ورشة تدريب صالون سوريا

ورشة تدريب صالون سوريا

يعلن فريق “صالون سوريا” ، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة والنوع الاجتماعي للنهار والنوع الاجتماعي ، مُخصصة للصحفيين/ات السوريين/ات المقيمين/ات داخل سوريا وخارجها.

بسبب الظروف الصحية ، ستُعقد الدورة التدريبية عبر تطبيق “زوم” ، وهي مقسمة على ست جلسات خلال ثلاثة أيام ، بين 12 و 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2021 ستتناقض الجلي اساسيات الصحافة ، التعامل مع النزاعات الناشئة ، الفرق بين الصحافة المكتوبة والمرئية ، وحساسيات النزاعات ، إضافة لجلسات حول الموضوعية والحساسية للنوع الاجتماعي وطرح قضاياه.

ستتناول الجلسات اساسيات الصحافة، التعامل مع المصادر أثناء النزاعات، الفرق بين الصحافة المكتوبة والمرئية، وحساسيات النزاعات، إضافة لجلسات حول الموضوعية والحساسية للنوع الاجتماعي وطرح قضاياه.
يدير هذه الجلسات مجموعة من الصحفيين/ات السوريين/ات المتخصصين/ات بهذه القضايا، وستتاح الفرصة للصحفيين/ات بعد نهاية التدريب للنشر مع موقع “صالون سوريا” كصحفيين/ات، وخلالها سيحصلن/ون على فرصة المتابعة مع المدربين/ات لتطوير مهاراتهم/ن الصحفية.

شروط التقديم:
– شهادة في الصحافة أو خبرة صحفية لأكثر من عام
– القدرة على الالتزام بالساعات التدريبية المحددة كاملة
إذا توفرت لديك الشروط وكنت مهتما/ة بالتقديم على التدريب يرجى ملئ الاستمارة التالية خلال موعد أقصاه الأربعاء 3 تشرين الثاني/نوفمبر
https://forms.gle/r1HZ1N53FTpSxnxeA
ستصلكم رسالة الكترونية لتأكيد استلام الطلب، علما أن فريقنا سيتواصل مع المقبولين/ات في التدريب بعد يومين من انتهاء وقت التقديم لمُشاركة الأجندة والتفاصيل.
نتمنى التوفيق لجميع الزملاء والزميلات!
ثلاث قصائد

ثلاث قصائد

أرضي المشعّة 

أرضي المشعّة كشامةٍ على كتفِ نبيّ، صارت كُحلاً لريشِ الغراب.

بيتي الفتيُّ كصفيرٍ في الغابة، سَكَتَ سكتةَ الطفلِ بين العجلات والإسفلت.

نَومي الأخَفُّ من خاتَمٍ ضائع، ثَقُلَ كمعطف المنفيّ. ظاهرُه ذكرى، وباطنُه عارٌ.

أصابعي التي حرَّرتْ سواقيَ وصدَّتْ سيولاً، عَلاها ما يعلو قضبانَ سكّةٍ مهجورة.

ما تعلّمتُه يجفُّ ويُساقِطُ على رأسي شظايا من طلاءِ سقفٍ رَطب.

تبقّى لي من الأصدقاء صبّارةٌ في الشرفة، وقلمٌ أسيِّجُ به البساتينَ التي تورق في منامي.

أقلّب الصوَرَ مثلما يتشاغل الطفل المحموم عن صدوع الجدران( وما يهبُّ منها، وما يُعَشِّش فيها) بالأخيلة التي يرسمها لهَبُ المدفأة.

” طَلَعنا بثيابنا”. جملةٌ عارية، الفعل فيها براءةٌ والاسم إدانة.

مسمارٌ من جمرٍ أدقُّه في جدار الريح، معلناً الإقامةَ تحت سقف المطر.

نقمةٌ أَرْكزُها بين الدوّامات أوتاداً لخيمةِ الممكن.

حبلٌ من ضباب أنشر عليه، كلَّ فجرٍ، غسيلَ الروح.

موجَزٌ لأخبار الطوفان أبثُّه، بما نما لي من أجنحةٍ، نقْراً على شبابيك الليل.

كففتُ عن يا و أيُّها.. لأنّ كلَّ مُنادَى قيدٌ.

كرهتُ السَّفَرَ منذ صار جبيني طريقاً.

لا أقول كغيري:” إنّ المطر في الغربة سياطٌ، والسماء فولاذٌ، والريح ندّابة”.

البصيرُ أسيرٌ أينما حلَّ. والطبيعة براءٌ ممّا نكابد ونُضمر،

وكثيرٌ من المجازات التي نتباهى بابتكارها هناك، هي وقائعُ نتبارى على النجاة منها هنا.

هنيئاً، إذاً، لمن أعانهم التيّار على حسم الصراع بين الرغبة في أمان الجسد، والخوفِ من ذهول الروح.

والرحمة لمن تاهوا مؤْثِرينَ طيشَ الأعماق على حكمة الضفاف.

مَن أنكَرَ منكم مشهداً، فليغيِّرْ قَلْبَه.

من استطابَ فيئاً، فلا يَغْفُ.

ارفعوا قواعدَ الجديد من كثبان الحيرة، لِدوا ما تثقون أنّه لن يُدحى عجيناً في هذا الفرن.

الصَّمتَ الصمت. فكم تُبِّلَت الأضاحي بأناشيد الحالمِين!

كلَّ مساءٍ أتسلّق هذه الربوة الشائكة لأَشهدَ تلاطُمَ الموج.

ما الذي يجنيه نَزيلُ المنفردة من مشقّة التطاول إلى الكوّة، حين يهرول السجناء في باحة التنفّس؟

هذا هو المضمار الذي يركض فيه الزمن حول ذاته.

نزواتُ الماء تَقرض مُثُلَ اليابسة العليا، طيورُ الآتي تجوِّفُ فزّاعاتِ الحاضر.

