في قاعِ النهر

في قاعِ النهر

لم يتوقف المطر منذُ منتصف الليل، منذ اللحظة التي قرر فيها الذهابَ ومواجهةَ كلّ ماضيه المائي، ومساءلةَ النهرِ عن الغرق الذي لم تنجُ منه سوى الكلمات التي تصطدم ببعضها البعض كخرز السبحات القديمة في أيدي رجال ونساء يتذكرون مساقطَ رؤوسهم كجنات مفقودة. أحسَّ بالماء في عمق جلدهِ، وشعر بالغرق.

كان مركز انطلاق الشمال في حرستا، يضج بالمسافرين الصباحيين وأدلاءِ مكاتب السفر، تقدم رجلٌ يحمل مصبَّ قهوة مرّة.

“المصب كلمةٌ أخرى لها طبعُ الماء” فكرَ.
وشعر بتواطؤ اللحظات مع غرقه الخاص. وكانت القهوة أكثر من مرّة. انتظر ثوانٍ قبل أن يرد على الشاب الذي سأله إن كان مسافراً إلى حلب، ” لا. إلى منبج”. وكانت أول رحلة تنطلق إلى منبج عند الثانية عشرة ظهراً. اقتنع بكلام الشاب ولم يكن يحمل أية أمتعة باستثناء حقيبة يده، جلس في المقعد رقم ٤ وكان الماء يسيل على الزجاج مغرقاً كل شيء كذكرى بعيدة.

أخرج الكتاب الذي خبأ فيه الصورة، وكان من الروايات التي وصلته مؤخراً. تطلع في العنوان.” السباحة إلى المنزل”. وأحس بالغرق من جديد تواطؤٌ آخر في هذا الصباح الغارق في مائه.

منذ البداية، ظنَّ أن الموضوع لن يكون أكثر من صورة  بالأبيض والأسود، وجدت صدفةً بين أوراق قديمة، صورةٌ تمثل لحظةً ضوئية متوقفة وزمناً متجمداً. ملامح توقفت عن النمو، عيونٌ مفتوحةٌ في لحظة إبهار ضوء الكاميرا. تطلع في الطفل  كمخلوق وصلَ من زمن آخر. تطلع في المرأة التي تبتسم و تُجلس الطفل في حضنها، لم يكن قد رآها من قبل. ولم تكن ضمن صور أفراد عائلته، إلا أنه عرفها.

كان يمكن للقصة أن تأخذ نهايتها الطبيعيةَ وتموت في ذاكرته ككل الذكريات، لو أنها بقيت كما أخبره والده منذ زمن بعيد:”عمتك هلالة ماتت عندما كنتَ صغيراً ” لكن حضورَ الصورة الآن، أحضر إلى ذاكرته الطفولية كلَّ الهمساتِ المتبادلة بين أمه وقريباتها: “جنوا عليها” وتنتهي حدودُ الذاكرة بأصوات خفيفةٍ حبيسةٍ وأسىً مكتوم.

وقال في نفسه:

“هلالة المفلح، عمتي، أخيراً رأيتكِ”.

لم يتوقف عن القراءة إلا في حمص، في الاستراحة على الطريق السريع وضع الصورةَ حيث انتهى. باتت تشكل دليلَه. والمطر صار أكثرَ كثافةً.
عند الساعة الواحدة ظهراً وصل إلى حلب و لم يتوقف المطر. وأصبحت السباحة في منتصفها. في مركز انطلاق هنانو لم يجد أيَّ بولمان يتجه إلى الشرق. لم يدم شعورُه بالخديعة طويلاً، وذهب باتجاه كراج الهوب هوب.

لم تكن المسافةُ تزيد عن الساعتين، هكذا تذكر منذ آخرِ زيارةٍ له إلى بيت عمه. لكنه لا يذكر متى حدث ذلك. بعد الطوفان، أم قبل أن يباشر نوح ببناء سفينته. لا يتذكر إلا أن باص سكانيا الضخم الذي احتل فيه مقعداً متقدماً، بدا له كسفينة نوح.  

والركاب بدوا له غرقى بما فيهم نوح والناجي الوحيد هو ابنه.
كان السائق يحمل نفس الاسم. “تواطؤٌ آخر”.

بعد ثلاث ساعات رسا الباص الضخم في ساحة البطة الغارقةِ في ضوء باهت ومياه خضراء. ولثلاث ساعات لم يرغب بالقراءة، بل فتح كلَّ جلده لتلقّي ذلك السيل من الكلام المختلط الممزوج بالسباب والضحك ورائحةِ المازوت ورائحة الدجاج المشوي. أحس حقيقةً أنه غريقٌ بين غرقى أحياء.

نزل نصفُ الركاب واستغرق نزولهم أكثرَ من عشرينَ دقيقة. وتابع الباص إلى مرسى آخر. وكانت زخات من المطر بدأت بشكل خفيف إلا أنها أصبحت أقوى عندما غادر الباص وكان الليل الفضي قد بدأ. وقرر عدم الذهاب إلى بيت عمه، فالوقت أصبح غيرَ ملائمٍ، خصوصاً أنه لم يخبرْ عمه أو أحد أبنائه بقدومه إلى منبج. ولأنه أصبح مبتلاً حتى العظم وهو ينتظر مرور سيارة أجرة. قاده السائق إلى فندق مدينة منبج. كان الفندق نظيفاً من كل شيء حتى من النزلاء. في البهو الذي أُنير لأجله، طلب فنجاناً من القهوة ودخن سيجارتين وصعد إلى غرفةٍ في الطابق الثالث مطلةٍ على الشارع. كانت الغرفة دافئةً، فقد تم تشغيل المكيف قبل صعوده لكن المياه لم تكن ساخنة، طلب موظفَ الاستقبال الذي أخبره بضرورة الانتظار قليلاً، وأحسّ بأنه بدا للموظف كضيفٍ طارئ. من النافذة لمس الهدوءَ الأسودَ الماطر يخيم على الشارع، ونزل إلى الصالة. سأل موظفَ الاستقبال إن كانوا يقدمون طعاماً. لم ينفِ الموظف إلا أنه نصحه بأن يذهب إلى مطعمٍ ليس بعيداً يقدم أكلاً لذيذاً. في المطعم طلب نصفَ فروجٍ مشويّاً وأحسّ بأنه مازال في سفينة نوح من طراز سكانيا.

في الغرفة بقي تحت تأثير مزاجه الرائق الذي دام من لحظة خروجه من حلب حتى الآن. وأعاد في ذهنه رؤيةَ المسرحية المتقنة التي قام بها بائعا البسكويت في الباص، أخذ حماماً ساخناً واندس عارياً في الفراش . فتح الكتاب. ظهرت الصورة وعاوده الغرق من جديد.

أحس بالكلمات تطرق رأسه. كان يدرك ذلك فعندما تأتي وتريد أن تسيل على الورق يشعر بها في أصابعه. إلا أن تعبه وعدمَ نومه جعلاه غيرَ قادرٍ على الكتابة مع شعوره بأنه إن لم يكتب وإن لم يسمح للكلمات بالخروج لن تعود أبداً. تطلع في الصورة، كان غرقه الآن عظيماً ولم يستطع كبت رغبته في التدفق. على ورقة صغيرة كتب جملةً واحدة ستكون دليله أيضاً: “بتُّ غريقاً يحيا في ماء”. ونام.

لم يدم نومُه سوى لحظات، أو هكذا فكر عندما فتح عينيه في صباح غائم متأخر. في مطعم الفندق أحضر له موظف الاستقبال فنجانَ قهوة وأبدى وداً ظاهراً كتعويض، تبادلا بعض الكلمات عن أحوال المدينة والطقس، وأخبره بأنه قادمٌ من دمشق في زيارة عائلية وليس من الباحثين عن استثمارٍ في زراعة القطن الذي نما في السنوات الأخيرة رغم إعجابه بالفكرة. لاحظ الموظف وجودَ الكتاب ، فسأله إن كان صحفياً، قال إنه قارئ  وإنه، مشيراً إلى الكتاب، سلاحُه ضدَّ الوقت. ابتسم الموظف وقد أعجبته الفكرة وسأله إن كان من منبج؟ ابتسم بدوره وأخبره بأنه ولد على ضفاف الفرات. تناول فطوراً خفيفاً وخرج.

كان الوقت قد تجاوز الظهر عندما وصل إلى بيت عمه. أثار قدومُه المفاجئ موجةً من فرح ضربت البيت الريفي المكوّن من طابقين وسور وبوابةٍ عريضة وصفٍ من أشجار الأكاسيا العارية في مثل هذا الوقت. كان أصغرَ أعمامه ويكبر عمتَه هلالة بأربع سنوات، وكان ستينيّاً متقاعداً أمضى سنواتٍ طويلة في المحلج الحكوميّ. أبدت زوجةُ عمه فرحاً مضاعفاً بقدومه بدا من خلال ضحكة عينيها وبدئها الفوري بإعداد الطعام.

بعد مضي الوقت المليء بالكلام الأوليّ والاستفسارات عن الأحوال والأسئلة الطبيعية، الوقتِ الطويل المتقطع بابتسامات وفرح فطري، وصلا إلى الصمت. هل ثمة كلامٌ يجب أن يقال؟ لم يجد من الملائم البدءَ في طرح أسئلةٍ أو حتى الحديث عن زيارة غير متوقعة. كان ذلك سيكون كسراً للفرح وإجحافاً لم يستطع البدءَ به. إلا أنه وعن قصد وضع الكتاب على الطربيزة في نقطة قريبة في المدى المجدي لنظر عمه.

طبيعياً بدا الأمر. حمل عمه الكتاب. توقفت عيناه على العنوان. ضحك أول الأمر. انقبضت عيناه قليلاً بشكل غامض. فتح الكتاب. وكانت الصورة.

بدت اللحظاتُ وكأنها لن تنتهي، عمرٌ كامل من التحديق، هل مرّ قرن؟ مئةُ ثانية؟ النظرة، الصمت الصاخب، والوجيب؟ أخيراً، متشبثاً بالصورة، انقطعت النظرة وبدأ الكلام:

“هذا أنت… بالـ 74 . في ساحة باب الفرج، في حلب. كانت واحدةً من الزيارات الألف إلى الوزارة ومديرية الطابو والعقارات. تركتُك معها في ساحة باب الفرج ولم تكن تنزلكَ من بين ذراعيها لحظةً واحدة. خشيتْ أن تضيع. لكن في النهاية هي من ضاعتْ، كلنا ضعنا. هي، أبوك، أنا وكل الناس الذين بحثوا عن حقوق غُمرتْ في المياه.”

صمتَ قليلاً كمن يستعيد نفْسَه، وكان صمتُه محتقناً كبحيرةٍ خلف سد، انهار السد وبدأ يروي القصة من أولها. وبداية وصولِ الخبراءِ الأجانب مع مساطرهم الطويلة ومناظيرهم البعيدة وأجهزة المساحة. وكيف بدؤوا بقياس الأرض وعبورِ النهر شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً.
“كان الحديث عن جنة قادمة إلى المنطقة وعن ازدهار وعمل وكهرباء ونقود وماء محمولٍ بالقنوات يروي الناس والأرض.”

“لقد بدأ ترويضُ النهر” كانوا يقولون.
“فرحنا في البداية وبدت المنطقةُ وكأنها على موعدٍ في الفردوس. أليس الفرات أحد أنهار الجنة؟ إلا أن ما حصل لاحقاً كان رحيلاً غجرياً وتهجيراً إلى الرمل، للبشر والحيوات والذكريات عندما بدؤوا تفريغَ القرى التي ستختفي إلى الأبد.”

