الواقع الصحي للمناطق المنكوبة جراء الزلزال

الواقع الصحي للمناطق المنكوبة جراء الزلزال

لا يقتصر مقياس “ريختر” العددي الذي طوره تشارلز فرانسيس ريختر على قياس شدة الزلازل ومدى خطورتها على تدمير الأبنية السكنية وحصد الأرواح البشرية والتسبب بالإصابات الجسدية، بل أيضاً يشير إلى التهديدات الصحية التي تتفاوت باختلاف حجم الزلزال والتي غالباً ما ينكشف ظهورها خلال 72 ساعة منذ لحظة حصوله.

أشارت منظمة الصحة العالمية في تحذير سابق إلى أن عدد الذين تضرروا من الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا قد يبلغ 23 مليوناً، بينهم نحو 5 ملايين في وضع هش. في الوقت الذي عبرت منظمات إنسانية عن مخاوفها من انتشار وباء الكوليرا الذي ظهر مجدداً في سوريا، ناهيك عن امتداد الآثار الصحية فورية والطويلة الأمد الناجمة عن الزلزال. ما هو الوضع الصحي للمناطق المنكوبة جراء الزلزال الذي ضرب مدن حلب واللاذقية وجبلة وإدلب، كيف يتم احتواء الأزمة الصحية الطارئة ومواجهتها، لاسيما بعد اثنتي عشرة سنة من الحرب.

ترتفع أسهم الأمراض والأوبئة بعد الكوارث الطبيعية مباشرة، نتيجة الاكتظاظ والاختلاط الشديدين غير المشهودين في الظروف العادية، إذ تصدرت الأمراض الجلدية قائمة الأمراض الأكثر انتشاراً عقب وقوع الزلزال. الناشط الإغاثي ومدير الفريق الطبي السوري الدكتور قاسم عواد يشرح لـ”صالون سوريا” أوضاع الواقع الصحي ضمن الاستجابة الطبية الطارئة: “التحول من نقطة تجمع منزلي بعدد أفراد محدد و نمط حياة معين إلى نقطة تجمع جماعي مفاجئ غير مألوف، يعني أرض خصبة لانتشار الأمراض المختلفة بوتيرة عالية، خاصة مع غياب مراكز إيواء خاصة بإدارة الكوارث الطبيعية، لاسيما أن الزلزال الذي حصل هو حدث كارثي جديد على السوريين لم نختبره من قبل.” ويضيف الدكتور عواد: “استخدام المراحيض المشتركة وغياب النظافة الشخصية والاختلاط الشديد أدى إلى ظهور الحكة والالتهابات الجلدية واحمرار الجلد والقمل والجرب والفطريات والحصبة والأكزيما نتيجة قلة المياه ومستلزمات التعقيم والتنظيف”.

مخاوف من تربص الكوليرا في حلب

تشكل عودة وباء “الكوليرا” أحد أبرز المخاوف والتهديدات الصحية الخطيرة في مدينة حلب المنكوبة، في ظل غياب مصادر المياه الآمنة. ويشرح الدكتور عواد خطورة الوضع: “باعتبار أن مدينة حلب تعرضت مؤخراً لوباء كوليرا فهذا يعني ارتفاع فرصة عودة الوباء إليها، وذلك بسبب تعدد مصادر المياه غير صالحة للشرب وغياب الصرف الصحي الفردي، كما أن وجود حالة إصابة واحدة في مركز التجمع يزيد من نسبة العدوى الجماعية وذلك لاستخدام الجميع مراحيض موحدة وزجاجات مياه واحدة.” ويؤكد الدكتور عواد أن “الفرق الطبية الجوالة تتابع الحالات منذ اللحظات الأولى لوقوع الزلزال، آخذين على عاتقهم مهمة العلاج والمتابعة الطبية بما يساعد على تخفيف حدة حدوث أوبئة مهددة للحياة والحد من خطورتها”. 

لا ينكر الدكتور عواد تعرض الطاقم الطبي ضمن الاستجابة الطارئة لضغوطات هائلة، وذلك بسبب إصابة أعداد بشرية كبيرة في آن واحد، واصفاً الوضع بأنه: “صعب لكن تحت السيطرة لغاية الآن ريثما عودة المنكوبين إلى وحدات سكنية وممارسة حياتهم الطبيعية والعيش بظروف صحية”.

الأولوية الطبية وبطء وصول الأدوية 

ترتيب الأولويات الطبية كان في أعلى سلم الفرق الطبية ضمن الاستجابة الطارئة، مثل المصابين الذين يندرجون ضمن الحالات الساخنة التي تم نقلها إلى المستشفيات لتقديم العلاج الطبي الطارئ لهم، يليها فوراً مرضى السكري والضغط والقلب.

إلا أن الدكتور عواد يشير إلى وجود بطء في وصول الأدوية والمعدات ناجم عن الخضوع لبروتوكول معين لتقديم الخدمة الطبية يجب أخذه في الحسبان، لافتاً النظر إلى أن الأطفال وكبار السن هما الشريحتان الأكثر تضرراً وهشاشة جراء الكوارث نتيجة عدم قدرتهم على تحمل الظروف غير الصحية، إضافة إلى ذوي الخدمات الطبية الخاصة كأصحاب الإعاقة والأمراض المزمنة كالسرطان.

أخذت الأمراض الهضمية حيزاً كبيراً من ناحية التهديدات الصحية على منكوبي الزلزال، حيث يُشير عواد إلى وقوع حالات تسمم في أحد المطابخ المشتركة التي كانت تستوعب قرابة 6000 متضرر. ويشرح الوضع: “حدوث حالات تسمم أمر محتمل جداً، لكنه مسيطر عليه ولا يشكل خطر الموت ويحتاج إلى خطة علاج معروفة لا تدعو للخوف الشديد”.

الوضع الصحي والإنتانات تنفسية

طبيعة الإصابات هي التي تحدد طريقة الاستجابة الطارئة والتعامل الطبي، وفقاً للدكتور عواد. فالحروق والكسور ومتلازمة هرس الأطراف نتيجة سقوط المباني والبقاء تحت الأنقاض لفترات طويلة هي أبرز مظاهر المشاهدة الأولية لكارثة الزلزال، بينما في الحروب فتكون إصابات ناجمة عن طلق ناري وجروح جراء سقوط القذائف، وكثيراً ما تكون الكوادر الطبية متأهبة على خلاف الزلزال الذي يكون مفاجئاً.

