عرسٌ سوريٌّ: كتابٌ وفيلمٌ لِلاوْرا تانْغِرْلِيني

عرسٌ سوريٌّ: كتابٌ وفيلمٌ لِلاوْرا تانْغِرْلِيني

ليس مجرَّدَ عرسٍ؛ إنَّه سِفرُ رؤيا إنسانيَّةٍ مليئةٍ بالعديد من القصص الصَّغيرة والرَّهيبة التي جمعَتْها لاوْرا تانْغِرْليني بكثيرٍ من الحبِّ والحنان.

هو قصَّة شهر عسلٍ خيريٍّ قامتْ به لاوْرا مع زوجها، المؤلِّف الموسيقيِّ والمغنِّي الرُّومانيِّ ماركو رو، للاستماع إلى أصوات وشهادات اللَّاجئين السُّوريِّين في مخيَّمات لبنان وتركيا.

هو قصَّةُ حُبِّ المؤلِّفة الجارف نحو زوجها من جهةٍ، ونحو سوريا وشعبها من جهةٍ أخرى؛ حُبٍّ مزدوجٍ ترويه لنا بكثيرٍ من النَّشوةِ والعذوبة، وأحياناً بسخريةٍ خفيفةٍ، ولكن في الوقت نفسه، وبطبيعة الحال بسبب الحرب الدَّائرة هناك منذ سنة 2011، بصرامةٍ وإصرارٍ يبغيان رفعَ الحجاب للقارئ عن العواقب الفائقة القسوة التي نجمَتْ عن خراب أرضٍ كانت ذات يومٍ أشبه بفردوسٍ مفقود، عواقبٍ يتظاهر العالَم، الذي هو متواطئٌ في بعض الأحيان ولامُبالٍ في أحيانٍ كثيرةٍ، بعدم رؤيتها.

هذا الرِّبورتاج الذي أعدَّته لاوْرا عن المأساة السُّوريَّة (وهو يوميَّاتُ رحلةٍ، وقبل كلِّ شيءٍ، أضمومةٌ من أقوال وشهادات لاجئين التقَتْ بهم) إنَّما يمثِّل “نافذةً متفرِّدةً وهامَّةً، مفتوحةً على عالَمٍ لطالما عتَّمَتْ عليه وسائل إعلامنا هنا” على حدِّ قول الصَّحفيَّة آنَّا كافِسْتري في معرض حديثها عن هذا العمل.

وكانت لاوْرا، في الأسابيع التي سبقت الزِّفاف، قد حلَّتْ في لبنان لتوثيق حالةِ بلدٍ يرزح تحت مدٍّ مديدٍ من موجاتِ اليائسين السُّوريِّين والفلسطينيِّين الهاربين من الحروب والعنف والدَّمار، فإذا بالعروس المستقبليَّة تتحوَّل إلى شاهدٍ على الظُّروف القاسية والوحشيَّة التي يعيشها اللَّاجئون داخل مخيَّماتٍ أقيمَتْ في بلدٍ يبدو، بموارده المحدودة وبناه التَّحتيَّة غير الكافية، أكثر ترحيباً بالأثرياء والأصحَّاء منه بأولئك البؤساء.

يضمُّ الكتاب الصَّادر بالإيطاليَّة عن منشورات إينفينيتو، والذي يقع في 189 صفحة، توطئةً بقلم جان أنطونيو إسْتِلَّا ومقدِّمةً بقلم كورَّادينو مينْيُو.

وقد قام بإنجاز التَّسجيل الصَّوتيِّ للفيلم الذي حملَ العنوانَ نفسَه “عرسٌ سوريٌّ”، وتضمَّنَ أربع أغانٍ غير منشورةٍ سابقاً، كلٌّ من لاوْرا تانْغِرْليني وزوجها ماركو رو الذي وضعَ بدورِهِ موسيقى جميع أغاني الفيلم وكتب كلماتها (باستثناء اثنتين منها شاركتْه في كتابة كلماتهما زوجته الصَّحفيَّة).

وبالنَّتيجة، فإنَّ ما ينبثق عن هذا العمل المتوقِّدِ عاطفةً وحماساً، بالإضافة إلى حبِّ الكاتبة للشَّعب السُّوريِّ وحزنها على مصيره المضطرب وغير العادل، هو سيناريو دراميٌّ يستصرخُ الضَّمائر الصَّامتة للشُّعوب الأوروبِّيَّة وبقيَّة شعوب العالَم، داعياً إيَّاها إلى الاستيقاظ والعمل لوقف، أو على الأقلِّ لتخفيف هذه المأساة الإنسانيَّة الكبرى.

“بكلماتها الصَّريحة والقاطعة”، يقولُ الصَّحفيُّ كارلو كراكُّو، “تجعلنا لاوْرا جزءاً من تلك الأحداث المشحونة بالعواطف والمشاعر الإنسانيَّة، العامَّة والخاصَّة، صفحةً تِلْوَ صفحة. وهي بذلك إنَّما تسلِّط الضَّوء، مِن أعماق صورةٍ مظلمةٍ ومأساويَّةٍ، على بذور الأمل الثَّمينة المرصودةِ لبناء جسرٍ، مجازيٍّ وملموسٍ في آنٍ واحدٍ، نحو مستقبلٍ أكثر إشراقاً من هذا الحاضر العديم الرَّحمة والقاتم.”

ويواصل: “السُّوريُّون، من لبنان وتركيا، ومن البلدان الأوروبِّيَّة التي وصلوا إليها بشقِّ الأنفس، يحلمون بالعودة إلى ديارهم، إلى سوريا جديدة يعمُّها السَّلام والهدوء والتي لم تعد موجودةً وهي اليوم تكافح من أجل استعادة حقيقتها أو العودة إلى حقيقتها.”

تشرحُ الكاتبةُ أنَّ هذا المشروع، وهو المرحلة الأخير من مسار التَّوعية الذي كانت تقومُ به لسنواتٍ حول مسألة اللَّاجئين السُّوريِّين، في البداية وحدها ككاتبةٍ وصحفيَّةٍ، ثمَّ صحبةَ زوجها كمغنٍّ ومؤلِّفٍ موسيقيٍّ، إنَّما يريدُ أن يعطي وجهاً وصوتاً للكثير من المهمَّشين الذين قابلَتْهم في رحلتيهما إلى تركيا ولبنان بُعَيدَ زفافهما، ذلك الزِّفاف الخيريِّ الذي أرادتْ من خلاله أن تقدِّمَ مساعدةً ملموسةً وسُوَيعاتٍ من التَّرفيه للعديد من اللَّاجئين السُّوريِّين، ومعظمهم من الأيتام.

فعلى وجه الخصوص، تقول، “لقد قدَّمنا قبلَ زفافنا مساعدةً ماليَّةً عن بُعدٍ لمؤمن وهو لاجئٌ سوريٌّ صغيرٌ يتيمُ الأب يعيش الآن في لبنان مع أمِّه واثنين من أخوته الخمسة، ويعاني مشاكل سلوكيَّة بسبب فقدان الأب وصدمة الحرب.

وتهدف تلك المساعدة إلى السَّماح له، ولأخوته أيضاً، بالدِّراسة. وقد التقينا به عندما سافرنا إلى لبنان لقضاء يومٍ معه”.

لاوْرا التي ما إن انتهَتْ شعائرُ زفافها في إيطاليا حتَّى ركبَتْ الطَّائرة مع زوجها، واستثمرَتْ معظمَ هدايا الزِّفاف التي حصلا عليها في شراء القرطاسية ولعب الأطفال وزجاجتَين من المشروبات الباردة مع كعكةٍ كبيرةٍ وخمسٍ وسبعين سترةً شتويَّةً من أنطاكية وحملاها شخصيَّاً إلى الرَّيحانيَّة للأطفال السُّوريِّين نزلاءِ دار الأيتام هناك، تضيفُ قائلةً: “الآن لا نريد التَّوقُّف عند هذا الحدِّ، بل نريد أن نفعل المزيد. نريد من ناحيةٍ أخرى أن نخصِّص عائدات حقوق النَّشر الخاصَّة بهذا المنتَج الأدبيِّ والسَّمعيِّ والبصريِّ لصالحِ مشاريع أخرى تدعم السُّوريِّين.”

