض العقلية وأمراض الهوس الاكتئابي. لكن الإسلام بقي ينظر للمنتحر من منطق العصور الوسطى حتى معاقبة من نجا من المحاولة وهذا ما يجانب الإنسانية. كما أنه من المثير للاستغراب أن تتناول الفتاوى قضايا في الطبيعة الإنسانية كالضحك والمزاح وإيجاد حكم شرعي له، ينبه الكاتب أن هذه الأحكام لا تفيد المسلم بل تخرجه من طبيعته الإنسانية السمحة وتحوله إلى آلة تنفذ المسموح به وحسب في إطار الحلال والحرام. وفي هذا السياق يأتي اختلاف الفقهاء على حكم الترحم على غير المسلم استناداً إلى تفسير سورة التوبة التي تعددت تفاسيرها أصلا وتركوا القياس بما وصلنا من أقوال أنبياء الله فالنبي إبراهيم طلب الرحمة لوالديه الكافرين وهل هناك من هو أرحم من الله .
ثم يعرج الكاتب على الدعاة في القنوات الفضائية والشيوخ في البرامج الدينية التي تكاثرت في الفترة الأخيرة فصار واضحا أن همها الاستيلاء على المشاهد لتحقيق الأرباح للقنوات ولا تنفك عن التحسر وتأنيب المسلمين لتهاونهم في تنفيذ التعاليم وتتنافس بإطلاق الاحكام والآراء دون احترام وعي المشاهد ورأيه وتبينه الصدق من الكذب.
يقوم الكاتب بتحميل مسؤولية ما وصل إليه الفقه الإسلامي لهؤلاء من المتفقهين والمفتين الذين لا يتحلون بالمسؤولية التاريخية، وهذا الدور ليس بالجديد عليهم فمن ينسى أن الحلاج والسهروردي وعماد الدين النسيمي قد قتلوا بأبشع الطرق وبفتوى فقهاء الدين تلبية لرأي السلطة السياسية .
مجلس للأخلاق
يطرح الكاتب إمكانية الاستفادة من تجربة الدول الأوربية في إحداث مجالس أخلاق كمجلس الأخلاق الألماني للبت بقانونية وأخلاقية الأبحاث العلمية وتطبيقها كبنوك التهجين البيولوجي والتشخيص الجيني ومختلف أبحاث الطب الحيوي مستنداً على ما فعلته السلطنة العثمانية ذات يوم في مجاراة نابليون في سن القوانين الفرنسية ونظراً لنمو الحاجة للاستنارة بمصادر غير التبعية، فشكلت لجنة من علماء الفقه والحقوقيين والأساتذة لدراسة الأحكام الشرعية ووضع القوانين في هديها ومنهم الأستاذ شفيق شحاتة القبطي المسيحي الذي ساعد في صياغة الفقه الإسلامي ضمن نظريات الحقوق الغربية. يتساءل الكاتب: ألا يجدر بنا الاستهداء بهذا لتشكيل مجالس أخلاق على الغرار الأوربي؟
لكن لو نظرنا إلى التطور العلمي والصناعي والحضاري لدينا لرأينا أن ذلك سيكون مجرد تقليد أعمى دون الحاجة الحقيقية له وخاصة أن الكاتب قد أفرد فصلاً تحدث فيه عن تراجع العلوم الميكانيكية التي تحتوي كل الاكتشافات الطبية وتستند عليها الاختراعات الحديثة مقابل تنامي وبقاء علوم الاحتيال المالي والفقهي والتي تعبث بالقوانين والأحكام الشرعية. بينما ما زلنا نلوك أفكارنا القديمة وننظر للماضي العريق وإنجازاته ودون أي رؤية مسؤولة للحاضر والمستقبل. وهذا ينطبق على التعاطي مع أفكار الديمقراطية والإصلاح السياسي والتجديد دون خطوة واحدة باتجاهه.
هدي الحيوان في التشريع الجنائي الاسلامي:
عجت وسائل التواصل والقنوات الفضائية بمقاطع فيديو وحوادث يوردها الدعاة عن سلوك الحيوان لتثبيت بعض الأحكام الإسلامية كما فعل العريفي في حادثة قتل النمل للنملة السكرانة وطردها أو زغلول النجار في حادثة محاكمة الغربان للغراب المذنب مفصلا أحكام الغربان في عدد من الحالات تصل للقتل في حالات الزنا، أو رجم القردة التي وردت استناداً لصحيح البخاري، يقوم الكاتب بتفنيدها وبيان ضحالة الفقه والفكر لدى هؤلاء الدعاة ويعتبر أن من العار محاولة جرنا للتشبه بعالم الحيوان لتحقيق العدالة وفي الاستدلال ما يحط من قدر الإنسان ولا يدل سوى على الإعياء الفكري في المحاكمة العقلية والشرعية علماً أن ما ينشرونه من مقاطع فيديو غير مثبت أو موثوق ويشير الكاتب إلى أنهم يعتمدون على إثارة الخوف ولا يتوخون الدقة، فمثلاً لا يخبروننا عن أحكام الحيوان: هل تقبل شهادة الحيوان الذكر مثل الأنثى؟ وهل ينظرون الى النية والقصد؟ وماذا عن إثبات الجريمة؟ وهل هناك فرق بين الفاعل والشريك؟ وماهي موانع التنفيذ؟ وهل تدرأ الحدود بالشبهات؟ وكيف نضيف الزنا للحيوان والزنا وصف شرعي لفعل مكلف كالزواج علماً أن الزواج الفاسد والباطل والوطء بشبهة ماهي إلا أوصاف نابعة من علم الاعتبار الشرعي الذي لا يدخل الحيوان فيه.
كلها أسئلة يطرحها الكاتب لبيان مقدار استغباء العقل وفقرهم الفكري والشرعي .
يقول الكاتب لقد دعاهم الله ورسوله إلى الإبصار والتبصر والتعقل والتدبر فإذا هم أرادوا السير وفق هدي الحيوان ويخشون إنكار أقوال البخاري أكثر من خشيتهم من الله ورسوله.