“كنّا من بين العائلات القليلة التي رفضتْ العملَ في مشروع السد، وكان جدكَ قد أدركَ، بشكلٍ غامض، أنه رغم المنفعة التي سيحملها السد، إلا أن حقوقنا نحن سوف تضيع. استشفَّ ذلك من الكلام الخالي من الدفء من أفواه المسؤولين وزوارِ المنطقة، وبالفعل لقد كان أهالي المنطقة يعملون نهاراً في المشروع ويعودون مكسورين إلى بيوتهم المرتجلة وكأنهم بدؤوا بحفر قبورهم.”

كانت الصورةُ تلوح في يده مع كل موجةٍ كلامية. لم يتركها وتابع فيضانَه:

“بدأنا بإعداد وثائق الملكية وحضِّ الناس على تصوير وثائقهم، وهلالة.” كانت عيناه على الصورة الآن. توقف عن الكلام لثوانٍ، ثم بدأ هادئاً كنهر صيفيّ:

“هلالة كانت متعلمة. لقد أصرّ جدك على تعليمها وكانت مدللتَه وآخرَ عنقوده، لكنها كانت قويةً وحادةً كنهر، وكانت مع كلِّ زيارة وفد إلى القرى المحيطة بالنهر، تجمع النساءَ والأطفالَ حاملين صكوكَ ملكياتهم وأوراقَ الطابو، ويقفون على مرأى من تذمرِ المسؤولين ووعودهم. وعندما رُحِّلنا وبدأت تلك الجولاتُ الطويلة والزياراتُ إلى حلب وحتى دمشق، أصرت هلالة على الذهاب. لكن المياه أتتْ بعد ذلك لتغرقْ كلَّ شيء الأرض والقرى والحقوق.”

أخذ نفسَاً طويلاً، وتابع:

“سكنا في خيام وبيوت طينية تطلُّ على الماء، وتكررت زياراتُ الوجهاء والمسؤولين، يتناولون الطعام ويتسابق الأطفالُ لصبِّ الماء على أيديهم ، يضحكون، يعِدون ويزداد غرقُنا. وكانت عمتك في كل شروق تقف على وجه الماء وتحدق بصمت.

لم أصدق، عندما حملوا جسدَها إلى القرية الطينية. لم أصدق. لقد كانت أمهرَنا جميعاً في السباحة. وكانت تصر أن تسبح يومياً وحيدةً في النهر، وحتى عندما كبرت قليلاً وجاء أحد الشيوخ إلى جدك ليشكو هلالة ويحاول منعها من السباحة، قامت بجمع فتيات القرية وسبحن بثيابهن في النهر. لا أعرف إن كانت غرقت أو أُغرقت. لكننا جميعاً غرقنا. سافر أبوك إلى دمشق، ورحلنا جميعاً إلى منبج.”

توقف عن الكلام ، غاب قليلاً، أتى حاملاً الكثير من الأوراق والصكوك والجرائد القديمة التي تروي كيف ضاعت الحقوق حتى الآن.

أخيراً جاء صوتُ زوجة عمه منهيةً الصمتَ الذابح، فقد تمَّ تجهيز الطعام ووصلت القصة إلى نهايتها.

قاربت الحاديةَ عشرة ليلاً عندما عاد إلى الفندق، مازالت تمطر بتقطعات خفيفة،

“هذه الليلة سيبلغ المنخفضُ الجوي ذروتَه.” قال موظف الاستقبال الذي دعاه لشرب كأس من الشاي وسأله عن رأيه بالمدينة .

“إنها هادئة ككل القرى الكبيرة التي أصبحت مدناً بفعل ازدياد عدد سكانها فقط.”

لم يُدم جلوسَه طويلاً متعذِّراً بكونه قد حجز في رحلة الخامسة فجراً للعودة إلى دمشق، وتمنى له ليلةً طيبة. في الغرفة الدافئة، اندسّ عارياً كعادته في السرير وأنصتَ لدقائق إلى صوت المطر وقد اشتدّ الآن. ترك الكتابَ مفتوحاً، أخذ الصورة. كانت يدا عمته تحيطان ببطنه الصغير، وضع يدَه على بطنه، وعيناها تحدقان بالمصور الذي على الأغلب كان يحاول لفت انتباهه إلى الكاميرا، فابتسمت عمته وخلّد الورق الابتسامة. نظر إلى نفسه الآن عارياً في غرفة فندق غريبة غارقاً بأفكار غريبة أيضاً، هارباً من ضجر دمشق إلى هدوء مائي لم يجده. وسأل نفسه: “ماذا جئتُ أفعل؟ ماذا وجدتُ؟ لقد كنت أعرف بأنها غرقتْ.” وتساءل كيف يكون النهر عندما يطعن المطرُ وجهَه كإبر، حاول أن يستحضر صورةً للفرات، تذكر جسراً خشبياً واطئاً ومياهاً عريضة، وفكرَ …النهر أيُّ تجددٍ أيُّ خلود.

كان صباحاً صاحياً، وقد استعاد حضورَه بوعي كامل، الماء وصل حتى ركبتيه، والنهرُ أمامَه كشريان عظيم. ببطء تقدم في المياه التي ترتطم بالضفة التي أصبحت خلفه الآن، وتعاود غرقَها في مياه أخرى، مسافةٌ قليلة أخرى ويدخل في التيار. كانت الصورة في يد والكتاب في يد أخرى وأصبحتْ عيناه على وجه الماء اللانهائي.

كان انزلاقُه هادئاً بطيئاً، والجذبُ أصبح غيرَ مقاوَم. غابت الأرض من تحت قدميه وابتلعه التيار المندفع إلى الوسط والأمام، كان يدور الآن في دوامات مائية داخلية، أغلق عينيه بشدة ومارس ضغطاً على جفنيه وفمه رافضاً ابتلاع الماء الذي ابتلعه ولا يريد أن يفقد آخرَ رصيدِه من الهواء. في اللحظة التي أدرك فيها غرقَه، صرخ فاتحاً عينيه. كان وسْطَ مياهٍ مغبرَّة إلا أن التيار أصبح أقلَّ حدةً، شعر بذلك وقد لاحظ هبوطَه البطيء ممسكاً الصورة والكتاب. صرخ مرة أخرى وفتح عينيه، صرخ وصرخ من جديد والماء لم يدخل فمه ويستطيع أن يرى: “أنا حي، أنا حي وحر.”

كان سقوطُه بطيئاً كمن يسقط بمظلة فوق سطح القمر، لم يكن للتيار أيَّ تأثير الآن وأصبح يتنفس كسمكة. على القاع الحريري للنهر كانت خطواتُه أكثرَ طولاً، لاحظ عدمَ وجود أعشاب، كان القاعُ مقفراً. في البعيد لاحظ أسواراً حجرية لبيوت كأنما ضربها زلزال. دار حول البيوت، مرت أسراب سمك من جانبه، لم تعره أيَّ اهتمام ظانةً بأنه سمكةٌ أخرى لكن بزعانف أكثر طولاً. شعر بحركة غريبة خلفه، تلفت، لم ير أحداً. بعد قليل وفي بقايا ساحة مهدمة، انتصبت أمامه كعروس، ثابتةً في مكانها كنصب. وشعرُها كجذور سوداء تغصّنت.

“عمتي” . صرخ واندفع باتجاهها وقد عاد طفلاً كما في الصورة، ضمته واضعةً يدها فوق بطنه:

” لقد كبرتَ؟”

“لا . لم أكبر. وأنت لم تموتي كما قالوا لي؟”

“لا لم أمت. لقد كذبوا عليك. ألا تراني أتكلم وأضحك؟ روحي في النهر فكل الذين يأخذهم النهر تبقى أرواحُهم في قلب النهر ولا يموتون أبداً.”

“رأيتكِ كثيراً في أحلامي . هكذا مثلما أنت الآن. وعدّتُ إليك.”

“ماذا تحمل؟ ماذا أحضرتَ لي؟”

“إنها الصورة. هي من دلتني إليكِ. وكتاب هديتي لك.”

“تعال. سأريك أصدقائي وكلَّ من تسكن أرواحُهم النهر. وهذا العالمَ الذي نعيش فيه. لكن يدك باردة!”

وأخذته إلى أعماقٍ أقل،  حيث أعمدةُ الضوء تخترق الماءَ كأضواء مسرح، ثم غاصا عميقاً، ولم يشعر حتى بأنه يغوص، كان يطير معها كعصفوريْ ماء. ومرّا على السفوح المائية، على التلال القديمة التي تعرت وانكشفت عظامها الحجرية. مرّا فوق البيوت التي فقدت سماءها، وعبرا الأبوابَ المفتوحة أبداً للرياح المائية والشبابيك التي بلا أُطر. ومرّا برجال ونساء كثر وعندما سألها عنهم قالت له بأنهم أبناء النهر.

“هل هم حزانى”

“لا. إنهم يحزنون فقط لأنهم يشعرون بحزن من فقدوهم.”

وكانت تروي قصصهم، من أول نزولهم، الكثير من القصص وكلها لها نفس البدايات الحزينة، إلا أنهم مع الوقت يصبحون من هذا العالم ولا يغادرونه أبداً. وصلا إلى منطقةٍ بعيدة، ولاح في الأفق المائي حبلٌ أحمر. توقفت وطلبت منه أن ينظر باتجاه الحبل. قالت له هذا هو الخط الذي يفصلنا عن الغرق. لا أحد يتجاوزه. إنه قريبٌ من جسد السد. وعندما يفتحون إحدى البوابات يتشكل تيارٌ قوي يجذب كلَّ شي، ولا يستطيع أحد مقاومتَه، ويغرق. في تلك اللحظة لم يعرف كيف أُفلتتْ يدُه من يدها. وبدأ يبتعد وأصبح قريباً جداً من الحبل، أحس بالعرَق ينز من جسده، بدأ بالصراخ وقد أصبحت عمتُه بعيدةً، فتح عينيه، كانت الرؤية مغبرّة. صرخ مجدداً تمسك بحبال من ماء وكان ينزلق بقوة باتجاه هوةٍ يجهل عمقها. وصله صوتُها أخيراً، تمسك به كحبل. شدته إليها. احتضنته. عندها خرج صوته: “لا أريد أن أغرق.” سبحا باتجاه منزلٍ بلا سقف إلا أن جدرانه كانت مليئةً بصور ملونة. جلسا فوق صخرة. ثمة رجل يضحك ويحمل كاميرا معلقة في عنقه ، أجلسته في حضنها ، وضعت يدها فوق بطنه، والمصور يحاول جاهداً لفت انتباهه إلى الكاميرا، أخيراً لمع ضوء فلاش الكاميرا. وأيقن بأنه أصبحَ غريقاً يحيا في نهر.

شتاء الرسائل الجميلة

شتاء الرسائل الجميلة

إلى الصديقة العزيزة كندة شريقي حنا.

حارتنا هي صوتٌ عتيق لعجوز، صوتٌ يتلاشى ببطءٍ خلف شاحنة ذاهبة إلى العتمة، سأرحل وبذمتي هذا اليقين الوحيد.

عجوز حارتنا أقدم من كلّ بيوتنا، لا أحد يعرف تاريخها، لكنها،  تعرف تاريخنا كلّنا، حتى تفاصيله المملّة، نحن وأهلنا ولدنا على يديها.

الكبار يقولون إنّ لديها يقينيات غريبة تشبه حياتها… أنا لا أحبها، هي غير مؤذية، لكنّنا نخاف منها عندما نمرّ بها وهي على كرسيها فوق رصيفها تدخن كخريفٍ عمره ألف سنة.