من الكتاب:

… ماذا كنت تودُّ أن ترى لو كانت لك عينان ثاقبتان؟ “بودِّي لو أرى حارتي مرَّةً أخرى… فبعد أربع سنواتٍ لم أعد أتذكَّرها جيِّداً… وبودِّي لو أرى ما بقي من بيتنا” كانت عيناه تتلألآن ببريق الذِّكرى، وكذلك كانت عيناي منذ بضع دقائق وأنا أستمع إليه…

… كانت الموسيقى الانتصاريَّة قد بدأتْ بالفِعل، منطلقةً من الصَّناديق المكنونةِ بين زُحلوقةٍ وأرجوحة. الأطفالُ في ملابسهم الاحتفاليَّة يرفعون البالونات الملوَّنة وينتظرون مرور العريسَين. ها قد بدأ عرسُنا السُّوريُّ، بين السُّوريِّين، ولأجل السُّوريِّين…

“… سوريا كلُّها قد تغيَّرَت. منازلُ لا يُحصَى عديدُها قد تهدَّمَت. حتَّى أنَّ أنفاسَ النَّاس هناك قد تغيَّرَتْ، فرائحة الدَّم تبلِّلُ الهواءَ في كلِّ مكان. كلُّ شيءٍ كان جميلاً، كلُّ زاويةٍ، كلُّ شارعٍ، كلُّ زقاق… ما كنتُ لأرحلَ عنها لو أنَّني استطعتُ إلى ذلك سبيلاً…”

“… اتركونا وشأننا. هذا هو ما تحتاج إليه سوريا. إنَّنا أناسٌ طيِّبون، نحبُّ العالَم كلَّه، ولكنَّ العالَم لا يحبُّنا…”

… بعد لحظةٍ من ذلك دخلَتْ إحدى اليتيمات لتعطيني وشاحاً صوفيَّاً يضرب لونه إلى الحُمرة، واحداً من تلك الأوشحة التي كنَّ قد صنعنَها بأيديهنَّ خلال بعض الأنشطة التَّرفيهيَّة. مرَّةً أخرى، تتحرَّك مشاعري بقوَّةٍ لا قِبَلَ لي بها. إنَّها أجمل هديَّةٍ تلقَّيتُها في عرسيَ السُّوريِّ هذا…

“… أتخيَّلُ أنَّني في سوريا، ولكنَّني لا أرى أحداً هناك؛ وحيداً أسيرُ في الشَّوارع الخالية، ذلك أنَّ الجميع قد ماتوا”. مرَّةً أخرى أشعرُ بلكمةٍ عنيفةٍ على معدتي…

* * *

عن لاوْرا تانْغِرْليني: صحفيَّة بدأت مسيرتها المهنيَّة عام 1998. حاصلة على شهادة في علوم الاتِّصال من جامعة لاسابْيِينتزا في روما. وتدير منذ عام 2008 قسمَ الأخبار في قناة راي الإخباريَّة. باحثة في اللُّغة والثَّقافة العربيَّة، تناولَتْ في عملها مراراً وتكراراً الوضعَ في الشَّرق الأوسط، ولا سيَّما المأساة السُّوريَّة التي كتبت عنها ثلاثة كتبٍ هي: “سوريا الهاربة” 2013، وحصلت عنه على جائزة فيودْجي ستوريا، المرتبة الأولى؛ و”لبنان في هاوية الأزمة السُّوريَّة” 2014، وحصلت عنه في عام 2015 على جائزة تشِرُّوليو عن فئة الدِّراسات النَّقديَّة؛ و”عرسٌ سوريٌّ” 2017. كما حصدَت العديد من الجوائز لعملها الصَّحفيِّ والتزامها الأخلاقيِّ تجاه الشَّعب السُّوريِّ.

رواية بيت حُدُد بين عالم الثورة وعالم السلطة

رواية بيت حُدُد بين عالم الثورة وعالم السلطة

يثير اسم الرواية التباساً أوّليّاً، فهل الرواية تتحدث عن إلهٍ أسطوري، أم عن دمشق وسورية، وما يعتمل بها بدءاً من ثورة 2011؟ الرواية تريد قراءة السنوات السبع الأخيرة، فلماذا الإله حدُدُ؟ أزمنة الرواية ليست خطية وتبدأ بالتاريخ السابق الذكر وتتصاعد، بل هي تتعدد بتعدد شخصياتها، وبتعدد الأماكن وبالاستطرادات الكثيرة، والتي لا يجد المرء سبباً مقنعاً لوجودها في حبكة العمل الروائي، كالإسهاب عن حياة فيديل في بريطانيا وزواجه المتعدد، أو في دبي كفصل الشم أو الحلاج مثلاً.

فضاء رواية بيت حدد متغيرٌ بتغير الشخصيات فهو تارة لندن، وتارة دمشق، وتارة دبي، وهكذا. بل يتغير مع تغير الحوار وفصول الرواية. المكان هذا، تنقلنا فيه الرواية بين الماضي والحاضر، فحين يعود الدكتور أنيس من لندن لبيع بيت خاله، باعتباره الوريث الوحيد، ويتعرف على أهمية البيت من خلال المحامية سامية والشاعر “الفاشل” والسياسي المعتقل عيسى، والباحثين الذي جلبتهم سامية لتقييم منزل خاله من الناحية التاريخية والمالية؛ حينها يعود بنا الروائي إلى أزمنة وأمكنة قديمة، ويستعرض ذلك بإسهاب كبير، وبحديثٍ طويل عن بيت حدد وسيف الإله حدد، والذي لا يُقهر أبداً من يحمله، ويفترض بالرواية هنا أنها تسرد أصل الإله “الماضي” ليكون عوناً للثورة السورية “في الحاضر”، ولكن ذلك لا يحصل؟

نجد الإله حدُدُ ثانية في الجامع الأموي، حينما تذهب إليه الدكتورة ليل، المخذولة من زوجها وأسرتها، حيث تتعرض لمحنة كبيرة، بسبب دعوة عشاء ومشاعر عاطفية مفاجئة وقبلة وحيدة على جبل قاسيون. مشكلتها تبدأ مع مراقبة الأمن لها من قبل عناصر الطبيب سابقاً وضابط الأمن لاحقاً عباس جوهر، ومن ثم تسريب المعلومة لكل من الدكتور سعد الدين وزوجها عادل، وهنا تصبح ليل مخذولة من الجميع، وعليها أن تدفع ثمن ذلك لزوجها وترضي شهوات الدكتور سعد الدين، والذي يَعدُ زوجها بشراكةٍ في مشفى جديد، وسيعود عليه بأموالٍ طائلة. الإله حدد أيضاً يوجد له مقام في الجامع الأموي، والذي تخرج منه مظاهرة للإطاحة بالنظام. لندقق هنا: فبيت خاله يصبح مكاناً لخلية من الشباب الثائر، ومن الجامع تخرج مظاهرة كذلك، وبالتالي ربما أراد الكاتب هنا إيجاد رابط بين المكانين، والقول إن الإله حدد يثور مجدّداً، ولا بد أن ينتصر. طبعاً نهاية الرواية تعاكس تماماً أهمية الإله حدد؛ فالمنزل يباع من قبل الدكتور أنيس لرجلٍ إيراني “كراماني” وكأنّ الكاتب يريد القول لقد فشل الإله حدد حامي دمشق، واستولى الإيرانيون على البلد؛ هنا يبدو في الأمر تناقض، فكيف يفشل الإله حدد في الوقوف مع أهل دمشق وينصرهم؟

تسير الرواية بعدّة خطوط سردية، وتتحكم بها شخصيات أساسية وهي الدكتور أنيس من ناحية، والمخرج الإعلاني فيديل/فضل من ناحية أخرى. تعيش الشخصيتان خارج سورية وتعودان لأسبابٍ مختلفة. أنيس لبيع منزل خاله، وهنا يتعرف على التاريخ والثورة، وواقع البلاد الغارقة بالفساد والطائفية والهيمنة الإيرانية، وتنشأ علاقة حب مع المحامية سامية تبقيه في البلاد، ويعايش سنوات الثورة، وتحولها إلى مسلحة، ولاحقاً إلى مناطق محكومة من أصوليين متطرفين وجهاديين أكثر تطرفاً. فيديل المتخم بالملذات في دبي، له حكاية أخرى وتتطوّر علاقته بليل لتكون عشقه الحقيقي وكذلك تبادله ليل ذلك في دبي وتعود لاحقاً إلى سورية لتنقذه من داعش، ولكنه الأخير يقتله بينما يتم تهريب ليل، وتكون قد حملت في أحشائها ابنا لها وتنجبه في لندن وتسميه فيديل. قد يستغرب القارئ كثرة السرد الخاص به؛ فمنذ لحظة ولادته لأبٍ شيوعي وأم تقليدية عائلتها متدينة، الأب ذاك يتعرض للاعتقال، ويخرج لاحقاً مهيض الجناح، وينتحر أخيراً. فيديل يسميه والده على اسم فيديل كاسترو، ولكن والدته وأخواله يسمونه فضل، لأنه وُلد سليماَ ولم يمت أو يكون بمرض كأخوته. استطرد الكاتب هنا، فهو يلاحق فضل منذ ولادته، وكيف تتصارع الشخصية الدينية والعلمانية داخله. لا أعرف لماذا هذا الاستطراد بشخصية فيديل، رغم أنه لا ينتمي إلى الثورة، بل وحتى حينما عاد في المرة الثانية ليخرج عنها فلماً ويكفر فيه عن مجيئه الأول لسورية من أجل تغطية إطلاق مشفى لكبار رجالات السلطة! وحتى في زيارته الثانية هذه، يقبل عرضاً من تنظيم داعش ليخرج له أفلامه وإعلاناته؛ أي أن فيديل يمثل ذاته ولا يمثل نموذجاً للمجتمع أو للثورة، ولكن دون شك شخصيته وفقاً للرواية محبوكة بشكل متميز، وخطها الدرامي ليس متضارباً.