آهات إسلامية
وضمن نفس الإطار تأتي ظاهرة الآهات الإسلامية التي ظهرت على اليوتيوب إثر فتاوى تحريم الموسيقا في مفارقة واضحة حيث الموسيقا حرام والتأوه حلال ! وقد غاب عن أصحاب هذه البدعة أن تجويد القرآن موسيقا تتم ببناء لحني متكامل بحيث توائم كل نغمة موسيقية معنى الآية المقروءة ليستعيضوا عن ذلك بآهات باهتة مكررة بشكل ساذج .
النكاية باعث من بواعث الفكر الإسلامي من أجل فهم أعمق
أثناء دراسة التاريخ والفقه الإسلامي نرى الاختلاف بين علماء الإسلام في طرق البحث والاستنباط والترجيح في المبادئ ينوه الكاتب إلى دور الفقيه والدارس في ذلك فهو إنسان له مزاجه وملكاته العقلية والذهنية. كما أننا نلاحظ ظاهرة النكاية بين بعضهم وتبدو واضحة فيما نراه من مشاكسات بينهم وسخرية بعضهم من بعض وهذا طبيعي فهم بشر خطاؤون وليسوا مقدسين وبينما أسقط النص القرآني القداسة عن الأحبار والرهبان يتم تقديس فقهاء الدين الاسلامي. يطالب الكاتب بنزع القداسة عنهم جميعاً فما فعلوه خرج من الأشخاص إلى المذاهب والطوائف وساهم في قدح الخلافات بينهم وأدى إلى الاختلاق في الحديث والتاريخ والسيرة النبوية .
الحنين إلى الوثنية بعد ما فعلته الجماعات المتطرفة، داعش مثالاً
ظهر هذا الحنين متمثلاً بالتغني بأقوال وصلتنا من الحضارات القديمة والوثنية والثناء على قدرتها على احترام الإنسان والمشاعر الإنسانية وتجلي المسؤولية تجاه الإنسانية عامة من هذه الأقوال:
(لا تشتم إلها لا تعبده) التي نقشت على الصخر في معبد تدمري . أو العبارة الأوغاريتية الشهيرة (حطم سيفك وتناول معولك واتبعني لنزرع المحبة والسلام). وعلى إثر ما تتناقله نشرات الأخبار من جرائم بحق الإنسانية ترتكبها الجماعات الإسلامية وخاصة داعش التي قتلت باسم الله في سنة واحدة ١٥١١ مواطناً مدنياً بينهم ٢٣ طفلاً و٣٢ امرأة عدا السجن والجلد معتمدة أقوال منسوبة للنبي. في الوقت الذي لم نشاهد فيه أي موقف بارز أو بيان من جهة إسلامية للتعاطف مع أي كارثة أو حادثة إنسانية يورد الكاتب أمثلة كثيرة ولعل أبرزها حادثة خطف الصحفيتين الإيطاليتين في حلب، وظهور من يقول: لا يجوز التعاطف معهما لأنهما مسيحيتان وسافرتان! وينطبق الأمر نفسه على المحامي وناشط حقوق الإنسان خليل معتوق الذي قضى حياته وهو يدافع عن المعتقلين ولم يصدر أي بيان استنكار أو مطالبة بالإفراج عنه وكذلك رزان زيتونة ورفاقها. لا يعكس هذا سوى الضيق ووهم الانسانية ويتساءل الكاتب كيف يمكن الدعوة للإسلام كدين عالمي ونحن لا نجيد حتى التعاطف في قضية واضحة.
كثير من الأوهام وقليل من الحقيقة
يقودنا هذا إلى أوهام الاقتصاد الإسلامي وظاهرة البنوك الإسلامية التي ظهرت تحت شعار البنوك اللاربوية، وهو الشعار الذي يخفي الحقيقة فهي تعتمد مبدأ المرابحة وهو الوجه الآخر للفائدة فعلم الاقتصاد هو خليط مجموعة علوم تبدأ بالرياضيات وتنتهي بالفلسفة فهل نقول رياضيات إسلامية مثلاً؟
يتطرق الكاتب لوهم الخلافة الإسلامية والحاجة إليها لنشر الإسلام ويفند الكاتب هذا الوهم بالعودة لدراسة النسب البيانية في الدراسات الكمية في البلدان التي خضعت للفتح الاسلامي فنرى أن دخول الاسلام كان متفاوتاً وبالتدريج وليس أفواجاً كما نقل لنا لكنه كان يزداد مع الزمن ويتوقف على عوامل تاريخية كالإحساس بالخطر في الحروب وغالباً ما كان يترافق ازدياد الدخول فيه مع ضعف السلطة المركزية والسياسية لانعدام الحاجة لها فالدخول في الإسلام كان يبدأ من القاعدة أي اجتماعياً ويحقق الاستقرار نتيجة حالة الاكتفاء الروحي والنفسي التي يشيعها الدين الجديد وهذا يفقد المناداة بالحاجة للخلافة مبرراتها.
قدم الكاتب في كتابه مساهمة مهمة في تحليل ظواهر تهيمن على طريقة التفكير والثقافة الإسلامية دون أن يغفل الجانب الذاتي في التخلص من حالة الاستلاب تجاه المعطى وقدم نفسه نموذجاً مشيراً لأهمية العامل الذاتي للخروج من عباءة سيطرة المؤسسة الدينية ولكنه لم يتطرق لدور السلطات تاريخياً في كم العقول قبل الأفواه واستخدامها للمؤسسة الدينية ودعم هذه المؤسسة لها غالباً ولهذا يبدو جلياً أن إعادة الوجه الروحي للدين وتنقيته من الشعوذات والدجل الممارس باسمه ليسد الخواء لدى الكثيرين يرتبط بالحاجة المتنامية لقيام الدولة المدنية التي تقوم على فصل الدين عن الدولة واحترام المواطنين كافة على اختلاف مشاربهم الدينية والقومية بما لا لبس فيه وتحت لواء المواطنة والعدالة الإنسانية التي تنحي التمييز حسب الانتماء ما يحقق الانفتاح على الآخر والتسامح.
