زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي الآمال الضائعة للإيديولوجيات الدّاعية إلى قيام وحدة قوميّة بين العرب، وطُمِسَ بذلك فكر إنسان ممتاز، وأُهملت رؤيته التي تؤلِّف نظرة إبداعيّة عميقة في ماهيّة اللغة، تحديداً اللغة العربيّة، علاوة على ما عاناه في حياته من تجارب وجوديّة عنيفة واضطراب وجدانيّ وفقر وحرمان وعُزلة بسبب مواقفه السياسيّة، فضاعت شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة بين صراع السياسيين البعثيين على السُّلطة، وخضعَ لاستقطاباتهم وتنافراتهم ثم غُيِّبَت على نحوٍ نهائيّ جهود الأرسوزي لمواجهة الاحتلال العثمانيّ-التركيّ والاستعمار الأوروبيّ.

لكنَّ المهمَّ هنا ليس قراءة الأرسوزي قراءة إيديولوجيّة أو سياسيّة مُسْتَهلكة؛ بل الكشف عن العناصر الأصيلة في رؤيته الفلسفيّة للعالم، أو بالأحرى إظهار شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة التي احتجبت وراء غبار لعنة شهوة السيطرة على الحُكم.

لقد انصّبت عناية الأرسوزيّ على كشف ماهيّة اللغة العربيّة، ويمكن تصنيفه بصفته مؤسِّس تيار فلسفة اللغة في الثقافة العربيّة المعاصرة، غير أنَّ حقل الدراسات اللغويّة الذي أسّس له الأرسوزيّ بقي مجهولاً، علماً أنَّ الدراسات التي قدّمها فلاسفة اللغة الغربيّون، أصبحت مركز اهتمام الثقافة الغربيّة، بل العربيّة أيضاً، بدءاً من أواخر القرن الماضي، وصولاً إلى يوم النّاس هذا. إذ نجد حضوراً كبيراً بين أوساط المثقفين، ترجمةً وتأليفاً، لنصوص منقولة أو مستوحاة من جورج إدوارد مور (1873-1958م) أو برتراند رسل (1872-1970 م) أو لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1951 م) وغيرهم. علاوة على ظهور دراسات عربيّة كثيرة محكومة بالنزعة البنيويّة التي أسس لها فرديناد دي سوسير (1857-1913)؛ وفي المقابل لا نكاد نجد للأرسوزي ذِكْرَاً بصفته فيلسوفاً عربيّاً معاصراً عُني عناية حقيقيّة بقضيّة اللغة.

تعمّق الأرسوزي في ماهيّة اللغة العربيّة في “مؤلَّفه العبقريّة العربيّة في لسانها”، ووجد أنَّ اللسان العربيّ مكوَّن على نحوٍ اشتقاقيّ، فالألفاظ التي ينطق بها الإنسان العربيّ ترجع إمَّا إلى ظواهر إدراكيّة حسيّة، تحديداً صوتيّة-بصريّة مُستَمدّة من الطبيعة، أو إلى أُصول شعوريّة مُستَمدّة من النَّفْس الإنسانيّة.

ويوضِّح الأرسوزي حقيقة الألفاظ التي ترجع إلى ظواهر طبيعيّة صوتيّة بصريّة، فتمثيلاً لا حصراً: نجد أنَّ الكلمة “خَشَّ” هي صورة صوتيّة-مرئيّة، ناجمة عن “حركة في عُشب يابس”. وهذه “الصُّورة” أصبحت على المستوى اللغويّ نواةً لتوليد أفعال ومشتقات جديدة مثل: خَشُنَ، خشَبَ (=جَفَّ)، خَشَعَ، إلخ؛ ومِنْ خَشَّ بتحويل الخاء إلى حاء يمكن اشتقاق حَشَّ والحَشيش؛ وبتحويلها إلى عين نحصل على عشَّ والعِشّ، وإلى ما هنالك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يُبيِّن الأرسوزي أنَّ الإنسان العربيّ لم يقف بالنسبة إلى بناء الألفاظ التي ينطق بها عند حدود الصُّور الطبيعيّة الصَّوتيّة-البصريّة فقط، بل اعتمد على التّصويت الطبيعي عند الإنسان، أي الأصوات التي تُعبِّر عن حالات شعوريّة معيّنة مثل “أَنَّ” التي تدلّ على التوجُّع أو التألُّم، فظهرت أفعال ومُشتقّات وفق الآتي: فبإلحاق الهمزة جاءت “أنا”، وبإلحاق التّاء “أنتَ”، أنتما، وبقيّة الضمائر. ومن “أَنَّ” اشتُقَ الفعل أَنَّبَ (=عنَّفَ)، والاسم الأنين، وإلى ما هنالك.