لكنني هنا أنسلخُ عمّا كنتُه، وأتعلَّم ألّا أُكابرَ كي أكون.

ما ينقشه الموج في الصخر يمحو صوتي، أمّا الزّبد فيُهِيلُ على لياليَّ ترابَ الفجر.

بعد قليل، يشعل الصيّادون فوانيسَهم، وتنشر الريح أرَجَ رايتي الوحيدة: قميصِ الغائب.

لن أبرح هذا الساحلَ ما دام القمر فوقه شبيهاً بوجه الفقير الصارخ أمام السّاطور.

سأشتري، كلَّ يومٍ، من بائع الخسّ والزّعتر ذي النداء العذب حِمْلَ كتفين؛ فقد تَذبلُ الحارةُ إذا نوى الرحيلَ.

أحسنَ صاحبُ هذه الشقّة المفروشة حين لم يَترك لنا فيها أيّةَ مرآة.

يقال إنني كنت، ذات يومٍ، طفلاً. لا أعرف كيف تجرّأتُ على ذلك.

أحمدُ اللهَ أنْ بَرَّأَ الينابيع التي ولدتُ قُربها من كلِّ دمٍ، فَلَمَّا شاءوها مغسلاً للمسالخ: غارتْ.

آملُ ألّا أموت قبل أن أنهي مخطوط هذه الرواية عمّا جرى في وادي النَّمل حين مرَّ موكب سليمان.

اللاذقية- حزيران-2015

الخسوف الدامي

اقترب القمر، والساعةُ معطَّلة.

ليلُ الرهائنِ ليلُنا. افتتَحه حَمَلةُ الأقفال بألعاب النار، كي تدرك السماءُ أنّ هذه البقعة من الأرض قُسِّمتْ ميداليّاتٍ بين أحزمتهم؛ فلا جدوى من تغيير فصولها أو إمطارِها بالنيازك.

واختتمتْه الأشباح  بالعواء الرصاصيّ، عَلَّ الأرَقَ والبرد يُنضجان الطرائدَ الهزيلة ريثما تَبرأ الضباعُ من تخمتها.

كيف نبصر النهارَ، وفِدْيتُنا أكبر ممّا في خزائن الشمس؟

نحن الجوقة الهائمة بين كواليس المأساة.

أسلَمَتْنا مقصّاتُ تشرين لشَفراتِ كانون، وأدَّينا ما علينا:

رمَّمنا بالأنين جدرانَ هذا الحبس،

أرجَحْنا رؤوسنا أكياسَ تمارين لكلِّ سفيهٍ موشومِ الزندَين،

نَحَتْنا ظلالَنا كثباناً تجوِّفُها القوارض الفالتة من أسطول الطاعون،

فتحنا الصدور مضماراً لسباق التتابع بين أكَلة الأكباد وناهشي القلوب،

تَداوَلْنا أسماءَ المبايَعِينَ تمائمَ ضدّ كلِّ هوى ورصْداً من كلِّ أمل،

ضَفرنا شرَرَ الأحداق أكاليلَ لأطياف المغيَّبين.

لم نعرف من الجهات إلا ذلك المدى الصاخب الحنون الذي يندب فيه البحرُ على الغرقى،

ولم نَنَلْ من الهواء إلا ما يعيننا على الصفير في البرد.

وقد آن لنا أن نقف على المنصّة.

لن نتزاحم على الكوى بعدما صار المطر قضباناً والليل جلّاداً،   

ولن نلوذ بالعتمات باذِرِينَ نقمتَنا تحت الشراشف.

صرختُنا كَسَرتْ مغاراتِ الجليد، وجباهُنا بساتينُ البرق.

فاسمعوا.

منذ ضاع الخاتَم

تَسندين الليلَ بأيدٍ كثيرة.

دعيهِ لقَدَره.

الصبحُ أَولى بهذا التَّعَبْ.

      *

أَذِنَتْ لي سماءُ الخريف بالنِّسْيان.

كانت رُكبَتُكِ بعيدةً،

فأَوْكلتُ خدِّيْ إلى شفرات الريح.

    *

بشفتيَّ رسمتُ الأرجوحةَ.

منذ ضاع الخاتَم،

صار إصبعُكِ دفتري.

    *

جئتِني من المنام حافيةً.

لا شمسَ هنا ألمُّ منها جورباً،

ولا الرَّمْلُ هناك يصدُّ البحرَ عن خِفَّيْكِ.

   *

أُهديَتْ لمَلاكَيْ كتفيكِ شامةٌ.

تُغْني الأيمنَ عن التدوين،

وتُعِيْنُ الأيسرَ على المحو.

    *

راعي حلالِكِ في العاصفة.

موعودٌ بالأزرق منذ صيفَيْن.

ثَنِّيْها لتجفَلَ من نارهِ الذئاب.

       *

أهلُكِ مَن سَيَّجوا البساتينَ بالرُّمّان.

الدمعةُ التي أقفَلتْ بابَهم،

حِبْرُ غيمةٍ ظلَّلَتْ نبيّاً.

    *

كيف لمن يستضيف بَردانةً أن ينام؟

قلتُ لحمامةٍ لاذتْ بهذا السقف:

لن أعود فأخطوَ على رماد جيراني.

    *

أسبِلِيْهِ. لا تُبالي بهذا الدُّوار.

اعتادت الأرض، كلما كَشَفتِ،

أن تؤنِّبنا على ما قَطفنا.

        *

أنزلَتْني أدراجُ النَّغَمِ إلى قاع البحيرة.

بماذا وَعَدَ البدْرُ هذه الأحجارَ

حتّى تورَّدتْ كمخملِ أُذنيكِ؟

      *

غِيْبي عن بالِ الخزّاف.

كلما مَوَّجَ خصراً تَجَعَّدَ الطينُ.

