إنجازات “التربية”: حفلة “ردح” وتصريحات فارغة

إنجازات “التربية”: حفلة “ردح” وتصريحات فارغة

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

لم يمضِ أقل من أسبوع على حفلة “الردح” التي جرت بين وزير التربية السوري درام الطباع وعميد كلية الطب البشري في جامعة دمشق نبوغ العوا بخصوص العودة إلى المدارس، حتى صدر قرار بإقالة الأخير من منصبه وتعيين خلف له، في موقف اعتبره الكثيرون نقطة لصالح الطباع تمكن فيها من تسجيل هدف في مرمى العوا، حتى وإن كان بدون قصد. واللافت في الأمر أن عميد كلية الطب السابق لم يبلغ رسمياً بتعيين عميد جديد بدلاً عنه، وأن خبر التعيين وصل إليه كما وصل إلى العامة حسب تعبيره. ويأتي هذا القرار في الوقت الذي لمع اسم العوا في الآونة الأخيرة في ظل انتشار فيروس كورونا، حيث تمكن من بناء قاعدة جماهيرية له عبر فيديوهات التوعية والوقاية من الفيروس.

وفي العودة إلى تفاصيل السجال الذي دار بين الطرفين، كان قد تسبب اقتراح عميد كلية الطب البشري بتأجيل إعادة طلاب المرحلة الأولى للمدارس لمدة ١٥ يوماً، بإثارة حفيظة وزير التربية السوري ودفعه للتصريح جزافاً، ما دفع الأول للرد، وكالعادة لا يفوت الشارع السوري هذه التصريحات دون تحويلها إلى مادة للتندر لا تخلو من الجدية.

وكان عميد كلية الطب البشري قد وصف عودة المدارس في موعدها المحدد 13/أيلول الجاري لطلاب المرحلة الأولى بـ “المغامرة” ما لم تؤخر، داعياً إلى تأجيلها لمدة أسبوعين آخرين، ريثما يتم الوصول إلى السيطرة الصحيحة على منحنى انتشار فيروس “كورونا”.

وبالرغم من أن الاقتراح الذي قدمه العوا كان “طبياً” بحتاً حسب تعبيره، إلا أنه أغضب الطباع ليرد بالقول: “نحترم عميد كلية الطب البشري وآراءه المطروحة حول تأجيل المدارس، لكنه لم يغلق المشافي ولا الجامعة المشرف عليها”. هذه المقاربة لا تبدو منطقية وغير متكافئة بنظر العوا الذي بدوره رد عبر لقاء إذاعي في شام إف إم بالقول: “الجواب بإغلاق المشافي لا يعادل تأخير المدارس وليس على قدر الاقتراح، وفي حال تم إغلاق المشافي أين سنضع ونعالج المرضى”، موضحاً أن الغرض من الاقتراح المقدم هو: “لمراقبة منحنى الإصابات خلال الـ١٥ يوم باستمراره بالشكل الأفقي لإمكانية عودة الطلاب إلى المدارس دون الخوف، بحيث لا تتعرض جميع العائلات السورية للإصابة ويتصاعد المنحنى”.

الشارع السوري كعادته، ولامتلاكه حساً عالياً بالسخرية والتهكم بدأ بإطلاق سيل من التعليقات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فهناك من وصفهم بـ “مثل الرداحة والنواحة، عيب عليهم”، فيما كتب آخر: “ها قد بدأت معركة قصف الجبهات”. لكن ما ساهم بحجم ردود أفعال السوريين وزيادة حدة سخرية التعليقات والاستهزاءات هي الخلفية التي ينحدر منها وزير التربية وهو اختصاص في الطب البيطري، إذ تعلق ناهد مثلاً: “أسلوبه بالرد يدل على مستوى تدني بالثقافة كتخصصه، فهو يتعامل مع التلاميذ كأنهم مجرد حيوانات في حظائر”. فيما تصف رولا رده بـ “المتسرع ولا يليق بوزير”. أما البعض الآخر فقد طالبوا الوزير بالاعتذار الفوري واستدراك خطأه.

لم يكتف الطباع بهذه الردود، بل ذهب إلى أبعد ما يكون عن المنطق، بفضل تصريحه حول إمكانية إصابة التلاميذ الصغار بفيروس كورونا ونقله بدورهم لأفراد العائلة ممن هم من كبار السن، مقدماً الحل العجائبي، بالقول: “يجب على أي فرد بالأسرة طاعن في العمر أن يقول لطفله أو حفيده، ابتعد عني”، ليثير بذلك موجة سخرية جديدة وتعليقات استهزائية كفرح التي كتبت: “بصراحة أفحمتنا بهاد الحل يلي ما كان خاطر ع ذهننا، برأي لازم يستعينوا فيك بوزارة الصحة العالمية لتحل مشاكلن”.

وما زاد الطين بلة تصريح ممثل اليونيسف في دمشق تشارلز نابونغو (أخصائي في مجال التعليم) خلال مؤتمر صحفي، حيث قال: “أن المدارس في سورية هي بيئة آمنة للأطفال ويجب على الأهل الاطمئنان على أطفالهم”. إذ أثار التصريح مزيداً من سخرية الأهالي واستهجانهم في الوقت ذاته، فتقول آية حسن مثلاً: “عليك أولاً زيارة مدارسنا الرسمية، ثم التفوه بهذا الكلام المجافي للواقع، لأنك حتما لم تشاهد الحمامات المتسخة ولا خزانات المياه الصدئة، أنا متأكدة أنك ستغير رأيك”، فيما تعلق بسمة ضاحكة: “قديش دافعيلو لحتى يحكي هالكلام”.