بواسطة طه خليل | أكتوبر 10, 2023 | Culture, News, العربية, بالعربية, مقالات
يقول الكرد في أمثالهم، أو حكمتهم التي ترافق مناسبات العزاء، عن المعزين: ” كلٌّ يبكي على موتاه.. أو كلٌ يبكي على نفسه.”
كان الوقتُ ليلاً، قبل منتصفه، سمعتُ بنبأ رحيل الصديق الروائي خالد خليفة في دمشق، بدايةً شعرت بوخزةٍ في صدري، ربما كانت مما وخزه قبل ساعات ورماه طريحاً الى الأبد.
بداية لم أفعل شيئا، أغمضتُ عيني ورحت أتذكر: كنا معاً في حلب.. كنا معاً في دمشق، كنا معاً في ديار بكر.. وآخر اتصال بيننا حدث وهو في سويسرا حين حل عليها ضيفاً ككاتبٍ. يومها تحدثنا عن زيوريخ التي أعرفها جيداً، وتحدثنا عن الفن و الأدب السويسريين من إلياس كانيتي مروراً بجاكوميتي ودورينمات وماكس فريش وبول كلى وغيرهم… وصولاً الى مانو خليل، وقممٍ كماترهورن ويونغ فراو وبيلاتوس.
ثم عاد خالد الى الشام التي يحبها، الشام التي عرفها خالد كما عرف قبلها حلب وعفرين التي ولد فيها أو حولها. في حلب، في أواخر الثمانينيات، كنا مجموعةً من الأصدقاء، كتاب وشعراء وفنانين تشكيليين ومسرحيين وروائيين، نجلس في مقهى القصر، أو نسهر ليلاً في بيت صديقنا الشاعر لقمان ديركي، حيث كان أهله قد خصصوا له منزلاً كاملاً، فحوّل لقمان البيت الى مأوى لكل الأصدقاء المقطوعين من “أهلهم ومدنهم” في تلك المدينة الساحرة: خالد خليفة، محمد فؤاد، صالح دياب، عبداللطيف خطاب الذي سبقنا جميعاً في الرحيل، ثم عنايت عطار، رشيد صوفي، مروان علي، أحمد عمر، خطيب بدلة، محمد عفيف الحسيني، وآخرون كثر لم تعد تسعفني الذاكرة في استحضارهم.
كان خالد وقتها يكتب الشعر، وقد كثر الشعراء، ويبدو أنّ هذا لم يرق لصديقنا خالد فاتجه صوب الرواية، لينشر أولى رواياته “حارس الخديعة” والتي لم ترق لنا وقتها، وانتقدناه كثيراً حول أسلوبه الذي مزج بين الشعر والنثر، فضاعت خيوط الرواية منه ومن القارئ، وبالطبع كان معلمنا في ذلك الحين الشاعر والروائي السوري الكردي سليم بركات الذي كنا نقلده جميعاً.
ثم تفرقنا، من كان يؤدي الخدمة العسكرية عاد الى بلدته، ومن كان يدرس في جامعة حلب تخرج منها وغاب، ومن كان يعمل في السياسة تم اعتقاله أو فرّ الى مكانٍ آمن. وبعد سنوات اجتمعنا من جديد ولكن هذه المرة في دمشق، ودمشق لم تكن كحلب، فليس لدينا صديق كلقمان يفتح لنا باب بيته لنسكن ونأكل فيه، فبدأنا بالبحث عن غرف للإيجار في دمشق الشام، وأغلبنا سكن باب توما لأسبابٍ كثيرةٍ، فهو الحي الأكثر انفتاحاً، والأكثر تقبلاً لمزاج مجموعات من الفنانين والكتاب والشعراء، يعملون في النهار، وفي الليل يصرفون ما لديهم في باراتها، ويخرجون آخر الليل يصرخون ويغنون في أزقتها الضيقة.
وصارت جلساتنا ولقاءاتنا تتم في مقهى الروضة نهاراً، وليلاً في نادي الصحفيين او في بيت الشاعر الراحل بندر عبدالحميد، وهنا تعرفنا على أصدقاء جددٍ كنا نقرأ لهم، أو نراهم يمثلون على الشاشات، وعلى كتاب وشعراء وفنانين، صحيحٌ أننا لم نكن كلنا منسجمين فكرياً، إلا أنّ أغلبنا يحمل هم الإبداع وحب دمشق. تعرفنا على العشرات من الكتاب والشعراء العراقيين المنفيين في دمشق، وكذلك على أصدقاء شعراء وكتاب لبنانيين يأتون بين الحين والآخر الى الشام.
في هذه الأثناء اتجه خالد خليفة إلى كتابة سيناريوهات تلفزيونية، وتميزت مسلسلاته بنكهة حلبية صافية، فيها من عبق التاريخ وكذلك ” المسكوت عنه ” الكثير، ولعل هذا الاتجاه جعله يتجه تماماً الى الرواية، فكان لرواياته صدى طيب، لا سيما وانه استفاد كثيراً من تجربته المرئية، ومن هنا أيضاً تشعبت علاقات خالد بأوساط عديدة، ممثلين وممثلات، منتجين ومخرجين وشباب وشابات يبحثون عن إنجازٍ ما، وكان خالد ودوداً ومحباً للجميع.