وركّز الأرسوزيّ على أنَّ الذهن العربيّ لم يقتصر -في عمليّة تكوين اللسان العربيّ-على الصُّور الصوتيّة المرئيّة أو الأصوات المُعبِّرة عن حالات نفسانيّة، بل نهج نهجاً اصطلاحيّاً أيضاً، يقوم على إظهار الحروف عن طريق التداعي، فالحروف الأسهل من حيث تسلسل الظهور تتوالد لتكوِّن صورة تصبح موضوعاً للفكر، ومدلولاً عليها في الوقت نفسه بألفاظ، فمثلاً من حرف الباء (ب) صنع التداعي أسماء من قبيل الـ:”أَبّ”، و”الأُبّهة”، وأفعال من قبيل أَبِهَ، أَبى….

وعُني الأرسوزيّ بكشف مناهج تكوين الألفاظ في اللسان العربيّ، فاكتشف أنَّ هناك صوراً صوتيّة ذوات أصول فيزيولوجيّة، فمثلاً هناك صور صوتيّة ترافق حركة عضلات الفمّ من قبيل: عَضَّ، وهنا يشتق الذهن مع المحافظة على الإيقاع بإضافة حرف أو بتحويل آخر، فبالإضافة نحصل على عَضَبَ (=قطَعَ)، وبالتحويل، أي بتحويل العين إلى قاف، نحصل على “قَضَّ (=ثَقَبَ)”. هذا، وبالطريقة نفسها اشتُقَ فعل “قَدَّ (=قَطَعَ)” ثم “قَدَرَ(=قَسَمَ) ومنها: القَدَر؛ وقَدَسَ (قَطَعَ)، ومنها: “القُدْس (=الحجر المقطوع)” وتوالت المشتقات مثل القُدُّوس، والمُقَدَّس، والقداسة، والتّقديس، وحُمِّلت بمعان مختلفة، إلخ.

ولقد فهم الأرسوزيّ اللغة فهماً يدلّ على عمق نظرته، فهو يُرجعها إلى غريزة متأصِّلة في الإنسان أسماها “غريزة الكلام”، ووجد أنَّ غريزة الكلام موجودة على نحوٍ متفوِّق عند العرب، منذ فجر التّاريخ، بدلالة أنَّ علم اللغات المقارن يكشف وجود قواعد مشتركة بين اللسان العربيّ واللغات الهندو-أوروبيّة من ناحية، إضافةً إلى كشفه وجود اشتراك في المفردات وأساسيات النحو بين اللسان العربيّ واللغات الساميّة من ناحية أخرى، وهذا يثبت أنَّ الإنسان العربيّ خاض تجربة كونيّة نادرة في تكوين لغته، كان لها تأثير عالميّ لا يمكن نكرانه. والحقيقة أنّنا إذا أرجعنا اللغة العربيّة إلى أُصولها الكنعانيّة (=الفينيقيّة)، لوجدنا كلام الأرسوزي صحيحاً، إذ قام اليونانيون بتعديل الأبجديّة الكنعانيّة (الأوغاريتيّة)، بما يتناسب مع لسانهم الهندو-أوروبيّ. ولا شك في أنَّ استخدام اليونانيين للأبجديّة الألفبائية-الصوّتيّة الكنعانيّة أسهم في تطوير طُرق التّفكير النّظريّ عند اليونانيين لما في اللغة الكنعانيّة من إمكانيّة تؤهِّل الناطقين بها للقيام بعمليات التّفكير المجرّد. هذا، وحينما وصل التجار والمستعمرون اليونانيون إلى أتروريا (=منطقة وسط إيطاليا الحالية)، ونشروا الثقافة الهيلينية في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. أدخلوا الحروف اليونانية-الكنعانيّة لتشكيل الأبجدية الإتروسكانية (=الإيطاليّة القديمة). التي عُدِّلت من قبل الرومان، وأصبحت أبجدية أساسيّة لأوروبا الغربيّة.