حوامل سوريات في زمن الكورونا: مزيج من الفزع والفرح

حوامل سوريات في زمن الكورونا: مزيج من الفزع والفرح

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

تعيش سلمى وهي أم لطفلين هاجسين، الأول ظهور علامات الولادة المبكرة بعد أن أخبرها الطبيب باحتمال وضع مولودتها في الشهر المقبل وذلك قبل شهرين من الموعد المحدد، أما الثاني فهو الخوف من التقاط فيروس كورونا، لا سيما في ظل انتشار معدلات الإصابات ويأتي ذلك في ظل الحصار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، إذ تشكل النساء الحوامل الحلقة الأضعف في مواجهة الفيروس بعد كبار السن. وعن مخاوفها تقول سلمى: “أخشى أن ألد قبل الآوان، سأدخل في الشهر السابع بعد عدة أيام، أعاني من تشنجات تسببت لي بفتح عنق الرحم، ما قد يعجل من ولادتي ويقلب كل توقعاتي، كما أنني اتفقت مع طبيبي الخاص على أن يتولى أمور التعقيم الذي تكفل به على مسؤوليته الشخصية، محاولاً طمأنتني وعدم إثارة الخوف في داخلي، فيكفيني آلام المخاض”.

وعن الاحتياطات التي ستتخذها للوقاية من فيروس كورونا، تقول السيدة ممازحة: “يبدو أن طفلتي رح تجي معقمة خالصة وريحتها كلها كلور من كتر ما عم عقم وغسل، سآخذ معي معدات التعقيم من قطعة صابون ومعقماً لليدين ومنشفتي الخاصة، بالإضافة إلى منع الزيارات بتاتاً، وسأضطر إلى تقديم بعض الرشى للممرضات للقيام بواجبهن كما جرت العادة في ولاداتي السابقة كي يهتمين بي على نحو أكبر”.

أما لونا فاختارت دون عناء تفكير الولادة في جناح تابع لمستشفى خاص لانعدام ثقتها بالمستشفيات العامة من جانب النظافة والتعقيم والرعاية خاصة في ظل شكاوى الناس المتكررة من غياب مظاهر التعقيم، عدا عن الازدحام والأعداد الكبيرة فيها، ما يعرضها لالتقاط الفيروس بنسب أكبر. وتؤكد لونا: “حتماً سألد في مشفى خاص، على الأقل أملك ترف خيار البقاء في غرفة لوحدي دون أن تشاطرني بها مريضة أخرى، ناهيك أنني سمعت أنهم يعتنون جيداً باقسام الولادة، ومع ذلك كله، سأحضر معي كمامتي وفوطتي الخاصة”.  وقد حاولت لونا مراراً عدم السماح للخوف من التسلل لداخلها حيث عقبت بالقول: “منعت نفسي من الشعور بالخوف لأن ذلك يؤثر سلباً على صحتي الجسدية ويثبط من مناعتي، ضاعفت اهتمامي بنوعية الطعام وتناول المأكولات التي ترفع المناعة نظراً لوجود الفيروس الذي يهدد الحوامل بشكل خاص، كما أنني ابتعدت عن الأخبار السلبية والمحبطة وأخبار الفيسبوك المكتظ بأوراق النعوات، بالإضافة إلى التعقيم المستمر داخل المنزل وأخذ الحيطة والحذر في الخارج، أعمل على قدر طاقتي، والباقي على الله”.

الولادة المنزلية للنجاة من العدوى

في ظل انتشار فيروس كورونا والتحذيرات المتكررة بعدم الذهاب إلى المستشفيات إلا للضرورة القصوى كونها بؤرة خصبة تشجع على التقاط العدوى، وبما أن النساء الحوامل معرضات بشكل متزايد لخطر الإصابة بمرض خطير من فيروسات كورونا، لجأت العديد منهن لخوض تجربة الولادة المنزلية والعودة إلى عادات الجدات القديمة بالرغم من كونها غير رائجة خوفاَ على حياتهن وحياة أطفالهن. ومن هذه التجارب، عايدة التي قررت وضع مولودها الأول في المنزل  في قرار جاء متأخراً وذلك قبل يوم واحد فقط من موعد ولادتها في مستشفى خاص، وتوضح: “اتصلت مع طبيبي الذي أشرف على مراقبة وضعي الصحي طوال فترة حملي و ألغيت عمليتي  قبل يوم واحد من موعد ولادتي لأخبره بأنني سأتجه إلى الولادة المنزلية خوفاً من التقاط أي عدوى، بعد ذلك حصلت على رقم إحدى القابلات اللواتي يُشهد لها بالإنسانية والمهنية واتفقت معها على أمور التعقيم “، مضيفة: “على الأقل تأكدت من تعقيم كل الأدوات لأن القابلة عمدت إلى تطهيرها أمام عيني مع ارتداء القفازات والكمامة، وأضمن هنا أنني لن التقط الفيروس، كانت تجربة جديدة ومثيرة حقاً بالنسبة لي”.

اعتادت نبيلة اصطحاب حقيبتها الممتلئة بالمعدات الطبية الخاصة بالولادة الطبيعية، فهي عملت قابلة قانونية لأكثر من 33 عاماً في أحد الأحياء الشعبية في دمشق، وقد نالت شهرة عالية في أوساط الحي وعرف عنها بتقاضيها أجور رمزية مقابل عملها الذي تصفه بـ”الإنساني” لافتة إلى أن عملها ازدادت وتيرته بالتزامن مع ظهور جائحة كورونا حيث تقول: “الولادة في المنزل كانت موجودة من قبل، لكنها اتسعت وازداد الإقبال عليها منذ ظهور جائحة كورونا، إذ قصدتني العديد من النساء الحوامل خشية تعرضهن للفيروس والتقاطه من المستشفيات وانتقاله للمولود”. وعن إجراءات التعقيم التي تتخذها السيدة تقول: “أضع جميع أدواتي من مقص جنين ومقبض رحم وملقط وغيرها في جهاز تعقيم خاص لمدة نصف ساعة، مع الحرص على ارتداء الكمامات والقفازات”.