لم يكن خالد ممن يتحزبون إلى هذا أو تلك، كان صديقاً للجميع، ودوماً يدهشني بنقائه، وعدم اغتيابه لأحد، حتى لو كان هذا “الأحد” يناصبه الحسد أو الحقد، ومن هنا كان أشبه بنسيمٍ ضاحكٍ في كل مكانٍ يصل إليه، يخلق أجواءً مرحةً وحميميةً، يرقصُ في البيت والبارات ويدلق النشوة على الساهرين. أذكر مرةً كنا في اسطنبول، وقد دعانا صديقٌ قديم من أصدقائنا الفارين من حملة الاعتقالات في منتصف الثمانينات، إلى مطعمٍ وبارٍ مليءٍ بالشباب اليساريين وهناك بدا أنّ لصديقنا صاحب الدعوة حظوةً لدى مدير المطعم إذ خصص لنا طاولة في مكانٍ مرتفعٍ، مخصصٍ للضيوف المميزين. وما أن جلسنا حتى التفت إلينا الجميع، إذ سمعونا نتكلم بلغةٍ غير لغتهم، فتحلقوا حولنا، وبدأ خالد يتفاهم معهم ليس بلغتهم ولا بإنكليزيته الركيكة. يومها التقطنا أنا وخالد من المحيطين بنا كلمة: كارداش، أي الأخ، وصارت الكلمة مفتاح لقاءاتنا وأحاديثنا، “كيفك كارداش”، “أين أنت كارداش؟” ومنذ سهرة اسطنبول تلك وحتى اليوم، لم نعد ننادي بعضنا بأسمائنا، وبالعودة الى تلك السهرة اكتشفنا أنّ لصديقنا الفار العديد من الأسماء. فكان فرج بيرقدار، الذي كان معنا في السهرة، يناديه باسم بيشمركه، حيث كانا معاً في حزب العمل الشيوعي المحظور. أما لقمان ديركي فكان يناديه بـ”سمير”، وأنا كنت أناديه باسم “فرات”، في حين رحب به صاحب المطعم، ورحبت به المغنية التركية باسم ” باقي”. ضحكنا جميعاً ولم نعد نعرف بأي اسم نخاطب صديقنا، وحده خالد قال ليلتها:” الأفضل أن نرقص ونحن في ضيافة العثمانيين، ورفع كأس العرق، وضعه على جبينه وراح يرقص متمايلاً واندهشنا من عدم فقدانه للتوازن، كان يرفع الكأس يشرب منه، ويعيده لفوق جبينه و يرقص الرقصة الحلبية المسماة ” قبا ” أو (السبعة ابه)، و تتألف من سبع دقات كما يقول الحلبيون، وأربع حركات بطيئة، أو حسب المزاج، كانت هذه الإضافة من شرح خالد. أثناء تلك الرقصة نهضنا جميعاً لنشاركه، والتم علينا رواد المطعم جميعاً، والتفوا حول خالد يصفقون له، حتى أن المطربة أثناء الاستراحة جاءت لتجلس بجانبه، أو في حضنه، وقد حسدناه جميعاً. لم نكن ندري أن خالداً ومن يومها كان يحاول أن يشبع من هذه الحياة “القصيرة جداً”، ولهذا أيضاً، كان هاجس الموت يلازمه، ووجده “عملاً شاقاٌ”، فتناساه، حتى جاء إليه على غفلة منه ومنا جميعاً، لنهتف لبعضنا- نحن أصدقاءه ونستفسر هل مات خالد حقاً؟ كيف ولماذا ومتى؟ وكلنا حاول أو حلم بأن يكذب الخبر أحدٌ ما في تلك الليلة، لكن هيهات.
والآن مات خالد خليفة، وبكى عليه كل من عرفه او قرأ رواياته، وهنا أود الإشارة الى أنّ السوريين وبعد دزينة من سنوات القهر والبؤس والتنكيل، وخيبتهم تجاه العالم، كل العالم، كانوا بحاجة الى شخص مثل خالد خليفة، يُحول ليل دمشق الى متنفسٍ للحلم، وبارقة أمل بأن القادم سيكون أفضل، وأن دمشق لم يغب عنها كل عشاقها، وأن سوريا ورغم كل الدمار والكره والحقد والحرب والرعب، والزنازين سيظل فيها شخص أو أكثر يقول للصامتين: ” لن نترك البلد جميعاً.” كما لو أن السوريين كانوا بانتظار من يترجم لهم قصيدة رياض صالح الحسين:
” يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأةٍ في كانون
يا سورية التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سورية القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك و زيتونك و سياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنيةٍ في صحراء.
كان خالد صدىً لهذه القصيدة، في كل روايةٍ، وكل حوارٍ، و كل سهرةٍ، وفي كل بارٍ، كان يلتم حوله الشباب والصبايا، ليرقص خالد، رافعاً كأسه، مترجماً مفردات هذه القصيدة الى رقصة “القبا” الحلبية، مؤكداً أنّ السوريين ورغم قلة الحيلة، ورغم الصمت القاتل، ورغم الرعب، يهمسون لبعضهم : لن نتركك تضيعين يا سوريا.
إن الخيبة التي عاشها ويعيشها السوريون منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، مدت رأسها في موت خالد ورحيله، شعروا أنهم تيتموا من جديد، فبكوا على حالهم. صحيحٌ أن الأصدقاء وغيرهم ساروا في جنازته والدموع تنهمر من عيونهم المرعوبة عليه، ولكن الحقيقة أنهم كانوا يبكون على أنفسهم وعلى سوريا التي تضيع كلما رحل عنها شخص مثل خالد. رحل قبله أحبةُ لنا وبكينا عليهم وعلى أنفسنا، لقد رحل بندر عبدالحميد، ورحل عادل محمود، وحاتم علي، وعمر أميرلاي وآخرون كثر، لكن رحيل خالد وضع السوريين أمام مرآة وجعهم الشاسع، وحيرتهم الطاغية. فقد كان وجوده في دمشق ما يشبه حارساً لها من خديعة عالمٍ أجرم بحق السوريين جميعاً، وكان الكل يريده في دمشق ليشهد لها وعنها ومنها، ليقول لهم ما لا يجرؤون عليه، لهذا بكوا على أنفسهم فيه، لأنهم أيقنوا أن الجميلين والأنقياء تتفجر طحالهم من القهر كالغزلان، و تتيبس شرايين قلوبهم قبل الأوان. وإذ بكينا على خالد فإنما نبكي على أنفسنا، وعلى قتلانا الكثر طيلة هذه السنوات الدامية.