زفرَتُهُ، وهو ينقش السُّرَّةَ، جرحتْ كلَّ القوارير.

      *

أرضُنا السَّهَرُ. لم نبذر غيرَ التمتمات.

لأنّ الخوف من الرَّعد يُبقيكِ على صدري،

أدَّيْتُ معهم أمسِ صلاةَ المطر.

   *

يستعين الغيمُ بما نَشَرتِ في الشُّرفة،

كي تَعْذرَ الأرضُ خضوعَه للشمس.

يرتجف الحَبْلُ، قَبْلَ أن تَلُمِّي، ولو لم يَمْسَسْهُ طير.

     *

كلّما لَوَّعتِ مرآةً، كسرَتها الأشباح.

الأجنحة التي استدرجتْها جُزُرُ مناماتِك،

أسَّسَ بعضُها عائلةً فوق حطام سفينة.

     *

عبثاً نَفركُ الزيتونَ الذي اندسَّ تحت أظافرنا.

فوق البساط رمى البرقُ أجراسَ المدينة الخاوية.

تحسَّرتِ لأنهم لن يُخرجوا الأولادَ غداً إلى الباحة.

           *

لو عَلِمَ تشرينُ رهبَتَكِ من الجراح،

ما شَقَّقَ هذه الرمّانة.

قَطَفتُها كي لا توقظكِ العصافير.

       *

قلتِ: لا تَمزجِ القصيدةَ بالدَّم،

واتركنا نصغِ لقطارات المطر.

من بحَّةِ صفيرِها أيقَنّا أنّ الصُّوَرَ ضاعتْ.

    *

أوقدتُ اسمي بأنفاسي.

إذا أطفأَتْهُ الريحُ، فهذا مصيرُ كلِّ لَهَبْ.

وإذا تداولَتْهُ الليالي، فلِشِدَّةِ عتمتِها لا لإعجازِ ضوئه.

اللاذقية- ت2-2017

الهدية

الهدية

لم تتزوج أسماء كما أنها لم تُعشق، ورغم جمال وجنتيها وعذوبة نظراتها ورموشها الطويلة لم يستطع أحد أن يلحظ وردة النار في داخلها تلك الوردة الخفية التي  ما إن يراها أحدهم حتى يقع في غرامك.

يعبر الشبان من أمام البيت و تثقل خطواتهم وهم  ينظرون نحوها بشفقة وفضول. في كل مساء كانت تقف إلى النافذة، تراقب الفتيات الشرهات للحياة وهن عائدات من مواعيدهن السريّة ويحملن بين أيديهن علب الهدايا المغلفة بورق السوليفان البراق تزينه نجوم ذهبية تلمع تحت ضوء المصابيح الخافتة، لم تكن تستطيع سماع ثرثرتهن لكن الشفاه الملونة والباسمة كانت تفوح بالفرح وكان باستطاعتها أن تشم رائحة الفرح عن بعد….

في الليل وحين تتمدد في فراشها تقضي الوقت وهي تحاول أن تخمن ما يوجد بداخل العلب، وبين حين وآخر تحدث لها رؤيا، وهي أن هديتها تأخرت لكنها ستأتي ذات يوم. كان ذلك قبل أن تغلق والدتها النافذة بمسامير ضخمة وقبل أن يثقب رصاص الحرب جدران البيت وقلوب أخوتها الثلاثة….

لكن الحرب لم تستطع برغم شراستها أن تنسيها حلمها، ولم يكن العالم كله  ليروي هذه الرغبة السريّة في داخلها بأن تمتد يد محبة، يد قوية حنونة ودافئة إليها ذات يوم بهدية صغيرة، أي هدية.

في طفولتها المبكرة كانت تجلس في أحضان جدتها أمام مسكبة الورد، وتستمع لحكاياتها. الجدة المولعة بفلسفة كل شيء من الألوان حتى براز القطط قالت لها: إذا أهداك الرجل عطراً يعني ذلك أنه سيفارقك، العطر اعتذار يا صغيرتي وعندما يهديك الرجل عطراً فهذا يعني أنه يستعد لمفارقتك.

تتنهد ثم يهيم نظرها في الفراغ: جدك قبل أن يهرب مع تلك الساقطة اشترى لي عطراً. فسكبته في قن الدجاج. كانت الدجاجات نائمات بعدها تركهن الديك وركض نحو دجاجات الجيران فالرجال تجذبهم رائحة العفونة….

والدي أهدى أمي قطعة ذهب هل يعني ذلك أنه سيذهب؟ تسأل أسماء

آآآآه الذهب تأخذ العجوز نفساً وترميه بحسرة وتتابع، الذهب يقول: أنت جوهرتي الثمينة.

تبحث الصغيرة بعينيها في المكان، فترى قطة رمادية تخمش بمخالبها جذع شجرة الجوز.

وإذا أهداني قطة؟

ترمقها الجدة بعينيها اللتين تبرزان كخرزتين غرستا في صحن عجين، فتضحك وتسأل: والوشاح؟

آه الوشاح بحد ذاته حكاية يا أسماء، تقول الجدة المولعة بالألعاب اللغوية  مستعيرة جملة من نشيد الإنشاد: الوشاح يعني اعقدني على نبضك، والثمني بشفتيك وامسح دموعك بي.

بعد عدة أسابيع ماتت الجدة، لم تحتمل الصغيرة أول فراق، بكت كثيراً ثم أصيبت بالحمىّ، ونامت لأيام طويلة وظن الجميع أنها ميتة، وحين استيقظت أخبرت أمها -التي كانت تنتحب بجانبها وتهزها مثل دمية – بأنها رأت في حلمها الكثير من الهدايا وأن ملكاً وسيماً أهداها قرطين، لكنهما كانا ثقيلين فتمزقت أذناها وسقطتا.