إلا أن إلفت تتمنى لو بإمكانها الولادة في منزلها، لكنها لا تستطيع ذلك كونها خضعت لعملية قيصرية سابقة تحول دون ولادتها طبيعياً وتوضح قائلة: “ليتني أستطيع أن ألد في منزلي، لكن الأمر مستحيل كوني أجريت عملية شق في البطن في ولادتي الأولى، فوجودي في المستشفى الآن ضروري جداً  نظراً لكونها عملية جراحية، لكن لو كانت حالتي الجسدية تسمح لي بإجراء ولادة طبيعية، لما ترددت لحظة واحدة في إحضار قابلة إلى بيتي خوفاً من التقاط أي عدوى في المستشفيات أو الاختلاط مع أحد”.

إرجاء الحمل حتى إشعار آخر

اتفقت سحر مع زوجها على تأجيل فكرة الحمل في ظل الظروف الراهنة للعام المقبل على أمل توفر لقاح لفيروس كورونا وتقول: “كنا زوجي وأنا نخطط للإنجاب للمرة الثانية بعد طفلي الأول إلا أننا عدلنا عن الفكرة ريثما يتم تأمين لقاح، لاسيما أن انتشار الفيروس بدأ بالتصاعد، فنحن بغنى عن الوقوع في المحظور، خاصة أنني لدي طفل”. أما خلود فلا تستطيع تأجيل تحقيق حلم الأمومة وقررت الحمل في هذه الظروف غير المناسبة، كونها تزوجت متأخرة وفرص الإنجاب قليلة بالنسبة لها، وتقول: “بدي لحق جيب ولد، فعمري شارف على الأربعين، لا أستطيع الانتظار أكثر، كل شيء من الله خير”.  وتنصح رامية السيدات اللواتي لديهن أطفال من قبل تأجيل فكرة الحمل، سيما وسط ارتفاع الأسعار وانتشار الأمراض.

كيف يواجه أطفال سوريا الكورونا؟

كيف يواجه أطفال سوريا الكورونا؟

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

تبدو التقارير التي تنشرها منظمة الصحة العالمية ووسائل الإعلام حول ندرة إصابة الأطفال بفيروس كورونا مطمئنة وواعدة إلا أنّ ما يحدث لهم من حالاتٍ نفسيةٍ أثناء الحجر قد تكون أشد خطراً وألماً عليهم وخصوصا في بلدٍ كسورية تعاني من صعوبات الحرب التي لم تنته بعد لتأتي جائحة  كورونا وتضيف فصلا جديدا من فصول الخراب المستمر.

في الأيام الأولى للحجر كانت ابنتي الوحيدة (8 سنوات) تظنّ أنها عطلة رائعة أشبه بعطلة العيد، كانت سعيدةً لأننا سنجلس طويلاً معاً ولن أضطر لتركها والذهاب للعمل وسيكون هناك متسعٌ من الوقت لفعل أشياء ممتعةٍ ومسلية، ورغم جهودي لابتكار تلك الأشياء المسلية والمفيدة  أصبحت جملتها المفضلة بعد مضي أسبوع واحد فقط: ” لقد مللت”!

 في البداية حاولتُ استغلال الوقت المتاح لنا وتنظيمه وتوزيعه بين تدريسها لتعويضها عن انقطاع المدرسة، وبين ممارسة هواياتها المفضلة كالعزف والرسم والأشغال اليدوية، كما مارسنا التمارين الرياضية وشاهدنا الرسوم المتحركة وقرأنا جميع القصص في مكتبتها وتشاركنا أعمال المنزل، وعلى الرغم من كل المحاولات لكسر روتين الملل والقيام بأشياء جديدة إلا أنّ طول مدة الحظر جعلت كل ما نقوم به مملاً ومكرراً. من المؤكد أن التواصل الحسي المباشر ضروري ومهم لنمو شخصية الطفل من كل جوانبها، وحرمانه من الحركة والتواصل الاجتماعي مع المحيط سينعكس سلباً على نموه وملكاته، لذا بدأت ابنتي تدريجياً بفقدان اهتمامها بهواياتها وسيطر الملل على حياتها ولم تعد ترغب باللعب وترفض قراءة الدروس أو مطالعة الكتب، وفقدت رغبتها بالرسم وعزف الموسيقى، ومهما يكن الوقت الذي نمضيه معاً، إلا أنها باتت دائمة الشكوى من وحدتها ومن افتقادها الكبير لمدرستها وأصدقائها.

غياب الأب

بعد استشهاد زوجها اعتادت ريم وأطفالها (4 و6 سنوات) تمضية الوقت خارج منزلهم البسيط المؤلف من غرفةٍ واحدةٍ وذلك عبر القيام بزياراتٍ لا تنتهي للأهل ولجميع الجيران والأصدقاء وحتى أصدقاء الأصدقاء أحياناً، هاربةً من وحدتها وواقعها وعاجزةً عن العمل بسبب صغر أعمار أطفالها ومكتفيةً بالراتب المتواضع الذي تتقاضاه كتعويض من الدولة على استشهاد زوجها.

الحجر الصحي الذي فرضته كورونا وضع ريم مباشرةً أمام مرارة واقعها إضافة لصعوبة التعامل مع طفلين اعتادا الخروج واللعب مع الآخرين دون رقيب. بداية الحجر كان نشاطهما الدائم كارثة حقيقية، وصراخاً ولعباً وعنفاً متبادلاً بينهما ما اضطرها لاستخدام العقاب الجسدي لكبحهما ومن ثم إجبارهما على الجلوس أمام التلفاز عندما تكون الكهرباء متوفرة.