اليوم سمعتُ صوتها لأول مرّة منذ سنوات، لا يزال دافئاً كحارتنا، كانت تهذي في الخارج للناجين مصادفة من الحرب:

ـ ابن البدينة… أنا أعرفه جيداً، ذلك الشتاء جعل بناتي جميلات… ابن السكير، اشتقتُ له، بسببه صار الحب في حارتنا أحلى، لأجله كانت تلك الرقصة الساحرة. هل تذكرون ذلك الشتاء؟ أمه لم تحب أباه، أجمل الصبيان أولئك الذين يولدون عن غير حب، الوغد. كسر قلبي في ليلته الأخيرة إلى تسع بنات واثنين وأربعين رسالة، اجلبوه إليّ إن كان حياً، اشتقتُ له، يا كلاااااب… أعطوني سيجارة…

(أبو رسائل) سخرتْ مرّة أختي، حملتُ هذا اللقب طويلاً بين غرف بيتنا.

في بيتنا القديم كان لدينا مكتبة بعدّة رفوف، تسلّيتُ أثناء المراهقة بقراءة كتبها، فصارتْ لغتي جميلة.

في ذلك الشتاء، ذات ليلة.. تسلق خالد حائطنا ليقفز إلى شجرة الأكيدنيا حتى غصنها المحاذي لشباك غرفتي، نقر بسبابته على البلور، فتحته مستغرباً. بقلب منكسر الخاطر همس لي وهو يبكي:

ــ أرجوك… أنا أحب يسرى، ساعدني واكتب لي رسالة حبٍ إليها.

وكتبت لخالد ابن الحانوتي، رسالة حب لـ يسرى بنت الخياطة، بعد مسائين كانت النتيجة جميلة له فأعطاني بضع سجائر. ابن عمه حيان فهم القصة، توسل لي من فوق غصن شجرة الأكيدنيا في مساءٍ بارد آخر أنّ أكتب له رسالة حب لـ هناء.

كتبتُ له متأففاً رسالة جميلة، بعد أيام عرف أمجد قصة الرسالتين، ثلاثتهم تسلقوا الشجرة وأمام شباكي ترجوني أن أكتب لهم رسائل لعشيقاتهم من بنات حارتنا.

وكتبت لهم، بصراحة. كنت أستمتع بكتابة الرسائل للبنات جانب المدفأة، وأوقعها بأسماء الآخرين، هذه الرسائل كانت تشغلني عن متابعة مشاجرات والديّ كلّ ليلة.

في درس الفيزياء الغليظ، كتب لي قاسم على دفتره ملاحظة وناولي إيّاه من أسفل المقعد:

ـــ بـ حياة أمك. اكتب لي رسالة حب لـ سمية. ومساءً نلتقي على شجرة الأكيدنيا…

زفرتُ، خلال أسابيع قليلة صاروا تسعة مراهقين أكتب لهم رسائل لتسع مراهقات، ودائماً، بين الأرض والسماء… على أغصان شجرة الأكيدنيا في المساءات الماطرة،  أعطي الأوراق لأصحاب الوجوه النحيلة ذاتِ القلوب المعذبة.

أظنّ أنّ أحدهم كان جاسوساً لمدير الإعدادية الأستاذ خليل، طلبني إلى الإدارة فذهبت وبعد دخولي مكتبه طلب مني ــ بلطف غير معتاد ــ أن أجلس، كان مرتبكاً قال لي بخجل:

ـــ بني… أنا أحب المستخدمة جمانة، الغبية لا تفهم عليّ. أريدك أن تكتب لها رسالة مني… عليها اللعنة، مجرد مستخدمة ومغرورة!

ـــ حبيبي أبو الخل، في الحب لا يوجد مستخدمة أو طبيبة… مهندسة أومتسولة… يوجد أنثى فقط و…

كنت أشرح له فلسفتي في رسائل الحب بعد خبرة أوراق كثيرة، وأنا ألف ساقاً على ساق وأنسل من علبة سجائره فوق المكتب سيجارة و…

ـــ انقلع من هنا يا كلب.

قذفني بصحن السجائر فأسرعتُ لأخرج وأنا أتعثر برِجْلي.

ثمّة ليلة محال أنّ أنساها، كان مطرها غزيراً دونما قمر، أمام بلور شباكي تناثر بصمت على أغصان الأكيدنيا تسعة أشباح. أمامهم كنت جالساً على سريري وفوقي لحاف وأمامي أوراق وأقلام. أتأملهم وأتأمل أوراقي، وفي الغرفة المجاورة مشاجرة مؤلمة بين صلاة نقية لأمي وخمر تعيس لأبي.

صراخ هنا وهناك ثمّة عيون حزينة ، تنتظر أوراقي، مصير روحها معلق بالقلم بين أصابعي، والمطر لا يرحم الوجوه المائلة على الأغصان.

ثمّ، ساعتين ونصف… أفتح شباكي لأعطي المبللين بالماء والحب رسائلهم. يأخذونها بفرح ويمضون لأبقى وحيداً على شباك الحب بلا رسالة خاصة بي، محاولاً فهم عدم انسجام الصلوات النقية مع الخمور التعيسة.

ذات ملل اخترعتُ رسالة حب إلى أمي موقعة باسم أبي ووضعتها فوق قطرميز المكدوس، لم تنتبه، مرّة ثانية كتبتُ رسالة حب من أبي لأمي ووضعتها جانب قنينة العرق، لم ينتبه. فشلتُ بمصالحة صلاتِها مع خمره.

بعد شهرين، نساء حارتنا مع بناتهنّ اجتمعنَ في بيت أم العبد للاحتفال بولادتها، العجوز كانت موجودة تراقب بصمت كعادتها، انتبهتْ لشلة بنات في زاوية بعيدة معهن أوراق يقرأن منها سراً، تأملتهن مطولاً. شعرتْ أنهن جميلات، من يقينياتها الغريبة: البنت لا تصير جميلة إلا عندما تصلها أوّل رسالة حب في حياتها.

نهضتْ ومشتْ إليهن، انتبهن بخوف خبأن الرسائل، انحنتْ عليهن وهمستْ بثقة:

ــ من يكتب لكُنّ؟

لم يتجرأن على الإنكار، كلّ واحدة همستْ بخجل باسم المراهق الخاص بها، أخذتْ العجوز الأوراق ونظرتْ فيها، هي لا تعرف القراءة لكن حاستها بالخطوط قديمة، شهقتْ:

ـــ كلّ هذه الرسائل كتبتها يدٌ واحدة.

والتفتت إلى الخلف، كأنها تنظر إلى الليالي السابقة، تذكرتْ مرورها بضع مرّات من أمام بيتنا، والأشباح المعلقة بصمت على أغصان شجرة الأكيدنيا، ابتسمتْ بخبث وتمتمتْ:

ـ ابن السكير. هو من كتب كلّ هذه الرسائل، ما أحلاه (هزّتْ رأسها بحزن وهي تردف بأحد يقينياتها) أجمل الصبيان أولئك الذين يولدون عن غير حب.

تنهدتْ وانحنتْ على البنات مجدداً، همستْ لهن محذرة:

ـــ لا تخبرن الصبيان أنكنّ قد عرفتن صاحب الرسائل، ليظل ابن البدينة يكتب. إن توقفتْ رسائله سوف تصرن قبيحات، بدون رسائل لن تبقين جميلات..

تلك الحفلة، كلّ بنات حارتنا رقصن، أحياناً رقصات فردية وأحياناً جماعية، الرقصة الأحلى كانت جماعية لتسع بنات، صفقن لها النساء كثيراً وما عرفن سرّها.

البنات حافظن على السرّ، لتمر الأيام الممطرة، وشجرة الأكيدنيا تسجل القمر في أغلب الليالي: غياب، والمتسلقون لا يؤذيهم برد، شباكي تغادر منه أوراق وترجع منه سجائر. وفي الغرفة المجاورة، شجار أمي مع أبي لا ينتهي.

أستمرّ بكتابة رسائل الحب دونما حب، أوقعها بتسع أسماء وأظلّ بعد رحيلهم على شباكي مع السجائر.

بعد أشهر انتقلنا إلى بيت صغير في حارة بعيدة، بعد أن تراكمتْ علينا الديون، جلبنا شاحنة، في ثلاث رحلات نقلنا كلّ  إخوتي وصلوات أمي وخمور أبي وأثاثنا.

في النقلة الرابعة والأخيرة تناثرتْ على الشاحنة أشياء غرفتي وكراكيب غرفة المؤونة، مشتْ الشاحنة والمطر يهطل علينا. عبرنا شارع حارتنا، القمر كان موجوداً على غير عادته، صوت الشاحنة كان مزعجاً. وهي تبتعد لوحتُ لها فلوحتْ لي بغصنها شجرة الأكيدنيا، ضيعنا بيتنا القديم، غصة تبتلع الحنجرة، تأملتُ بيوت حارتنا مقهوراً، فجأة. تحت المطر، تسع بنات يخرجن إلى شرفاتهن الصغيرة، ينظرن إليّ… ثمّ، يرفعن أيديهن برسائلي ويلوحن ليّ في بكاءٍ صامت.

خرجتْ من بيتها شبه المهجور إلى الشارع، طاردتْ الشاحنة تحت المطر وهي تدق الإسفلت بعكازها، كانت تصرخ فيّ:

ـــ إلى أين راحل يا ابن السكير؟ ارجع. اللعنة على أمك البدينة… ارجع يا وغد، بناتي صرن جميلات بسبب رسائلك، من سيكتب لهن بعد الليلة؟ لا تقتل قلبي برحيلك يا حقير، ارجع.

عندما جاء الصيف، أختي الكبيرة في المطبخ قالتْ لخالتي بحنق من فوق ماكينة الكبة:

ـــ الله وكيلك، كنا نظن أنّه يدرس في غرفته، بعد رسوبه في الشهادة الإعدادية اكتشفنا أنّه كان يكتب رسائل للبنات. معها حق أن تشمت فينا أم مالك، أبو رسائل، الله يلعنه.

الشاحنة في نهاية الشارع، العجوز وهي تسقط أرضاً قذفتني بعكازها، عكازها وصلني بعد عقدٍ ونصف ليسقط عليّ بهيئة قذيفة في حربٍ لم نعرف من أين جاءتنا.

تمزق كلّ جسدي، اكتشفتُ بعد استيقاظي من القذيفة أن يدي اليمنى خسرتْ خنصرها وبنصرها، أخذوني عبر أنقاض الحارات إلى مستشفى بعيد، قال الطبيب بعد تضميد ثلاثة أرباعي:

ـــ صباح الغد سوف نبتر ساعدك الأيمن. العظم تفتت، جزء من اللحم طارت عنه، أعصاب كثيرة مقطوعة و…

حتى منتصف الليل وأنا أهذي وأتأمل يدي غير قادر على تحريكها:

ــــ إما أن أعيش كلّي أو أموت كلّي.

اقتربتْ الممرضة لتعبث بعامود السيروم، نظرتُ في وجهها، ياااه. حلوة كحارتنا القديمة:

ـــ هل تسمحين لي أن اكتب لك رسالة حب؟ هي أمنية رجل سوف يموت قريباً.

دمعتها بنت مراهقة وعينها شرفة، عجز لسانها عن الرد.

ـــ كتبتُ في حياتي رسائل حب للكثيرات بأسماء الآخرين، أشتهي الآن كتابة رسالة خاصة باسمي.

ـــ لن تموت (قالتْ وهي تمسح على جبيني، ليغني في قلبي قطرميز مكدوس لأمي نسيناه في بيتنا القديم، فحزنتْ لأجله أياماً) مستحيل أن تكتب بيدك أو تحركها.

توسلتُ لها أن تجلب ورقة وقلماً، استجابتْ لملامحي الشاحبة. أدخلتْ بلطف القلم بين أصابعي المضمدة، وتحت يدي بهدوء وضعتْ ورقة، ثم مضتْ.

بيدي اليسرى شبه السليمة، أشعلتُ سيجارة. من الشباك تأملتُ الليل، تأملني الليل ثمَّ ردد لي بصدى مزعج وهو يضحك: سوف تخذلك يدك، أبو رسائل.