الدكتور أنيس بدوره ليس له دور فاعل في الثورة، وكل ما عاناه بسبب علاقته بالمحامية سامية. يتم اعتقال أنيس في المرة الثانية بسبب زيارته إلى سامية في الغوطة بعد أن اضطرت للهرب خوفاً من الاعتقال. سامية محامية علوية، وباكتشاف أن علاقة الدكتور والمحامية ليست شرعية أي زواج، يتم تهديدها وكذلك وبوقتٍ أخر، تهّدد لأنّها علمانية وعلوية؛ يعود أنيس لدمشق فيُقبض عليه، وهنا لا يخرج أبداً من الاعتقال إلا بصفقة تبادلٍ، وذلك بعد أن يمضي أوراق بيع بيت حدد للإيراني السيد كراماني. طبعاً أنيس يتعرض لتعذيب وحشي، ثم يُجبر على العمل مع شخص اسمه الشيف، والذي سيُقتل لاحقاً كما يرد في آخر الرواية، وتُلصق به تهمة “إرهابي يمارس تجارة الأعضاء البشرية”، وذلك لأنه يجرد السجناء من أعضائهم الداخلية، ولصالح مافيات في السلطة؛ فيتدبر الشيف له صفقة يبيع بموجبها المنزل، ويبادله بسامية التي أصبحت معتقلة لدى جماعة متطرفة ربما النصرة، فيسلم أنيس لداعش ويُطلق سراح سامية.

الحقيقة أن الرواية لا تقارب الواقع قبل الثورة إلّا من زاوية السياسة، ولهذا توثق للمظاهرات الأولى ولمن قام بها، وكيف بدأت الثورة في الداخل والصفحة التي حاولت إدارتها من الخارج؛ ولكن تلك القضايا لا يتم التطرق إليها إلا بشكل عرضي وهامشي، وعبر جمل محدودة في بعض فصول الرواية؛ كالكلام عن الجفاف ووجود ثلاثة ملايين سوري مفقر في الرقة وكذلك عن بيع العقارات في درعا، وكذلك مجموعة الشباب في بيت حدد وهم يناقشون أوضاع الثورة وتغطيتها، ولاحقاً من خلال المجموعة الثورية التي تذهب إليها سامية، ولاحقاً تذهب ليال إلى مجموعة أخرى لتصل إلى فيديل عند داعش.

تكاد لا تظهر أسباب ما قبل الثورة وفعاليات الثورة في الرواية. فلنلاحظ مثلاً المجموعة التي تستقبلها ليال في منزلها؛ فهناك عباس الطبيب وقد أصبح ضابط أمن، وعادل زوجة ليال ولا علاقة له بالثورة بشكل مطلق، وكذلك عيسى وسامية وزوجة عباس؛ المجموعة هذه تفرقها انتماءاتها للثورة أو السلطة. ورغم محاولة رسم شخصيات روائية أساسية كسامية وعيسى مثلاً، وشخصيات سلطوية كسعد وعباس، فإن الرواية لا تقنعنا بأنها تقدم أسباباً للثورة؛ لا نتكلم هنا عن الواقع الحقيقي بل عن الواقع الخيالي الذي يصنعه الروائي.

صحيح أن الدكتور سعد الدين فاسد، وطائفي، وعباس ضابط أمن ومنحاز للسلطة، والاثنان يعملان مع الإيرانيين كما أوضحت الرواية، لكن الرواية لا تقدم أسباباً كافية لانطلاقة الثورة وتطوراتها؛ وهنا تفشل خيوط الرواية في تقديم أفكار وتصورات مقنعة للثورة ولتطوراتها. ولنلاحظ مثلاً الخطأ الذي يقع به الكاتب، فيقول إن كل ضابط في الأجهزة الأمنية ليتم ترفيعه من عقيد لرتبة عميد يجب أن يخضع لدورة دينية ويجب أن يكون علوياً، فبينما لا شيء من هذا الأمر صحيح بالواقع؛ فهناك احتكار لقيادات الأجهزة الأمنية لأفراد محددين من الطائفة العلوية، ولكن ذلك لا يتم بعد دورة دينية.

تتضمن الرواية كلاماً على لسان شخصياتها وتتناول قضايا كثيرة تخص الثورة وتطوراتها، وكثير منها مكتوب بشكل تقريري، وحينما يسرد الروائي قصصاً تخيلية تظل بعيدة عن إقناعنا كأسبابٍ لاندلاعها، كما الحال حين يسرد واقعة كتابة الأطفال على الجدران في درعا، والحريق الذي يشتعل بسبب ماس كهربائي، ثم يتطور الأمر نحو اعتقالات الأطفال، ويليه سرد كيفية بدء الثورة في درعا. كان بإمكان الرواية أن توثق أو تقدم الأمور بشكلٍ تقريري وبشكل أدق، ولكن هذا أمر صعب على من لم يعايش الثورة في سورية. إن المراوحة بين التقريري والتخييلي لا يُقدم لنا أية أفكار جديدة أو حبكة قصصية أو إثارة للقارئ تدهشه أو تفرض عليه متابعتها بشكلٍ حثيث. ربما كان الكاتب يريد عرض الواقع، ولكن ذلك ظل هامشياً لأن الكاتب لم يتطرق لأسباب الثورة كما ذكرت، والواقع الذي كان يعيشه الناس، ولم يظهر ذلك على لسان الشخصيات بكل الأحوال؛ بل لا نجد شخصية واحدة تمثل مدينة درعا مثلاً.

يهرب الروائي عبر تقطيع عمله إلى فصول، وربما هذا أمر أكثر عملية كي لا يكون نصاً متصلاً، ويقوم بدلاً من ذلك بكتابة روايته على شكل مشاهد سينمائية. وهو ما يُسهل له القطع والوصل والانتقال عبر الأزمنة والأمكنة والشخصيات بسهولة بالغة. أقصد هنا أن الرواية تتطلب التفصيل بينما السينما تكتفي بالتكثيف، فهي قائمة بذاتها، بينما النص السينمائي ليس كذلك.

يخطئ الروائي بتسمية روايته ببيت حدد لما عرضناه أعلاه، وليس من شخصيات تمثل الثورة إلا نادراً وتحديداً سامية وعيسى. ولكن الرواية ربما تقدم لنا نصاً يوضح بعض ممارسات السلطة، وما فعلته. ربما يمكننا القول إن الرواية تمثل عالم السلطة أكثر مما تمثل عالم الثورة، وذلك من خلال السرد الطويل عن المحامي وعباس وسعد والشيف وعمران وحتى فيديل.

الرواية صادرة عام 2017، وعن دار الآداب اللبنانية، ورُشحت لجائزة بوكر عن القائمة الطويلة للروايات،. كاتبها الشاعر والروائي والإعلامي السوري فادي عزام.

سيرة ذاتية لبلاد تموت

سيرة ذاتية لبلاد تموت

 حوار مع الروائي السوري مازن عرفة حول روايته الجديدة “الغرانيق” الصادرة في بيروت عن دار هاشيت أنطوان ـ مؤسسة نوفل في بيروت.

يبدأ مازن عرفة روايته الثانية “الغرانيق” بفصل عنوانه “البلدة” وهو يرسم بتؤدة معالم بلدته التي عاش فيها جلّ عمره، يرسم معالم بلدته بسردية كلاسيكية وهو يقول:

“أنا مواطن صغير، أعيش في بلدة متواضعة، تترامى بيوتها الكئيبة على امتداد سهل أجرد، تظلّلها الجبال الجرداء من الغرب …

ما زال بعض المسنين يتحدثون عن نهر غزير كان يسقي حقولاً خضراء واسعة وممتدة حتى المدى … اختفى فجأة، وكأنّ الأرض ابتلعته …”ص9

ومن يعرف الكاتب وبلدته “قطنا” في ريف دمشق، يستطيع أن يقرأ الكثير من التفاصيل التي تحيلنا إلى هذه البلدة، ابتداءً بالنهر الذي اختفى، أو “معسكرات جنود الثورة” في الجهة الغربية للبلدة، وصولاً إلى الكثير من التفاصيل المتعلقة بالأمكنة والأشخاص والحوادث، إلاّ أنّه لم يمنح هذه “البلدة” أيّ اسم، مكتفيا بأل التعريف فقط.

س1 – كيف اتّسعت هذه البلدة لمساحة البلد ككل “سوريا”، وكيف انفتحت الأحداث من خلالها لتشمل كل ما يجري أيضاً، وكأنك تكتب سيرة ذاتيه لبلاد تموت؟

ج1 – الكتابة بالنسبة لي هي استمرار للحياة، إذ كنت أشعر بأنّي أعيش سرديّة حكاية كبرى في بلد كان يعيش مخاضات التفجّر، وصولاً إلى انفجار “الانتفاضة السورية” التي وصفتها في “الغرانيق”، وما تلاها من أحداث كنت شاهداً مباشراً عليها في روايات قادمة… فأنا لم أغادر البلاد إلاّ في عام 2017، وأخلص بذلك للقول: “إنّ الرواية حياة، والحياة هي رواية”.

وبناءً على هذا، فليس المكان والزمان هما فقط المرتبطان بطريقة أو بأخرى بحياتي كرواية، بل والأحداث أيضاً، طبعاً بعد تحويرهم بما تتطلب تقنيات العمل الروائي كالفانتازيا والتداعيات والمونولوجات الداخلية وأحلام اليقظة، وهو جزء أساسي من تقنيّة السرد لدي، لذلك استخدمت ضمير المتكلم مع جميع أبطال روايتي، كأنّها سلسلة انفصامات لشخصيات متعددة تنطلق من جوهر واحد، هو هذا الإنسان الممزق في عالم يسوده الاستبداد العسكري والديني إلى درجة تهميشه وشعوره بفقدان أي معنى لحياته، فيتشظى إلى مئات الشخصيات.