العنف المفاجئ الذي أبدته الأم انعكس على الأطفال بشكلٍ مباشرٍ، فقد تحولا إلى طفلين خاملين وبدت علامات الاضطراب في سلوكهما تبدو واضحة، الطفل الكبير كان ينزوي لوحده وكثيراً ما كان يُكلم نفسه أو أحد ألعابه بالإضافة إلى اضطراباتٍ في النوم والأحلام المزعجة، أما الطفل الصغير فلم يكن بأفضل حال من أخيه فقد كانت تأتيه مساءً نوبات هلع ويُمضي ساعةً قبل النوم في الصراخ والبكاء، إضافةً إلى تبوله في فراشه على نحوٍ متكررٍ.

نوال (35 سنة) تعاني هي الأخرى من غياب زوجها في لبنان وقد هرب من الخدمة الاحتياطية وهو الآن عالق هناك دون عمل ولا يستطيع العودة. كانت نوال تعمل في مشغلٍ للخياطة قبل أن يتوقف بسبب الحجر الأمر الذي اضطر ابنها المراهق عُمر (14 عاماً) إلى العمل في توصيل الطلبات لدى أحد المحلات لتأمين دخلٍ للأسرة ريثما ينتهي الحجر وتعود أمه للعمل.  تحكي نوال عن مخاوفها الكبيرة على ابنها وهي تذرف دموعها وتقول “يخرج عمر للعمل منذ الصباح وحتى المساء، يؤلمني اضطرارنا لعمله في هذا الوقت بالذات، فالمرض من جهة ودخوله سن المراهقة من جهة أخرى، أخشى عليه من رفاق السوء والاستغلال وأخاف أن يتعلم التدخين أو تعاطي الممنوعات وأشعر بخوفٍ شديدٍ عليه وكأني أرميه بيدي للتهلكة”.

ألعاب الكترونية

سعاد (38 سنة) التي حاولت جاهدة تنظيم وقتها وأوقات أسرتها بصورةٍ دقيقة ومن مختلف الجوانب لتجعل من أطفالها (قيس 12 سنة، وصقر 10 سنوات) نموذجاً مختلفاً عن أطفال الحي الذين يضيعون أوقاتهم بالألعاب الإلكترونية، وكانت تحاول الشرح لأمهاتهن عن سوء تلك الألعاب ومخاطرها الجسدية والنفسية على الأولاد من وجهة نظرها.

كانت تسال نفسها دائماً كيف يمكن لأمٍ أن تسمح لأولادها بالجلوس لساعاتٍ طويلة أمام هذه الألعاب؟ ما الممتع في ألعاب العنف والمعارك؟

 لكن بقاء الأطفال كلّ هذه المدة في المنزل وتعطّل كافة الأنشطة والنوادي التي كانت تملأ وقت الأطفال بعد المدرسة أفلت زمام الأمور من يدها بدءاً من مواعيد تناول الأسرة للطعام وانتهاء بمواعيد النوم.

تقول سعاد “حاجة ولديَّ للتواصل مع أصدقائهما في فترة الحجر جعلتني أوافق على استخدامهما للموبايل، وبدأت الأمور بالتطور وصار من الضروري تنزيل الألعاب الالكترونية كي يتشاركا مع أقرانهما اللعب أو على الأقل ليستطيعا إيجاد أحاديث مشتركة فيما بينهم والآن صارت هذه الألعاب تشغلهما طول الوقت. تغيّرت مواعيد نومهما وصارا أكثر بدانةً،  وعندما حاولت حرمانهما منها وإعادة التنظيم إلى حياتنا تفاجأتُ بحجم إدمانهما على تلك الألعاب وبالعنف الكبير الذي اكتسباه سواء في التعامل معي أو فيما بينهما، إذ تحول جو الإخاء بينهما إلى أنانية وعداوة وتنافس على فوزٍ افتراضي غالباً ما ينتهي بعراكٍ وصراخ ٍحقيقي.”

علاقات على المحك

تبتسم سميرة بمرارة عندما تستمتع لأغنية فيروز “خليك بالبيت” فلم يعد هناك مكان للاشتياق بينهما، فزوجها الذي كانت تفتقد غيابه وتتمنى حضوره في البيت، أصبح بقاؤه بسبب الحجر الصحي كارثةً حقيقية أدّت لدمار هذا الزواج.

تقول سميرة: “زواجنا كان تقليدياً، كنتُ في العشرين من عمري وكان في الخامسة والعشرين، لم نعش قصة حب قبل الزواج لكن الأيام التي عشناها معاً كانت جملية لا تخلو من الاحترام والألفة، كانت أدوارنا واضحة هو ملتزم بعمله خارج المنزل (موظف صباحاً وسائق بعد الظهر)، وأنا ملتزمة بدوري كربة منزل. لا أنكر مرورنا بخلافاتٍ كأي زوجين أو افتقادي له في كثير من المواقف التي تخص تربية الأطفال كمشاكلهم في المدرسة أو صعوبات مرحلة المراهقة التي عانيت منها مع ابني الأكبر، فظروف الحياة الصعبة وخاصة فترة الحرب، والمشاكل المادية التي تعرضنا لها ككل الناس في بلدنا فرضت عليه العمل المستمر وجعلته بعيداً وغريباً عن تفاصيل المنزل. بعد بقائه في المنزل لوقتٍ طويلٍ، بسبب فترة الحجر، تحوّل إلى شخصٍ مزاجيٍ وعصبيٍ مختلفٍ تماماً عن الشخص الذي كنا نعرفه. أصبح يتدخل بتفاصيل لم يُعرها يوماً أي اهتمام كطريقة تنظيفي للمنزل وطريقة طهي الطعام ثم طريقة تربيتي وتعاملي مع الأطفال، ومَنع الأطفال من اللعب داخل المنزل وصرنا نتحرك على إيقاع مزاجه وأوقات نومه ويقظته وبرامجه المفضلة على التلفاز.  كنتُ أبرر له تصرفاته “لم يعتد قضاء كل هذا الوقت في المنزل” لكن المبررات لم تعد مقبولة حين تحولت إلى عنفٍ لفظيٍ وصراخ  ومن ثم إلى غضبٍ لا يهدأ إلا بضربهم، لم يبقَ أمامي من حلٍ سوى الهرب بالأطفال إلى منزل والدي الأمر الذي فاقم من المشاكل بيننا إلى حدّ الانفصال.”