وأشار طبيب مختص بالأمراض الصدرية فضل عدم الكشف عن اسمه إلى أن: “تأثر شريحة من المتضررين بأمراض تنفسية وحالات عديدة بالرشح والزكام وكورونا نتيجة هطول الأمطار الغزيرة والبرد القارس الذي لازم وقت حصول الزلزال، إضافة إلى عدم توفر مستلزمات التدفئة ساهم على نحو كبير بتردي الوضع الصحي للمنكوبين المتواجدين في مراكز الإيواء.” ويضيف طبيب الأمراض الصدرية أن “الأمراض التنفسية تنتشر، خصوصاً في ظل الاكتظاظ في الخيام ومراكز الإيواء، كذلك الدمار الهائل جراء سقوط الأبنية والمنازل وما تسببه من غبار كثيف، فالهواء الملوث يسبب الفطور والحساسية والأمراض التنفسية، لاسيما لمرضى الربو الذين يتفاقم سوء وضعهم الصحي”.

اضطراب ما بعد الصدمة

يترتب على الكوارث الطبيعية آثار نفسية متباينة لا يمكن تجاهلها كفرط التيقظ والعدائية والجمود والعصبية وسهولة الاستفزاز وفقدان الشعور بالطمأنينة والعجز عن العودة لممارسة الحياة الطبيعية، إلى جانب نوبات الهلع واضطرابات النوم التي ترافق المريض لأيام وأسابيع. ويصف الطبيب النفسي جميل ركاب أعراض اضطراب ما بعد الصدمة “بأنها ردود أفعال طبيعية لحدث غير طبيعي” وهو ما يقدم ضمن الإسعاف النفسي الأولي بعد حصول الزلزال، كما يشير إلى اضطراب الشدة ما بعد الصدمة Post-traumatic stress disorder المعروف بـ PTSD والذي يحدث عقب شهر من وقوع كارثة إنسانية وهو اضطراب القلق المرهق الذي يحدث بعد التعرض لحدث صادم أو مشاهدته، حيث يعاني الأشخاص الذين لديهم اضطراب ما بعد الصدمة من إحساس قوي بالخطر، ما يجعلهم يشعرون بالتوتر أو الخوف، حتى في الحالات الآمنة.

نهر عيشة.. حياة مزدحمة بالفقر والصّبر!

نهر عيشة.. حياة مزدحمة بالفقر والصّبر!

كلّما تذكّرت المكان الأول الذي كبرتُ فيه، أذهب إلى محرّكات البحث على الإنترنت لأطمئنَّ على النّاس هناك، كأنّهم جميعاً عائلتي، ولستُ أدري لماذا؟ علماً أنّ معظمَ عائلتي قد غادروا من هناك، أبحثُ عن أخبارهم، أتصلُ بمن بقي من أقاربي وأصدقائي دون جدوى تعالج تلك النوستالجيا الطارئة. 

بينما أحرّر هذا الموضوع، أمطرتُ قلبي بصورِ الطفولة والوعي الأول للمكان والبيئة المحيطة بي، حيث ولدتُ هناك جنوب دمشق في الحيّ المعروف باسم “نهر عيشة” أو كما حدّثت الحكومة اسمه ليصبح “حيّ السّيدة عائشة”. ربّما يحاولون جعله أقلّ عشوائيّةً!

هذا الحيّ هو حزام من البيوت والشوارع المتقاربة للغاية، زحام يفوق الـ 80 ألف شخصٍ، يعيشون في منطقة تشبه شكل المثلث، تقع قرب حيّ الميدان الشّهير، جنوب دمشق، وتمتد بين منطقتيّ كفرسوسة والقدم. 

يحاول النّاس هناك بشتّى الوسائل مثل آلاف السّوريين البقاء على قيد الحياة، ومع الزوّار الجدد (يمكن أن تقرأ النّازحين) من المناطق القريبة، أصبحت أجرة البيت المؤلف من غرفة وصالون؛ تتراوح بين 300 ألف إلى 500 ألف ل.س، والزيادة حسب المساحة، هذا ما أشار له “ناصر” (33 عاماً) المقيم في نهرعيشة اليوم، وهو يعمل كمحرر في صفحة خدميّة عامة تعنى بأخبار الحيّ على الإنترنت.

إرشاد وتبرع

يعمل ناصر على وصل المنطقة بالعالم الخارجيّ، فهو يشبّك إلى جانب فريق، بشكلٍ تطوعيّ، ما بين الأُسر المحتاجة وأصحاب التّبرعات خارج سورية أو أهاليهم من أبناء المنطقة بشكل أساسيّ، يقول: “أعمل نجاراً منذ سنوات، لكنّ دراستي كانت في معهد تقنيات المعلوماتيّة، لم أجد فرصةً مناسبةً لتحصيلي العلميّ، وكذلك لم أستطع السّفر لأنّي وحيدٌ لأميّ. كان والدي قد توفي في الأحداث منذ سنوات، أحاول أن أجمع التّبرعات العينيّة أو الماليّة لمساعدة المحتاجين في الحيّ وأن أصل الناس ببعضها البعض عن طريق عدد من المجموعات في فيسبوك وخصوصاً من منطقة “نهرعيشة”؛ والهدف هو تقديم خدمة مجانيّة للناس من أجل التواصل.”

اكتسب ناصر سمعةً جيدةً وثقةً، وهو يعمل في الخفاء تقريباً، خوفاً على حياته من اللصوص أو الملاحقة الأمنية، يقول: “معظم حاجات الناس اليوم تنحصر في إمكانية إيجاد الحطب والمازوت والبحث عن البيوت والمفقودات وبطاريات الشحن المنزلية لأن تقنين الكهرباء طويل ويصل إلى حوالي 12 ساعة في اليوم وإذا كانت الظروف الجويّة سيئة، فإن الكهرباء تنقطع ليومٍ كاملٍ!” 

أكثر من وظيفة

يخبرنا ناصر كيف تحوّل حيّ “نهرعيشة” إلى محجّ للنازحين من الأحياء القريبة، وكيف تنوعت اللّهجات والانتماءات بغزارة، ويضيف: “معظم سكان المنطقة يعملون في وظيفتين أو أكثر لسدّ رمق حاجة أسرهم، فالموظف في جهة حكومية أو قطاع خاص قد يعمل أيضاً على بسطة لبيع الثياب أو الفاكهة أو في معمل خاص، أو يعمل ناطوراً لمشاريع معماريّة في المناطق المدمّرة القريبة”.