كانت تمضي الليالي الباردة وهي تفكر في أنواع الهدايا  تقف قبالة نافذتها وتراقب العابرين بوجوههم الهلعة… يلوح لها البعض طالبين منها أن تدخل رأسها فلا تفعل، تجرها أمها وتغلق الباب، وهي تلعن حظها بعد ذلك أحضرت مطرقة واقفلت النافذة بالمسامير.

في الساعات القليلة التي ترى فيها البلدة الكهرباء يتسمر الناس إلى قنوات تحكي عنهم وعن موتاهم، يبكون سلامهم الماضي، ويتحسرون على شهدائهم. يمتلؤون بغيظ لا يعرفون أين يرمونه. في وجوه الزوجات؟ أم على وجوه من بقي حياً من أبنائهم؟

تقلب أسماء في القنوات، لا تعنيها قصص الموت. جربته مرة وكفى، جربته بقوة ولم تستيقظ من وجعه بعد. لا تعنيها صور الدبابات ولا القنابل فهي غارقة في عالم لا تعكره حروب ولا إطلاق رصاص… تقلب في المحطات ولا تتوقف إلا إذا لمحت هدية أو شاباً وسيماً. فوجه شاب جميل يعني وعد بقصة حب.

حين أطبق الحصار على البلدة، نفذت المؤن ولم تعد ترى في أيدي الفتيات أي هدايا فقط مناديل ملونة يربطنها على أيديهن وهي تذكرهن بحبيب بعيد أو ناكث للعهد فالذي يموت أو يقع أسيراً، هو ناكث لعهده في عرفهن مثله مثل الذي يتخذ حبيبة أخرى. وبينما يفكر الناس في الخبز وفي الطعام، كانت تفكر بهدية.

ذات مساء سمعت طرقات على الباب، حاولت النهوض وسبقتها والدتها، أطلت الأم برأسها ونادت باسمها مرتين وهي تبتسم. منذ زمن لم تسمع اسمها دافئاً في فم والدتها. منذ زمن لم تر ابتسامتها…

تبعت والدتها التي نظرت نحوها بلطف، كانت نظرات أمها أقل شراسة مما هي عليه وأكثر دفئاً، تركت الباب موارباً وغمزت بعينها واختفت، من خلف الباب حياها صوت ذكوري قوي: مرحباً يا أسماء.

أطلت برأسها من الباب الموارب وحدقت في وجهه… لم يستطع الغروب أن يخفي جمال العينين العشبيتين والابتسامة المشرقة، أثارت رؤياه دموعها لكنها حبستها، ودون ان تفتح شفتيها سألته: تعرف اسمي؟ منذ زمن بعيد.

مد يده إلى صندوق ضخم، وأخرج منه علبة ملفوفة بورق أحمر برّاق وقال لها: هذه من الملك.

– من الملك؟

– نعم وأنا حارسه الشخصي.

تناولت الهدية وفي هذه اللحظة عانقته وأخذت تنتحب، أبعد يديها برفق، قبل جبينها ومضى، أغلقت الباب وقرفصت، نزعت الشريط اللامع عندها تبخر كل شيء… كانت أمها تهزها بعنف.  

جلست وحدقت حولها، بين يديها ثم نظرت أرضاً فلم تجد أي شيء.  شعرت أنها ضحية خدعة كبيرة فالحلم والرائحة كل ذلك كان حقيقياً،  وهذه الأصوات والجوع وأمها الهزيلة مجرد حلم… لم تستطع نسيان ذراعي الشاب ولا رائحة صدره الذي يفوح منه أريج خشب الصنوبر.

سالت دموعها المالحة فوق وجنتيها ومرت فوق شفتيها وتابعت حتى ذقنها ورقبتها … كانت الدموع كل ما تبقى من الحلم .

شعرت بعداوة لأمها وظلت ليومين متتاليين تحاول تخمين نوع الهدية.

لو كانت تركتها  نائمة ريثما تفتحها.

هل هي علبة عطر؟ أم وشاح؟

ربما ياقوت أو حجر تزين به عنقها؟ ربما حذاء! أو… ورود هذا مستبعد لسببين: الورود لا توضع في علب مغلقة. والثاني أن الملوك لا يهدون وروداً للرعية….

اشتد الحصار ونفذت مؤن الناس، واشتدت أصوات المعارك الدائرة، على أطراف البلدة لكنها كانت في عالم آخر، كانت تأوي للنوم مبكرة علهّا تلتقيه مرة أخرى، أو على الأقل تتابع فتح الهدية، حتى تعرف ماهي. كانت تتمنى أن يكتمل الحلم من حيث توقف، لكن ذلك لم يحدث.

ذات مساء كانت فوق سطح البيت، حين رأت سيارة صغيرة تقف أمام البيت، ويترجل منها الشاب ذاته، عرفته من قميصه الأبيض، نزلت الدرجات مسرعة ووجيب قلبها يصل أذنيها، ثم فتحت الباب .

كان هو بعينيه العشبيتين، وذراعيه اللتين لوحتهما الشمس، ورائحة خشب الصنوبر حدق  فيها بغرابة توازي الغرابة التي رمقته بها وقال: كيف حالك يا أسماء؟

-إنك تعرف اسمي.

– منذ زمن.

قالت في سرها: هذه أول مرة أسمع بها اسمي منذ سنوات.

-أرسل لك الملك هدية، قال الشاب

– من الملك؟ انفلتت الكلمات بدهشة وفرح.

أتت والدتها راكضة  نحو الباب وهي تنظر لوجه الشاب الممتعض.

قالت معتذرة: إنها صمّاء.

-أحاول سؤالها عن عددكم في البيت لكنها تقول كلاماً غريباً.

– أصابتها حمى في العاشرة، ثم فقدت سمعها لكنها ليست بلهاء. نحن ثلاثة قالت الأم محتسبة القط الهزيل روكي الذي يتمدد فوق السطح بتعب.

حدق الشاب ذو العينين العشبيتين في وجهها، وبانت عليه علامات الأسف.