من الممكن أن تكون هذه الخلافات فترةً مؤقتةً  في حياة هذه الأسرة لكن من المؤكد أن انعكاساتها على الأطفال كفقدان ثقتهم بوالدهم وشعورهم بعدم الأمان لن تمحى بسهولة.

مازلنا نسير في المجهول فأزمة كورونا لم تنته بعد وربما ما هو آت أسوأ في حال تفشي المرض، لقد بات على السوريين توقع الأسوأ دوماً فليست الكورونا إلا تفصيلاً آخر في المأساة السورية، مأساة دفع الأطفال أغلى أثمانها ولا يزالون، قد يسأل طفل عن معنى جملة “خليك بالبيت” وهو بالأساس يعيش في العراء أو في مخيمات بعيدة بعدما تهدّم بيته، وقد يصح القول بأنّ الكورونا لن تصيب رئات الأطفال بالمرض والالتهابات لكنها حتماً ستبقى محفورة في ذاكرتهم ونفوسهم  كفصلٍ جديدٍ من فصول مأساتهم الطويلة.

العنف غير المعلن في زمن الكورونا

العنف غير المعلن في زمن الكورونا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

كرّست جائحة فيروس كورونا نمطاً حاداً ومستجداً في شكل الحياة اليومية لأهل الأرض، يوماً بعد يوم تتسع دائرة المواجع الشخصية والعامة، الجسدية والنفسية، لا نجاة من القلق، وزمن تراجع الخوف المشحون بالضعف، زمنٌ ضئيل وضعيف ولا يعوّل عليه.

من مواطن العزاء للبشرية، أنها وقفت معاً في مواجهة تداعيات هذا الفيروس، الذي تحول إلى جائحةٍ عالميةٍ تُسابق الضوء في سرعة انتشارها. لكنّ المواجهة الموحدة لا تعني أبداً وجود أوجهٍ متطابقة من أشكال العنف التي فرضتها هذه الأزمة العالمية، أشكالٍ لا تعدّ ولا تحصى لكنها استحقاقٌ إنسانيٌ وإن تمظهر في حالاتٍ قليلة العدد نسبياً وعلى نطاقٍ ضيقٍ، ثمة مواجع خاصة وخفية، موجعة وتعني أشخاصاً محددين، غير معلنة لأنها خارج سرب المواجع العامة.

ماري سيدة في السبعين من عمرها، أرملة ولم تنجب، تعيش بمفردها في بيتٍ واسعٍ، وهي تتناول طعام إفطارها، سقط جسر الفك العلوي من فمها، باتت بلا أسنان! طبيب الأسنان أغلق عيادته خوفاً على سلامته أولاً ولأنّ المخبر الذي يصنع له الأسنان التركيبية ممنوعٌ من فتح أبوابه، كما أنّ غالبية زبائنه يسكنون في الريف، وإن كان قريباً جغرافياً لكنه مغلق بسبب التوصيف الإداري.

 باتت ماري مضطرة لأن تعيش على السوائل، واسطوانة الغاز في ساعاتها الأخيرة، لم تفعل ماري شيئاً، لا أحد يمكنه إعارتها أسنانه! ولا أسنان جاهزة في السوبر ماركت أو في الصيدليات لتطلب إيصالها لها عبر خدمة التوصيل إلى البيوت، اتصلت بطبيبها، قال لها المخبر مغلق وفنيو المخبر يعيشون في الضواحي المغلقة.

 لا أحد من المعنيين فكر بعيادةٍ إسعافيةٍ لمعالجة الأسنان مرفقةً بمخبرٍ للتعويضات السنية وجعلها في متناول المحتاجين لخدماتها وخاصةً من كبار السن.

بادرت أغلبية الناس وخاصة من الفئة العمرية الشابة لمدّ يد العون لكبار السن الوحيدين والوحيدات، لكن ثمة مطالب لم تخطر على بال أحد. هيام، سيدة في الثمانين من عمرها، تعيش وحيدةً أيضاً في الطابق الثاني عشر في برجٍ سكني في منطقة راقية، لا تريد شيئاً من الأطعمة أو الأدوية أو المنظفات، فطبيعتها الوسواسية دفعتها ومنذ سماعها لأول خبر عن أول إصابة بالكورونا لملئ خزائنها بالمؤن ولشراء أدويتها الدائمة عن عامٍ كامل. لكنها مشتاقة للحديث مع شخصٍ تعرفه، تثق بأخباره، وتفرح لنبرة صوته ومداعباته اللطيفة، اتصلت بسلمى، ابنة صديقتها، وطلبت منها طلباً عجيباً “أرغب بأن تزوريني اليوم يا سلمى، لكن عبر سماعة الانترفون، فأنا خائفة جدا حتى من استقبالك، فلربما نقلت لي العدوى؟” لبّت سلمى دعوة هيام، استغرقت الزيارة عشرين دقيقة، لكن المصيبة أنّ هيام باتت تطالب سلمى بزيارات مماثلة ومتكررة، وسلمى لا تملك وقتاً كافياً ولا أخباراً مطمئنة.