ومن بين الموظفين في قطاع الدولة، “أنس.ج” (اسم مستعار) 38 عاماً، والذي يعمل موظفاً حكومياً من الدرجة الثانية في أحد المؤسسات الرسمية بدمشق، يقول: “أعيش في حيّ نهرعيشة منذ وُلدت، لدي ثلاثة أطفال، زوجتي ربّة منزل، لا تعمل رغم أنّها جامعيّة، والسبب هو سوء الظروف وقلّة الأمان في مؤسسات القطاع الخاص، وهي الآن مهتمة بتربية الأولاد”.

يشير أنس إلى أنّ راتب الوظيفة لا يكفي أسرته لبضعة أيام، فهو يعمل أيضاً كحارس بعد فترة العصر في أحد المركز التجاريّة بريف دمشق، وهذا يعني أنه يعمل حوالي 16 ساعة، كي يستطيع أن يعيل أسرته، يقول: “راتبي من الحكومة ينتهي في اليوم الثالث بعد بداية الشهر ومقداره 130 ألف ل.س، وفي القطاع الخاص حيث الوظيفة الثانية أتقاضى 309 آلاف ل.س، مقابل 9 ساعات دوام يوميّة طيلة الأسبوع”.

ويشير أنس أثناء حديثنا معه إلى أنّ أحد أبرز المشكلات التي يعاني منها أبناء الحي، هي غلاء الأدوية وعدم ثبات الأسعار عموماً، وضرب مثلاً على ذلك سعر دواء “الأوجمنتين” الذي يصل إلى 20 ألف ليرة سورية، حسب قوله. 

ومن صور المعاناة اليوميّة للسكان في المنطقة: عدم توفر الوقود والغاز والكهرباء، إضافة إلى صعوبة المواصلات المتعلقة بارتفاع أسعار البنزين بشكل مستمر. 

يقول أنس: “لقد اخترعت الحكومة لنا شيئاً يُسمّى (بطاقة عائلية)، والتي نستلم من خلالها عبوة الغاز مرة كلّ 90 يوماً وقد يطول الأمر إلى 100 يوم. عبر رسالة في تطبيق يدعى “Way-in” وندفع ثمنها 10 آلاف ل.س، لكنّها تكفينا لمدة 15 يوماً تقريباً، ثم تنتهي! بينما إذا كنتُ أريد شراءها بشكل حرّ فإنها تكلفني 170 ألف ل.س”.

بيع حرّ

وتنتشر ظاهرة البيع العشوائيّ في المنطقة، دون ملاحقةٍ من الحكومة، وعادة ما يكون خلف هؤلاء الباعة بعض العناصر القديمة من ميليشيات “الدفاع الوطنيّ” حسب ما أشار ناصر خلال حديثه. 

فيما يؤكد أنس أن هناك ما يُسمّى “البيع الحرّ” والذي يتوفر فيه الغاز وكلّ أنواع الوقود السائل، إذ ينتشر السماسرة على طرفي أوتوستراد درعا الذي يقع على أطراف الحيّ: “هناك أكثر من عشرة أشخاص يبيعون بشكل حرّ، عدد منهم يحمل بيدونات بنزين، وتباع كلّ 10 ليترات بـ 85 ألف ل.س، أمّا إذا كان لديك سيارة يمكنك أن تشتري البنزين من كازيات الدولة، مرتين في الشهر، وحسب البطاقة الذكيّة كلّ 20 ليتر ثمنها 75 ألف ل.س”. 

وأجمعَ عدد من السكان المحليين في “نهرعيشة” ممّن تواصلنا معهم على أن وضع المازوت ليس بأحسن حال من غيره، حيث يحق لكلّ عائلة حسب “البطاقة الذكيّة” أن تحصل طيلة الشتاء ولمرة واحدة على 50 ليتر من المازوت وثمنها 100 ألف ل.س، أمّا عن طريق “الحرّ” فإن ليتر مازوت واحد ثمنه 12 ألف ل.س، وعادة ما يستبدل السّكان هناك المازوت بالحطب من أجل التّدفئة، ويبلغ ثمن الكيلوغرام الواحد من الحطب 3000 ل.س، ويمكن أن يدفّئ المنزل لمدة نصف نهار تقريباً، حسب تأكيد عدد من سكان الحيّ.

أحلام مؤجلة

تؤكد أمل (31 عاماً) وهي تعمل معلمة لغة عربيّة، أنّ النّاس مرتبطين بشيء يُسمّى “البطاقة الذكيّة” بشكل دائم، حتّى إذا أردوا شراء السّكر والشاي والسّمنة وزيت الزيتون، وهذا الأخير إذا توفّر في البقالية فإن ثمنه 22 ألف ل.س لليتر الواحد، أمّا عن طريق البطاقة الذكيّة فثمنه 13 ألف ل.س، ويحقّ لكل عائلة ليتر واحد مرة كلّ شهر!

تعيش أمل مع والديها إلى جانب ستة من إخوتها الصّغار، وتشير إلى صعوبات توفير حاجيات هؤلاء الذين ليسوا مؤهلين للعمل بعد، تقول: “إلى جانب عملي في جهة رسمية، أعمل كذلك في تصحيح مخطوطات الكتب لبعض دور النشر، وأعطي أحياناً دروساً خصوصيةً، وذلك يساعدنا قليلاً في وضعنا العائلي. فأبي يعمل على ميكروباص، وأمّي تهتمّ بتربية إخوتي الصغار الذين يبلغ أكبرهم 16 سنة وأصغرهم 5 سنوات، لديّ تقريباً أكثر من 15 ساعة عمل يوميّاً خلال الأسبوع، ولم أفكّر في السّفر لأسباب صحيّة تتعلق بوالدتي، وكذلك من أجل إخوتي الصّغار”.

وبسبب وجودها داخل سورية، لا يتم تقدير مجهود أمل بشكل مستحقّ في عملها من قبل بعض من تتعاقد معهم، تقول: يتمثل القهر الكبير في التعاون مع بعض المؤسسات خارج سورية، مثلاً، عندما أصحح الكتب وأحرّرها وأدقّقها، تكون قيمة تعبي مبالغ سخيفة مقارنة مع ساعات العمل، وفي أيّ بلد لا يعاني من الحرب مثل الدّول الأوربيّة، سيكون أرباب العمل أكثر احتراماً، لكن بسبب الحاجة أقبل بهذا القليل”.