مضى إلى السيارة ثم عاد وأحضر علبة كبيرة، رماها على الباب مثل جثة وغادر تبسمت الأم وحملت العلبة بفرح، أحضرت سكيناً وفتحتها وكادت تزغرد وهي تنثر محتوياتها. فوق أرضية الغرفة ثم أخذت تحصي علب المرتديلا والمعكرونة والرز الرديء بصوت عال.

أسماء تابعت التحديق في الكرتونة الكبيرة المرمية ، كانت هناك ورقة زرقاء كبيرة كتب فوقها بخط بارز: مخصص للاجئين السوريين.

عصر أفول الفكاهات

عصر أفول الفكاهات

تبدو الحياة بحسب هوراس والبول “كوميديا لمن يفكر و تراجيديا لمن يشعر”، والبحث عن سبب منطقي لما يحدث في عالمنا اليوم أشبه برحلة دون كيخوت البائسة، فأن تسأل “لم حدث ذلك؟” هو أشبه بالسؤال الساذج “لماذا أحرق نيرون روما؟”

وإن جواباً مثل: “لا لشيء، أحرقها كي يتسلى”، قد يبدو أكثر إقناعاً من غيره.

عندما قابلت جاري عند مدخل البناء سألني: “لماذا يحدث للسويداء ما يحدث؟  لماذا يموت أبناؤها دون رحمة؟”

كانت عيناه حمراوين، ولم أجبه، خرجت من المبنى وتركته يمسك بقبضة الباب مثل طفل يتعلم المشي، جاري ذاته سألني قبل أشهر: “لماذا هدموا بيتي؟” ولم أجب أيضاً.

وكأنني أملك جواباً …

على رصيف من أرصفة دمشق، يتمدد رجل فقد عائلته وبيته وأولاده، خلف مجموعة من الأحذية المستعملة، حين اقتربت منه صديقتي أخبرها أنه يبيع أحذية إيطالية وفرنسية، لم تفهم صديقتي فكاهة الرجل. سألته عن موعد قدوم البضاعة فأجاب وهو يشير للأعلى “ستمر الطائرة غداً وترميها لي…”

ابتعدت صديقتي دون أن تنظر للخلف، فقد أفزعتها هذه الفكاهة وأوجعتها، لكن لماذا هربت؟

هل خافت؟

أم شعرت أنها ضحية سخرية؟

لا هذا ولا ذاك، فقد لسعتها الحقيقة.

في عام ٢٠٠٢ قال الممثل الكويتي داوود حسين “نحن نعيش في عصر الضحك.”

ولكن عن أي ضحك يتحدث؟

وإذا كانت الفكاهة رسالة مفادها “أننا نسيطر على المواقف ونعلو عليها” فكيف يمكن أن نعلو على كل هذه المفارقات؟ كيف يمكن ألا يموت جاري بسكتة قلبية عندما رأى ثيابه وأغراض بيته تُباع في الشارع؟ اقترب ليلمسها أمام نظرات البائع الغاضبة.

“لمستها فقط، لكني لن أشتريها” قال لي لاحقاً.

لماذا يموت الأبرياء؟

وأي فكاهة يمكن لها أن تعبر عن منظر الغرقى من النساء والأطفال؟

أي فكاهة والأطفال على الشواطئ مثل دمى سقطت من حقيبة إله؟

في عالم قضى نصف أطفاله وشبانه غرقاً في البحر، فيما يعيش النصف الآخر في الخيام، في عالم يسوده الاتجار بالبشر يصبح التهام الأجنة رفاهية الأثرياء الأخيرة.

عارضات الأزياء اللواتي يتناولن المناديل الورقية لمقاومة الجوع إرضاءً لرغبات الزبائن والسوق، فيمتن.

زيارة الرئيس الفرنسي للبنان لزيارة المثليين وتفقد أحوالهم، بينما خيام اللجوء على بعد أمتار.

المناظرات بين ترامب وكلينتون أليست بحد ذاتها فكاهة!

أن تأتي بعاقل ليناظر مجنوناً فيفوز المجنون؟

وكيف تجتمع أمة على انتخاب أحمق مثل ترامب؟

عالم تُقطع أشجاره ليصنع منها ورق تُؤَرَّخ فيه الترهات.

صور المشعوذين وقارئي الطالع والكف تتصدر المشهد الإعلامي، بينما يقبع كتّاب العالم الثالث وأدباؤه في المعتقلات وزوايا المقاهي وهم يفكرون في فداحة ثمن فنجان القهوة التالي!  

فهل يمكن للفكاهة أن تشمل كل المفارقات؟ ولماذا نخاف الفكاهة؟ هل فقدنا مهارة تذوقها؟

تحتاج الفكاهة لروح حرة، وفكر قادر على استيعاب التناقضات، بودلير يرى فيها “علامة على العظمة وكذلك على التعاسة اللا محدودة.”

وهي بحسب أوكتافيو باز “الابتكار العظيم للروح الحديثة، ووسيلة للنفاذ لقلب لامعقولية الواقع.” هي أشبه بالتوليد السقراطي الذي يستخرج الحقيقة من قلب الجهل، وهي تخفف من شقاء الغموض الذي يكتنف هذا العالم، على العقل الذي يبتكرها. الفيلسوف ديمقريطس -الذي لُقب بالفيلسوف الضاحك- قال للطبيب الذي حاول علاجه وظنوه مجنوناً إنه يضحك من حماقات الناس، ووصفه أبقراط أنه “أكثر الناس حكمة.” ساندرز يشبه الأمر بأخذ حبة دواء مرة شديدة المرارة بعد تغطيتها بغلاف من السكر.

كانت الدعابة وسيلة لفهم هذا العالم، وكانت قادرة على وضعه تحت نور شديد السطوع باعتبارها شارة ودلالة على الحقيقة كهذه المزحة التشيكية:

– سيدتي مرت مدحلة فوق ابنتك!