وبلدتي الصغيرة هي نموذج لكل البلدات السورية التي “انتفضت” ضدّ الظلم والفساد، وبشكل خاص نموذج للبلدات التي تحيط بالعاصمة دمشق، إذ تتخذ أهميّة خاصة بسبب قربها من الجولان، ممّا جعلها منطقة شبه عسكرية منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث أخذت تتحول من بلدة ريفية صغيرة خضراء وادعة، فيها تنوّع سكاني ديني متسامح، إلى منطقة مواقع عسكرية، لم تلبث أن زحفت على أراضي الفلاحين وأخذت تلتهمها بدون حق، فكان يكفي حفر بضع حفر لدبابات وهميّة ويتم الاستيلاء على الأرض، وسرعان ما قامت المافيات العسكرية والمدنية السلطوية بسرقة الأراضي المستولى عليها باحتيالات على القانون، وتحوّلت إلى مزارع استجمام لكبار الضباط والمسؤولين، ممّا ولدّ نقمة داخلية لدى أصحابها.

المكان في “الغرانيق” هو بلدتي كنموذج للبلدات السورية، التي تحاصرها الجبال الجرداء من الغرب، التي دمّر أشجارها الكثيفة الفلتان من القوانين، وصحراء جرداء ممتدة إلى الشرق، ومواقع عسكرية ، أصبحت الآن مواقع للميليشيات الإيرانية والروسية، وما اختفاء النهر حقيقة إلاّ هو واقعة رمزية للحالة الجرداء التي وصلتها البلاد والأرواح.

الشرفة التي يقف عليها “البطل المثقف” هي شرفتي، والساحة أمامها هي التي كان يجتمع بها متظاهرو الانتفاضة أمامي، والبساتين ببيوتها الريفية القديمة هي التي كان يجتمع بها المنتفضون، والشارع الرئيسي في البلدة هو الذي أحرقه “الشبيحة” القادمين من إحدى “المساكن العسكرية” حولها، “أهالي البلدة” هم شخصيات شبه حقيقية تناولتها ببعض التحوير حسب متطلبات العمل الروائي فقط.

لذلك أقول: إنّ المكان ترك بصمته في الذاكرة والحكاية، و”الغرانيق” ذاكرة وحكاية بعد أن عملت السلطة على تدمير البيوت الريفية، وقلع أشجار الحقول من جذورها، وهي التي تعيش فيها من مئات الأعوام… “المرتزق الشبيح” لم يزرع لأشجار ولم يروها بدمه طوال أجيال، فماذا يهمه إن أضحت الحقول جرداء… والبلاد والأرواح جرداء تذهب إلى الموت.

س2 –  جاءت روايتك الأولى “وصايا الغبار” لترصد انكسار المشاريع الثورية من خلال الفساد السياسي الذي طال كلّ مكونات المجتمع والحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قبل الانفجار، لكنك في “الغرانيق” تسعى إلى رصد انتقام تلك الديكتاتورية المعنّدة، وفق المصطلح الطبي، والتي قامرت على احراق البلد دون التخلّي عن السلطة، وساهمت بانتقال الثورة مع العسكرة والأسلمة والتطرّف إلى حرب أهليّة بظلال طائفية، تبدو آثارها المستمرة لأكثر من سبع سنوات خلت أبعد من حدود المُتخيّل والجنون.

فكيف لنص أدبي أن يرصد كل ذلك؟ ومن أين نبعت جذور هذا العنف؟ وما هي آلياته؟

ج2 – هذا العنف السادي الوحشي الحاقد الذي تتبادله مختلف الأطراف السورية فيما بينها، وبتنوعاتها الدينية والطائفيّة والإثنيّة والمناطقيّة، بلغ ذروته إثر المواجهة العنفية للنظام “العسكري الاستبدادي” ضدّ “الانتفاضة السورية”، التي بدأت “سلمية”، إلاّ أنّها سرعان ما “تعسكرت” كردة فعل على عنف النظام، ثم ذهبت إلى موتها مع “أسلمتها العنفية”… وكأنّ هذا العنف كان مختزناً في اللاوعي الفردي والجمعي، يتراكم بكثافة، وينتظر شرارة صغيرة ليتفجّر، ويُدمّر كل ما حوله، وقد تحوّلت البلاد إلى حرب أهليّة وحشيّة، سرعان ما أصبح أفرادها أدوات في صراعات إقليمية ودولية، وقودها الدم السوري على الأرض السورية.

هل كان هذا العنف نتاجاً تاريخياً لـ”العقلية الستالينية”، التي انتهجتها الأحزاب العقائدية، لبناء “نظام شمولي” يقوم على عسكرة المجتمع تمهيداً لعبادة الفرد “الزعيم الجنرال”؟

عاش أطفال سوريا تجربة العسكرة منذ نعومة أظفارهم، بدءاً بالتربية العقائدية في منظمة “طلائع البعث”، ومروراً بنظام “الفتوة العسكري” في المدارس الإعدادية والثانوية، إلى جانب منظمة “اتحاد شبيبة الثورة”، التي منحت علامات تفوق دراسي مؤهلة لدخول فروع مميزة في الجامعة بمجرد إجراء دورات عسكرية عقائدية، وصولاً إلى نظام “التدريب العسكري الجامعي”… دون الحديث عن عسكرة مظاهر الحياة المؤسساتيّة الإداريّة والثقافية في المجتمع السوري، وتحكم العسكر في مفاصل هذا المجتمع.

ألم يكن العنف نتيجة منطقية لسلطة العسكر التي استثارت ضدّها عنفاً إسلامياً مضاداً، محافظاً شرساً كامناً تحت الرماد، حيث أخذت الحرب الأهليّة الحالية في أحد مظاهرها شكل صراع طائفي ظهرت إلى السطح كوامنه من اللاوعي؟ صراع بين جيوش النظام الإنكشارية الخاصة، وبين الجماعات الجهادية العنفية باسم الإسلام، وإن كان بعضها بإشراف النظام ولمصلحته؟

أم كان هذا العنف نتيجة عقلية “الاستبداد الشرقي البطريركي” الموروث تاريخياً في اللاوعي الجمعي لأفراد المجتمع، بمفاهيم “البداوة” و”الغزو” و”السبي” و”النهب”، الذي يتمظهر حالياً باسم “التعفيش”؟

كل هؤلاء الأفراد المستبدون يشكلون تمظهرات للآلهة “الغرانيق”، الجميع مسكونون بالرعب، بدءاً من “الإله القائد”، مروراً بزعيم “القبيلة” أو “الطائفة” أو “العائلة”، وصولاً إلى رب الأسرة في المنزل… وكأن العنف يسري في الدماء.

أم يكون هذا العنف نتيجة “عسكرة إسلامية لا واعية”، واظب خطباء المساجد يومياً بالدعوة إليها باسم “الجهاد”، دعوة لجهاد عنفي بحد السيف، تتكرّر بلا نهاية على منابر المساجد وعبر وسائل الإعلام، في المناسبات الدينية أو بدونها. وهو جهاد عنفي غير موجّه ضدّ الخارج، بقدر ما هو موجّه ضدّ “الكفار في “ديار الإسلام”، أبناء الطوائف الأخرى، الذين لا تقبل منهم حتى “الجزية” مقابل حرية العبادة، كما تقبل من المسيحيين واليهود! هذه الدعوات “الجهادية” ترعرعت وتمأسست بحرية في ظل نظام يدعي “العلمانية”، وكان يستغلها لأهدافه الدعائيّة في الصراع مع “أعدائه الوهميين”. لكن السحر انقلب على الساحر بعد أن استشرى العنف في نفوس الجميع.

عندما أطرح هذه التوجهات الأربعة لأصول العنف المستشري في البلاد، والذي أوصلها إلى هذا الكم النوعي من الخراب والدمار، أجدها متضافرة معاً بطريقة أو بأخرى في بنائه، وهو ما كنت أفكر به لا شعورياً طوال الوقت في أثناء كتابة “الغرانيق”، وبالأحرى  ما كنت أفكر به بقدر ما كنت أعيشه في أثناء كتابتها، وأنا أقطن في بناء في بلدتي القريبة من العاصمة، وقد تحوّل هذا البناء إلى موقع عسكري محصن، والطابق الأوّل تحوّل إلى مكان اعتقال أوّلي ومركز تعذيب، فيما استقرّ في النهاية خط النار بين “النظام” و”المنتفضين” على بعد عدة كيلومترات.

هل يبرّر أو يفسر ذلك جرعة العنف الكثيفة في الرواية؟ وهل تكون مجرّد انعكاس لأجواء العنف المعمم من حولي؟

بدءاً من القسم الأول الذي يمثل زمناً مطلقاً لديكتاتورية عسكرية تنطبق على جميع الأمكنة بذروة رعبها “الكافكاوي” الذي تفرضه على مجتمعها، ومروراً في القسم الثاني بتاريخ سوريا المليء بانقلاباته العسكرية والتصحيحية والتطهيريّة والاستئصاليّة، العُنفيّة جميعها، والتي واجهها الناس بداية في لاوعيهم بمسحة من سخرية “الواقعية السحرية” و”أحلام اليقظة الجمعية”، حتى لحظة الوصول إلى درجة الانفجار الذي أضحى واقعاً، وصولاً إلى القسم الثالث المُتمثّل بأحداث “الانتفاضة السورية”، سواء بالعنف السلطوي الذي تمّت مواجهتها به، أو بعنف “أسلمتها” الذي تسلّل إليها وطغى عليها، وهو ما ترك البلاد في النهاية ممزقة، خراباً ويباباً، ومرتعاً لجيوش وميليشيات الغرباء.