بواسطة نادر عقل | أكتوبر 6, 2023 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
ها هو البردُ يقترب في سوريا، ويشعر الناس مع اقترابه برعب كيانيّ، إذ سينتقلون من أعلى ذروات الحرارة في الصيف إلى أخفضها في الشتاء دون المرور بخريف حقيقيّ بسبب ما يجري من تغيُّرات مُناخيّة، وإذا لم يحضِّروا أنفسهم لمواجهة عواصف الثلج والزمهرير والصقيع، فستكون النتائج كارثيّة، وليس في وسع سكان المدن فعل شيء سوى انتظار حصصهم الشحيحة من مادة المازوت التي لن تكفي أكثر من أيام معدودات، فمن كان منهم مالكاً للمال يمكن أن يشتري المزيد من هذه المادة من السوق السوداء بأسعار مرتفعة جداً؛ أما من لا يملك المال فيجب عليه أن يتدرّب مع عائلته على ارتداء الملابس السميكة ولفِّ الجسم بالأغطية إلى أن ينقضي الشتاء، مُعَرِّضاً نفسه وأطفاله لأمراض من أنواعٍ مختلفة يزيدها هولاً ضعف المناعة بسبب سوء التغذية، علاوة على ما قد تتعرّض له العائلات من اضطرابات نفسيّة، تحديداً النساء والأطفال، بفعل الضائقة الشديدة التي تمر بها البلاد.
لكن نجد اختلافاً في الموقف من هذه المعاناة بين سكان المدن وسكان الأرياف في سوريا، إذ إنَّ بعض سكان الأرياف أشدّ مراساً في مواجهة صعوبات الحياة في الشتاء من سكان المدن، ويبدو أنَّ بينهم رجالاً احتفظوا بجينات وراثيّة يمكن أن تحوّلهم إلى شخصيات مختلفة في أوقات المحن ليستعيدوا قدرة أسلافهم على مواجهة قسوة الحياة، إذ يخرج الكثير منهم في هذه الأيام إلى الغابات من أجل جمع الحطب، أو قطع الأشجار للحصول على مورد للتدفئة في هذه الظروف العصيبة، وتأمين مخزون يكفيهم الشتاء كلّه، وكأنهم يتحدون الطبيعة من أجل البقاء كما فعل أسلافهم من مئات السنين.
ويمكن تحليل هذا الوضع من أوجه مختلفة: إذ إنَّ قطع أشجار الغابات من دون أيّ شك يتسبب في الاحتباس الحراريّ وهو ظاهرة مُناخيّة خطيرة تؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وإطلاق غازي ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرهما بكميات أكثر من المعتاد على نحو يفضي إلى نضوب المياه، كما يؤدي قطع الأشجار وإزالة الحِراج إلى نفوق الحيوانات البريّة، واتّساع رقعة التصحّر، علاوة على اتّجاه السكان على نحو حتميّ إلى الهجرة في المستقبل من مناطقهم بسبب تغيرات سلبية قاسية في العوامل المُناخيّة. ولا بدّ في هذا السياق من التمييز بين الأشخاص الذين يقومون بهذه الأفعال تبعاً لغاياتهم. ذلك أنَّ هناك أشخاصاً امتهنوا مهنة قطع الأشجار وإزالة الحِراج، لاستخدام أخشابها في البناء، او لبيعها كوقود (=فحم أو أخشاب مُقَطَّعة)، كما يمكن أن تتم إزالة الغابات أو البساتين من أجل الحصول على أراض صالحة للبناء من أجل السكن أو إنشاء المصانع أو المشاريع المختلفة، وهذا يجب مواجهته بكلّ الطرق المتاحة من أجل منع البلاد من الاتّجاه نحو الخراب الحقيقيّ.
بيد أنّه ماذا يمكن نفعل أو نقول لقرويين فقراء يعيشون في أصعب الظروف وأقساها في تاريخ البشريّة، إذا قاموا بقطع الأشجار لتدفئة أطفالهم وشيوخهم ومرضاهم، فهل يمكن لنا أن نقنعهم بنظرياتنا عن الإيكولولوجيا والهيدرولوجيا وعلم الحفظ الحيويّ؟
لا شك في أنَّ نظرات هؤلاء إلينا ستتحوّل إلى نظرات ازدراء، لأنهم سيتأكدون حينها من أننا سطحيون جدّاً لنقبل فناء الإنسان وبقاء الطبيعة، فما قيمة الطبيعة الخلّابة إذا كانت قبراً كونيّاً لأسمى الكائنات فيها؟
لقد كان شعار الرواقيين كما كرّسه زعيم مذهبهم زينون الفينيقيّ-السوريّ هو “العيش في وفاق مع الطبيعة”، وهذا يعني أن يقبل الإنسان عن طيب خاطر كلّ ضربات القدَر بالمعنى الواسع؛ لكن شريطة أن يؤدي واجبه كاملاً في مواجهتها حتى لا تفتك به وتزيله من الوجود. وهذا ما يفعله أبناء سوريا في الوقت الراهن، فهم يواجهون القدر بمختلف معانيه، ويجب أن نعرف أنَّ القدَر بالمعنى الرواقيّ مختلف عن القدَر بالمعنى اللاهوتيّ أو الدينيّ. إنّه يعني كلّ ما يصيب الإنسان من مصائب مهما كانت أسبابها، لكن شريطة تقبُّلها ومواجهتها في آن واحد!
وإذا مزجنا تجربة السوريين الحاليين بتجربة أسلافهم الفينيقيين الذين كان زينون نفسه واحداً منهم، لاكتشفنا أنَّ أشجار غابات فينيقيا لم تُقطع قديماً إلا لصناعة سفن مخرت عباب البحار لإنشاء مستوطنات على مختلف سواحل البحر الأبيض المتوسط، ولنقل أدوات التطور الحضاري وفي مقدمتها الأبجدية الألفبائيّة الصوتيّة إلى اليونان وروما ومنهما إلى سائر أنحاء أوروبا وأجزاء كثيرة من العالم.
لقد كانت جبال الساحل السوري التي كانت تشمل تاريخيّاً جبال لبنان مغطاة بأعظم الغابات الغنية بالحياة البرية بمختلف أشكالها؛ لكنها الآن مع مجيء عصر العولمة تتحوّل إلى جبال جرداء مقفرة، أو إلى صُقعٍ بَلْقَعٍ على حدّ تعبير العرب القدماء حينما يصفون أرضاً خاوية من كلّ شيء.