لم تكن أمل تفكر للحظة أن المستقبل سوف يتغير بهذا الشكل فهي التي عايشت سنوات الحرب كانت تعتقد أنّها بمجرد التخرّج من الجامعة سوف تسافر بحثاً عن فرصة أفضل خارج سورية، لكن مرض والدتها بالسكريّ وعدم قدرة والدها على تغطية مصاريف البيت بوجود هذا العدد من الأطفال، جعلها تؤجل مشاريع حلمها بالسفر التي باتت بعيدةً في الوقت الراهن.
 وتختم أمل: “أعرف أن بعض الأحياء تشتري الماء، لكن في نهرعيشة الماء متوفر بشكل جيد، ولا يشعر المرء بالخوف أحياناً كثيرة لأن الناس في كلّ مكان، كأنّنا في بيتٍ كبيرٍ ضمن هذه المنطقة المكتظّة بالفقر والصبر، نحاول أن نجد مبرّراتٍ للحياة، فيكون الأمل الوحيد هو أن نجعل لهؤلاء الأطفال الذين في بيتنا، مستقبلاً أقلّ وجعاً وأكثر أماناً، ولك أن تتخيل فأنا أشعر بالشبع من الأمومة بسبب انهماكي الطويل في تربية إخوتي مع أمّي وأبي!”.

ناصر وأنس وأمل، هم شباب من أعمار متقاربة، حسموا خيارهم بالبقاء في بقعة جغرافيّة قريبة من العاصمة دمشق، في بيوت تحتضن بعضها البعض من شدّة البرد والخوف، وأمام هول المأساة والضغط المعيشيّ كان يأتي صوتهم من هناك عبر الأثير حزيناً مشحوناً بالقوة والحلم بالخلاص. كان صوتهم صورة أخرى للنوستالجيا الثقيلة التي لا تغادرني.  

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين

جراح الزلزال الروحية: كدمات نفسية ومخاوف لا تمحى 

جراح الزلزال الروحية: كدمات نفسية ومخاوف لا تمحى 

“توقف الزمن، ما زلت عاجزة عن الكلام والتعبير، أشعر أنني لم أعد على قيد الحياة، أنا محض جثة نجت بأعجوبة، وليتها لم تنج”، تقول علا علي (19 عاماً) وتنهار بالبكاء خلال حديثها مع “صالون سوريا”.

كانت علا تدرس على طاولة الدراسة الجامعية الصغيرة في زاوية غرفتها في الطابق الثاني فجر الكارثة. بعد أن اطمأنت أنّ أهلها نائمون بأمان وسلام، ابتسمت في وجه المرآة ووعدت نفسها بمستقبل أفضل حالما تنهي سنواتها الجامعية، أعدت كوباً من القهوة الساخنة وبدأت تتصفح إحدى محاضراتها، شغلت أغنية لنجاة على هاتفها الصغير، كانت تحب نجاة كثيراً قبل الكارثة.

“لا أدري ماذا حصل، كان كل شيء جيداً، لا أذكر، لا أريد أن أتذكر، فجأة ارتج المنزل، هزة، هزتين، لحظات، ساعات، عمر بأكمله، صراخ شديد، صرت أسمع صراخاً من منزلنا، من الجوار، صرت أشعر بأصوات صرخات تحطم رأسي، لا أدري كم استغرق الأمر، ولكنني الآن أدرك أكثر ما حصل، أتعلم ما الذي حصل؟، أهلي توفوا، ومنزلي صار ركاماً ؟”.

شيء ما يبدو غريباً في علا، هل كلمة غريب مناسبة بعد ما عاشته؟، هي الآن عند أقاربها، يقولون إنّها ليست بخير، لا تنام ليلاً، تبكي طوال الليل، وإذا ما غفت فإنّها تستيقظ صارخةً.

في حديثي معها، بدا لدى علا طاقة كبيرة للكلام، أرادت أن تقول شيئاً لم تستطع التعبير عنه بأسلوب واضح، أفكارها مبعثرة للغاية، ذكرياتها مشتتة، لا يبدو أنّها قد استوعبت ما حصل بتمامه حتى الآن، وريثما تستوعب ما حصل، قد يكون فات الأوان على شابة كانت تتوسم خيراً رغم كل ما في بلادها من محن.

بسطاء يتقاسمون القهر

الأمر في سوريا مركب قليلاً، فالناس تجاوزت عقداً من الحرب، وحملت فيه ما حملت من هموم ومشاكل وآلام وخسارات نفسية ومعنوية ومادية زادها سوء الحال الاقتصادي تعقيداً واستنزافاً، فجاء الزلزال مكملاً على أحلام بسطاء يتقاسمون القهر من شمال إدلب إلى حلب والساحل وحماه وكل منطقة تضررت من الزلزال.

في جولة على حالات كثيرة نجت من الزلزال يبدو واضحاً اتحاد المشاعر التي تنحو نحو العدمية ويبدو من غير المنطقي “الطبطبة” على جراحهم، فجراحهم عميقة للغاية، عميقة إلى ذلك الحدّ الذي تحتاج فيها مرمماً طبياً من النوع الوجداني – المادي غير المتوفر حتى الآن لهؤلاء الضحايا.

إذا اعتبر أحدٌ ما أنّ الفقد يمكن تجاوزه مع مرور الوقت، معللاً ذلك بالسنن الكونية الناظمة لحياة البشر، فكيف سيمكن تعليل شكل الحياة لأناس كانوا يستظلون تحت سقف وصاروا في المأوى، والسقف في سوريا ليس اصطلاحاً من الترف، بل هو المعنى الحقيقي لـ “جنى العمر”، فهل تؤمن الحكومة لضحايا البلاد دفئاً من النوع الذي يحيطهم من خلال أربعة جدران؟، يبدو ذلك مستحيلاً في المدى المنظور، فلا الإمكانيات متوفرة ولا القدرة المادية والاقتصادية واللوجستية كفيلة بحل تلك الإشكالية التي كتبت على السوريين نزوحاً تلو نزوح في حياة واحدة.

لا تتوقف الأرض عن الاهتزاز

لم تتوقف الحياة عند علا فقط فجر السادس من شباط، كثر مثلها، وفاء حمدان (38 عاماً) من ناجي اللاذقية لا زالت تعيش آثاراً وتبعات لما بعد الزلزال، تقول: “شيء غريب يحصل في بدني حين تصير الساعة الرابعة وقليل فجراً منذ يوم الزلزال، أشعر ببدني كلّه يرتعد، دقات قلبي تتصاعد كثيراً، أشعر بدوار شديد، أشعر بالأرض تهتز من تحتي، أهرع لأوقظ أفراد أسرتي، أصيح بهم جميعهم، فيقفون من نومهم مرتعبين، أخبرهم بوجود زلزال، ولكن يبدو أنّ لا أحد يشعر به غيري”.