لقد امتاز الأرسوزي من بين مختلف المُنَظِّرين القوميين العرب بأنّه دخلَ إلى السياسة من بوابة الفلسفة، وهذا ما جعل طريقة تفكيره أكثر عُمقاً وأبعد غوراً؛ إلا أنَّ لهذه الطريقة في التفكير مخاطرها، فقد جعلته مُفكِّراً يوتوبيّاً، إذ بنى آماله على حُلم ضائع بتكوين دولة مثاليّة تكتنف أبناء أمّة عربيّة واحدة أسماها “الجمهوريّة المُثلى”، ويقدّم الأرسوزي في كتاب له يحمل الاسم نفسه (=الجمهوريّة المثلى) تحليلات لمعنى هذا الاسم عينه، مستخدماً بصيرته اللغويّة الفذّة في تفسير معنى كلمة جمهوريّة، فيوضِّح أنّها منحوتة مِن “جم” وتدلّ على (الجمّ الغفير)و(جهر) وتعني إفصاح كلّ فرد من النّاس عن رأيه في ما يتعلّق بتنظيم الشؤون العامة. وحدّد الأرسوزي معنى كلمة “المُثلى” على أساس أنّها مأخوذة من “المَثَل الأعلى”، أي من الكمال، تبعاً لتكوين كلمة الكمال نفسها. وشرحَ تكوين كلمة كمال شرحاً لغويّاً رائعاً: كمُلَ من كُم الزَّهرة، وحرف “ل” المُلحق بـ”كم” يُفيد هنا معنى النموّ، فالكمال-وفق قوله-مُستوحى من برعم يستكمل شروط كِيانه بالزهرة.

 وينفر الأرسوزيّ نفوراً كبيراً من واقعه العربيّ الذي كشف فيه خطر تحوّل الإنسان العربيّ إلى عبد، ويُفْهم معنى العبوديّة، وفق منظار الأرسوزيّ، على أساس أنَّ الإنسان العبد هو الذي يكون آلة أو أداة بيد نفسه أو بيد غيره من النّاس: يكون عبداً لنفسه إذا حوّلَ طاقاته الخلّاقة إلى أداة للحصول على شهواته، ويكون عبداً لغيره إذا استهلك مواهبه في خدمة الأقوى. ويطالب الأرسوزي باستبدال الإنسان الحرّ-النبيل بالإنسان العبد-الأداة. وهنا يفجِرّ الأرسوزي بعبقرّيته اللغويّة السَّاحرة ينابيع مأساة الإنسان العربيّ، فكلمة “حريّة” في رأيه اشتُقت من كلمة “حرب”، ونبيل اشتُقت من “النِبَال”، أي السِّهام التي يُرمى بها الأعداء؛ لذلك يصعب على الإنسان أن يحتفظ بإنسانيته أو بالأحرى بحرّيته إلا إذا كان مُحارباً رامياً لأعداء إنسانيته بالويلات!

جمع الأرسوزي في شخصيته بين عالم اللسانيات والمفكر السياسيّ؛ فعاش حياةً تنوس بين الهدوء والاضطراب، ولا نجد شبيهاً للأرسوزي الآن أقرب من المفكِّر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي جمع في شخصيته هو أيضاً بين عالم اللسانيات والمفكّر السياسيّ؛ إلا أنَّ الفرق بين الأرسوزي وتشومسكيّ فرق كبير جدّاً، فالأرسوزيّ عاش حياة قهر مستمر وفي أعمق لحظات معاناته كان هدفه بناء أمجاد أمّة عظيمة فقدت القدرة على النّهوض؛ بينما تشومسكي عاش حياة حافلة بالأمجاد في على أرض جمعت شعوباً من مختلف أنحاء العالم، وكوّنت أمّة عالميّة. لقد نجحت أُمّة تشومسكي الطارفة ولم تنجح بعد أُمّة الأرسوزيّ التليدة.