– حسناً، حسناً. إنني أستحم الآن دسها من تحت الباب!

هل يجب اتهام هذه المزحة التشيكية بالقسوة؟

يعتقد كونديرا أن العمل الأدبي العظيم المؤسس لثرفانتس انبعث من روح اللاجد “حيث تتحرر المخيلة من المسؤولية لتعبر عن هذا العالم وعن المأساة في قلب هذا العالم”،  فما حدث قد حدث ولا يمكن تغييره لكن يمكننا السخرية منه كما فعل ثرفانتس ١٦٠٥- ١٦١٥ مع التراث الكلي لعصر الفرسان.

وكما فعل بائع الأحذية الإيطالية الذي واجه كابوس الفقدان بالفكاهة، فهي وحدها تثير الرعب لأنها وعي للتناقض، وقدرتها  تفوق السلاح في مواجهة السلطة وأدواتها، وهي بحسب أفلاطون “قدرة الضحك على تخريب الوضع الراهن-أياً كان، وقوته الهائلة على تحويل خطوط الدفاع القوية للسلطة إلى مجرد أبنية هشة من القش.”

 هل تبقت للإنسان اليوم أية إمكانية؟ أم أن الفكاهة صارت دون معنى، وعجزت عن هضم هذا التناقض؟

باعتقادي أن الروح السائدة الآن هي أقرب للتهكم والعبث والسخرية، وإن كانت الفكاهة بحسب ترجمتها اليونانية “قول الحقيقة تحت ستار الإضحاك”، وإعادة اكتشاف ما هو مألوف بشكل غير اعتيادي ووعي المفارقات (مفارقات الحياة المدهشة)، فإن التهكم يفتقر للوعي والحرية وقد وصف نيتشه صاحبه “بالكلب النهاش”. فهو لا يكتفي بالعض وإنما يتعلم أن يضحك.

لا يعلي هيجل من الموقف الأخلاقي للمتهكم، لأنه ينساق ببساطة مع المستنقع ويغطس فيه وهو يعبر عن سطحية وجفاف روحي وإنساني ووعي مشوه، كما أن “الفكاهة تعكس تحولاً من الشعور بالعجز أو النقص إلى الشعور بالتفوق” بحسب موريل ، وقدرة على التحرر من أسر الأسى.

فهل مازلنا نتمتع بالروح الحرة التي ميزت أسلافنا في وقت ما؟

هل نملك وعياً بالتاريخ الذي يُزيَّف ويُشوَّه كل يوم ؟

وهل مازلنا قادرين على التمييز بين ما يقال لنا و ما تراه أعيننا بينما يتم التلاعب بالصورة وبالمعلومة كل ثانية؟

حين كتب كونديرا وهو في الثمانين “حفلة التفاهة” أراد أن يترك لنا “شهادة حية على عالم بلا روح، عالم غامض وأحمق” لكن كاتب “خفة الكائن” ، و”الحياة في مكان آخر” والذي أراد في أعماله الأولى أن يضع الإنسان تحت إنارة مستمرة وأن يستكشف في عمق المواقف الوجودية والإنسانية ما هو أبعد منها، عن الحقيقة.

من خلال بحثه في جذور العدوانية غير المبررة وغير المفسرة بين البشر،  وبكرهه لحفلات الروك وفيها لا يكون المرء موجوداً ليحكم على الموسيقى بل ليستسلم، ليصرخ، ليمتزج، التماهي لا المتعة، الانصهار لا السعادة  و تحدث عن حسنات البطء في عالم يسرع دون هوادة نحو الهاوية.

 ويروي كاتب “الضحك والنسيان” أن الفكاهة “هي الوميض الإلهي الذي يكشف عن العالم في غموضه الأخلاقي، وعن الإنسان في قصوره العميق عن الحكم على الآخرين وإلا كيف يتوهم دون كيخوت نفسه فارساً؟”

ربما لم يكن دون كيخوت أحمقَ، هو رجل أراد أن يسخر من عالمه بطريقته الخاصة، في  حواراته مع صديقه وحامل سلاحه سانشو يضحكنا ضحكاً موجعاً فأمام الفندق يقابل دون كيخوت عاهرتين، يعتبرهما نبيلتين، ويؤدي للقواد تحية النبلاء. يبدو أن في داخل كل منا دون كيخوت يحاول فهم هذا العالم الأحمق بالعقل دون أن يعي أن كل قرارته متجذرة في الحماقة أو العبث.

في الدودة الهائلة أو “المسخ” حسب الترجمة، يستيقظ ” ك” ليجد أنه تحول إلى خنفساء مقلوبة على ظهرها، هل هناك فكاهة توازي فكاهة كافكا لتكشف عما يتجاوزها عن محنة الإنسان وعن لا معنى وجوده، وفي “مستوطنة العقاب” تبدو عقوبة السحل تحت الشفرات الحادة فكاهة بالنسبة لرجل غفا أثناء نوبة الحراسة أو نسي أن يقف باستعداد، هل هناك فكاهة في الأمر؟  

نعم فكاهة العقوبة التي لا جذور لها سوى في قرار أحمق اتخذه من أقر العقوبة .

في “المحاكمة” يبدو بناء المحكمة الرث والمتآكل، حيث تمارس زوجة المستخدم الجنس مع القضاة بين المقاعد، وحيث تجري الحوارات بعبثية دون أن يفهم المتهم ذنبه تعبيراًًً عن عدالة رثة متآكلة تحركها الرغبات والأهواء، فالمحكمة التي هي العالم لا تقام إلا لإفناء المتهم .

كان كونديرا يسعى جاهداً كي يبين أن حرية الإنسان تأتي من فرادته، من كونه صانع فكاهات، لكنه في آخر أعماله  يستسلم ويعترف “بصيغة النحن” ربما لخجله من التحدث بصيغة المفرد – يقول “أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم ولا تغييره إلى الأفضل،  ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام لم يعد هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة، ألا نأخذه على محمل الجد.”