غير أنّه يجب فهم معاناة القرويين في هذه الجبال والتعمُّق في معاناتهم إلى أبعد حدّ ممكن، فقد تعاقبت أجيال عديدة منهم طوال قرون من أجل جعل هذه الجبال صالحةً للحياة الإنسانيّة، ولا يمكن إلا أن يشعر كلّ واحد منهم بألم كبير حينما لا يجد أمامه أي إمكانيّة للمحافظة على حياته وحياة عائلته إلا باللجوء لقطع أشجار لها رمزيّة كبيرة في عقولهم ونفوسهم، وكـأنّي بواحدهم حينما يضطر لقطع إحدى الأشجار يشعر بأنّه يجتثُّ ذاته من جذورها؛ ولكنه لا يفعل ذلك إلا مرغماً، وقد وصل الأمر بأشخاصٍ إلى حدّ قطع أشجار جوز أو مشمش أو زيتون محيطة بمنازلهم ويستفيدون من ثمارها، لأنهم يخشون من هول البرد القادم إليهم، على نحو لا تمكن مقاومته، فيُقدمون على قطع هذه الأشجار بعد إحجام، لكنهم يفعلون ذلك لاعتقادهم أنَّ بقاء أطفالهم أكثر أولويّة من بقاء الأشجار، ولا بدّ أن يأتي يوم في رأي هؤلاء يمكن فيه غرس الأشجار من جديد، أعني غرسها في تربة صالحة، غير هذه التربة الحالية التي أصبحت مَوْحِلاً للفساد الداخليّ والتآمر الخارجيّ بمختلف أشكالهما.
وينطبق هذا الأمر على مختلف مناطق الغابات في سوريا، سهولاً وهضاباً وجبالاً وسواحل، وأعتقد أنَّ التنوّع الأنثروبولوجي الرائع في الشعب السوري تبعاً لتوزّع السكان في التضاريس المختلفة يحمل غنى إنسانيّاً لا مثيل له في التاريخ، فحتى التنوّع السكانيّ في الولايات المتحدة الأمريكيّة هو في العمق تنوّع مصطنع قائم على اجتماع أو جمع شعوب من مختلف أصقاع الأرض لتكوين أُمّة عالميّة؛ أما في سوريا فالأمر مختلف، فنجد طبيعة مخصوصة حتى على مستوى الشكل والهيئة والملامح واللهجة على نحوٍ يدلّ على غنى إنسانيّ عظيم؛ لكن أين من المشتاق عنقاء مُغْرب؟
لقد دنَّست هذا التنوّع السوري العظيم العرقيّة والطائفيّة والحزبيّة، لكن رغم كلّ شيء يبقى كلّ سوريّ مشدوداً نحو ما أسماه الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر ببراعة كبيرة “نداء الأصول”. نعم إنَّ صوت النداء يتردّد في سمع كل سوريّ من أجل إعادة خلق سوريا من جديد. ولقد أبدعَ أنطون سعادة حين تحدّث عن أصل القوميّة، فأكّد أنَّ ما يحدّد الانتماء القومي هو “البريَّة”، ويقصد أنَّ البريّة أو أرض الغابات التي شاهدها المرء لأول مرّة في حياته هي التي توحّده مع أشخاص شاهدوا المنظر نفسه، ولا يجب أن يوحّده مع الآخرين، قوميّاً، أي عامل آخر، سواء أكان عرقيّاً، أم دينياً، أم لغويّاً.
ها هي الآن تُقطع أشجار هذه البريّة السوريّة بعد أن اقتُطعت أجمل أراضيها سابقاً من المحتلين والمستعمرين، بسبب زوبعة مدمِّرة هائلة سحقت بعواصفها الرعديّة ورياحها الثلجيّة وأمطارها الغامرة كلّ شيء؛ لكن أفلاطون قال مرَّةً وبحقّ: “إنَّ كلَّ ما هو عظيم يكمن في الزوبعة”. وأراد من ذلك أنّه لن يبقى بعد الزوبعة إلا الأصيل والجوهري وسيتلاشى كلّ ما هو عرضي وعابر، لذلك مهما حدث ستبقى ماهيّة الشعب السوريّ خالدة، ولم يكن الفينيقيون السوريون القدماء إلا معلّمين لأفلاطون نفسه حينما تحدّثوا عن طائر الفينيق الذي سينبعث من رماده، ولن يتجدد طائر الفينيق وحدَه، بل ستتجدّد معه هذه الغابات ليحلّق فوقها مُطلقاً صيحة الرجوع.
بواسطة ختام غبش | أكتوبر 4, 2023 | Culture, News, العربية, بالعربية, مقالات
على مدار السنوات الماضية، فقدنا الكثير من الأحباب، الأصدقاء والغرباء أيضاً. حتى اللحظة لم أشعر بغياب أيّ منهم، فهم يأتونني في مناماتي المشربكة جداً، ينسجون وإياي سيناريوهات متقنة لأحداثٍ يلعبون دور البطولة فيها. أستيقظ من النوم ورائحة كل منهم تخز أنفي وتبقى عالقة في مسامات جسدي. في أحد مناماتي، أرسلت إلى صديقي المقرب جداً أخبره بأنني رأيته اليوم ينقذني من رصاصة كانت عالقة في رقبتي، فأخبرته: “تخيل بأنني لم أمت، كنت ُ في إحدى المظاهرات فهاجمنا الرصاص من كل حدب وصوب لتستقر طلقة في رقبتي”. الغريب في الموضوع أنني لم أرَ دمي في المنام، هذا فأل سيء، “الدم يفسد المنام” هكذا كانت والدتي تطمئنني عندما أستيقظ هلعة. إلا أنني في منامي هذا كدت أختنق حتى الموت، وعندما استيقظت شعرت بانحلال في الاعصاب، وخدر في اللسان.. اكتمل يومي وأنا لا أشعر بجسدي، وحتى هذه اللحظة أحس بخدر الموت والطلقة المستقرة في رقبتي ما زالت تخنقني. بحتُ لصديقي بأنه كان المطمئن هذه المرة في المنام وليست أمي! منذ تلك اللحظة التي سمعت فيها رشقات الرصاص تصمُّ أذني وأنا خائفة من خبر يفزعني، فصوت الرصاص في المنام يترجمه الواقع بخبر وفاة، وهذا أيضاً ما باحت به والدتي وهي تضع يدها على فمها لإسكاتي: “يا قلبي لا تخبري أحداً عن أحلامكِ السيئة، فعند رويها على مسامع الآخرين فأنتِ تثبتينها في عالم الحقيقة”.