س3 ـ نجح النظام بدعم الظاهرة الجهادية في سوريا والتي قضت على الثورة بسرعة حين قادتها إلى الأسلمة والعسكرة معا، وهو ما خطط له النظام، وكانت الأدوات الإسلاميّة جاهزة للعب هذا الدور، مع إعلان “الجهاديين باسم الإسلام” سعيهم لاستعادة خلافة رشيدة عبر قتل الناس.

أليس في ذلك مُخاتلة للماضي؟

ج3 – إذا أردنا الحديث عن الإسلام الآن، فعن أيّ إسلام نتحدث، إسلام “داعش والقاعدة” الدموي، أم “إسلام فتاوى الأصولياّت” التي تعيش في غربة عن عالمنا، أم “إسلام المشاريع الوهابية الصحراوية”، أم “إسلام المشاريع الشيعية” المريضة بهواجس تاريخ عابر، أم إسلام “الإخوان المسلمين” المرائين لأيّ نظام خارجي يدعمهم، أم “إسلام الصوفيين” المهادن لأي سلطة، أم “إسلام فقيه السلطان في الممالك والجمهوريات” المهادن للسلطات، أم “إسلام الطقوس” الممتزجة بالعادات الاستهلاكية المعولمة، أيّ إسلام نريد؟

هذه الإسلاميات تنتمي جميعها إلى الماضي، وتُقاد من قبل رجال دين مسكونون بأوهام الماضي حدّ المرض النفسي، لذلك هم موتورون، ويعيشون خارج التاريخ، وغالبا ما يدعمون الاستبداد وأنظمة الفساد التي تشبههم، والتي يعيشون في ظلها، ويتكاملون مع بعضهم في تخريب المجتمع، وذلك ما يشجّع تلك الأنظمة على دعمهم، والسماح لتنظيماتهم ومؤسساتهم بالانتشار، طالما كانوا في خدمتها، دون أن تسمح للتيارات الديمقراطية بالنمو، لأنها تشكل تهديداً لوجودها القمعي.

الإشكاليّة أنّ هذه الأنظمة تتوهّم القدرة على إبقاء القوى الإسلاميّة تحت سيطرتها، وأنّ المريدين سيأتمرون بأوامرها، لذلك انتعشت التيارات الدينية في ظلّ أنظمة تدّعي أنّها علمانيّة، بل كانت الدولة تشرف على تشكيل التنظيمات الجهاديّة خدمة لأهدافها، كما حدث مع إشراف النظام السوري على تجنيد الجهاديين، وإرسالهم إلى لبنان أولاً، ثمّ إلى العراق في زمن الاحتلال الأمريكي له.

التصفية الجسدية مع “الانتفاضة السورية” كانت بحق الناشطين المدنيين، حتى أنّ جثثهم لم تعد تسلم إلى أهاليهم، ومثال ذلك ناشطو داريا الذين كانوا يوزعون الورود وزجاجات المياه على رجال الأمن في أثناء التظاهرات، بالمقابل جرى الإفراج عن الإسلاميين، وبخاصّة المتطرّفين منهم، حتى يشكلوا تنظيماتهم الإرهابيّة، بعملية مقصودة ومُخطّط لها، والأسماء التي أفرج عنها من سجن “صيدنايا”، هي التي شكلت لاحقا “النصرة” و”جيش الإسلام” و”صقور الشام” على سبيل المثال، وهي معروفة بالوثائق والصور. هؤلاء الإسلاميون المتطرفون هم الذين قضوا على الانتفاضة السورية السلمية، بالتعاون مع السلطة العسكرية، والمستقبل سيكشف الكثير من الخفايا.

لذلك انتهت “الغرانيق” برؤية تَنبؤية عن تبادل الأدوار بين “الزعيم الجنرال” و”الأمير الإسلامي”، كوجهي عملة واحدة، وأعتقد أنّ رمزيّة “الغرانيق” تتجاوز الزمان والمكان المحدد، إلى زمان ومكان مطلق مفتوح في مجتمعاتنا العربية.

س4 – كيف تماهت شخصية “المواطن الصغير” بشخصية “المثقف” ومن ثم “الزعيم الجنرال” الساعي لتأبيد سلطته عبر ألف ليلة وليلة من القتل، وكيف نجحت الديكتاتورية كأي سلطة بتعميم ثقافتها ونموذجها في دواخلنا؟

ج4 – أشرت في البداية إلى تشظّي الإنسان المُهمّش والمُمزّق بين الاستبدادين العسكري والديني، هذا الإنسان تحوّل في سياق النص الروائيّ من شخصية عادية إلى نموذج معياريّ، يُمثل بمجموعه فئات مُحدّدة من المجتمع، فالمثقف الذي يقف على  شرفة “المسكن الذي كنت أسكنه في الواقع” ويراقب التظاهرات منها، فيه بعض مني، والشاب “الثوري العنيف” ذو الأصول الريفية الذي كان يقود التظاهرات، فيه بعض من شبابي في البلدة، ببساتينها وحقولها، و”الزعيم الجنرال” هو جزء من حلم يقظة مارسته وإن بشكله البدائي، ومارسه كثيرون مثلي، في مرحلة الانفجارات الثورية منتصف القرن الماضي. أمّا الشخصيات الأخرى فأنا أعرفها جيداً وعشت معها، ابتداءً من “فتاة الحلم التي تخترق الأزمنة”، مروراً بالفلاحين البسطاء الذين سرقت المافيات العسكرية أراضيهم، وصولاً إلى “شبيحة النظام”، و”الجهاديين الإسلاميين” الذين أعرفهم عن قرب واحتككت بهم أيضاً.

تلعب التداعيات النفسيّة والمونولوجات الداخلية وأحلام اليقظة، الفردية والجمعيّة، دوراً أساسياً في تقنية كتابة الرواية لدي ـ منذ روايتي الأولى، ومن ثمّ “الغرانيق”، إذ أنّه في ظلّ عنفٍ مُستمر وحشيّ من قبل نظام عسكري شرس ضدّ أفراد المجتمع، يحاصر عوالمهم الخارجية، فإنّهم يلجؤون كحل أوّليّ إلى عوالمهم الداخلية، إلى لحظة هروب من الواقع القاسي لصعوبة مواجهته مباشرة، ومن ثمّ الانتصار عليه عبر “أحلام اليقظة”، فيمارس كل واحد منهم “عنفه الحلمي” الهوليودي ضدّ العسكر، وأجهزة الأمن، ويزيحهم من الوجود التوهمي.

يقول بطل الرواية عن رجال الأمن: “كنت أتحين الفرصة في عتمة الليل، وأنا مختبئ في فراشي تحت اللحاف، كي أقنصهم أو أفجّر مراكزهم، بل وأعذبهم، كما يفعلون هم مع معتقليهم”.

“حلم اليقظة” هو تعبير هروبي عن عجز للإنسان، وتمزّقه في ظلّ رعب كافكاوي، يحاول أن يقاومه به، هو سمة إنسان العصر الحديث الهارب من ضغوط الحياة المعقدة، فكيف إذا تمثلت بقمع نظام عسكري مُستبد، يستمد جذور عنفه الوحشي من كل المصادر المتخلفة التي أشرنا إليها. والأقسى هنا، أنّ حلم الإنسان المقموع، قد يُخفّف توتره النفسي مؤقتاً، لكنه يقوده إلى موقف غرائبي، قريب من اللامبالاة وعدميّة “ألبير كامو”، فيتساءل البطل عن مواجهته الحُلمية مع رجال الأمن: “والمشكلة التي كانت تواجهني هي أنني إن قتلت واحداً منهم في الخيال، ازدادوا عشرة في الواقع”.

في القسم الثالث من الرواية، كان اندلاع “الانتفاضة السورية” تعبيراً عن مواجهة الواقع القاسي مباشرة، عبر الانتقال من “حلم اليقظة” الهروبي، لدى فئات واسعة ومختلفة من المجتمع، إلى الفعل الإيجابي عبر التظاهرات السلمية والاعتصامات في الساحات والدعوة إلى إسقاط النظام. ومن هنا كان أحد مظاهر أهميّة “الانتفاضة” هو في تعبيرها عن الخلاص من كوابيس الرعب لدى أفراد المجتمع بشكل واسع، والتي حاولت أنظمة القمع زرعها في النفوس لخمسين سنة خلت، والانتقال إلى الفعل الإيجابي.

ففي “ثورات الربيع العربي” لم يكن المهم فقط هو ذلك الفعل المادي بتحطيم تماثيل “غرانيق العسكر” في الساحات والشوارع، وإنمّا تحطيم تماثيلها المعبودة في العقول، وهو ما حاولت الأنظمة العسكرية زرعه خلال خمسين عاماً، ومعها انتهى الوهم المرتبط بالرعب الكافكاوي والإحساس بعدميّة التمرّد والثورة. هذا الخروج وهذا التحطيم كان التعبير الأهم عن “ثورات الربيع العربي”.