المراجع:

زكي الأرسوزي، المؤلفات الكاملة، دمشق، 1972.   

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

 قراءة في  المجموعة القصصية “هو” للكاتب السوري فراس الحركة

 قراءة في  المجموعة القصصية “هو” للكاتب السوري فراس الحركة

حسب تعبير موباسان (إن هناك لحظات منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة)، والقصة القصيرة تبدو النوع الأدبي الأقرب إلى روح العصر الذي اتسم بالسرعة والاختزال فتناسلت أنواع جديدة منها كالأقصوصة والقصة القصيرة جداً (ق.ق.ج) إمعاناً في الاختصار. والحقيقة أنها حافظت على  جمهورها دوماً وذلك بقدرتها على اقتناص اللحظة والإبحار بالقارئ في تلك المسافة القصيرة من السرد بتركيز وانتقاء مهمين.

وفي هذا السياق صدر مؤخراً عن دار موزاييك للطباعة والنشر مجموعة قصصية بعنوان (هو؟) للكاتب والقاص السوري فراس الحركة وهو الحائز على جائزة زكريا تامر للقصة القصيرة عام 2008 وجائزة  اتحاد الكتاب العرب للنصوص المسرحية عام 2009 عن مسرحيته (صاحب النساء السبع).

تحمل المجموعة عنوان (هو؟)، وإذ ينتهي العنوان بعلامة استفهام يفتح باب السؤال لدى القارئ للبحث عن دلالة ضمير الغائب فهو ليس إخبارياً، لكنه عنوان القصة الأخيرة في المجموعة والتي سيتوقف القارئ عندها كما العديد من القصص التي تفتح باب التفكر والتأويل لإماطة اللثام عن مآل النص وتفكيكه في محاولة البحث عن المرامي البعيدة والقريبة التي يأخذنا إليها الكاتب. إذ يصور الذات الإنسانية في تشظيها سابراً عوالمها الداخلية وصراعاتها المشحونة عاطفياً في مشهدية تصويرية تميل للغرابة حيناً  وبلغة تقترب من الشعر حيناً.

وعلى مدار ثماني وعشرين قصة حوتها المجموعة ينوع الكاتب أسلوبه فيتجاوز الترتيب الزمني للحدث منطلقاً من المشهد الأخير في بعضها مستعيداً خيوط السرد عبر تصاعد الحالة النفسية للشخصيات أو من المشهد الذروة ليفكك الحدث الذي يستنتجه القارئ ويقوم بتركيب خيوطه، فالقارئ هنا وغالباً يشارك الكاتب في إعادة بناء القصة في خياله عبر الإيحاء الذي يعتمد عليه الكاتب، ومفككاً الغموض الذي لجأ إليه ليستدرج القارئ نحو المشاركة في تخيل الحدث واتباع خيوطه المتعددة والمتشعبة.

يتخذ القاص فراس موقع السارد الذي يقوم بوصف وسبر العالم الداخلي للشخصيات جاعلاً الحدث في هوامش السرد منتقياً مواضيعه من المحيط بحيث يملك عوالم أبطاله النفسية والذاتية غالباً مقدماً المقولة على القص  تارة كما في قصة الطريق أو الصندوق الأسود وممسرحاً القص تارة أخرى كما في قصة العازف أو الأبواب ومحاولاً فتح العوالم النفسية لشخصياته وهواجسها وانفعالاتها وهمومها وهذا ما جعل الإبهام والغموض حاضراً في السرد وترك الباب مفتوحاً أمام القارئ كما في قصة انتقام مسلطاً الضوء على معاناة الفرد أمام المجتمع القاسي والمستكين لقوالبه الجامدة والمتخلفة  وظلمه للإنسان سواء بقوة العادات والمفاهيم المتخلفة أو بقوة السلطة الراسخة والتي تسعى لإدامة قيودها وذلك الصراع بينهما والذي ينتهي غالباً لصالح الأقوى.