يؤكد منصور شقيق وفاء روايتها وبأنّهم في الأيام الأولى التي تلت الزلزال كانوا يستجيبون لصرخات أختهم وينزلون للشارع على الفور، لكنهم تبينوا مع الأيام اللاحقة أنّها حالة نفسية عصيبة، وعليهم أن يتعاملوا معها بهدوء وحذر كما أشار عليهم أحد الأطباء النفسيين الذين استشاروه دون وجود وفاء التي رفضت الذهاب إليه مؤكدةً أنّ أحاسيسها بالهزات الأرضية اليومية هي أحاسيس حقيقية.

يقول منصور: “لا أريد أن أقول هذا، ولكن الزلزال أثر على عقل وفاء، وأثر علينا جميعنا، نحن خائفون، نجونا من الزلزال بأقل الأضرار ولكن شدته وسقوط الأبنية من حولنا وصرخات الجوار كلها عالقة في أذهاننا حتى الآن مذكرةً إياناً بأقسى يوم مرّ على بلادنا”.

متلازمة ما بعد الزلزال

مئات الحالات وربما أكثر بدأت تشتكي من مخاوف وهلوسات وما فسره الأطباء النفسيون بمتلازمة ما بعد الزلزال، فالبعض بات لا شعورياً يشعر بهزات كل لحظة وهي غير موجودة حقيقة، وآخرون باتوا يخافون النوم، وغيرهم توقفت الحياة لديهم عند لحظة بعينها، لحظة وقوع الزلزال، لحظة سماع خبر وفاة أحد من الأهل تحت الأنقاض، لحظة استعصاء إنقاذ أحد، لحظة فقدان أيّاً كان نوعها.

يقول الأكاديمي بعلم النفس أحمد سميح لـ “صالون سوريا” إنّ متلازمة ما بعد الزلزال هي متلازمة مشخصة أساساً من قبل باحثين يابانيين في عام 2011، وتنضوي على اضطراب ما بعد الصدمة مركباً مع القلق والخوف والتوتر.

وبين سميح أنّ المتلازمة تتمثل بدوار واهتزاز وتأرجح يشعر به الشخص لمدة تتراوح ما بين ثوانٍ عدة ودقيقة ونصف في عموم الحالات المسجلة، إضافة لشعور بالحاجة للتقيؤ أحياناً وآلام في المعدة وتشوش في الرؤية، والسيء بالأمر بحسب سميح هو قابلية استمرار الظاهرة حتى ستة أشهر ما بعد التعرض للصدمة الأولى (الزلزال).

ويتابع المختص بعلم النفس أنّ المتلازمة تلك قابلة للعلاج عبر زيارة الطبيب النفسي الذي يكون مؤهلاً لوصف أدوية تخفف من وطأة المشكلة وتنظر في موضوع الاكتئاب والقلق والخوف المرافقين.

ويحذر سميح أنّه في بعض الحالات الشديدة التي لا يجري علاجها ومتابعتها أو لا تزول أعراضها من تلقاء نفسها فمن الممكن أن تتطور المشكلة للدخول في أطوار اكتئابيه ومشاكل نفسية أخرى تتطلب علاجاً أكثر تركيزاً: “الكثير من الحالات التي تصلنا ونتعامل معها، بعضها بسيط، والبعض الآخر لا ينذر بالخير ما لم يتم التعامل الطبي معه بشكل سريع، فثمة أناس يرزحون تحت تأثير الصدمة التي من الممكن أن تغير شكل كل حياتهم القادمة.”

الأمراض العضوية

لا يمكن القول إنّ عدد الضحايا هو نهائي رغم مرور قرابة شهر على الزلزال، فبحسب الرأي الطبي لا زال عدد الوفيات قابلاً للارتفاع ولو كان بنسبة بسيطة، الطبيب مهدي أحمد شرح لـ “صالون سوريا” الموضوع مبيناً أنّ الوفيات الأولى حصلت خلال الزلزال مباشرة، أما الموجة الثانية فكانت من خلال تسجيل وفيات بين المصابين الذين نجوا وأودعوا المستشفيات، أما الاحتمال القائم مستقبلياً فهو تسجيل وفيات بعد أشهر من الآن، والتي قد تكون ناتجة عن التهابات كامنة وفشل في أداء بعض وظائف الجسم.

وبين الطبيب أحمد أنّ الأثر الذي تمكن ملاحظته خلال الفترة القادمة قد يكون ناجماً عن التلوث الذي خلفه الزلزال الذي دمر جزءاً من منظومة الصرف الصحي ما سيشكل بيئة ملائمة لانتشار الأمراض المعدية وعلى رأسها تلك المعوية والتنفسية، وكذلك الكوليرا والملاريا وغيرهم من الأمراض المنقولة عبر القوارض أو الحشرات.

هل ظلّ ما يقال

ما بين أثر نفسي وآخر عضوي، يدفع السوريون ثمناً باهظاً، ولكن هذه المرة ثمن جاءهم من الطبيعة التي ما ظنوا يوماً أنّها ستخذلهم وهم المنتشون بابتعاد الحرب عن مراكز مدنهم وأرواحهم وأرزاقهم، ليأتيهم غضب من الطبيعة يحيل معه القهر لتسميات أخرى، تسميات أبعد وأشمل، كمثل الحلم بميتة طبيعية في بلد ما من شيء طبيعي فيه.

كان المنكوبون عشية الزلزال يفكرون كيف سيتدبرون غدهم بما يكفيهم خبز يومهم، الآن صاروا يفكرون كيف سيتدبرون غدهم وهم مرميون في مراكز الإيواء في أدنى شروط الخصوصية التي عرفوها يوماً، مرميون منتظرون تلك الجمعيات التي تأتيهم بالـ “ساندويش”، ثم يسأل سوريٌّ: “هل ظلّ ما يقال!”