لكن العنف يستمر قضية مركزيّة في الرواية، فالصراع كان شديداً داخل “الانتفاضة”، بعد مرور عدة أشهر من انفجارها، بين الاتجاه السلمي الذي كان يدعو إلى التظاهرات السلمية والاعتصامات، ممثلاً بشخصية “الأستاذ فارس”، وهو نتاج الطبقة الوسطى المتعلمة، والمُتضرّرة من  تدميرها على يد النظام العسكري، من جهة أولى، فيما تمثل الاتجاه العنفي بشخصية “البطل” مجهول الاسم والهوية، كمُمثل لفئات واسعة من ذوي الأصول الريفية المتضررة من سرقة العسكر لأراضيهم، غير أنّ الرد العنيف لعسكر النظام و”شبيحته” باستعمال السلاح ضدّ المتظاهرين، أفسح مجالاً أوسع لبروز البطل العنيف، في محاولة يائسة للدفاع عن النفس، وتمثل ذلك برمزيّة إخراج خنجره القديم ومسدسه العتيق من محفوظات ذاكرته، وهذا ما حدث في الواقع.

سارت الأحداث في الرواية عن طريق الفانتازيا إلى نوع من التماهي الخفيّ بين شخصية “الزعيم الجنرال” العنيف، و”البطل من ذوي الأصول الريفية” العنيف أيضاً، بغض النظر عن النوايا الثوريّة لديه، في لعبة أقرب للواقعيّة السحرية، والتداعي النفسي، وسلسلة من الانفصامات الشخصية المرضيّة، بحيث بدت الشخصيتان وكأنّهما وجها عملة معدنية واحدة، بالتوازي مع انفصاميّة شخصية ثالثة، مثلت “المثقف الانتهازي” الذي يختبئ وراءهما، ويميل مع المُسيطِر منهما، فتحوّلت الرواية من مظهر بطل أحادي يتحدّث بضمير المتكلم، إلى سلسلة من الشخصيات المنفصمة، تتحدّث جميعها بضمير المتكلم نفسه، في تبادل للأدوار التي تتكامل وتتشابك، وهذا ما جعل الرواية تنفتح إلى احتمالات مُتعدّدة من النهايات بقدر تشعبات مظاهر العنف ومصادره.

س5 – كيف تنتقل الساديّة السياسية إلى ساديّة جنسية؟

ج5 – خَصَصْتُ في الرواية فصلين مهمين عن حكاية البطل الشخصية، المختلطة بتاريخ سوريا الخاص منذ خمسينيات القرن الماضي، سميت أحدهما “سادية سياسية” والثاني “سادية جنسية”، ومع أنّ الفصلين مكتوبين بنوع من الفانتازيا السحرية، ممّا يتطلب عملاً روائياً يسعى إلى متعة القراءة، والكتابة الساخرة من موضوعها، إلاّ أنّ خلف كتابتها كان يؤرقني سؤال عن البُنية النفسيّة والاجتماعية لواقعنا ومجتمعنا. كنت أفكر دائماً بالعلاقة بين الجلاد والضحيّة بشكل عام، وفي المعتقلات بشكل خاص، وأتساءل: مادامت الضحية تعترف للجلاد بما يرغب من أسرار، فلماذا يستمر بتعذيبها حتى الموت؟

ليس المهم من هو الجلاد، سواء كان من عسكر النظام أو من الجماعات الإسلامية، فالجلاد هو جلاد في النهاية، يتلذذ بالتعذيب بمتعة ساديّة غامضة، غير أنّ ساديّة التعذيب حتى الموت، كذبح الضحية بالسكين أو فرمها بجنازير دبابة أو صعقها بالتيار الكهربائي، أو تذويبها بالأسيد، أو تجويعها حدّ الموت وما شابه ذلك من عمليات، حيث يُصر الجلاد على التعذيب بعملية حاقدة، تطال الطرف الآخر وما يُمثله بآن معاً. إذ يعتقد انّه بهذا الفعل ينتقم من الفئة التي تنتمي إليها الضحية “الدين، الطائفة، العشيرة، الإثنيّة، الانتماء المناطقي…الخ”.

يتحوّل العنف الذي يندمج مع المتعة الجنسيّة إلى ساديّة مطلقة، وهذا ليس بغريب عن مجتمع العنف البدوي البطريركي المزروع في لاوعينا؛ مجتمع الغزو والسبي، فالعربي لا يقبل إلاّ أنّ يقتحم غشاء البكارة في ليلة عرسه إثباتاً لرجولته المفقودة،  ويفتخر علناً بـ”غزواته الجنسية”، والحوريات في الجنة الإسلامية هنّ أبكار، يتجدد غشاء بكارتهن بعد كل ممارسة جنسية، بينما المرأة العربية تفقد قيمتها الإنسانيّة بفقدان بكارتها، حتى بعد الزواج، كما أنّها محرومة من الاستمتاع في الجنة مع الحوريين، لأنّ العقل البطريركي لا يرضى أن تنام الزوجة مع حورييّ الجنة، فالإله يختار لها زوجاً واحداً.

هكذا تبدو حياتنا الشرقية مشبعة بالعنف والكبت الجنسي الذي يتفجر على سبيل المثال باغتصاب السجينات في معتقلات النظام، والسبايا في غزوات الإسلاميين، ويصل ذلك إلى اغتصاب الرجال وحتى الأطفال، إمّا لفظياً أو فعلياً، لينتهي هذا بموت الضحية، وهكذا تصبح متعة التعذيب بدون هدف سوى التعذيب متعة جنسية سادية.

تصوّر ذروة الساديّة في الرواية، بمشهد اغتصاب “الزعيم الجنرال” لضحيته وهي تنازع الموت، وينتهي فيها بلحظة موتها، في حين تبدو المتعة السادية لدى السجانين في دفن الجثث الجماعي، دون الاهتمام بوجود أحياء بينهم.

س6 – تنتقل بنا من متاهة “الزعيم الجنرال” إلى عوالم “دون كيشوت” الهزليّة، لنكتشف لاحقا طعم “المذاق المُرّ” الذي تحدّث عنه “نيتشه” لعمل كان هزلياً في زمنه، وأعتقد أنّ أيّ قارئ لهلوسات وكوابيس “الغرانيق” سيحس طعم المرار الذي تحدث عنه “نيتشه”!

ج6 – هي الفانتازيا السحرية، خيال مريض يُعشعش في دواخلنا، خيال مليء بالخرافة والأوهام، خرافة تغزو كل معتقداتنا وتصوراتنا، وتشكل حياتنا اليومية، تحيلنا إلى أشخاص مهووسين بالجنس، ومقموعين بالاستبدادين الديني والأمني، فنهرب من كلّ ذلك إلى أحلام اليقظة والأوهام، نعيش انفصامات مرضيّة غير متناهية، تشوّه الشخصيات والأحداث أيضا بشكل كاريكاتيري بالتأكيد، غير أنّ هذه الكوميديا التي تكبر داخل مساحة تراجيديا الموت، وفي أحلام اليقظة والهلوسات القاتلة للزعيم الجنرال، لن تفلح بكل ما فيها من الكاريكاتير بحجب طعم المرار الذي تحدث عنه “نيتشه”.

مازن عرفة ـ روائي وباحث سوري مواليد عام 1955 حائز على إجازة في الآداب، قسم اللغة الفرنسية من جامعة دمشق، ودكتوراه في العلوم الإنسانية ـ قسم المكتبات من جامعة ماري كوري (لوبلين، بولونيا). مؤلفاته “سحر الكتاب وفتنة الصورة” و”تراجيديا الثقافة العربية”، إضافة على رواية “وصايا الغبار”. رواية الغرانيق هي روايته الثانية الصادرة عن دار هاشيت أنطوان ـ مؤسسة نوفل في بيروت في نهاية عام 2017.

صورة الشاعر ما بعد الحداثي

صورة الشاعر ما بعد الحداثي

حوار مع الشاعر والمترجم السوري عبد الكريم بدرخان

١لماذا اخترت أن تترجم بوكوفسكي بالذات، ما الذي جذبك إلى عالمه؟

انتبهتُ إلى بوكوفسكي قبل سنواتٍ عديدة، إذ لفتَني أنه مختلفٌ عما قرأته من الشعر العربي والأجنبي، ومختلف عن مُجايليه من الشعراء الأمريكيين أيضاً. إن مُغرياتِ عالم بوكوفسكي متعدّدة ومتنوعة، منها البساطة والمباشرة، الطرافة والبذاءة، العبثيّة والسُخرية، وهنالك الاحتفاءُ بالخمر الذي يبرزُ كثيمةٍ أساسيّة في أدب بوكوفسكي، وهي ثيمةٌ شائعة الشعر العربي والفارسي، لكنها نادرةٌ في الشعر الغربي والأمريكي بالخصوص. ثم قرّرتُ جمعَ ترجماتي المتفرّقة له، والإضافةَ إليها، والتقديمَ لها، بغية إصدار كتاب مختاراتٍ شعريةٍ جيّدٍ من حيث الحجم والاختيار وجُودة الترجمة، بعدما عانتْ قصائد بوكوفسكي من استِسْهال المترجمين والهواة على مواقع التواصل الاجتماعي وخارجها.