أخذتُ آخر نفس من سيجارتي ومن الشباك بأصابعي قذفتُ الليل بها، ثمّ صرختُ بصوت عالٍ: (يالله) وانحنيت.

الكلمة الأولى، تحركتْ يدي اليمنى، أوجاع الأرض تعزف موسيقى غير منسجمة في كلّ جسدي.

دونما إصبعين دخلتُ في السطر الأول، تسعة صبيان يتسلقون على عجل شجرة الأكيدنيا، تسع بنات يسرعن إلى شرفاتهن، كلهم… معاً، يصرخون فيّ: اكتب، اكتب…

دخلتُ في السطر الثاني:  أمي وخلفها عشرات المصلين في جامع في العالم الآخر، يلتفتون إليّ، هي وهم ــ من ورائها ــ بصوت واحد يصرخون فيّ: اكتب، اكتب…

دخلتُ في السطر الثالث، أبي وألف مخمورٍ في حانةٍ في العالم الآخر، وهم يترنحون يرفعون كؤوسهم ويصرخون فيّ: اكتب، اكتب…

دخلتُ في السطر الرابع، أنثى جميلة بثياب بيضاء تضمد ما تبقى من حياتي، تهمس لي: ولا مرّة كتب لي أحدهم، لهذا أنا قبيحة، اجعلني جميلة اكتب، اكتب…

دخلتُ في السطر الخامس، واحد وثلاثون شتاءً في حياتي يصرخون حولي كعواء ذئاب جريحة: اكتب، اكتب…

ودخلتُ في السطر السادس.

الصباح يقتحم الغرفة عبر شباكها، يقترب من يدي وقد نزفتْ كثيراً ثمّ يقبلها، كما يقبل حفيدٌ يد جده.

في نهاية السطر السادس من آخر رسالة حب لي، صار صباحي الأخير حفيداً شرعياً ليدي… ابتسمت.

دخلتْ الممرضة، تأملتني. بكتْ، أخذتْ الرسالة من بين أصابعي لتتأمل في سطورها القليلة، جمالها هي. جثتْ جانب السرير.

دخل الطبيب فأسرع إلى ساعدي، فحصه بسرعة ثمّ صاح مندهشاً:

ـــ حال يده صار أفضل، لم تعد بحاجة إلى بتر.

ـــ مات.

قالتْ له بقهر وهي تخفي دموعها خلف رسالتي.

بعد أن دفنتُ، كثرت الأحاديث همساً حول هذا الطبيب.

قالوا إنه قد جنًّ بسب الحرب وأهوالها، كان يحكي دائماً للجرحى، لمرافقيهم، للممرضين، للأطباء، للجدران، لأعمدة السّيروم: عن جريحٍ يعرفه جيداً، مات كله لكن يده ظلّت على قيد الحياة، ويقسم على هذا.

لا أحد صدّقه، سوى ممرضة وتلك العجوز التي تدخن بملل وتبيع الكعك جانب باب المستشفى، وكلما شاهدت طيفي على شاحنة تمرّ بها، تصرخ:

ـــ يا كلااااب، أعطوني سيجارة.

كتاب كان اسمه سوريا

كتاب كان اسمه سوريا

لطالما سَرَقَتنا الكتب، وسلب حضورها عقولنا وقلوبنا، تقودنا أقدامنا بخفةٍ ونشوةٍ إليها أينما كانت. نترقب معارضها، نمُشّط الشوارع والأرصفةَ بحثاً عن عرباتٍ وبسطاتٍ فُرِدَت لأجلها، لنفتّش فيها عن عناوين فريدة بنهمِ ظمآنٍ يبحثُ عن نبعِ ماء، أو طامحٍ يبحث عن كنز ثمين، فنصطاد الكنوز النفيسة لنغني مكتباتنا العطشى للاتساع.

الكتبُ زاد حياتنا، ذخيرتنا المعرفية والهدية الأجمل التي نزهو بها، ونُدهش كأطفالٍ صغار بمجرد لمسها. ننفق على شرائها جُلَ ما في جيوبنا المهترئة، حتّى لو لم يبقَ لدينا ما يسد رمق الجوع، وكثيراً ما نقترضُ المال لشراءِ كتبٍ تفرح بها مكتباتنا، التي كلّما اتّسعت اتّسعنا، وكلّما ازدحمت بالعناوينِ والأغلفةِ شَعرنا بالثراء والاكتمال، كيف لا وهي قوتنا، وبيوتنا الحميمة؟، نبنيها كمن يبني برجاً فريداً من المعاني، نغازلها وننادمها، نصونها كأمٍ حنون، ندللها كعاشقةٍ توزِّع علينا الحب والسعادة والجمال.  

ولأنَّ الحربَ لا تعبأ بعاشقةٍ أو أمّ، ببيتٍ أو حضنٍ دافئ، ولأنها لا تعبأ بعشقنا لكتبنا وشغفنا بها، لم ترأف بأيّ معنىً من معاني حياتنا، ولم تكتفِ بمجازرها بحقّنا نحن البشر، بل عاثت دماراً وهتكاً بكتبنا، بتاريخها وحكاياتها، بتفاصيلنا معها وعلاقتنا المتأصلة بها. كُتبنا التي أضاءت قلوبنا وأرواحنا والتي وهبتنا أجنحةً لنحلِّق إلى عوالم شاسعة وملونة، لم نتمكن من إنقاذها أو رد الجميل لها، إذ تحوّلت، ككلِّ شيءٍ جميل، إلى فريسةٍ سهلة لوحش الحرب، ولاقت مصير أصحابها وقُرائها.

كتبٌ سرقها الحصار والموت

لم يلق الحصار بلعناته على البشر فحسب، بل أطبق خناق سجنه على روح المكان وكل نبضٍ يقبع فيه، فكانت الكتب إحدى معتقليه المعذبين والمغيّبين قسراً. حوصرَت مع أصحابها، خافت ونزفت مثلهم، وفي مفارقاتٍ كثيرة كانت أقل حظاً منهم، فبينما تمكن بعضهم من النجاة بقيت هي قيد حصارها تنتظر فرجاً للحاق بأهلها الّذين ما زالوا حتى اليوم يبكونها بلوعة وحسرة من يبكي ابناً قتلته الحرب.

منذ سنوات نزح (حسام) من إحدى مناطق الصراع الساخنة، تاركاً خلفه مكتبةً ضخمة، حفرت في قلبه جرحاً عميقاً يتحدث عنه بمرارة: ” كنت أجمع كتبي كمن يجمع قطع آثارٍ نادرة، وكانت مكتبتي تكبر يوماً بعد يوم، كانت ملاذي الآمن، ورفيقتي التي تعينني على أهوال الحرب، تبثّ الحياةَ فيَّ كلما اشتدّ الموت، وتفتح لي آفاقاً للأمل والأحلام. عند خروجي حملتُ معي خمسةً من كتبي التي لا أستغني عنها، لكن عناصر الحاجز صادروها… أذكر فيما مضى أنّني وأصدقائي كنا نرفض إعارة أي كتابٍ من كتبنا لأننا سنشتاقه إذا ما ابتعد، ونخشى فقده، وكأن أيّ فراغٍ في رفوف المكتبة سيحدث فراغاً في الرّوح، فتخيل أن تفقد جميع كتبك دفعةً واحدة لتتركها تحت رحمةِ الحرب وأذرعها؟!. صدِّقني إن هذا لمأساةٌ حقيقية، لن يشعر بها إلا من كان مغرماً ومتيماً بالكتب.”

مكتباتٌ عريقةٌ كانت تحتفي بمئات العناوين الفريدة والنفيسة، تناقلتها الأجيال عبر عشرات السنين، هي ليست مكتباتٌ بقدر ماهي نسغٌ وذاكرةٌ وتاريخ حافل بملامح الآباء والأجداد. تلك المكتبات لم يشفع السلاح لها ولم يكترث لأصالتها، وبكل وحشية ودمٍ بارد أحالها رماداً وأثراً بعد عين.

كتبٌ عاملها أسيادُ الحرب كعدوٍّ، ثأروا منها كما يفعلونُ مع كلِّ من يشكّل تحدياً لهم، لسلطاتِهم واستبدادهم، لسياطِهم وكراسيهم، فعاقبوها وأُعدموها، حرقاً وتمزيقاً، نيابةً عن أصحابها، فهي التي علَّمتهم الوقوف في وجه الظلم والاستبداد وهي من جعلتهم يبصرون نور الحق والعدالة. وفي حالاتٍ أخرى أحرقت بعض الفصائل المسلحة المتطرفة فيضاً من الكتبِ الثّمينة، بحجة أنها بِدعٌ وخرافات تلهي من يقرأها عن ذكر الله، فالثقافة بنظر أولئك شركٌ وخطيئة، كما أجبرت البعض على حرق كتبه بنفسه ليتجنب الحساب والعقاب.

(محمد) نازحٌ آخرٌ، نجى من الموت بأعجوبة، يروي بعضاً من حكايته: ” كنت شاهداً على مئات الكتب التي ماتت تحت أنقاض البيوت. نعم، الكتب تموت كما البشر والشجر والحيوانات. حاولنا إنقاذ الكثير منها من بين الركام علَّها تحيا من جديد، لكن معظم من نجى منها لم يُكتب له البقاء، فماتت بطرقٍ أخرى… في ظروف الحصار القاهرة قد تضطر أحيانا أن تضحي بأغلى ما لديك لتنجو من شبح الموت. لقد أجبَرَنا الجوع على استخدام مئات الكتب كوقودٍ لطهو طعامنا البائس الذي كنا نحصل عليه بشق الأنفس، أما وحش البرد فأجبرنا على استخدامها كبديلٍ لحطب التدفئة بعد أن صارت أغلب الأشجار حولنا في خبرِ كان. في البداية كنا نضحي بالكتب الأقل قيمة وأهمية، ولكن مع الوقت صرنا نقدم أضحية أكبر، فَنُطعِم النار كتباً ثمينةً من الأدب والعلوم والتاريخ، لتعود علينا بشيء من الفائدة، فالحرب التي لم تشبع من لحم البشر توحّشت لتلتهم ذاكرتهم وثقافتهم ومنابع فكرهم.”

كتب رهن الإقامة الجبرية

أسيرة الصناديق، حبيسة المستودعات، تجثم في حضرة الغبار وشِباك العنكبوت في انتظار مصيرٍ ما، هجرها أصحابها مرغمين وتقطَّعت سُبل اللقاء بها أو التواصل معها. ترى هل ستلتقي بهم يوماً ما؟

كثيرٌ من السوريّين أودعوا كتبهم كأماناتٍ عند أصدقائهم أو معارفهم ليحافظوا عليها من التلف وليبقوها تحت الرعاية والعناية المشددة، بعد أن غادروا بلادهم هرباً من بطش الحرب والموت، وهي اليوم لاتزال قابعةً في بيوتٍ لا تعرفها، مصلوبة على الرفوف، تكابد عناء الفقد، في مكتباتٍ غريبةٍ عنها.

في مدينة جرمانا قبوٌ تحول إلى ذاكرةٍ مصغَّرة للسوريين، وربما يتحول مع الزمن إلى متحف. في جولتي داخل هذا القبو، كنت كمن يسير في تلافيف ذاكرةٍ ما، ذاكرة البلاد.

كتبٌ مخزَّنة في كراتين مغلقة بعناية، تحمل أسماءً ما، مكتباتٌ تحتفي رفوفها بعشرات العناوين، غُطَيت بستائر القماش والنايلون لحمايتها من الغبار وعواصف الزمن، بضع لوحاتٍ متراصفة هنا وهناك لرسامين رحلوا عنها، أشياء مبعثرة في كل ركنٍ، تفوح منها أسماء وروائح أشخاصٍ ما.