هكذا إذا يا خالد، أنت من كنت المخصوص بالحلم، وتلبستك ترجمته!
نادمة على سردي لذلك الحلم اللعين، والذي حتى اللحظة لم أستفق منه..
في نفس اليوم الذي رحلت فيه يا خالد كنا نراسل بعضنا البعض في تمام الساعة 1.11، أخبرتني كم أنك مشتاق لنا وأصبحت بالشام، وبعد فترة سوف تذهب إلى دبي لتحصل على الإقامة “التنكية” حسب اصطلاحك، عندها يمكنك القدوم إلى بيروت والبقاء مطولا دون شروط الأمن العام القذرة وتحديدهم لزمن وجودك معنا. تخيل أننا في بلاد لا تعرف قيمة الإنسان ولا تحفظ كرامة الكتاب والعمال والباحثين والهاربين من الموت، في كل يوم يخرجون إلينا بقرار يجعلنا نعود إلى ذاكرة الأفرع الأمنية التي لم نخرج منها أصلاً. أستعيد ذكرى أحد الايام التي أعادوك فيها من مطار رفيق الحريري لأسباب تافهة جداً، عدت مخذولاً ولم تساومهم أو تحاول معهم لأنك على علم بأنهم سيعقدون الأمر أكثر.
تعارفنا لم يكن منذ زمن بعيد، تعرفت عليك في محاضرة مهمة بعنوان “التحولات المعمارية لمدينة دمشق” في حركة البناء الوطني، على الرغم من أننا في وقت سابق لهذه المحاضرة كنا نلتقي كثيرا لحضور العرض السينمائي في المكان نفسه، إلا أنني كنت أخاف أجواء الفن والمثقفين، جئت إلينا، كنت أنا وأحد أصدقائنا، سلمت بيديك المدببتين وكانت تلتصق برقبتك كتلة دهنية، شرعت بفتح حديث سريع ونظرت إلي وسألتني: “أشعر بأنك لا تحبينني”، حينها كدت أموت خجلاً، فأجبتك: “لا الموضوع ليس على هذه الشاكلة ولكنني لا أرتاح لأجوائكم”، وسألته عن الكتلة التي على رقبته فغير الموضوع وفتح آخر..
منذ تلك اللحظة نشأت بيننا صداقة عميقة اختصرت سنيناً طويلة، وبدأت مرحلة جديدة في حياتي التي كانت حينها متجمدة بعد استقالتي من المديرية العامة للآثار والمتاحف. طوال تلك السنين تحمّلت جرمانا التي ضمت أغلى الأرواح على قلبي، ونادي السينما أعباء الوحدة والمنفى داخل البلاد التي نحب
أكثر ما يميز خالد هو ذكاؤه بفتح الأحاديث والمواضيع التي تعني من يجلس معه، ففي بداية صداقتنا جلس يحدثني عن عفرين، وقتها سألني: هل أنتِ من هناك قرأت لك مقال عن آثارها، أجبته بـ”لا، ولكنني من عشاق تلك الجغرافيا”. جرى نقاشٌ مطوّل عن مشاريع مؤجلة توثق تاريخ ذلك المكان وتصف بقاعه وروعة أهله. أتى من أحدثه عن الفطور من تحت سواعد العم أبو إسماعيل وهو يجلب لنا الزيتون المعشق بالزعتر البري والزيت العفريني، وأنا أرتشف مشروبي أخبرته: “من لم يتذوق الزيت والزيتون العفريني خسران كتير”.
برقت عيناه وأخبرني عن فيلم وثائقي كان قد أعده للتلفزيون السوري يتحدث عن تأريخ جغرافي لتلك المنطقة ومقابلات مع سكانها ليتحدثوا هم بأنفسهم عن ضيعهم وجمال الطبيعة المعكوس في طيبة أرواح أهلها.
يميز خالد الكثير من الأشياء، إلا أن أهم خصاله تبسيط الحدث أو القصة ورويها بأسلوبٍ مشوّق وبأرق الكلمات وأبسطها، يجذب من حوله بسوالف لا تنتهي، كنت أعود من جلساتنا المسائية في “القصبجي” مفعمة بالطاقة، المكان الذي يحب والذي تفاجأ جداً بأنني لم أسمع به مسبقاً، أنبني وقال: “أنتِ آثارية ما بصير ما تعرفي مقاهي البلد الأصيلة”. صحيح جداً تأنيبه هذا، فدائما ما تشدقت بأن المقاهي هي ذاكرة البلاد ووثيقتها الأساسية، إلا أنني اكتشفت حينها بأنني أجهل الكثير عن المباني المعمارية الرمزية التي تعد الركن الأهم في الذاكرة الشعبية.. التأنيب الآخر الذي حظيت به من خالد، عندما شاركت بأمسية “حكايا الصور” -الفعالية الأهم على الإطلاق عندما انتهيت من حكايتي، جاء دور خالد في الحديث: “هذه ليست بالقواعد الصحيحة للحكاية أو القصة عليكِ أن تتجردي من التورط بتعريف المحيط بتاريخ البلاد وأهميتها، شطحتي جدا في وصف الآثار والتاريخ، فورطي من حولك ببذل مجهود كبير في التركيز في عتبات الحكاية”.
هذا أيضاً أكثر ما يميز خالد وجوده في كل الأوساط، يشعر بأنه ملزم ومسؤول أمام هذه الفعاليات التي يغيب عنها عادة الروائيون والمثقفون، بينما هو كان يقحم نفسه فيها فنجده دوما بقربنا يقدم النصح والنقد اللاذع دون سماحه لأواصر الصداقة بأن تسرق جزءا من ملاحظاته.