٢ما الإضاءة الشعرية الجديدة التي يمكن أن يكتشفها القراء العرب لديه؟

يمكن للقرّاء العرب اكتشافُ العديد من الأفكار والآراء ووجهات النظر الجديدة عند بوكوفسكي، والعربُ يحبّون بوكوفسكي عموماً. أوّلُ ما نلحظه عند بوكوفسكي هو أنه يُدمّر أسطورة أمريكاويقدّم لنا الوجه -لا القبيح، بلالحقيقي لها. ثم نراه يحطّم الصورة النمطية للشاعر، الصورة المكرّسة في الثقافة المركزية والمتوارَثة في المؤسَّسة والأكاديميّة، ويقدّم بدلًا  عنها صورةَ الشاعر بعد الحداثي، شاعر الهوامش الـمُهمَّش والشَّغُوف بالـمُهمَّشين. وكما قال عنه ليونارد كوهين: “إنه يُـنـزِلُ كلَّ شيءٍ إلى الأرض، حتى الملائكة.” شِعريًّا؛ يلفتُ بوكوفسكي الانتباهَ إلى إنّ الشِعر ليس محدّدًا في موضوعاتٍ معينة، ولا يمكن حصْرُهُ في أساليب تعبيرية محددّة، فالسيّد بوكوفسكي يذهب إلى أبعد المواضيع وأغربها، ويتناولُها بأكثر الأفكار والأساليب غرابةً. إنّ أهمّ درسٍ تعلّمتُهُ من بوكوفسكي؛ هو أنّ على القصيدة أنْ تحتشد بكلّ ما لا يتوقّعه القارئ.

٣ما أوجه الاختلاف بينه وبين الشعراء العرب من جيله على صعيد الرؤية الشعرية؟

جيل بوكوفسكي من العرب هم جيل السبعينات. بالتأكيد الاختلاف كبير من حيث المرجعيّة الفكرية، واللغة الشعرية، وفهم طبيعة الشعر ودوره، وكذلك رؤية الشاعر لنفسه وبلده والخارج… وإنّ هذه الاختلافات كما أرىتعودُ وتُـرَدُّ إلى أسبابٍ تاريخية ومادية، لا إلى أسباب ثقافية أو لغوية.

الشاعر العربي الذي أجد تشابهًا بينه وبين بوكوفسكي؛ هو محمد الماغوط. فكلاهما حطَّما صورة الشاعر الفارس الذكوريّ المغرور، وقدَّما نفسَيهما بصورةِ الشاعر البائس والفاشل. وكلاهما ناقشا موضوعاتٍ كُبرى بشيءٍ من السُخرية واللامبالاة، إذ تطغى على نصوصهما حالةٌ من اليأس الذاتي والعام، وفقدانِ الأمل من إحداث أيّ تغييرٍ في أي مجال. إن الوحدة والرعب اللذين عاشهما الماغوط في دمشق وبيروت، يشبهان الوحدة والرعب اللذين عاشهما بوكوفسكي في لوس آنجلس.

٤ما الدور الذي تلعبه الترجمة حالياً في إغناء الشعرية؟

للترجمة إلى العربية دورٌ رياديّ في تطوير الشعر العربي ودفعه من مكانٍ إلى آخر، وهذا معروف منذ أوائل القرن العشرين، فما نشأتْ تيّاراتُ الرومانسيّة والواقعيّة والواقعيّة الجديدة وما سُـمّي الحداثةإلا بعدَ الـتأثُّر بالنصوص الأجنبية المترجمة. واليوم ثمة من الشعراء العرب مَنْ يُقلّد بوكوفسكي، فيستعيرُ صوتَ العابث اللامبالي ويكتبُ عن بيئته بصورةٍ مباشرة. وثمة شاعراتٌ يُـقلّدن بلاث وسكستون وغيرهما، فيكتُبن ما يُشبه الاعترافاتمع جُنوحٍ مُبالَغ فيهِ نحو العزلة واليأس والانتحار. لطالما كان الشِعرُ المترجَمُ بوصلةَ الشاعر العربي على مدار قرنٍ كامل. دعْ عنكَ مقولاتٍ مثل الشِعر لا يُترجَمأو ترجمة الشعر خيانة، وأحيانًا تغدو الترجمةُ كلُّها خيانة“! فهذا الكلام لا قيمةَ له. إنّ تأثيرَ الشِعر المترجم في الثقافة العربية لظاهرةٌ تستحقُّ التأمّل، حيث أن معظمَ المثقفين العرب فهِمُوا الحداثة وكتَبُوا عنها تأييدًا أو نقدًا، مُنطَلِقين من فهمِهم وتصُوُّرهم الشِعري لها. إنّ كلمة حداثةعند العرب تأخذُ الأذهانَ باتجاه الشِعر قبل أيّ شيء آخر!

٥ما الذي شعرت أنك خسرته في الترجمة، وما الذي ربحته؟

الترجمة تُعلِّم الدقّة، وهذا الأمرُ حسَنٌ في مجال الكتابة البحثية، لكنه مُقيِّدٌ في مجال الكتابة الإبداعية. خسرتُ حريّة وفوضوية التعامل مع الكلمات، خسرتُ متعة القراءة باللغة الأجنبية دون أنْ يعمل ذهني لا شعوريًّافي ترجمة ما يقرأ، حتى أثناء مشاهدة الأفلام أجدُ نفسي أترجم ما أسمع بدلًا  من الاستمتاع به فحسب. في المقابل، كسبتُ معارفَ عديدة في اللغة والأدب والثقافة العامة، وحتى اللغة الأم فإنها تتطوّر وتُغنى أثناء الترجمة إليها.

٦بماذا يتميز بوكوفسكي عن أقرانه من الشعراء الآخرين في سياق الشعر الأميركي؟

يتميّز بأنه لا يشبههم، ولم يقبل التصنيفَ ضمن تيارٍ من تياراتهم، فلا هو تقليدي ولا حداثوي، لا اشتراكي ولا مناهض للاشتراكية، لم يكنْ من المؤمنين ولا الوثنيين، ولم يُعرَف عنه الاصطفاف إلى جانب الملوَّنين أو الوقوف ضدّهمأما من حيث الاتجاه الأدبي، فإن الحركة الأدبية التي أسَّسَها بوكوفسكي، والتي ينتمي إليها وتنتمي إليه بوصفه عرّابها، فهي الواقعية القذرة، وقد باتَ من المعروف أنها اتجاهٌ أدبي يهتمُّ بالحياة العادية والبائسة للطبقة الفقيرة، ويركّز على نماذج من العمّال والمشرّدين والسكّيرين والعاهرات (عاملات الجنس)، ويتميّز بتصوير الواقع المعيش بكلّ تفاصيله القاسية والصادمة والقذرة. إذًا، فإنّ بوكوفسكي مؤسّسٌ لتيّار أدبي! وهذا ما لا يستطيعُهُ إلّا  بضعةُ شعراء معدودين خلال قرنٍ كامل!

٧كيف تنظر الآن إلى واقع الترجمة الشعرية إلى اللغة العربية؟ لماذا برأيك تتفوق الرواية على الشعر؟

في الواقع لا يمكن الحديث عن حركةِ ترجمةٍ شعريةٍ إلى العربية، إذ توجد مساهمات فردية متفرّقة وسطَ حالةٍ من الفوضى العامة، وقد باتتْ هذه المساهماتُ تجدُ مكانًا لها في الصحافة (ورقية وإلكترونيّة) أكثر مما تجدُ مكانًا في دور النشر. كل ذلك، وغيره، يجعلُنا لا نعتقد بوجود حركة ترجمة شعرية إلى العربية. السبب فيما أرى هو غياب المؤسسة الثقافية العربية، وفي حال وجودها فإنها تعمل دون خططٍ أو رؤىً مستقبليّة. أما دور النشر الخاصة فلها اعتباراتها الخاصة، مثل تحقيق نِسَبٍ جيّدة من المبيعات، وهذا ما لا يحقّقه الشِعرُ عادةً. لكن لماذا تحقق الرواية مبيعات أكثر من الشعر؟ أعتقد لأنّ لغة الرواية تصلُ إلى شريحةٍ واسعة من القرّاء، هي أوسع بكثيرٍ مِنَ التي تصل إليها لغةُ الشعر. كما تصلُ مقولةُ الرواية سواءً كانت تاريخيّة أو سياسيّة أو اجتماعيةإلى شريحةٍ أوسعَ بالعموم من الشريحة التي تصلُها مقولةُ القصيدة. الشعرُ مُتطلِّب، ويحتاجُ إلى قارئٍ مُهتمّ به، لأنّ آليّات القراءة في الشعر تتطلّب إلمامًا خاصًّا بها. وهنالك أيضًاأسبابٌ تتعلّق بطبيعة الحياة اليوم، وبكثرة الـمُغرَيات التكنولوجيّة التي تُبعد الناسَ عن القراءات الـمُعمَّقة والـمُتأنّية، وعن القراءة مرّةً تلو الأخرى، في سبيل التلذّذ بالنصّ وإعادة خلْقِ أبعاده ودلالاته لدى المتلقّي، وهذا ما يتطلّبه النصّ الشعر في نماذجه الرفيعة.

أجري هذا الحوار بمناسبة صدور الترجمة العربية لمختارات من شعر تشارلز بوكوفسكي بعنوان وحيداً في حضرة الجميعوالتي ترجمها الشاعر السوري عبد الكريم بدرخان وصدرت مؤخراً عن عن دار فضاءات في عمان، الأردن.