يروي لي صاحب القبو شيئاً من حكايته مع هذه الكتب “هذه الكتب هي رائحة الأصدقاء الذين غادروا البلاد، هي صوتهم ونبضهم وحضورهم، أراهم من خلالها. بعضها تُرك كأماناتٍ، وأخرى قمنا بنقلها من بعض البيوت المستأجرة التي هجرها ساكنوها قبل أن يسعفهم وقت سفرهم المفاجئ لجمع أشيائهم وذكرياتهم… كتبٌ كثيرة جمعناها من أماكن متفرقة، بطلبٍ من ذويها، ليتم حفظها في مكانٍ آمن، هم مخلصون لكتبهم حتى وإن ابتعدوا عنها. لقد أصبح هذا المستودع حارساً أميناً لتاريخ الأصدقاء، إذ يحمي مئات الكتب ويدافع عن بقائها، حتى أصبحنا نسميه “مستودع الذكريات.”

في السنوات الماضية أصبح منزلي يعجُّ بمثل تلك الودائع، كتب موزّعة هنا وهناك، بعضها خصصت له ركناً في مكتبتي، والآخر يغفو في الأدراج أو تحت السرير. أتذكر ماضي تلك الكتب، لقد كانت إكسير الحياة لدى أصحابها، كانت سنداً وحضناً لهم وروحاً تلوِّن منازلهم، كانت لسانهم وعيونهم، ولكن عند الرحيل ضاقت أحمالهم عن حمل أخفّها وزّناً… إنَّ عيشي جنباً إلى جنب مع هذه الكتب بات يؤرقني ويجعلني في كلِ لحظةٍ أعيشُ الحاضرَ والماضي معاً، فهي حوَّلت منزلي إلى مسرحٍ مزدحمٍ بالأحبّة وذكرياتهم. ومنزلي هذا ليس استثناء، فكلّ منازل أصدقائي في دمشق أصبحت مأوى لمئات الكتب التي نجت من بطش الحرب لتعيش على أمل البقاء.”

بين الضياع والنهب

كتب أضاعها أصحابها، أعاروها فيما مضى، وأنساهم ضجيج الحرب أن يسترجعوها، وأخرى  كانت تعيش في منازل مشتركة يسكنها مجموعة من الأصدقاء، لكل صديق كتبه الخاصة، وفي غيابهم أضاعت هوية أصحابها بعد اختلاطها ببعضها أثناء جمعها ومن ثم اختلاطها بأخرى خلال تنقلها من منزلٍ إلى آخر في رحلة بحثها عن مكان آمن، أما من مات أصحابها فقد بقيت في أماكن شتاتها كذكرى مؤلمة أو ككتبٍ مجهولة النسب والانتماء.

لقد أصبح اقتفاء أثر الكتب الضائعة حدثاً بارزاً في سنوات الحرب، فلا عجب أن تجد أصدقاء غادروا البلاد منذ سنوات، يسألون أصدقاءهم في سوريا عن مصير كتبهم ويوصونهم بالبحث عنها، طلباً لحياةٍ كانت لهم يوماً ما.

كتب خُطِفت، اعتقلت واغتصبت، نُهبت وضاعت كتاريخ كثيرٍ من السوريين. نهبٌ أشبه بسرقة الأوكسجين، بسرقةِ خيالك وأحلامك وأعضاءِ جسدك. مكتباتٌ حوَّلها تجار ومجرمو الحرب إلى أطلال، لتباع محتوياتها في أسواقهم التي باعت البشر قبل ممتلكاتهم، أو لتحنَّط في بيوتهم التي أصبحت تزدان بمئات الكتب النفيسة المنتقاة بعناية لصٍ محترف. كتبٌ بأغلفةٍ ملفتة وطباعةٍ فاخرة لم يُنظر إلى مضمونها ومحتواها الفكري، يفاخر الناهبون بعظمتها ويمتدحون هيبة حضورها في مكتباتهم التي تشبه الزنازين، دون أن يتذكروا أنها سُرقت بقوة السلاح من بيوتٍ ثكلى سطي عليها للانتقام من أصحابها والاستيلاء على ذاكرة حياتهم. والأكثر إيلاماً أن أولئك اللصوص مجرمي الثقافة لا يقرأون ولا يغنون الثقافة، بل يتعاملون مع الكتاب كمجرد أثاثٍ فاخر.

قد نجد الجرح الأكثر نزفاً في أسواق (التعفيش)، حيث تتكدّس أكوامٌ من الكتب بين البرادات والغسالات وأثاث المنازل. مشهدٌ دراميٌ لو رصدته كاميرات السينما لحصدت عشرات الأفلام. هنا ” تُعَفَّش” الذاكرة والأفكار والأحلام، هل فكر اللصوص بتاريخ وحكايات تلك الكتب؟ بالطبع لا، وبالطبع لا يعرفون قيمتها الفكرية والمعنوية والإنسانية، هي فقط غنيمةٌ أخرى بين (غنائم) الحرب، ومصدرٌ إضافيٌّ للحصول على الأموال.

ثمة رواياتٌ كثيرة عن أشخاصٍ وجدوا كتبهم، مسبيّة في أسواق التعفيش، لتقع المفاجأة في قلوبهم كوقع الطعنة السّامّة، طعنةٌ لن يزولَ أثرها مهما طال الزمن.

كتب مسجاة على الأرصفة

التّشرّد الذي طال حياة نسبةً كبيرةً من السوريين، طال حياةَ كتبهم أيضاً، فأينما التفتّ ستراها مسجَّاة على الأرصفة والبسطات. لو تفحصت صفحاتها ستقرأ تاريخاً كاملاً عن حياةٍ مضت. عباراتٌ لوِّنت بحبرٍ فارق، خُط بجانبها بضع كلماتٍ تشرح معنىً ما، سطورٌ وضع تحتها خطوط  للدلالة على فقرةٍ مميزة. صفحاتٌ تطل منها وجوه قرائها، تتعرف إليهم من العلامات الفارقة التي خلفوها على الأوراق… لمسات حبرهم، رائحة عطرهم… أثر ريقهم وعرقهم ، بقع شايهم وقهوتهم. حكاياتُ شخوصٍ عبروا تاركينَ أدقَّ تفاصيلهم الشخصية بين السطور.

على أحد أرصفة  دمشق التقيت ببائع كتب مستعملة، رفض ذكر اسمه، حدَّثني عن مصادر تلك الكتب: “في السنوات الماضية اشترينا مكتبات بأكملها من أشخاصٍ كثيرين، بأسعارٍ بسيطة. نشتري المكتبة بأكملها دون النظر إلى عناوين كتبها، لذا تحسب كسعر جملة. كثيرون باعوا مكتباتهم الشخصية بداعي السفر، أو الفقر والعوز، أو نتيجة نزوحهم لمناطق أخرى. كتب كثيرة اشتريناها من مكتباتٍ عامة أو دور نشر أُغلقت بعد إفلاسها أو هجرة أصحابها.”  

يضيف البائع: “بشكلٍ شبه يومي، يحضر الكثيرون إلينا ليبيعوا ما يملكونه أو ما يمكنهم الاستغناء عنه من الكتب. البعض يحضرون بصحبة كتبٍ لا يعلمون شيئاً عن مصدرها ولا يعرفون فحواها أو قيمتها، أعرف ذلك من ملامحهم ومن طريقة تعاملهم معها وكأنها خردة. قد تكون كتباً منهوبة أو مباعة من ضمن أثاث المنازل المشتراة، أو كانت منسية في أماكن هجرها سكانها.”

في زيارة أخرى للبائع رأيته يجادل شاباً يحمل حقيبة تحوي كتباً بأحجامٍ مختلفة، وبعد مفاوضات طويلة، اشتراها من الشاب بثلاثة آلاف ليرة. استوقفني المشهد، شعرت وكأن الشاب يبيع قطعةً منه، فسألته عن سبب البيع. أجاب بألم وحرقة: ” توقفت عن العمل منذ فترة، ومنذ أسبوع دفعت إيجار المنزل فخسرت كل ما أملك، ومن حينها وأنا أستدين من أصدقائي ما تيسر من نقود. اليوم أفقت وجيوبي خاوية، فأجبرت مكرهاً على بيع تلك الكتب لأشتري طعاماً وسجائر. هذه ثالث مناسبة أبيع فيها شيئاً من كتبي، الحاجة كافرةٌ يا صديقي وحين تجوع بحقّ تكتشف أن الثقافة لا تبقيك على قيد الحياة.”

بين النزوح ودروب السفر

حين نزح (أبو عدي) من الغوطة، أنقذ مع عائلته عشرة كتب، اصطحبها معه كفردٍ من أفراد العائلة.  تلك الكتب، كعائلته، مكثت معه لأيامٍ في الحدائق، تشردت واستُخدمت كوسائد للنوم، ثم رافقته إلى مركز الايواء في منطقة الزاهرة، ومن ثم إلى مراكز ايواءٍ أخرى، وهي اليوم تعيش معه في شقة (على العظم) لتشاطره البرد والرطوبة وغيرهما.  

منذ عامٍ وكتب (ديمة) مهملةٌ في سجنها المؤقت، في انتظار محطةٍ ما، فهي لا تعرف حتى الآن إن كانت ستسافر أو ستبقى، حالها حال الكثير من سوريي الداخل، لذا لم تتحرر لتستقر في مكتبة، بل بقيت على أهبة الرحيل إلى أن تعرف وجهتها الأخيرة.  

تلك الكتب عاشت سلسلة لا منتهية من النزوح، فمنذ ستة أعوام نزحت مع (ديمة) من مدينة قدسيا إلى مدينة جرمانا، وبعد مسلسل التفجيرات والقذائف في المدينة انتقلت ديمة الى قريتها بصحبة عائلتها الورقية تلك. وفي العام 2015 عادت الى دمشق بنفس الحمولة، التي عبرت الحواجز وتم تفتيشها والتعامل معها بريبة والنظر إلى حاملتها بسخرية: “لماذا تكلف نفسها مشقة نقل هذه السخافات؟” استقرت في دمشق لعامين متنقلة بين بيوت عدة كانت تستأجرها، ثم جاء موعد سفرها إلى لبنان، فنقلت كتبها الى منزل أهلها، لتبقى حتى اليوم على حالها منتظرة استقراراً ما، هل ستنقل الى منزل أخيها ليحفظها في مكتبته، هل ستبقى في مكانها؟ هل سترسل إلى لبنان؟

ثمة كتب سافرت مع أصحابها الذين تحملوا تكاليف نقلها لكي تبقى معهم، أو لحقت بهم بعد أشهر أو سنوات، لم يتحملوا فكرة الابتعاد عنها، فطارت إليهم عبر مكاتب الشحن وحقائب بعض المسافرين. هناك كتب تعيش على أمل لم شملها بأحبائها، ليس في الأمر أحجية، فبعض البشر يتوقون لعناق كتبهم كتوقهم لعناق أحبتهم وذويهم. تلك كتبٌ حالفها الحظ، لكن الأخير لم يحالف كتباً أخرى تاهت وماتت في المنافي، غرقت في البحر مع حامليها أو قدموها كقرابين له ليرأف بحالهم ويمنحهم النجاة. كتبٌ تغرَّبت في لبنان وتركيا وبلدان أخرى، بعد هجرة أصحابها، من دونها، نحو مجهولٍ جديد، فكُتِبَ لها أن تبقى أسيرة منفاها أو أن تعود وحيدةً إلى وطنها الأم.

أتذكر صديقتي “عاشقة الكتب”، حين غادرت لبنان نحو أوروبا منذ عامين، أرسلت لي خمسة عشر كتاباً لأحتفظ بهم “كأمانة غالية”، وأوصتني بالعناية بهم وحمايتهم كما لو أنها توصيني بأبنائها.