ناجيات من الزلزال يروين لحظات الرعب

ناجيات من الزلزال يروين لحظات الرعب

كأن الفجائع صممت على مقاس السوريين، لم يمض وقت طويل على إغلاق باب الحرب وترميم جراحها الغائرة حتى باغتهم زلزال مدمر وقع على رؤوسهم لتكتمل روزنامة المأساة وحزمة الألم. قلوب مفجوعة ووجوه فزعة وصرخات مدوية قضاها المنكوبون منذ يوم وقوع الكارثة لغاية كتابة التقرير، تاريخ يتمنى السوريين شطبه من التقويم الميلادي إلى الأبد.
لم يعد 6 شباط من التواريخ العادية بالنسبة للشابة لميس وللكثير من السوريين، فهذا الرقم سيظل بمثابة دمغة ألم لن تفارقها ولحظات خوف فاقت الوصف لم تختبرها من قبل. بكلمتين مختصرتين تصف مشهد الرعب: “كأنه يوم المحشر”. تروي لميس التي نجت من مجزرة تلكلخ في حمص وحصارين تفاصيل نجاتها مع طفليها لحظة وقوع الزلزال في مدينة جبلة وتقول لـ”صالون سوريا” بصوت متهدج: “جربت شعور شاهد العيان على مجزرة، وعايشت ظروف الحصار والعيش في ملجأ لأشهر طويلة، اختبرت جميع أنواع الخوف، غير أن طعم الخوف عند وقوع الزلزال كان مختلفاً كلياً ومرعباً لدرجة تفوق الوصف، كأنك تهرب من يوم الطوفان، أن تشعر بانشقاق الأرض وبكاء السماء”.

وعن تفاصيل ليلة الزلزال تقول: “كنت أنتظر وصول زوجي عند الساعة 3 فجراً بعد أيام من المناوبة في قطعته العسكرية، بينما كان طفلاي نائمين، عند وصوله دخل للاستحمام فيما كنت أهيأ له الطعام، بعد انتهائه شعرنا بالمنزل يهتز قليلاً ثم تعالت أصوات الجيران ونداءات الاستغاثة والمطالبة بالإخلاء”. تتابع حديثها: “حاول زوجي فتح النافذة للخروج منها لكن دون جدوى، ثم طلب مني إخراج الطفلين على أن يلحق بي بعد أن يحضر هويته وبعض المال، صرت أصرخ وطلبت منه مرافقتي، لكنه رفض وطالبني بالخروج وإنقاذ الأطفال أولاً”.
تضيف الناجية أن قوة الزلزال تضاعفت أثناء لحظات إخلائها للمنزل، كان شكل المطر غريباً ينهال علينا كالرصاص، والجيران يتدافعون بقوة خوفاً من انهيار المبنى فوق رؤوسهم، حينها أمسكت بأيدي طفليّ بشدة وحرصت على عدم إفلاتها والركض بسرعة قصوى، خشية وقوعهما على الأرض لأن ذلك يعني موتهما الحتمي، إما نتيجة الزلزال أو بسبب دعس أقدام الجيران فوق جسديهما وتجاوزهما خلال هربهم من الموت”.

بملابس مبللة وجراح كبيرة قضت لميس مع طفليها يوماً كاملاً في الحديقة دون مأوى. قدم لها أحد الجيران كيساً من الخبز واللبنة والتفاح لمحاربة الجوع. عند حلول الليل لجأت السيدة إلى أحد الجوامع للمكوث هناك، أودعت طفليها عند امرأة لتعود إلى منزلها بحثاً عن زوجها بين المفقودين. وللأسف اكتشفت موته بعد يومين من الانتظار، حيث وجد رجال الإنقاذ جثته وقاموا بإخراجها من تحت الأنقاض ووضعها في مكان موحد للتعرف على هوية المفقودين من الأهالي والأقارب.
وفي قصة مؤلمة أخرى، رضيعة لا يتجاوز عمرها الساعات كانت سبباً بنجاة أسرتها والخروج قبل انهيار المبنى في ريف جبلة، تتحدث أم محمد عن تفاصيل فجر الزلزال: “ولدت حفيدتي قبل يوم واحد من وقوع الزلزال، كانت تصر على عدم النوم والرضاعة طوال الليل، فكانت تبقينا مستيقظين، لذلك كنت أسهر على راحة ابنتي وتحضير الطعام المناسب لها، عند خروجي من المطبخ شعرنا جميعاً بالأرض تهتز من تحت أقدامنا، هرعنا إلى الخارج بملابسنا”. تتابع حديثها: “ما هي إلا لحظات حتى انهار البناء وتداعت البيوت، حصل الأمر في ثوان سريعة، لو كنا نياماً لمتنا جميعاً أو كنا تحت الأنقاض”.

من جانب آخر، تصف الناجية صفاء تجربتها في الفرار من سقوط المبنى الذي تقطنه في حي صلاح الدين بمدينة حلب: “كان الناس يصطدمون ببعضهم البعض أشبه بتدافع السيل الذي لا يتوقف، أن تتوقف عن الركض للحظات يعني أن تقلل من فرصة نجاتك”. نجت صفاء مع أطفالها الثلاثة وزوجها ووالدته، وعن تفاصيل ليلة الزلزال، تضيف قائلة: “عند الساعة الثانية ليلاً شعرنا بهزة خفيفة، لم نشعر بالخوف حينها لأننا اعتدنا على الهزات المستمرة التي تحدث عادة، لكن عند حلول الرابعة فجراً بدأت تشتد ليهتز المنزل يميناً ويساراً، خرجت حافية القدمين وأنا أحمل طفلتي ذات الأشهر الستة بينما حمل زوجي البقية وساعد والدته في الإسراع بالخروج”.
تتابع حديثها: “كنت خائفة من فقدان أطفالي وزوجي، كنا نركض كالمجانين بدون وعي، هبط البناء بأسره ليستحيل إلى رماد وغبار، 40 ثانية تعادل 12 عاماً من الحرب والخوف”.

أما ريم فتصف ليلة ٦ شباط كمشهد ظنت أنه قد يكون الأخير في شريط حياتها: “طوقت رضيعتي بقوة، ثم عانقنا زوجي بملء ذراعيه، بينما كان السرير يتأرجح بنا وجدران المنزل ترتجف من حولنا”. نجت ريم بأعجوبة، حيث تمكنت مع أسرتها من النهوض والخروج قبل وقوع الهزة الثانية بفارق دقيقة، وتقول عن تجربتها لـ”صالون سوريا”: “كنا نائمين وفجأة شعرت بالبيت يرتج من حولنا، للوهلة الأولى ظننت أن المنزل يتداعى نتيجة التشققات الحاصلة في أعمدته وذلك لوقوعه في العشوائيات وتعرضه لجحيم القذائف طوال سنوات الحرب، لكن اتضح أنه زلزال حين نادى الجيران بذلك وتيقنوا من الأمر”.
انقطعت سبل ريم للوصول إلى محطة آمنة في دمشق، وعجزت عن إيجاد مقعد شاغر في وسيلة نقل بسبب الازدحام الكبير، لتضطر إلى المكوث في الحديقة لثلاثة أيام متواصلة في ظل ظروف جوية قاسية عليها وعلى رضيعتها التي لا يتجاوز عمرها الشهر. وتصف مأساتها: “لم نجد أي باص أو سيارة أجرة متوفرة، كادت ابنتي تتجمد من البرد القارس حتى استحال لون جسدها إلى أزرق، كان زوجي يجمع أغصان الشجر للتدفئة وكسر حدة الصقيع”.
تلازم ريم مشاعر الخوف والرعب كل الوقت بعد مرور أكثر من 10 أيام على الكارثة، وتصف الناجية لحظات الزلزال بأنها الأكثر ذعراً على الإطلاق: “مشهد اهتزاز الأرض وانشقاقها وكأنها على وشك ابتلاعنا يفوق رعباً أصوات القذائف وأنين الرصاص، لا تعرف إلى أين ستذهب بنفسك، فالأرض برمتها ترتعش وتتحرك من تحت قدميك، تُذَكر ولا تُعاد”.