أشارت بعض الدراسات إلى ارتفاع نسب الإصابة بفيروس الكورونا بين الرجال بنسبة تعادل ضعف نسبة إصابة النساء، وقد اعتبرت بعض النساء الكورونا فرصة لتسخر من اهتزاز ثقة الرجال بقوتهم الجسدية في مواجهة فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة،

قوة يتحكم الرجال عبرها بمصائر النساء وبتفاصيل حيواتهن، ليحققوا الهيمنة بحكم القوة الظاهرة والمنسوبة للرجال حصراً، والسلطة بحكم الغلبة الجسدية والنفسية والمجتمعية، لكن هذه القوة تعرضت لاهتزازاتٍ عديدة، اهتزازاتٍ أظهرت خللا ًفي موازين القوى، مفسحةً المجال أمام تراجع قوة ذكورية تقليدية بظهور نمطٍ معزز ٍمن القوة فرضته كورونا بقوة الخوف وبسطوة الحذر الشديد.

 وليد رجل خمسيني، يخافُ على صحته جداً، مهووس بالنظافة الشخصية، يزور الحلاق يوم الثلاثاء فقط، لأنه اليوم الذي يلي عطلة الحلاقين، ويذهب باكراً جداً ليكون أول زبون، ليتنعم بمنشفة تم غسلها في يوم العطلة ولم توضع على رأسٍ غير رأسه أبداً، لكنه في زمن الكورونا التزم الجلوس في المنزل، وطالب زوجته بالتسوق وبشراء الخبز وبالحصول على الأدوية والمواد المعقمة من الصيدلية تحديداً لتثبيت جودتها، وانزوى في غرفته يكاد لا يخرج منها، وكلما عادت زوجته من الخارج يطالبها بتعقيم كل شيء، حتى شعر رأسها، وهي تصرفاتٌ فاقمت من مشكلةٍ قديمة عند وليد، تحملتها زوجته تحت إلحاح الواجب كزوجةٍ مخلصة، رغم رفضه  لكل طلباتها بضرورة مراجعته لطبيب نفسي، لكنها الآن باتت ممزقة بين حقها بالحياة الكريمة وبين تطرف مواقفه،  مما دفعها للتوقف عن تلبية طلباته وتهديده بالذهاب إلى منزل والدتها المتقدمة في العمر، علّه يخفف من أوهامه المرضية ومن معاملتها بدونية غير مقبولة وكأنه مسموح له التضحية بها من أجل بقائه في حالةٍ من الأنانية والعدوانية لا مبرر لها وغير مقبولة. لكنّ وليد بقي أسير مخاوفه وبات حبيس غرفته وأوهامه وفقد كل إمكانيات التواصل حتى مع زوجته.

في الأزمات الكبرى، تتوجه المبادرات والأفكار والآليات نحو الاحتياجات الأكثر شمولية، نحو الخدمات المركزية ونحو الاحتياجات الأكثر أولوية حسب توصيف مراكز معالجة الأزمات.

يعمل غاندي في بيع الألبسة المستعملة، وله زبائن كثر وخاصة من السيدات، لكن قرار الإغلاق شمله وبات محكوماً بالتوقف عن العمل. أربعون يوماً مرت على إغلاق المحل، وما كان متوفراً من مالٍ نفذ، ولم يتبق منه شيئ. غلاء الأسعار يلتهم كل الموارد، والعائلة بحاجة لطعامٍ وشرابٍ ودواء، وتحت عنوان الحماية والحفاظ على الصحة العامة كان من المبّرر ترك الناس دونما مورد، حتى أصحاب الموارد المتوسطة باتوا بلا أي مدخرات، فحياة الفرد هي الأهم وصاحبة الأولوية المطلقة، لكن كيف وبماذا؟ لا أحد يملك جواباً، لأن السؤال نفسه مؤجل ولا يمتلك الأولوية القصوى.

اتصل غاندي بزبائنه، أبدى استعداده لإيصال قطع الملابس إلى بيوتهن، لكنه كان يحتاج لموافقتهن على الشراء أولاً في ظل شح مالي كبير وواسع وفي ظل المخاوف من رفض الزبائن شراء ألبسة مستعملة ربما يرتع الفيروس على سطوحها وبين طياتها. كما أنّه كان محتاجاً لمبادرةٍ من صديقٍ يملك سيارة خاصة لنقل غاندي مع بضاعته مجاناً إلى بيوت الزبائن، وكان له  ما سعى إليه. حمل غاندي معه بضاعة كان قد احتفظ بها في منزله قبل الإغلاق، لكن بعد وصوله إلى أبواب بيوت زبائنه اصطدم بقلة الطلب على بضاعته، قطعة أو قطعتان في أكثر حد، والناس محرجة من المفاصلة، إحراجٌ تلمسه غاندي أيضاً وفرض عليه خفض أسعار بضاعته، لكن الرمد أفضل من العمى كما يقال، وما كسبه غاندي اليوم لن يمكنه من شراء بضاعةٍ جديدةٍ بدلاً من التي باعها، لكنه سيوفر عليه عناء الاستدانة من صديق أو قريب، في زمنٍ بات الاقتراض نادراً بل حتى مستحيلاً.

وكما تُرك العجزة منسيين في دورهم دونما احتسابٍ حتى لأعداد المتوفين منهم، ليشكل موتهم بصمت وإهمالهم وكأنهم أضاحي الفيروس الفتاك وصمة تمييز سلبي ضد فئة من المجتمع، وكما تُركت النساء وحدهن لمتابعة مسلسل المظالم الطويل، وكما تُرك الجوعى غارقين في فاقتهم في محاولاتٍ بائسةٍ منهم لترك الشوارع حيث يعيشون، وكما تُرك اللاجئون والنازحون تائهين في غربةٍ مضاعفةٍ، عُرضة للوعيد والتهديد بالترحيل أو بالموت، وكما سُرّح عشرات الآلاف من العمال، وكما تم ترحيل مخالفي الإقامات من عمالٍ أجانب لكنهم فقراء، كذلك نمت في دائرةٍ ضيقةٍ دائرة متفرعة عنها لكنها غارقة في التجاهل والنسيان وكأنها منفية خارج الزمان والمكان، توضحت في تلك الدوائر الضيقة دروب آلام ٍجديدة، مضفورةٍ بالشوك ومسيجةٍ بالعتمة.