لطالما كانت تلك الصديقة صلة وصلٍ بين بعض الكتب وأصحابها وجسراً لعبورها نحوهم، إذ قامت بنقل العشرات منها من دمشق إلى بيروت، خلال سفرها بين العاصمتين، وكانت الكتب المنقولة تشغل الحيّز الأكبر من حِمل حقائبها. حِملٌ جميلٌ تنقله بفرحٍ وحب، ليلتم شمل الكتب مع أصحابها المبعدين عنها.

كانت تقول دائماً “الكتب ليست مجرد أوراق خرساء أو مصدر للثقافة والاكتشاف والمتعة فقط، بل هي كائنات حية لها قلبٌ وروحٌ ومشاعر، فهي تحزن وتنزف إذا ما فارقت أصحابها.” اليوم أنظر إلى كتبها الحاضرة أمامي وأتذكر ما قالت، وأشردُ بعيداً…

ترى ما مستقبل هذه الكتب؟ هل ستحتضنُ أحبتها يوماً ما؟ وهل ستحيا إلى ذلك الحين؟ أم ستلقى مصير كتابٍ نعيش الآن خارج سطوره؟ كتابٌ كان اسمهُ سوريا.

الشِّعراء السوريون في الحرب: أصوات تنمو في غابة الدم

الشِّعراء السوريون في الحرب: أصوات تنمو في غابة الدم

لا تزال الحرب تُنبئ بتداعياتٍ كثيرة على مستوى الكتابة الجديدة في سورية، فمن (هجمة الستينيات) التسمية التي أطلقها الشاعر شوقي بغدادي على جيله في تصديره لأنطولوجيا الشعر السوري المعاصر، مروراً بـ(منعطف السبعينيات) المرحلة الأكثر تمرداً على القوالب الشعرية الجاهزة كما أطلق عليها الشاعر منذر مصري والذي أصدر في الحرب كتابه اللافت (لمن العالم- دار نينوى-2016)، وصولاً إلى شعراء الحرب في عامها الثامن، والانقسام الذي أصاب النخب الأدبية بين داخل وخارج، نلاحظ ثيمات جديدة لنصوص مفخخة حملت لعنة الاقتتال الدائر، مثلما حملت وزر أحلامها المنكوبة؛ فالشعر السوري المعاصر وجد انحساراً في السنوات الأخيرة، برأي الناقد جمال شحيّد الذي يرى أن “الرواية أخذت حيزاً كبيراً ومهماً في الثقافة العربية، حيث إن الانحسار الذي تم للشعر عوضت عنه الرواية ولو كان جزئياً؛ لكن موت الشعر في بعض البلدان الأوروبية والمجتمع الاستهلاكي لا يعني موته في بلداننا، فالشعر في سورية مازال إلى حد ما بخير رغم النكسة التي حصلت لهذا الفن الأدبي العظيم، علما بأن شعوب العالم الثالث بشكل عام تهتم بالشعر فكل شاب في مرحلة حياته وخاصة مرحلة المراهقة يكتب شعراً كون القصيدة في النهاية هي تعبير عن الحياة والإنسان، وبحاجة لأن يعبّر عن مشاعره وأحاسيسه فيبدأ بالشعر ويتركه عندما ينضج إذا أراد.”

الناقد (شحيّد) يقول: “شخصياً بتُ متأكداً من أن الحرب التي تمر بها سورية أنتجت شعراً جميلاً، فالشعر يصبح نشيطاً في الأزمات.” إلا أن الشاعر شوقي بغدادي له رأي مختلف في شعراء اليوم إذ يقول: “الشاعر الحقيقي هو الذي يموت إن لم يكتب، فالشِّعر نابع أولاً وأخيراً من المعاناة الشخصية للكاتب، وهذا ما لا أراه عموماً عند شعراء اليوم الذين يتشابهون في كتاباتهم وكأنهم يحبون امرأة واحدة أو كأنهم يكتبون دون أن يعيشوا ويعايشوا ما يؤلفونه من قصائد.”

الشعر العربي قديماً كان له مكان الصدارة لكنه اليوم للأسف يجلس في الصفوف الخلفية من المشهد الثقافي السوري -يُضيف بغدادي- فكون الشعر نابعاً من إصغاء الشاعر لصوته الداخلي هذا لا يعني أن تخلص قصيدة اليوم إلى نوع من الهوامات، بل يجب تكوين المناخ النفسي والعاطفي على أساس الصدق في القول الشعري، لا من باب التزيين والاحتفاء بالأفكار الكبيرة؛ بل بالتعويل على أهمية الشكل الفني وضرورته في إبداع النص الشعري المتوازن والمؤسس لإشراقات جديدة في القصيدة العربية المعاصرة.”

لم ينج الشعر والشعراء السوريون بطبيعة الحال مما ألم بالوطن برمته من كوارث. وكما انقسم الوطن إلى شظايا انقسم الشعر وشعراؤه إلى شظايا- يقول الشاعر تمام تلاوي المقيم حالياً في السعودية ويضيف: “ثمة شعراء وقفوا إلى جانب النظام، وآخرون وقفوا إلى جانب الحراك، وآخرون اختاروا الحياد، وثمة من آثر الصمت. وتبعاً لهذه المواقف جاءت أشعارهم، على أن هنالك من صمت عن قول الشعر ليس لأنه لا موقف له مما يحدث، وإنما لأن الكارثة لجمت لسانه. ولا ملام عليه، فمن يستطيع النطق أمام كارثة كهذه، سوى أشخاص لديهم قدرات استثنائية على الكلام، فكلما اتسعت الكارثة ضاقت العبارة.”

إننا نحتاج زمناً طويلاً حتى نستوعب هول الصدمة، نحتاج زمناً حتى نستطيع أن ننظر بعين شاعرية إلى هذا الخراب العميم وهذا الموت المجاني وهذا التشرد المليوني عبر الحدود والبحار، يستطرد الشاعر تلاوي الحائز على جائزة الشعراء الشباب في (دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008): “على المستوى الشخصي كان موقفي واضحاً منذ البداية مع التغيير السلمي ولاحقاً ضد السلاح وضد الأسلمة، لأنني أعتقد أن الموقف الأخلاقي والثقافي والوطني يجب ألا يكون منحازاً إلا لما يخدم مصلحة الوطن والتغيير نحو الأفضل بالوسائل الوطنية والسلمية، والتي لا تؤدي إلى مزيد من القتل والخراب، فكتبتُ قصائد عدة تتناول في الأساس البعد الإنساني لما آل إليه حال الإنسان السوري منذ آذار 2011، كما كتبتُ عن الموت وعن الهدم وعن التشرد وعن الشرخ الإنساني الذي جاء نتيجة للشرخ على المستوى الوطني.”

ثمة شعراء كثر تهجّروا في المنافي وكانوا في معظمهم مؤيدين للحراك، فكتبوا له وغنوا… ومنهم من التحق بالعمل الإعلامي أو الميداني، وهم شعراء مبدعون ومعروفون على نطاق واسع، بينما ظل معظم الشعراء المحايدين أو المؤيدين داخل سوريا- يضيف صاحب ديوان (تفسير جسمكِ في المعاجم): “ثمة شعراء استشهدوا بالقصف كالشاعر محمد وليد المصري، أو استشهدوا بسكين داعش كالشاعر بشير العاني، وشعراء آخرون اعتقلوا كالشاعر وائل سعد الدين الذي أفرج عنه بعد فترة طويلة من اعتقاله، وثمة شعراء هُجّروا من بيوتهم ومدنهم أو هربوا، وهؤلاء أسماؤهم لا حصر لها. الشعر السوري برأيي الشخصي حالياً يشبه مصائر هؤلاء الشعراء، فهو إما شاعرٌ مقتول أو أسير أو مهجّر أوهارب.”

الشِّعر يقود المرحلة

الشاعر زيد قطريب الذي أدار وأشرف في سنوات الحرب على ملتقى (ثلاثاء شّعر) في العاصمة السورية منتجاً عنها أنطولوجيا بعنوان: (شعراء تحت القصف) باللغتين العربية والألمانية له رأيٌ أقل تشاؤماً في هذا السياق إذ يقول: “نحن أمام انعطافة كبيرة على صعيد النص الشعري، سوف تتبلور لاحقاً لكن متى لا أحد يعرف بالضبط! هذا الأمر تؤكده الكثير من النصوص المكتوبة من قبل أجيال شعرية مختلفة، فالمسألة لا تتعلق بالشعراء الشباب كما يتخيل البعض. هذه الانعطافة لا يُقصد بها حضور ألفاظ الحرب وأسماء السلاح ومفردات الانفجارات وأصوات الرصاص، لأن حضور هذا المعجم أمر طبيعي ولا يمكن أن يعتبر انعطافة أو تجديداً. إنما هناك انعطافة كبيرة على صعيد المعنى والشكل في آن معاً، فهذه الحرب كانت مناسبة لاستيقاظ كل الأسئلة الفكرية والفلسفية المؤجلة منذ أمد بعيد، وهو ما أدى عملياً إلى استيقاظ أسئلة الشكل المتعلقة بأسلوب الكتابة الشعرية، ولنقل إن هناك علاقة جدلية بين الطرفين؛ بحيث لا خلاف على أسبقية المضمون على الشكل أو بالعكس، فكل واحد منهما يتسبب في إيقاظ الآخر. قريباً، ستودّع الكثير من الكتابات الشعرية معجمها المعروف والمستخدم حالياً وأقصد به اللغة العربية بشكلها الحالي في إشارة إلى تشكّل معجم جديد يفكُّ عقد التحالف الذي نشأ تاريخياً بين النص الغيبي الديني والنص السياسي الاستبدادي، وكل ذلك بفضل الحرب التي أعادت أسئلة الانتماء والهوية والثقافة والذائقة الجمالية إلى الواجهة.”

اليوم- كما يخبرنا الشاعر قطريب: “سيتولى الشِّعر قيادة المرحلة الجمالية والثقافية القادمة ليعيد صياغة الذهنية والمخيلة السورية التي رزحت طويلاً تحت الاحتلال العربي الإسلامي، والآن نحن أمام حركة تحرر كبيرة يقودها النص الشعري وهي تأتي تتمة لما فعله شعراء سوريون عظماء في التاريخ بدءاً من المتنبي والمعري وصولاً إلى السيّاب والملائكة والماغوط وأدونيس. تلك الحركات التي أسست بعامل التراكم الكثير من انتفاضة النص الشعري السوري وعودته إلى رشده إن صح التعبير، سوف تستكمل اليوم بما يكتبه الشعراء السوريون عبر نسف الشكل والمضمون المألوف والمستكين، إنها انتفاضة لا يمكن أن تحدث بنص واحد أو عبر شاعر واحد، بل قد نستطيع تسميتها بالحركة الشعرية التي تشبه ما فعلته مجلة شِّعر في ستينيات القرن الماضي، لكن الأسئلة اليوم أخطر والمعركة أشد مصيرية من ذي قبل، لكن ما هو مؤكد أن الشعر هو من سيقود مجد المرحلة المقبلة.”