حتى أنتِ أيّتها الزلازل

حتى أنتِ أيّتها الزلازل

    يعيش المرء بصفته سوريّاً في بلاده، من أجل تحقيق غاية واحدة وحيدة، وهي أن يتدرّب على الموت بأنواعه المختلفة، ذبحاً وتفجيراً وجوعاً وبرداً، وأخيراً أن يتدرّب على أن تبتلعه الأرض، ليكتمل المشهد المأسويّ الفريد، ليحكي قصة شعبٍ مزّقته الفتن الطائفية والصراعات العرقية والحروب الداخلية والتواطؤ الدوليّ وانهيار مفهوم الدولة إلى أدنى الدرجات التي عرفها التاريخ، ليتوِّج ذلك كلّه غضب إلهيّ أو طبيعيّ حصد أعداداً هائلةً من الضحايا، شيباً وشُبّاناً-نساءً وأطفالاً، ولا تزال هذه الأعداد تزداد على نحو مطّرد لتزيد مع زيادتها الأهوال والمآسي والفواجع. 

    إنَّ من يعاين حقيقة الأحداث، ويتأمّل على نحو معمّق في هذه الكارثة، ليس في وسعه أن يستنبط إلا فكرة جوهريّة رئيسة، وهي أنَّ الشعب السوري في حلب أو اللاذقية أو إدلب وغيرها من المحافظات السوريّة قد سرت فيه، فرداً فرداً، مشاعر متجانسة أو واحدة في كيفيتها، وهي أنَّ شعباً وحّده الألم لا يجب أنَّ تفرّقه العقائد والإيديولوجيات وفساد السُّلطات.

    لكن ما يثير غضب كلّ سوريٍّ الآن هو وجود عجز كبير-على المستوى الأهليّ-في إمكانية تقديم أي مساعدات للمنكوبين، إذ لا يقدر المواطن السوريّ الآن على أن يسدّ رمقه ورمق أطفاله، فكيف يمكن له أن يقدم يد العون لأبناء جلدته من المصابين والمشرّدين من الذين هُدِمت بيوتهم؟ 

     إنَّ المجتمع الأهليّ شبه عاجز الآن عن المساعدة؛ ولكن رغم ذلك نجد مبادرات يمكن وصفها بأنها فدائيّة بكلّ معنى الكلمة، إذ نجد المئات من المواطنين الشرفاء قد تعاونوا، بعضهم مع بعض، على نحو يدعو إلى الاعتزاز.

    نزل بعض أبناء ريف الساحل-بما أنَّ الريف كان أقل تضرّراً-إلى مدينة جبلة المنكوبة ليساعدوا في رفع الركام عن الأبنية، ومنهم من يمتلك آليات مثل الجرّافات (بلدوزرات) أو الشاحنات (عربات نقل ثقيل) وإلى ما هنالك؛ ولكنهم غير قادرين على تزويد هذه الآليات بالوقود، فانبرى أبناء مدينة جبلة ليزودوا آليات هؤلاء القادمين من الريف بالوقود، من أجل أن يباشروا عمليات الإنقاذ في الأحياء المتضررة. لقد كانت مبادرة شعبيّة بكلّ معنى الكلمة ولم يكن قد مضى على وقوع الزلزال ساعة أو أكثر بقليل، كما أنَّ المتطوعين من الريف والمدينة استطاعوا أن يبادروا مباشرةً إلى تكوين فريق تحرك بجدارة على أرض الواقع، وبدأ العمل بإزاحة الركام، وإخراج الجثامين، والناجين من تحت الأبنية، ومن ثمة قامت السلطات المحلية بالتدخل وفقاً لإمكانياتها المحدودة.

    ولكن في الحقيقة ورغم هذه الجهود وما تبعها من دخول فرق إنقاذ خارجية من جزائرية ولبنانية وعراقية وغيرها؛ إلا أنَّ الجهود غير كافية في مدينة جبلة، إذ عملية انتشال الجثث من الضحايا، كانت بطيئة جداً، وهذا أمر تقتضيه عملية البحث عن المصابين من الأحياء، فأي استعجال يمكن أن يؤدي إلى وفاة المحاصرين من الأحياء تحت الأنقاض، ولكن البطء في العمل أدى إلى استخراج جثث بدأت بالتحلل وفاحت منها رائحة الموت، وهذا أثّر على نحو سلبي في مشاعر ذويهم وأصدقائهم. فهناك عمليات انتشال لعشرات الجثث، من شباب وشيوخ وأطفال، وأبناء وأمهات، وتجد في هذه المشاهد انتشال أمٍّ تحضن طفلها وقد توفي كلاهما في مشهد مؤثّر إلى أبعد حدّ. 

    هذا، إلى أنَّ الذين خسروا بيوتهم في جبلة يعيشون حالة قاسية جداً، إذ توزّعوا على أمكنة متعددة، في بيوت أقربائهم وأصدقائهم والمساجد والفنادق والصالات…، ولكنهم يعانون من نقصان كبير في الأدوية والتدفئة والطعام.

     ونجد هذه المشاهد القاسية نفسها تتكرر في مدينة اللاذقية، إذ حدث انهيار هائل في الأبنية، ترك وراءه مئات الضحايا، ريفاً ومدينةً، فحجم الدمار الكبير، وتراكم الأنقاض، كوّن في الاحياء السكنيّة كتلاً إسمنتية أشبه بسجون، حُبِسَ الناس داخلها، منهم من توفي ومنهم من بقي حياً؛ ولكن التباطؤ في المبادرة وضعف الإمكانيات وقلّة الخبرة أدى من دون شك إلى تعقيد الأمور. 