وتجد الإشارة إلى أنّ الأزمات بحدّ ذاتها وفي خضم البحث عن حلولٍ لها أو عن كوابح تقلل من فرط مساوئها ُتنسي أصحاب القرار والمبادرات أو القائمين على حلها مرغمين وتحت وقع الصدمة التوجه نحو فئاتٍ لا تصرخ مطالبةً باحتياجاتها الإنسانية والضرورية، ويقيّم المجتمع ومراكز الخدمات والقرار هذه الاحتياجات على أنها احتياجاتٍ ثانويةٍ، مما يؤجل أو يمنع المساعدات عن أفرادٍ وإمكانية الوصول إليهم، وتتفاقم المشاكل أو مواطن النقص البنيوية لتصبح عنفاً صارخاً لا يمكن إنكاره ولا تجاهله أو الامتناع عن مد يد العون لأصحابه. ربما هنا يبرز دور المبادرات الفردية أو المجتمعية، وربما هنا يتوجب الاهتمام أو لفت النظر للفئات الأكثر هشاشة بالبنية النفسية أو بالفئة العمرية أو بحجم الاحتياج من حيث عدد الأفراد أو طبيعة العمل، أو المكان، خاصة عندما يتحول المكان بحد ذاته كمكان السكن أو العمل إلى مصدرٍ للعنف يساهم في تكثيف تغييب الخدمات أو يفاقم من صعوبات الوصول إلى الاحتياجات مهما بدت ثانوية أو قابلة للتأجيل.

 وربما هنا تصبح الأزمات الكبرى مجالاً رحباً للإبداع الإنساني الفريد من نوعه والمتميز في أشكاله، في محاولة نوعية لتلبية المسكوت عنه، المخفي أو غير المعلن، لكنه احتياجٌ صارخٌ ولابدّ من تلبيته.

أطفال اللاجئين والحجْر المزدوج

أطفال اللاجئين والحجْر المزدوج

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

بعد انتشار فيروس كوفيد-19 (كورونا)، امتد الحظر الصحي ليشمل معظم دول العالم، مخلّفاً آثاراً اجتماعية واقتصادية ونفسية يجهد الأخصائيون للبحث فيها، والعمل على تخفيف التداعيات الناتجة عنها قدر الامكان. ففي ألمانيا التي يبلغ عدد سكانها حوالى 83 مليون نسمة، تستمر القيود المفروضة للحد من انتقال العدوى، إذ بلغ عدد الإصابات وفق البيانات الرسمية المسجّلة حتى يوم 15 نيسان/أبريل 133.154 حالة، تماثل أكثر من نصفهم للشفاء فيما توفّي نحو 3600 شخص، مع ملاحظة تراجع عدد الإصابات المسجّلة يوميا، مما يؤكّد جدوى هذه القيود ودورها في تقليل عدد الإصابات.

يعدّ إغلاق المؤسسات التعليمية المستمرّ في ألمانيا منذ 16 آذار/ مارس إحدى أكبر الخطوات لدرء خطر انتشار الفيروس، باعتبار أن المدارس والجامعات أماكن تجمعات يومية لأعداد كبيرة قد تنتشر فيها العدوى كالنار في الهشيم. لكن لا بد من تبعات لهذا الإجراء، فالأرقام تشير إلى تضرّر ما لايقلّ عن 11 مليون تلميذ وتلميذة في المدارس العامة والمهنية، عدا عن طلاب الجامعات. ويخشى طلاب السنوات الدراسية الأخيرة أن يتسبب إغلاق المدارس في حرمانهم فرص النجاح في امتحاناتهم النهائية. ورغم اللجوء إلى خطة طوارئ عاجلة عملت الكوادر التدريسية عليها بجهد ملفت للنظر، إلا أن اعتمادها على التكنولوجيا والتعليم الرقمي، جعل عيوبها واضحةً للعيان بعد أسابيع قليلة من الحظر، وظهرت تحدّيات كبيرة خلال تنفيذ الخطة التي لم تخضع من قبل للتجربة. فإضافةً لضعف شبكة الإنترنت في مناطق عديدة من ألمانيا، لايتقن كثير من المعلمين آليات التعليم الرقمي، فهم لم يتدربوا عليها وفق ما صرح مختصون بالتعلم الرقمي، عدا أن المواقع التعليمية التابعة لوزارة التعليم تعرّضت لضغط كبير على الشبكة مما أثّر على جودة أدائها المتواضع أصلاً.

في الوقت نفسه يفتقر طلاب كثيرون إلى الأدوات اللازمة لإتمام العملية في المنزل. فإن امتلك غالبية الطلاب- وليس جميعهم – هواتف ذكية، لكنّهاغير كافية ولابد من كمبيوتر لاستخدام برنامج التعلّم الرقمي بالشكل الأمثل، وهو غير متوفر عند الجميع. كما أن كثيراً من أوراق العمل المرسلة بالبريد الالكتروني تحتاج للطباعة من أجل حلّها ثمّ مسحها ضوئياً عبر (سكانر) وإعادة إرسالها للمعلم/ة، ولا يمتلك الجميع كل هذه المعدات في المنزل. المشكلة الأُخرى تسببها الواجبات غير الواضحة التي يجهد الأهل في محاولة فهمها من المعلمين كي يساعدوا أطفالهم فيها، وصعوبات غيرها لاتنتهي، كعدم رغبة الأطفال بالقيام بهذا الكمّ من الواجبات المملة والمكرّرة لمراجعة ما تعلّموه سابقاً، أو تلك الجديدة الصعبة التي ليس من السهل على الأهل شرحها لهم.