في “حفلة التفاهة” هناك قصة عنوانها “أربعة وعشرون طيراً من الحجل.”

جاء فيها أن ستالين قرر ذات يوم أن يذهب للصيد، ارتدى معطفاً رياضياً قديماً و انتعل حذاء تزلج، حمل على كتفه بندقية صيد طويلة واجتاز ثلاثة عشر كيلو متراً. عندئذ شاهد أمامه طيور حجل جاثمة على شجرة، توقف وعدَّهم فوجدهم أربعة وعشرين طائراً من الحجل لكن يا لسوء الحظ، لم يأخذ معه إلا اثنتي عشرة طلقة. يطلق النار فيقتل منها اثني عشر طيراً، ثم يعود ليقطع ثلاثة عشر كيلو متراً نحو منزله، ويأخذ اثنتي عشرة طلقة ويجتاز الكيلومترات الثلاثة عشر مرة أخرى  ليجد نفسه أمام طيور الحجل لم تزل واقفة على الغصن ذاته، يطلق النار عليها، وها هي جميعاً أخيراً.”

حين روى ستالين لمرافقيه ومستمعيه الحاضرين قصة طيور الحجل، لم يضحكوا، نظروا إليه بوجوه متشنجة، “لأن أياً منهم لم يعرف ما هو المزاح.”

ومزحة صغيرة قد يكون الرد عليها برصاصة في العنق!

مزحاتنا فقدت سلطتها، أصبحت الفكاهات خطيرة، وإن مشهد الأربعة وعشرين طائراً هو فاتحة عصر جديد، عصر أفول الفكاهات، عصر ما بعد المزحات.

مُخرِب الأحلام

مُخرِب الأحلام

كان الشاب المدعو- آدم  والذي صار لقبه فيما بعد – الفيل – يجلس في الباحة السماوية تحت شجرة النارنج، عندما رأى فقاعة أشبه بفقاعة الصابون، تخرج من نافذة الغرفة التي ينام فيها والده وعروسه، وتقترب نحوه .

كان والده قد يئس من أية إمكانية لجعله آدمياً، فقد  طُرد من مدرسته على إثر ضربه لأحد أساتذته كما فشل في كل المهن التي تنقل فيها وكان على قناعة راسخة أنه لم يخلق ليؤدي عملاً نافعاً. بل يتعمد أن  يفسد الأشياء التي يفترض أن يصلحها، كأن يترك في المدافئ ثقوباً ليتسرب منها الوقود وتحرق البيوت بقاطنيها أو يغرس في الأحذية مسامير مسننة، أو يحدث في أقفال الأبواب ثغرة كي يخلعها اللص  ووصل به الأمر إلى وضع العث والديدان في المعاطف التي يبيعها .

بعد  طرده صار يمضي وقته  في باحة البيت تحت شجرة النارنج،  يسهر ليلاً وينام نهاراً. وكان الأب الذي طلق والدة آدم وتزوج شابة صغيرة  يشعر أن منتهى سعادته هي أن ينام ولده حتى وقت متأخر ويتمنى أن لا يستيقظ أبداً.

عندما صارت الفقاعة على بعد إنشين منه ارتجف جسده ورأى ما اعتبره خيانة زوجية تحدث في غفلة عن والده . كانت  زوجة والده، وجارهم الشاب يركضان في الفقاعة الشفافة الحمراء، وكانت الفقاعة التي بحجم كرة قدم تزداد توهجاً مع ضحكاتهما وعناقهما المحموم  بينما تتبدل ألوانها من الفضي إلى الوردي الفاتح إلى الأرجواني المتوهج.

في اليوم التالي لم يخرج كعادته لملاقاة أصحابه، بل أمضى يومه يراقب الزوجة الشابة وهي ترابط عند النافذة وتنظر بعيني قط محروم إلى باب الجيران.  

عند الغروب جلس خلف نافذته يراقب الزوجين وهما ينهيان آخر عاداتهما اليومية. سمع قرقعة الصحون وانسياب الماء في الحمام… دعسات والده… وقفل باب غرفتهما. عندها سحب كرسيه وجلس تحت شجرة النارنج  ينتظر الفقاعة التي اقتربت منه، وقدمت نفسها له كشاشة سينما أبطالها زوجة أبيه وجارهم الشاب. كانا يسبحان عاريين في مغطس ماء حار.

يتعانقان …يركضان على الحافة الدائرية للمسبح …يغيبان في أروقة قصر باذخ،  ثم يقفزان في الماء، و يواصلان السباحة.

غرس سبابته فأحس بلزوجة الفقاعة أخرجها ثم غرسها مجدداً كمن يوجه طعنة بسكين  فانقبض وجه المرأة وتراجعت للخلف، وهي تنظر حولها بذعر، شعر العاشق بالخطر فسبح هارباً خارج الحيز الذي يشمله الحلم لكن آدم ضربه في ظهره بسبابته فانزلق الشاب عند طرف الحوض وارتطم رأسه بالرخام، وسالت دماء كثيرة،  ثم تحول لون الفقاعة قبل أن تتبدد من الوردي إلى الأسود عندها سمع صرختين من الغرفة، وركض والده -الذي كان شخيره قبل ثوان يملأ الأرجاء – هلعاً ليملأ كوب ماء.

ما اعتبره  هواية ومارسه لسنوات  في المقهى وفي الشارع مع  المتشردين تحول بعد وفاة والده إلى حرفة حيث قصده الناس من كل مكان، وطارت سمعته إلى أوروبا وأفريقيا. قصده إعلاميون فاشلون وصحفيون يبحثون عن الشهرة بأي ثمن و دفعوا أموالاً طائلة لكي يروا قدراته الخارقة.