    وعليه، إنَّ ما يثير الحزن سواء أكان ذلك في اللاذقية أم غيرها من المدن السورية المنكوبة هو ظاهرة هذه السجون الإسمنتية التي خلّفها الزلزال، إذ بقي عدد من الناس أحياء تحت الركام، مسجونين في بيوتهم، وقد سُدّت عليهم المنافذ كلّها، ولا يمكن وصول فرق الإنقاذ إليهم بسبب الركام الكبير المحيط بهم، فبقي هؤلاء الناس بين الموت والحياة. والحقيقة أنه توجد بين هؤلاء الناس أنفسهم حالات تحرّك الوجدان الأسيان، إذ تعرّض الكثير من المحاصرين تحت الأنقاض إلى كسور ورضوض وإصابات، ورغم ذلك عانى هؤلاء الناس من البقاء أحياء في أمكنة أشبه بالتوابيت، وهم لا يعرفون مصيرهم، إذ ترى ضمن عائلة واحدة في منزل منهار أحد الناجين ليخبرك أنه بقي مدة يومين أو أكثر محاصراً بين أجساد الموتى من أفراد عائلته، فما أشدّ صعوبة وقسوة وألم هذه المعاناة المريرة!

     إنَّ الجهود المبذولة الآن تتركز على إنقاذ الناجين-إن وجِدوا-وانتشال الجثامين من تحت الأنقاض، وتتضافر جهود عديدة من أجل تحقيق هذه الغاية؛ لكن المشكلة الكبيرة في هذا الاتجاه هي أنَّ انهيار أبنية مكوّنة من طوابق عديدة يقتضي استغراق عدة أيام في إزاحة الكتل الإسمنتية والحديد وإلى ما هنالك، وهذا يقلل من فرص نجاة الذين بقوا أحياءً. وهناك ملاحظة مهمة في هذا المنحى وهي أنَّ بعض المنقذين لاحظوا على أساس استقراء واقع الأبنية المنهارة أنه في كلّ بناء منهار يوجد فيه حيّز معيّن تتجمّع فيه جثامين الموتى أو يمكن أن يوجد فيه أحياء، وهذا يدلّ على أنَّ الناس أثناء وقوع الزلزال وانهيار الأبنية قد اتجهوا حسب سُكناهم في كلّ بناء إلى حيّز وجدوا فيه أماناُ من سقوط الركام، وهذه قضية تستحقّ كل اهتمام من المتخصصين.

    ولا شك في أنَّ انهيار الأبنية في جبلة واللاذقية-وهذا ينسحب على المحافظات المتضررة الأخرى-يرجع إلى سببين: الأول، نوع التربة، فيمكن أن تكون التربة ضعيفة غير قادرة على الصمود أمام هبوط أو سقوط الصفائح التكتونية المسببة للزلزال. الثاني، هو عدم إنشاء الأبنية وفقا لمواصفات الأبنيّة المقاومة للزلازل، علماً أنَّ منطقة الساحل السوريّ هي منطقة زلزاليّة.

     وتطال المأساة محافظة إدلب، والمعاناة فيها كبيرة جداً، تحديداً مدينة إدلب وفي ريفها الشمالي، وفي مدن مثل جسر الشغور، وسلقين، وعزمارين، إذ يوجد مئات الناس في العراء من دون مأوى، في ظروف مُناخية من برد شديد ونقص كبير جداً في مياه الشرب النقيّة والطعام والأدوية، هذا إلى أنَّ المنازل متصدّعة غير صالحة للسكن، علاوة على أنَّ الهزات الارتداديّة دفعت الناس إلى الفرار من منازلهم إلى الحقول والبساتين والغابات ليجعلوا سُكناهم تحت الأشجار، ليحموا أنفسهم من الثلوج والأمطار، ولذلك يوجد نقص كبير في مراكز الإيواء، ويحتاج الناس هناك على وجه الخصوص في الريف إلى مساعدات فورية أهمها: الخيام والأدوية والألبسة والوقود وإلى ما هنالك. 

   ونجد في إدلب مبادرات إنسانية رائعة، فهناك مطاعم أغلقها أصحابها وحولوها إلى مراكز إيواء للمنكوبين، وقدّموا لهم كلّ ما يقدرون عليه من مساعدات، فضربوا بذلك مثلاً رائعاً في الشهامة وسمو الأخلاق، ويوجد كثير من هذه النماذج تُعيد لنا الثقة الكبيرة باستعادة الإنسانيّة المفقودة.

     لم يترك الزلزال حلب أيضاً؛ بل كانت الخسائر فيها كبيرة، ولجأ كثير من الناس إلى الجوامع والمدارس والحدائق والشوارع، بعد أن خسروا منازلهم، ويعانون معاناة كبيرة بسبب نقصان اللباس والطعام والشراب والأدوية، ولكن لا يعرف المرء ماذا يقول للمسؤولين عن أناس لا يوجد لهم مكان ليعيشوا فيه، وتنتابهم مشاعر اليأس من القيام بأيّ مبادرة حقيقية نحوهم. فكيف يمكن تسويغ تركهم من دون مأوى، ولو لساعة واحدة؟!

     ولا شك في أنَّ المساعدات العربية والدوليّة المقدمة ليست في حقيقتها مساعدات جوهريّة، وإنما هي مساعدات مؤقتة تقتصر على الأدوية والطعام واللباس وما يجري هذا المجرى، ولن تسهم هذه المساعدات في حل مشكلة المنكوبين؛ لأنَّ أهم مساعدة لهم هي تأمين منازل لهم عوضاً عن منازلهم المهدّمة؛ ولكن في هذه الظروف يبدو هذا الأمر حلماً بعيد التحقيق، ولذلك يُخشى أن تتفاقم أزمة قاهرة لاحقاً تتعلّق بوجود فئة من المجتمع السوري تعيش من دون سكن!

   إنَّ الحقيقة التي لا يمكن نكرانها، وتقود الإنسان إلى يأس كبير محفوف بالقهر هو أنَّ هناك أناساً في المحافظات السورية المنكوبة فقدوا بيوتهم، وأصبحوا بلا سكن، ولا يمكن لهم في هذه الظروف الكارثية البغيضة التي عصفت وتعصف بسوريا، أن يعيدوا بناءها، ولا يوجد أمل بإعادة بنائها في واقع داخلي متمزّق، ومحيط دولي يغرز براثنه في أحشاء بلاد تنهار.