الأطفال اللاجئون ونتائج الحجر الصحي:

ماسبق مشكلات يعاني منها الطلاب جميعاً، لكنّها تتضاعف عند الأطفال اللاجئين في نواحٍ مختلفة لعدة أسباب، مسفرةً عن نتائج تزداد سوءاً مع تمديد فترة الحجر الصحي. فالأطفال الذين وصلوا ألمانيا قبل سنوات قليلة ولم تزل ذاكرتهم غضة تغصّ بمعاناة الهروب من الخطر عبر طريق الموت، بدؤوا يعيشون مجتمعاً جديداً مختلفاً بقيمه ومعاييره، ودخلوا المدارس وأجادوا اللغة الألمانية بسرعة قياسية فبدؤوا يفكرون بها ويتواصلون مع محيطهم من خلالها حتى كادت تزيح اللغة الأم من عقولهم تدريجياً، رغم محاولات الأهل الحثيثة التحدث معهم بها. غالبية هؤلاء غدوا الآن مراهقين، واتسعت الفجوة بين الأهالي وأبنائهم، ففقدوا دورهم في العملية التعليمية والتربوية التي تفترض شراكة ثلاثية الأبعاد ما بين الطفل والمدرسة والأهل.

يعمد المهتمون من الأهل للبحث عن وساطة لغوية للاطلاع على أوضاع أطفالهم المدرسية، لكنّ صعوبة وتكلفة ذلك جعلت كثيرين ينكفئون عنه، منصرفين لحل التعقيدات البيروقراطية التي تواجه حياتهم اليومية، في بلد يعتمد على الورقيات المعقدة التي يعجز الألمان أنفسهم أحياناً عن فهمها ومتابعتها، كما يتغيبون حتى عن حضور اجتماعات أولياء الأمور لعدم توفّر الترجمة دوماً، ويبقى الطفل وحيداً مع مدرسته.

في الوضع الراهن تعيّن على الأهل التواصل مع المدرسة من جديد، ومع الفجوة اللغوية القائمة عجز معظمهم عن متابعة العملية التعليمية عن بعد، والتي تحمل صعوباتٍ حتى بالنسبة للأطفال الالمان كما ذكرنا. بينهم من لا يملك حتى بريداً الكترونياً لتلقّي أوراق العمل وتعليمات المعلمين ونصائحهم، فضلاً عن التسجيل في المواقع التعليمية التي تبدو أشبه بالأحجية عند عدد لايستهان به منهم. البرامج التوضيحية والفيديوهات على اليوتيوب ليست كافية لأن غالبيتها تقدم باللغة الألمانية، وبالتالي لايستطيع الأهل فهم الواجب المطلوب وشرحه للطفل. قد يتمكن بعض الأطفال من تدبر أمرهم دون الاستعانة بالأهل، لكن هذا لاينطبق على جميع الأطفال ولا على المراحل التعليمية جميعها، وهكذا يخسر أبناء اللاجئين وقتاً ومعلومات وفرصاً كثيرة، وتُلقى على عاتقهم أعباء وتحديات سيتحتم عليهم مواجهتها والتعامل معها بعد العودة إلى المدارس.

آثار الحجر الصحي لاتقتصر على الجانب التعليمي عند الأطفال اللاجئين، بل تمتد إلى قضية أكثر تعقيداً وعمقاً هي حجرهم مع أسرهم التي أصبحت تمثل لغالبية الأبناء، وخاصة المراهقين، مجتمعاً موازياً مختلفاً عن مجتمع الأقران والمدرسة، فالهوية متعددة الألوان بدأت تتشكل عندهم، وبعض ألوانها لا يلقى القبول نفسه في كلا المجتمعين، مما يؤدّي لاختلال التوازن وفقدان كثير من عناصر استقرارها أثناء الحجر.

البقاء في البيت مع العائلة ضمن مساحات صغيرة معظم أوقات اليوم، ليس سهلاً على أطفال اعتادوا تمضية نحو سبع ساعات وسطياً كل يوم، تتضمّن برنامجاً منظمّا وأنشطة متنوّعة لا تتوفر في الظروف الحالية، مما يشكّل ضغطاً جديداً تسبّبه مقارنات لا تنتهي: فهم مركز مقارنة في المدارس لاختلافهم، كما يقارنون حياتهم مع حياة أقرانهم وقيمهم وعاداتهم، بدءا بالمأكل والمشرب والملبس، وليس انتهاءً بعلاقات السيطرة والعنف بأشكاله وتعارضها مع ما تعلّموه من حقوق. لذا فإن بعض الأطفال والمراهقين/ات، وقد عرفوا جيداً حقوقهم القانونية وأبعادهم في المجتمع الجديد، لا يتردّدون في اللجوء إلى الشرطة أو مكتب الشباب، وهو ما قد يعرضهم لمزيد من العنف يزيد الطين بلة، في عائلات تسعى بكل السبل لحماية صورتها وتقاليدها وهويتها.

إنها حقاً مفارقة كشفت فترة الحجر عن اتساع نطاقها في أوساط اللاجئين. آلاف العائلات اضطرّت إلى هجر موطنها وسلكت طريق اللجوء لتحمي أطفالها، والآن يضطر الأطفال أنفسهم للهجرة عن ذويهم نفسياً نتيجة ضياع اللغة وفقدان التواصل بينهم، ليقضي كثيرون منهم أثناء الحجر حجراً مضاعفاً من نوع خاصّ، لحماية أنفسهم لا من كورونا بل من آثار اغتراب وتصدع نفسي.