في كل يوم أحد، نأتي إلى النادي السينمائي المكان الذي استقطب إليه جيلاً جديداً، استيقظ على عتبات الحرب وفقدان معاني الحياة الطبيعية، القذائف تشتعل خارجاً ونحن في قبوٍ يعرض موسيقا أفلام الحروب، ولكن بنبرة مخففة لما يجري خارجاً. استطاع النادي السينما أن يركز على عرض الأفلام التي تعرض ويلات الحرب، ولكن بأسلوب خال من الدماء والوحشية، التركيز على ملامح البشر، المعاناة الحقيقة للخارجين منها، كان الجو يلتهب تارة ويشتعل طوراً بمشاهد وحشية وإنسانية تفرزها المجزرة وغريزة البقاء المشبعة بما نعيشه.
رافقنا خالد طوال يوميات السينما، ورافقناه نحن في المشوار المسائي بعد نشاط السينما، حيث تبدأ رحلة الهزل والضحكات العالية التي تنزع صمت المدينة من كبوته، يخلع في مكاننا-في شارع بغداد سابقاً، والقصاع لاحقاً جديته ليرتدي ثوبا مزركشاً بالرقص وإلقاء الخطب على الجمهور.
عندما قرأت رواية “لم يصلِ عليهم أحد” أرسلت له ملف word يحوي رأيي بالرواية، احتوى الملف الكثير من الأشياء التي احببتها والقليل القليل من التفاصيل التي لم أستسغها، فأخبرني حينها “ختومة بدك حطها على صفحتي أو تنشريها بشي مكان”، أخبرته بأنني أفضل أن يبقى الأمر بيننا، فأنا لا أعرف التحدث على العام بشأن من أحب.
عند انتقالي إلى بيروت لم ينقطع تواصلنا مطلقاً، يفتح أسبوعيا تقريباً فيديو للسهرات ويخبرني بأنهم يفتقدونني ويدير الموبايل على المجموعة التي أحب.. لا أقوى على كل هذا الحب..
محظوظون بأن خالد كان قبل كل رحلة إلى الخارج يأتي إلينا، ويبقى ليلة أو ليلتين، كنا نشعر بالامتنان كوننا محطته التي تجعلنا نراه ولو قليلاً، يأتي محمّلاً بأخبار من نحب ورائحتهم التي تزكي بيتنا، فنبقى أياماً وليالي نستحضر أحاديثه ونضحك من قلبنا، فخالد لا يعرف سرد المأساة بحذافيرها، بل يضفي عليها خلطته الساخرة وضحكاته التي تخفي شرح عينيه المشعتين حتى وهما مغلقتان. وكان لنا نفس الجمعات عندما يحين موعد عودته من الخارج يأتي وفي جعبته العديد من السرديات والحكايات المضحكة والمضحكة حتى التخمة. استمرت إحدى حكاياته تدور في الأرجاء وتنتشر زمناً كاملاً، والتي تروي تفاصيل مترجمته التي صدم عندما اكتشف بأنها السيدة الأولى، ليخبرها ماذا تفعل سيدتنا الأولى في بلدنا.
تاريخ كامل سيطوى بالنسبة لي برحيل خالد، فقط لأنه يعرف كيف يحب، لقد أتقن فعل الحب بشكله العميق والمباشر، احتفى بأصدقائه جل الاحتفاء، في إحدى زياراتنا مع أحباب قلبي إلى شاليه خالد، أخبرني بأنه يريد أن يجعل من غرفة الأصدقاء أجمل من غرفته.. “هم أغلى ما يوجد لدي”، لن أنسى مقدار الدلال الذي حظينا به ثلاثتنا في شاليه “الندم” حسب تسميته.
مرت سنوات الحرب وكان مرورها قاسياً جداً، أنعش الأصدقاء الأغلى من الروح يومياتها وصعوباتها التي كانت تأتينا بحلة مختلفة عن السابقة لنا، تعرقل أنفاسنا فنعجز عن مجابهتها فنهرب إلى باحة القلوب المتعبة إلا أنها الأجدر بالمواساة وامتصاص فعل الغصة والحرقة. خسرنا الكثير من الأحبة وكنا نتجاوز الفاجعة بسهراتنا وجمعاتنا الغالية. لم أنعِ رحيلهم يوماً باستثناء رحيل واحد منهم، شكّل رحيله نقطة انعطاف في حياتي. بتّ على يقين بأن من يرحل يأخذ جزءا من قلوبنا، لا يتركها وحيدة يسكن بقاعا داكنة، فيأتي إلينا في أحلامنا ليخبرنا بأنه معشش في منزله الملون بذكرياتنا معاً
حرقة كبيرة هذا الفقد.. إلا أنه فقدٌ غريبٌ من نوعه، فمنذ خبر الوفاة وأنا لا أتقن إلا فتح ملفات الصور والبحث عن يومياتنا وضحكاتنا، فأعيد فعل الضحك كما لو أنني أعيش المشهد ذاته، وهذا ما يتميز به خالد أيضاً يجبرنا على الضحك حتى في أقسى اللحظات.
لم أتوانَ يوماً عن الإفصاح عن مشاعري تجاه أصدقائي، فهم أغلى الموجودات في هذه الحياة البائسة، وجودهم أضفى جمالاً لا يحظى به أي إنسان، ولطالما أخبرت من حولي بأن الحياة جبرت بخاطري بأنها كللتني بأصدقاء هم ليسوا بالأصدقاء هم الحياة بكل تفاصيلها، والروح ترخص لهم. وهذا ما كنت أبوح به لخالد دوماً، أخبره كم أحبه وكم وجوده جميل في هذه الحياة، كان يخجل ويرد بابتسامة تلتصق بخدين محمرين، فأقول مستهجنة: “لااا آخر ما أتوقعه بأنك تملك حس الخجل، غريب هذا الفعل عنك”.
فيعود لطبيعته ويخبرني: “ختومة وأنا بحبك وأنتوا أكتر شي بحبه وبحتفي فيه”.
نهايةً لا أعلم إن كان لزاماً علي أن أذكر بأن هناك أمانة تثقل كاهلي “مخطوط روايتك” المقبل الذي كنا سنفرد اتصالاً طويلاً لأجله، لقد تركت لدي هذا الأثر الذي لازال ينبض وفي طور الخلق، ماذا سأفعل به الآن!
*الصورة من تصوير أحمد حسن.