يفضح المجتمع المتخلف وما يرتكبه بحق الأفراد إذ يكيل دوماً بمكيالين في سبيل الحفاظ على مقدساته ومقولاته التي كرسها عبر الزمن فيطلق أحكامه المستمدة من المفاهيم المتخلفة والخرافات والتي درج عليها كما في قصة ابن الجنية ليبرر أفعالاً وأحداثاً يخاف أن تتداولها الألسن حيث تصبح البنية النفسية لهذا المجتمع مهددة حين ترى الحقيقة. إنه المجتمع القائم على أوهام وكذبات صنعها بنفسه عبر الزمن . ففي قصة ابن الجنية نرى البطل فاضل والملقب بالنمر رغم كل أفعاله الحميدة وصفاته النبيلة التصق به لقب ابن الجنية ما جعله غير مرغوب به رغم أن هذه الجنية أمه لم تكن سوى مناضلة ساعدت الثوار في الجبال وماتت بتسمم جراحها، وكما تموت الحقيقة بالنكران يبقى اللقب العار ابن الجنية متوازياً مع ابن الحرام ومرفوضاً مثله.

وكما في قصة أطلال حيث يقوض الواقع أحلام الإنسان وقصص الحب التي تموت بيد الواقع ولا يبقى منها إلا الذكريات التي يطمسها الزمن مع تقدم الحياة التي لا ترحم فالحبيبة تتزوج ممن لا تحب ومكان اللقاء (البيادر) تقوم عليه البيوت الإسمنتية هكذا يحل الجماد محل العواطف.

وفي قصة الدم نرى انتقال المعركة من الرصاص الحي إلى الكلمة التي في النهاية تغتالها السلطات حين تعتقل الكاتب. السلطات التي تعيد  إنتاج الحزن وتجعله مستمراً ورفيق جيل الشباب في قصته (ذلك الحزن) حين تعتقل رفيقهم الذي عاد إلى البلد بعد غياب طويل.

مثلما تغتال المفاهيم الجامدة قصص الحب وتقسر الشاب في قصة أنا قدرك للتخلي عن الحبيبة نتيجة إعاقتها والزواج بأخرى .

يبرع الكاتب في وصف لحظة الذروة في الانفعال العاطفي والصراع النفسي للشخصيات التي تنتقل بين ضمير المتكلم وضمير الغائب وذلك في مشهدية تصويرية تأتي على لسان القاص محاولاً تصوير تلك الانفعالات والصراع الذاتي المكتمل مع المحافظة على إشارات مفتوحة توحي بالنهايات.

لا تأتي القصص في سوية واحدة فهناك موضوعات مطروقة سابقاً كواقع المرأة المستلبة الراضخة لمشيئة المجتمع الأبوي ومعاناتها في انكسار قصص الحب وقتل الذات وتحويلها إلى أداة إنجاب وعمل لا أكثر بينما تموت المحاولات الصغيرة ويبقى صوتها ضعيفاً، مؤكداً أن تحرر المرأة لا يكون إلا بيديها. يحاول الكاتب التجديد في أسلوب الطرح وليس الموضوع وهذا ينطبق على أكثر من موضوع كما في قصة الأبواب أو الطريق حيث يجسد الجماد ويؤنسنه على طريقة أنسنة الحيوان وإنطاقه في كليلة ودمنة لتقديم العبرة والمقولة، ليصبح الطريق شخصية تتمنى وتريد أن تكون ذاتاً تملك وجهة وهدف وصول.

يقول غيورغي غوسبودينوف: “إن المتاهة قد تكون من وفرة المخارج وليس فقدانها.”

وفي قصة الأبواب نرى أنها مخارج لطرق تتنوع وتنفتح بين الداخل والخارج ، بين الذات والمحيط تتعدد وتتداخل وكل باب يُفتح أمامه طريق على هدف ويستعرض البطل المتمثل بضمير الغائب هذا الأمر باحثاً عن اكتمال رؤاه. أبواب سبعة بما يحمل الرقم سبعة من قدسية في الذاكرة الجمعية وحين يصل إلى الباب السابع إذ يجتمع الأمل مع الفرح والنور و معاناة البلاد وبحث الإنسان عن شرط الحياة يأتي صوت المذياع في بيان رسمي يرمز للسلطة التي تصادر كل اكتمال وكل كيان باحث فينتهي البطل إلى البكاء.