Alia Malek, The Home That Was Our Country: A Memoir of Syria – A Review

Alia Malek, The Home That Was Our Country: A Memoir of Syria – A Review

“The Syria war continues to deform the world we live in. Incessant reports about urban guerilla warfare or airstrikes, civilian massacres or chemical weapons attacks suffuse the mediascape even as war “fatigue” seems to have set in around the world, especially in the United States. Over the past few years, a number of first-person narratives have been published that exceed or complicate military or geostrategic analysis of the ongoing conflicts; they successfully, often powerfully, bring the personal tolls of the conflict to the fore. The diaries of Janine di Giovanni, Jonathan Littell, and Samar Yazbek, just to name a few of the most prominent voices, help to focus attention on human-scale aspects of the Syria War. Where political analysis and war reporting stops, memoirs and essays shed light on some of the poignant social and individual dimensions of everyday life for Syrians both inside the country and in the diaspora.

In The Home that Was Our Country, Syrian-American lawyer and journalist Alia Malek presents a fresh and gripping account of her own family’s history. Narrated with style and grace, the book is not only a deeply felt and richly textured memoir, but also a bracing introduction to Syrian history, politics, and everyday life, from the late Ottoman period to the present. Indeed, the book is noteworthy and distinctive for being a splendid interweaving of historical narratives that link individual and family, nation and imagination, place and memory. Malek paints a kaleidoscopic picture of the conditions of Syria both before and after the uprising in 2011 as well as the multifarious journeys Malek took as lawyer and journalist, around the Middle East and Europe. From Damascus to Homs and Beirut, from Egypt to Armenia and Germany, Malek has trodden some of the same unstable terrain as many Syrians who are fleeing unceasing violence and trying to survive the seemingly interminable chaos into which the country has fallen.

After the marriage of Malek’s maternal grandmother, Salma, who hailed from Hama, and her maternal grandfather, who was from Homs, the couple moved to a modest apartment in the Ain al-Kirish neighborhood, near Sarouja, just outside the old city of Damascus during the early days of Syrian independence in the late 1940s. In her narration of her family’s experience in the cataclysmic experience of World War, Armenians who had fled the genocidal program of the Ottoman military authorities in Anatolia took refuge in the family home, and some became veritable members of the family. In a move that was more of a financial decision than a humanitarian one, the family house in Damascus was subsequently rented to acquaintances when Malek’s family moved to North America. The house, in turn, serves as the material fulcrum at the heart of Malek’s memoir. Syrian law protects the rights of subletters, thus awkwardly preventing Malek’s family from reclaiming their apartment when they wished to refurbish the property, to carve out a space in Syria to which they could return when they were finally ready to do so.

Malek grew up primarily in Baltimore, Maryland, though she spent substantial periods of time during her childhood, adolescence, and young adulthood in Syria, Lebanon, and the occupied West Bank, whether that was in the context of visiting family and friends, or gaining work experience with Palestinian and other regional legal organizations. Malek lived in Syria from April 2011 until May 2013, working on this book about her family history while also experiencing first-hand and chronicling the emergence of the nonviolent Syrian uprising. She soon witnessed it devolve into a bloody civil war that has now been raging for upwards of seven years. Towards the end of her narrative journey, Malek somberly relates how she “thought with sadness again of how all this had started—with Syrians simply asking to be included in their own governing—and looked up at the sky and hoped nothing would explode” (311).

Malek paints a vivid picture of her own family history: her great-grandfather Abdeljawwad al-Mir (1889-1970), whose family were Antiochian Orthodox Christians in the village of Suqaylabiyah. In the context of early post-Ottoman Syria under French Mandate control, Abdeljawwad, who as an only son thus escaped conscription into the miserable seferberlik, came into contact with nationalist resistance leaders Shaykh Salih al-ʿAli and Ibrahim Hanano, among others. Just after the arrival of the French Mandate authorities, Abdeljawwad moved his family to Hama, where Malek’s maternal grandmother, Salma, was born in 1924. After Salma’s older brother defied Abdeljawwad’s wishes and eloped to Damascus, Salma visited and fell in love with a man named Ameen, with whom she moved to Damascus in 1949, to the family apartment in question where they became the first occupants. Colorful stories of the original inhabitants of the building bespeak the diversity and dynamism of Damascus during the 1950s and 1960s. In 1970, Salma decided to rent out the apartment to make some much-needed cash, and she did so to a man named Hassan, who would live in the house until the 2000s, and with whom Malek would maintain a personal relationship for a long time to come. “I was writing about Salma and the house,” Malek writes, “a house that my grandmother, my mother, they, and now I had lived in. Its history included all of us, and they had been in it for forty years. Even if it was at the expense of my family, I didn’t want to erase their lives from it” (319).

With the fate of the family house in limbo, Salma was facing her own health challenges. After Salma had a stroke and was consigned to a catatonic condition, Malek described her as being “locked in,” which is the same term she uses to describe Syria under dictatorship: “To be locked in is to be completely alive—to be there fully—inside a body that is wholly paralyzed” (106). This arresting image of a country still alive, still subject to thoughts and emotions and aspirations and memories even as it is held captive to the ravages of illness or authoritarian rule is profoundly troubling. Malek bleakly connects the two as she recalls of life in Syria during the heyday of Hafiz al-Asad’s reign. ““To my evolving consciousness, still that of a child, Syria was like my grandmother Salma—suspended between life and death. There and not there” (110). Given her diasporic crossings from Beirut to Cairo, from Damascus to Baltimore, it is hardly surprising that Malek would have an evolving relationship to the home that was her country, to her native Syria. “Although both had once been very real to me, all I had of Salma and Syria were memories, and both topics in our house were tinged with sadness” (110). Her grandmother Salma died in August 1987.

Many Syrian activists who were mobilized during the early days of the Syrian uprising in 2011 and who continued to animate the inspiring pockets of nonviolent organizing in order to build another Syria, a new Syria, would speak of how they “discovered” or “rediscovered” their country during that initial mobilization. Taking shelter in mosques and other houses of worship where the state security services were unlikely to suspect they had gathered, these activists found like-minded men and women who came from diverse segments of Syrian society, from all manner of sectarian, ethnic, class, and regional backgrounds. Not only does her family recognize the significance of religious and ethnic diversity first-hand—as her family is part Christian—but the cast of characters Malek meets along the way in her own memoir represent the gamut of Syrian diversity: Kurds, Jews, Sunni and Shiʿi Muslims, Christians of multiple denominations, ʿAlawis, and Armenians. Much like thousands of other Syrians, Malek seems to have “re-discovered” Syria through her return to her family’s fascinating history as well as through her frantic attempt to keep up with the challenges and the dangers of the war in Syria as it raged around the country and spilled out into the region and around the world. One particularly poignant moment in the book concerns a series of gatherings that Malek attended with her cousin Tala, a “psychodrame” organized by Jesuits in Damascus in August 2011, which was meant to serve as a venue for self-expression, dialogue, and collective soul-searching about the situation in a therapeutic and performative mode. One of Malek’s takeaways is that previously “Syrians had no forum in which they could talk directly to each other about what was happening in their country,” that adults had been “infantilized” by decades of authoritarian rule (207). Even as Malek seeks to understand the perspective of her fellow Syrians amid these cataclysmic events, she is by no means willing to hide her own politics. “I was angry at those who supported Assad out of conviction—those who actually believed in him. But I felt a kind of skin-crawling embarrassment at the nonbelievers who nonetheless chose to be obsequious, and even theatrical, in supporting him” (228). This anger and embarrassment notwithstanding, Malek shows grace and determination in directly engaging with the diversity and differences percolating in Syrian society and culture during a time of profound destabilization and uncertainty.

The Home that Was our Country is a marvelous achievement, a first-hand testimony of one Syrian-American coming to terms with the tragedy of Syria. But the book is so much more than this: history lesson, social tableau, cultural analysis, and highly specific personal memoir. In her concise and accessible account of the making of modern Syria, Malek is as comfortable evoking the terror and thrill of the Syrian revolution and its aftermaths as she is at deftly describing and analyzing centuries of Syrian history. She is interested in “all the little and big things Syrians all over the country had left behind, thinking they were coming back” (xvi). Her depiction of local culture—food, smells, handicrafts, everyday family life—add texture to the dry historical narrative and political analysis that has all too often saddled the shelves of the library of modern and contemporary Syria.

The Home that Was our Country holds out modest hopes for a future Syria beyond the current catastrophe. When her father fell ill in the spring of 2013, Malek decided to return to the U.S. in order to spend time with him, and her sense of being caught between her ancestral homeland and her Syrian-American family is powerfully rendered here, as throughout the book. Malek raises important questions about the nature and diversity of Syrian society, about the possibilities for reconciliation and reconstruction in the wake of such terrifying and traumatic dislocation and devastation. As she notes, the only way for the country to begin down the path of reconciliation and reconstruction is for foreign powers—especially Russia, Iran, Saudi Arabia, the Gulf monarchies as well as the United States—to contribute more robustly to creating the conditions of possibility for that outcome. Whatever optimism is left for those concerned with the fate of Syria will be nourished by the beautiful stories being created, told, and related by Alia Malek and her generation of Syrians, both inside the country and in the sprawling—and tragically ballooning—Syrian diaspora.”

[This article is published jointly in partnership with Jadaliyya.]