قصده الجميع بما فيهم الفنانون والسياسيون، والأساتذة الجامعيون، وأخيراً السحرة الذين أرادوا أن  يتعلموا منه طريقته في تحويل الحلم الأخضر إلى حلم يابس والأحلام الوردية إلى أحلام سوداء وكوابيس.

كان باب بيته مزدحماً واضطروا إلى هدم حارتين لكي يوسعوا الشارع المؤدي إلى بيته باعتباره ثروة إنسانية كما وقف خمسة عشر شرطياً وثلاثمائة متطوع  لتنظيم حركة المرور، واستعمل مئات المساعدين لتنظيم الزبائن في باحة البيت وفي الشوارع والمقاهي الجانبية والذين كانوا من كل الأجناس والأعمار.

كانت تقصده النساء لكي يباغت أزواجهن وعشيقاتهم في أسرتهن، ويحول أحلامهم  إلى كوابيس….

…الرجال الذين  يطلبون منه أن يتجسس على أحلام رؤسائهم في العمل

…آخرون يتفرجون على رغبات حبيباتهن ولكل شيء تسعيرة  فمشاهدة الحلم لها ثمن، والعبث به له ثمنه أيضاً.

كان كل شيء يسير باعتياد إلى أن أتى ذلك اليوم ….

في البداية أرسلوا إليه أشخاصاً يلبسون قبعات جلدية تخفي عيونهم  يجلسون في باحة البيت، و يراقبون باب مكتبه ويتهامسون فيما بينهم. في صباح أحد الأيام احترق منزله وفي يوم آخر نهبت نقوده ثم طردوا زبائنه وفي النهاية طلبوا إليه أن يعمل لحسابهم.

– تعمل لدينا ويعود لك ما أخذ منك مضاعفاً. عملك الآن سيختلف. نحن لا تهمنا خيانة الأزواج ولا الزوجات ولا ترهات العشاق والمراهقين.

على من سأتجسس إذاً؟

ستعرف لاحقاً.

كان تصنيف الأحلام يتدرج من عالية الخطورة كالأحلام المتعلقة بالأفكار  وأطلق عليها أحلام المجانين… إلى متوسطة الخطورة كالبيوت الفارهة أو السيارات الجميلة أو النساء الفاتنات وسميت أحلام اليائسين… إلى لا خطر منها وهي المتعلقة بوجبات الطعام  كأن يحلم الشخص بدجاجة مشوية أو مرطبان من العسل أو سلة من الفواكه وسميت أحلام الأموات.

لكن رئيسه في العمل أصر على أن كل الأحلام  خطرة لأنه إذا حظي الحالم بمرطبان العسل فسينتقل إلى المرتبة الأعلى، وهكذا حتى يبدأ بإطلاق أفكاره كما يطلق ريحاً من مؤخرته دون حسيب أو رقيب ، وكان يخبره كل صباح  مقطوعته اليتيمة: نحن لم نبن لك هذا المكتب كي تترك تلك الحشرات الخطرة تعبر من سماء المدينة .

وبذلك  صار يعمل دون ملل ويطلق العنان للشر الذي رباه في صدره طيلة السنوات الماضية تحت شجرة النارنج .

في بعض الأحيان كان يقبض على شخص وهو يعبر بوابة بيت ذي إطلالة جميلة أو يتأمل شرفة قصرعندها يلامس الفقاعة بصاعق كهربائي  فتهتز الفقاعة وينهار البيت فوق رأس الحالم، قد يعاود الحالم الكرة في الليلة التالية لكن بعد محاولتين أو ثلاث سيستيقظ مذعوراً بمجرد رؤيته لإطلالة جميلة أو بيت مترف.

وفي أحيان أخرى يجد أحدهم متأنقاً ويمشي بزهو فيوجه مروحة إلى حلمه تجعله يتأرجح وسط دوامة ريح عاصفة ثم يسكب الماء الممزوج بالوحل على ثيابه ولا يكتفي بتخريب هندامه وبعثرة شعره بل يطلق خلفه كلاباً متوحشة.

أحلام الشعراء والفلاسفة صنفت ضمن عالية الخطورة حيث يلقي هؤلاء المواعظ والنظريات حتى في نومهم لذلك  كان يسكب فوقهم دلواً من الأسيد وهو يقسم أن يجعلهم: يتبولون في أسرتهم وعلى زوجاتهم وبالفعل كانوا يستيقظون وقد نسوا كل تفصيل ما عدا رائحة الأسيد والفراش المبلل ولعنات الزوجات.

تسليته الوحيدة هي أحلام الفقراء كأن يباغت شخصاً مع تفاحة أو حبة موز يضع فوق سبابته دودة ويغرسها في الفقاعة فتتحول الثمرة إلى حشرة ضخمة.

أمضى حياته يدخل زلازل في الأحلام  يسكب الأسيد والكيروسين يطلق كلاباً وأفاعيَ، يرمي في طعام الفقراء حشرات وقذارات ولم يترك حلماً يكتمل وكان يردد الحكمة التي سمعها من دون أن يفهمها: للأحلام قوة تجعلهم يستيقظون ويفهمون لكن الكوابيس تفعل العكس.

في النهار يقضي وقته  في الحانة ثم ينام بضع ساعات. في الليل يبدأ عمله صار لديه مساعدون وتلاميذ مثله ضخام الهيئة لذلك أطلق عليهم الفيلة، وأضيف بجانب اسم كل منهم رقم، مثل الفيل واحد، الفيل اثنان، الفيل ألف.

مع الوقت ازداد عدد الفيلة، وصارت الأحلام تُبتر من منتصفها، وتتحول إلى كوابيس، وكان  لكل حلم فيل ينتظره على مفترق الطريق، بعد زمن لم تعد تمر أية فقاعات متوهجة فقط الفقاعات السوداء كانت تستطيع المرور عبر سماء المدينة.