صدرت مجموعات شعرية كثيرة في سنوات الحرب لكن أكثر الآراء النقدية التي تم تداولها بعد فورة الشعر السوري في الحرب الدائرة الآن بأنه لا أبوّة له أو أنه قتل آباءه وكأننا أمام رأي طه حسين بالشعر الجاهلي معتمداً على مقولة أبي عمرو بن العلاء “ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا” وبناء على هذه الجملة تم التشكيك بشعر امرئ القيس زعماً بأنه موضوع ومنحول؛ أما لدينا فقد حصل الأمر بشكل معاكس. يقول الشاعر باسم سليمان الذي أصدر خلال الحرب أكثر من كتاب شعري وروائي كان أهمها (تماماً قبلة): “الشعر ليس الهدف منه فنياً البتة بل سياسي، فالربيع العربي الذي أراد القطع مع الخطاب الثقافي السائد والمتماهي مع السلطة المثار عليها، ذهب مغترباً في وصف الجيل الشعري الذي نضج وأثمر خلال سنوات الصراع المستمرة، فوصفه بأنه جزيرة تنمو في وسط المحيط لها جملها واستعاراتها ومجازاتها الخاصة وكأن اللغة ولدت الآن لكن المدقق والمتابع بشكل فني بلا تأثر بتجاذبات الجهويات السياسية المتبناة، يستطيع أن يرى التأثير الواضح للأسماء الكبيرة في الشعر السوري على هذا الجيل واستنساخ تجربته وتطويرها، وهذا ليس عيباً، فأمير الشعراء وقف وبكى، وبالتمعّن أكثر يكتشف كيف تشتغل الآلة الثقافية السياسية في تعويم الأسماء وتوجيه الخطاب الشعري نحو سوق العرض للاستهلاك التطهيري وفق رؤية أرسطو، فالمنابر الثقافية ودور النشر والجوائز استقطبت خطاباً شعرياً جهوياً من الناحية السياسية دون غيره حتى لو كان أرفع فنياً وشعرياً، وخاصة بعدما حسمت الجهات الثقافية في المنطقة العربية خياراتها السياسية والتمويلية، هذا الأمر جعل الشِّعر السوري أعور مصاباً بالحول والضلالة الإبداعية.”

ليس ما سبق بهدف التقليل من المنجز الشعري السوري في سنوات الموت بل دفاعاً عن الجمال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التلوث الذي أصاب جوانب الحياة السورية كافة- يُعقب الشاعر باسم سليمان مضيفاً: “إن كان من ثورة نقدية مضادة تعيد الشعر السوري إلى ريادته لابد لها من أن تعترف بأن الشعرية السورية قبل الحرب وخلالها، سواء لناحية الإيجابيات أو السلبيات، كررت إنتاج ذات المناحي السيئة والترويج لها على أنها الخير الوفير في الشعر السوري الآن، فالقطيعة التي أُمل منها أن تحرِّر الشعر من تجاذبات الجهويات السياسية كي ينتصر لقيم الحق والجمال والخير، أكملت بنفس النسق الذي ثارت عليه، فالابن الشعري ارتدى جلباب الأب الشعري بل أصبح بطريركياً أكثر من الأب نفسه.”

أين الشعر؟ تتساءل الشاعرة السورية سوزان علي مردفةً: “عناوين  كثيرة طُبِعت وتطبع منذ بداية المأساة السورية في الداخل والخارج، ومع إيماني العميق بأن الحرب بفوضاها وموتاها تجعلنا لا نرى، إلا أن النتاجات الشعرية فاقت أي إنتاج أدبي آخر، مع كل الغرق، مع كل الضبابية التي تحيط بالمشهد، هذا بلا شك ما تدل عليه أغلب النصوص الشعرية التي خلصت إليها السنوات السبع الأخيرة في سورية.”

الانطباعية تتجلى تعقب (علي)، وتضيف: “للحظة تشعر فيها أن الشاعر يرقب ما يجري في الشارع، ثم يبدأ بتدوين أحداثه داخل ورقة في جيبه. تأخذ رحى الحرب مفردات الشعر وتطحنها، لتجرّدها من كل ما ألفناه من الشِّعر السوري.

أين الكتاب؟ تتساءل الشاعرة سوزان علي مرةً أخرى وتقول: “وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحتفي باليومي، بـ(صباح الخير، بمقطع أعجبك، بأغنية اشتقتَ إليها)، هناك سؤال صغير فقط عليك أن تجيب عليه كل يوم: (بماذا تفكر الآن)؟

أو (ما هي حالتك الآن)؟ هل يستوعب هذا السؤال قصيدة جاءت بأكثر من عشرين سطراً؟ وهل يستوعب كتاب ذو صفحات بيضاء، نسخ حالتك الآنية تلك، وما الاستمرارية في نص صُممّ بنيانه بعيداً عن طبيعته؟ وإلى متى سيعيش هكذا نص؟

مجموعات كثيرة اطلعتُ عليها، وأعرف صفحات أصحابها مسبّقاً في العالم الافتراضي، كانت قد اقتطعت نصوصاً كثيرة لها من الفيس بوك لترميها بدون أدنى مسؤولية، ولتتنازع فوق روح البياض الورقي.”

أين الجمهور؟ سؤال ثالث توجهه الشاعرة سوزان علي وتجيب: “سبق أن استمعت إلى أحدهم في إحدى الأمسيات، لم تخن قصائده فقط جوهرها في كتاب، بل أيضاً في نطق وصوت الحروف من حنجرة الشاعر. مرة أخرى صفحات (الفيس بوك) تعرّي الشاعر فوق المنابر، فزرّ (أعجبني) غير موجود هنا للجمهور، وزر التعديل أيضاً لم يعد بالممكن استخدامه بالنسبة لشاعر الافتراضيات!”

الكارثة حدثت لنا في الموت، ولم يكن هناك من عمل يوازي هذا القتل- تشرح (علي) التي صدر لها كتاب شعري عن دار المتوسط بعنوان (المرأة التي فوق فمي) وتضيف: “لأننا في إثرهِ نمشي، نحن لم ننشف بعد، وإن نظرنا خلفنا لن نرى سوى ظلالاً تتكسر، وكما نضع كفاً فوق جبهتنا أثناء ظهيرة حادة لنرى بصعوبة، الشعر اليوم يكاد لا يُرى؛ بالمقابل هناك عناوين تمسك خيط الألم من بدايته قبل حتى أن تفتح الكتاب لتقرأ فهاهي (رصاصة فارغة-قبر مزدحم) مجموعة الشاعر السوري (وفائي ليلى- صادرة عن دار المتوسط عام 2015)، وهناك كتاب (بانوراما الموت والوحشة) للشاعرة رشا عمران الصادر عن دار نون في عام 2014 وهو نص مفتوح على عزلة ووحدة الشاعرة، تركت صفحاتها بلا عناوين، كأنها جرح لا يتوقف عن السؤال والضياع، جرح تفاصيلها اليومية، التي باتت تتكلم أيضاً مع الشاعرة عن تلك الفوضى.”

مجموعات أخرى صدرت في الحرب كان انشغالها بالذاتية وسجنها أيضا عنواناً لها،  موت تدور حلقاته بسرعة مع الأنا وللأنا، وكأننا لا نقرأ سوى تجربة يومية تشاهد الآني وتبعد الخيال عن ساحة شعورها، فتفضّل أن تسقي زهور الشرفة وتراقب السماء و تذهب في نزهة إلى البحر، إننا أمام حدث عائلي أو شخصي، في (رفات فراشة) المجموعة الشعرية الصادرة عن (دار التكوين) للشاعرة خلود شرف، والتي لم ينقذها الرمز أحياناً والتجريد أحياناً أخرى من الوقوع في مطبات التكرار وصياغة مفردات تتوهج كحلي فوق السطور (كلا إن الشعر لا يلفظ أنفاسه الأخيرة- تضيف سوزان علي: “إنه يعطي الانطباع بأنه متعب حقاً كما وصّف الشاعر المكسيكي (أوكتافيو باث) يوماً حال الشعر، فالبلاد متعبة أيضاً، حيث القبور مفتوحة سلفاً، والغبار غداً  سيكون سميكاً فوق الكتب، الوقت يترنح في ظلِّه، والشِّعر ينتظر طارقاً جديداً يقوده إلى العماء الأول، صافياً عذباً كما كان.”

الناي الأميرة

الناي الأميرة

جدي يضحك كثيراً.

قلت لجدي: “البلبل هو الطائر الذي تراه في المساء عندما تكون مع أمّك على الدربضحك، وضمني

كان جدي يضحك ويضمني، عندما أقول أشياء كهذه.

***

لم أعد قادراً على أن أعرف البلبل بالطريقة القديمة نفسها، صرت كبيراً وأتيت مع الكثيرين ـ الذين كبروا أيضاً ـ إلى دمشق.

ذات مساء دمشقي، عدتُ إلى غرفتي، فعلت ما يفعلُه الآخرون تماماً: وضعتُ المفتاحَ في القفل، وأدرتُه، لم تكن غرفتي كعادتها؛ كانت تضم ستة رجال لم أر ملامحهم من قبل، خمسةٌ يحملون بنادق، وسادسهم يحمل مسدساً. ستُّ فوّهات، لو خرجت من أي فوهة رصاصة واحدة لسال دمولـ

طلبوا مني أن أديرَ وجهي إلى الحائط، وأن أرفعَ يديَّ. كانت كتبي وثيابي مبعثرةً على الأرض. انتبهتُ إلى أن القميص السماوي الذي أهدتني إياه ليلى مرمي، وأني أدوسه بقدمي، حاولت أن أبعدَ قدمي عن القميص، ركلني أحدهم، أثناء استجابتي لركلته أزحت قدمي عن القميص. قلت إنّ ليلى لن تؤاخذني، فهي تعلم أني وضعتُ حِذائي على القميص مرغماً، وها قد أزحتُها. لكني لم أعرف: ما الذي يحدثُ في غرفتي. خطر لي أنني أرتدي القميص السماوي، وأن فوهة قد أطلقتِ النار، رأيت كيف يسيل الدّمُ، ويلوّن زرقة القميص. طلبوا مني أن أدلَّهم على المكان الذي أضع فيه السكر والشاي، قلت لهم إنني مستعد لأن أصنع لهم الشاي بنفسي، وأقدمه لهم، رفضوا، سألتهم: “من أنتم؟قال حامل المسدس: “اخرس!” صمتُّ. وتابعتُ تصور مشهد موتي: أيُّ لغزٍ مربك سيكون موتي بطلق ناريليتني أعرف شيئاً قبل أنأين سأقع؟ صارت عيناي تبحثان في المساحة التي يمكن أن ترياها من أرض الغرفة، وفجأة أيقظني موتُ الأميرة من موتي. رأيتُ الأميرة مرميةً على الأرض وقد تحوّلت إلى أشلاء، أحزنني ذلك كثيراً، رأيت كيف أن حذاءً قد هشّم فمها، لا أدري لماذا شعرت أنه يدوس على فمي! لأقل أنني أحسست بوقع الحذاء في المكان الذي أضع فيه فمي أما ثقوبها فقد صارت أقواساً بعد أن تحطم جسدها! أجبرني الرجال الستة على الذهاب معهم، لم أعد أذكر إلا مشهد الأميرة المرمية. وحيدة بقيت بين أشياء مبعثرة على أرض غرفتي، التي لم أزرها بعد ذلك اليوم أبداً.

***

في مساء خريفي ـ يبدو أنه موغل في القدم أحياناً، ويبدو وكأنه مساءُ البارحة في أحيان أخرى ـ كنت أمشي وراء أمي على درب ريفي ضيق، صرخت فجأة: “أمّيانظري، إنه عصفورٌ حلوحلوٌ كثيراً!” قالت أمي ببرود لا يليق بجمال ريشه ولا باشتعال دمي: “إنه بلبل“.

كان الطائر يحط على غصن شجرة زعرور. ركضت باتجاهه حاملاً إعجابي ودهشتي، لكنه طار قبل أن أصل إليه ـ منذ ذلك اليوم وأنا أشعر أن ما يثير دهشتي وإعجابي يطير قبل أن أصل.

ـ أمي، أنا أحببتُه. لماذا هرب مني؟ أين سيذهب؟

طلبت أمي أن لا أثرثر! لم أكن أثرثر، كنت أسألها من أعماق روحي. طارت عيناي وراء الطائر، ورأيتهُ وهو يحطُّ في غابة القصب القريبة، انحنى رأس قصبة وهو يحط فوقها. كانت باقي القصبات تلوّح بأيديها مرحبة بالطائر الحلو.

قلت لجدي: لقد حطّ البلبل على رأس أميرة غابة القصب، انتقى الأميرة أليس كذلك؟

ضحك جدي، كان جدي يضحك كثيراً. قال لي: إنها الأميرة طبعاً.

***

أمي تضرب، تضربني إذا خالفت أمراً لها

قالت لي: لا تدخل غابة القصب، وقالت لي: فيها ثعابين، ولدغة الثعبان تميت، وقالت: القصب يجرح مثل السكين، هنالك عقارب أيضاً. صار دخول الغابة يلغ في دمي، ففي الغابة عصفور حلووأميرة، ثم أن الغابة محرمة وهذا يكفي لملئها بالأسرار! دخلت غابة القصب المحرمة في ظهيرة من ذلك الخريف البعيد، متحدياً تحذيرات أمي، راغباً في التعرف على أميرة الغابة، كنت أريد أن أقول للبلبل: أنا أحبك. والله العظيم أحبك، فلماذا فررت؟

عبثاً بحثت عيناي في السماء القريبة! بدت عصافير الدوري تافهة لا قيمة لها، ولم يدهشني طيرانُها. كنت أبحث عن ذلك الملوّن الحلو

تبدو الغابة من بعيد أكثر جمالاً مما هي عليه وأنت في داخلها. لا أسرار تراها عيناك، سوق متشابهة متكررةليس هناك بساط أخضر، كالذي تحمله القصبات على رؤوسها وتنشره في الهواء. لا شيء غامضاً يستحق الاكتشاف.

بعد أن يئست من رؤية الطائر ومللت، بدأت أبحث عن الأميرة، لا أدري بأية لغة أقنعتني إحدى القصبات بأنها الأميرة، لكنني صدقتها وفرحت، وصار لدخولي إلى الغابة معنى. لعلّي كنت أبحث عن هذا المعنى!

أيقنت أنها الأميرة، قطعتها بالسكين التي سرقتها من المطبخ، وجررتها معي إلى البيت، محولاً إياها إلى حصان له ذيل أخضر، يكنس الطريق، ويثير الغبار.

ضربتني أمي لأنها بحثت طويلاً عن سكين المطبخ، ولأني جرحت يدي ـ كان جرحاً صغيراً، ولم ينزف إلا القليل من الدم الذي تيبس فوق جسد الأميرة، وضربتني لأني خالفت أوامرها ودخلت غابة محرمة علي؛ لكنها لم تؤذ الأميرة. قال جدي بصوت غاضب: لماذا تضربينه؟ بدأت أمي تشرح له بصوت عالٍ، ولكنها كفت عن الضرب. عرفت أن جدي يغضب أحياناً ولكن جدي يضحك، يضحك كثيراً. ضحك عندما قلت له إنني أحضرت أميرة غابة القصب معي، وضحك عندما أكدت له أنها الأميرة لأن البلبل حط على رأسها، وضحك عندما سألته: “أين ذهب البلبل؟وقال لي إنه سيعود.

ـ متى؟

ـ بعد قليل!

وقال لي: “سأصنع لك شبّابة عندما تتيبس القصبةوأردف ضاحكاً: “أقصد الأميرة.”

***

أمسك جدي بالقصبة، خلصها من أوراقها التي تيبست، أمرني بإحضار الحطب، أشعل ناراً، أحضر سيخاً من الحديد، وضعه في قلب النار، بسهولة صنع لي شبابة. بعدئذ تغيرت ملامحه، بدا وكأنه يصلي صلاة غريبة، كان يحدق في جسد الأميرة، يحركه بين أصابعه بحنان، بدت أصابعه مختلفة، كانت ترتجف رجفاناً لا يرى، رجفاناً من داخلها، وكان وجهه متأملاً غائباً، والأميرة بين يديه مطواعة هادئة.

اقتطع قطعة ونظر إليها ملياً، وبدأ يقيس بأصابعه. بعدها أخذ سيخ الحديد المحمر من النار وبدأ يضع ثقوباً على جسد الأميرة، كانت النار ترقص وتلوّن وجه جدي تبعاً لرقصتها، ويد جدي تهتز قليلاً.

بدا لي ذلك طقساً غريباً، وسيطر عليّ خشوع لا أعرف كنهه.

بعد أن انتهى جدي من تشكيل جسدها كما يرغب، نهض بهدوء، وبدا قلقاً بعض الشيء! وفي المساء، رفع جدي كأس الخمر الذي اعتاد أن يشرب نِصفَه كل يوم، ودلقه في فم الأميرة، ثم صبّ لنفسه نصف كأس جديد. بهدوء رفع الأميرة بين يديه، وبدأ ينفخ في فمهاكان الصوت ساحراً.

اعتقدت أن جدي خدعني! أخذ جسد الأميرة الفعلي، وترك لي شبّابة تافهة. قلت لجدي: “الأميرة هي التي تركتها لنفسك! ضحك جدي! قلت له: أريد هذه. وأشرت بإصبعي إلى الناي التي صنعها. ضحك ومدها صوبي. استغربت أن يتخلى عنها بكل تلك البساطة!

***

لم تكن أصابعي قادرة على أن تتباعد وتغطي ثقوب الناي، تعبت حتى تعلمت كيف أُصدر صوتاً. سألت جدي: لماذا باعدت الثقوب هكذا. ضحك جدي وقال: ستعرف عندما تكبر.

ـ ومتى سأكبر؟

ـ بعد قليللا تستعجل!

مضى القليلالذي تحدث عنه جدي، وكبرت! ـ ليتني لم أفعل ـ صارت أصابعي تغطي ثقوب الناي. كانت أمي تحتج على الصفير الذي أحدثه، لم أكن وقتها أعرف كيف أتحدث مع الأميرات، كنت أنفخ بغلظة، وكانت الأميرة تحتج وتتوجع، لم أكن أعرف كيف أهمس روحي في فم الأميرة لتقول شيئاً حلواً! مراراً كانت أمي تهددني بتحطيم الأميرة فوق رأسي إذا لم أكف عن الصفير.

***

بعد أن دربتني الأميرة على الحديث معها، رفعت فم الأميرة إلى فمي ذات مساء صيفي، وبدأنا نحدّث أمي عن مساء مشيناه معاً، عن بلبل حلو وشجرة زعرور قرب درب ريفي، عن الولد الذي كنته. عن أشياء تعرفها أميوعندما أنزلت فم الناي عن فمي، قالت أمي: “اعزف أيضاً. هذا العزف يدخل إلى القلب!” فرحت لأن أمي لم تعد تقل لي: “كف عن الصفير!”

أنا والأميرة أخبرنا أمي حكاية عنها، حكاية تعرفها كثيراً، أشياء تستوطنها بطريقة ما. أحبتها أمي دون أن تعرف ما هي بالضبط، شيء كسر مفضوح، يبقى سراً ويبقى مباحاً! هذا ما تعلمنا قوله أنا والأميرة.

***

قالت لي ليلى، وعيناها تتجنبان النظر في عيني: “أظنأنناأقصد أن أقول... أعتقدربما كان من الأفضلأن نفترق!.”

غضبت، سألت مرتجفاً: “لماذا؟كان قلبي صدىً لسؤالي، وسؤالي لم يكن يعني إلا شيئاً واحداً: أنا أشتعل حباً فكيف يمكن أن يخطر لك أن نفترق. لم أقدر وقتها على أن أفهم أن ليلى كائن آخر له جسده وروحه، وله الحق في التصرف بهما!

تركتني ليلى، وصار قلبي يرتجف كعصفور مذبوح ومجنون! بدا العالم غير قابل لأن يُفهم. أخذت الأميرة معي، وذهبنا معاً وراء خطواتي، قادتني خطواتي إلى غابة سنديان، تطل على نهر صغير. كانت روحي تحمحم بوجع: “ليلى ليلى لمَ شبقتني*.

جلست على صخرة، صرت أقول للناي أسئلتي ووجعي، وصارت تنشر في الفضاء القريب أوجاع مراهق بريء عذب. من ثقوب الناي خرج آلهة طيبون، تجمّعوا تحت أشجار السنديان، أتوا يحملون نبيذاً معتقاً هناك في السموات البعيدة حيث يقطنون، ربما كانوا يقصدون النهر القريب للاستحمام، تحلقوا حول الصخرة، واقترب كبيرهم مني، ودموعه النورانية تنساب فوق لحيته القدسية، قال لي: يا لقلبك! إنه يستحق فرحاً وسع السماوات والأرض! وقال لي وهو يصغي إلى الناي: صدقت. صدقت يا بني، أصعب من الألم بكثير أن تتألم وحيداً! ركعوا عند أقدام الصخرة، وقفوا، ثم ربت كبيرهم على شعري، فأزلت الناي بخشوع عن فمي، لم يعد هناك سنديان أو صخرة أو مساء! يد إله حنون تربت برقة الآلهة على كتفي! بدأت أبكيوبعد قليل بحثت عنهموأدركت أن العين لا تستطيع رؤيتهم لأنهم خرجوا من ثقوب الناي وانتشروا هناك في فضاء غابة السنديان. وكثيراً ما أحس بهم عندما أذهب إلى هناكحيث زرعتهم.

***

لم أصبح موسيقياً شهيراً.

لم يجر معي أيّ صحفي مقابلة لأقول له إنني لا أحب العزف على النوطة، فسطورها مثل قضبان السجن، لا تستطيع الروح أن تتخطاها، ولم أقل لأحد أن الناي هي أفضل بكثير من الآلات الوترية كلها، لأن الناي تقبل أن تسكب فيها روحك مباشرة والآلات الوترية تحتاج إلى وسيط كالأنامل والريشة، حيث يضيع شيء من الروح

كل ما كان يقال لي: “اعزف لنافأوافق عندما يأتي اللحن، واللحن يأتي هكذا فجأة، يأتي دون أن يستأذن أو أن يطلب منه القدوم. ولم أكن أرغب في أن أدونه على نوطةكنت أوزعه في المساحة الواسعة، يخرج مثلاً من نافذة الغرفة التي استأجرتها ويتمشى في سماء المدينة.

في الغرفة التي استأجرتها، وضعت رفاً صغيراً، ووضعت فوقه قطعة من الحرير الفيروزي، وأمسكت الناي وقلت لها: “هذا سريرك“. فوق ذلك السرير كانت تنام الأميرة إلى أن يوقظنا اللحن معاً! كانت تستيقظ وتقول شيئاً حلواً ثم تعود إلى سريرها!

***

منذ زمن بعيد غادرت تلك الغرفة، وتركت الأميرة مهشمة في أرضها وقد أُنزلت من سريرها عنوةً! تساءلت كثيراً عن مصيرها، لم أستطع أن أقول لنفسي أن أصحاب البيت كنسوها ورموها في سلة المهملات، وبعدها انتقلت إلى إحدى سيارات القمامة. يحزنني أن أصدّق ذلك وكعزاء كنت أقول: كم من الورود الجميلة تنتهي إلى بطون تلك السيارات.

حاولت وفشلت في أن أعود إلى غابة القصب وأنتقي أميرتها الجديدة. لم أعد قادراً على أن أمشي مع أمي مساءً وأرى طائراً مدهشاً ولم يعد جدي حياً. لو كان حياً لسألته: كيف يمكنني أن أصادف أميرة مرة أخرى؟ هل سيضحك جدي الذي كان يضحك. يضحك كثيراً

*ورد في إنجيل متى / الإصحاح 27، الآية 46 على لسان السيد المسيح وهو على صليبه إيلي، إيلي لمَ شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تخليت عني.