يقابل الأبواب النوافذ وهو عنوان قصة أخرى (نوافذ صامتة) إذ نرى خلف النوافذ قصصاً مختلفة يجمعها الفقد والغياب والموت والإحساس بالاغتراب حيث يجتر الإنسان آلامه الخاصة . هذه الحيوات المتعددة كمثل مشاهد سينمائية أو عروض مسرحية يقوم كل منها بدوره دون تأخير.

لا تختلف معاناة الكاتب عن أبطاله فيصور تشتت المثقف واحتدام الصراع في داخله للبحث عن ذاته وعن تحقيقها إذ يرتقي من النواح إلى مرحلة القرار في قصة ارتقاء.

أما في قصة ارتكاب وحيث يصور أعماق الكاتب المشتتة والدؤوبة نحو التجلي وذلك عبر مونولوج داخلي يتنوع خطه البياني بين الذروة والقاع بين الانتشاء والبكاء وحالات متلاحقة تجعله يكشف غربته الداخلية وتناقضه مع المحيط وظروف الواقع والآلام التي تلتهم الإرادة وتحاول قتل اللحظة المبشرة بولادة الإبداع.

يبحر الكاتب في تلافيف العقل باحثاً عن رؤاه كصوفي يحتدم العالم في داخله فيقطر الواقع المر ويتطهر منه باكتمال الفكرة والإبداع الموازي للنور.

تبدو ذروة هذا الاغتراب والتشظي في قصته (هو؟) وضمير الغائب هنا إشارة إلى الظل رفيق الجسد في الضوء لكن ظل الأنا المتكلمة هنا وهو الكاتب يتجسد في العتمة يقول: (أفغر عيني في العتمة أجد الظل).

والظل ليس انعكاساً لجسم مادي بل هو ذات أخرى تنفصل عنه وتتجسد لعلها الحلم ولعلها المكبوت ولعلها الذات المتمردة المشاكسة حيث يفعل ما لا يجرؤ عليه الكاتب ساخراً منه ومن جبنه وعجزه إنه الكائن الحر المدفون في داخلنا.

وهذا الفصام يبدو جلياً في قصص فراس الحركة إذ  يغوص في العوالم  النفسية والداخلية للشخصيات واصفاً انفعالاتها وهواجسها ويوجهنا إلى البحث عن الشبيه. اللغة عند فراس لاعب ماهر إذ تعبر بدقة عن تلك الإرهاصات وتميل إلى الشعر أحياناً مختزلة ومكثفة لكن يؤخذ عليه الإسهاب في الوصف في بعض الأحيان ما لا يخدم البنية القصصية ويشتت القارئ.

(هو؟) مجموعة مختلفة في البناء والأسلوب تبشر القصة القصيرة بفتوحات جديدة سجل فيها فراس الحركة اسمه بمهارة.

 التعليم الحكومي في سوريا: الواقع الاقتصادي يُكمل ما بدأته الحرب

 التعليم الحكومي في سوريا: الواقع الاقتصادي يُكمل ما بدأته الحرب

حتى عام 2011 كانت نسبة الأُمية بين الأطفال في سوريا شبه معدومة، فيما تُشكل نسبة الملتحقين في المدارس الابتدائية أكثر من 95 % ، لكن تلك النسبة تراجعت خلال سنوات الحرب وما بعدها، فأصبحت سوريا تحتل مرتبة متقدمة في نسبة المتسربين من التعليم، حيث تشير تقارير اليونيسف لعام 2021 إلى حرمان نحو 2،4 مليون طفل في سوريا من التعليم. وبحسب أرقام وزارة التربية السورية، لعام 2022، فإن نسبة الأطفال المتسربين من التعليم الإلزامي قد بلغت 22% من إجمالي عدد التلاميذ. كما أدت الحرب، وفق تقارير اليونيسف لعام  2018، إلى تضرر وتدمير نحو 7 آلاف مدرسة، وخروجها عن الخدمة، أي ما يعادل ثلث مدارس البلاد، التي يقدر عددها الإجمالي  بنحو 24 ألف مدرسة، فيما أدى الزلزال الذي ضرب شمال غرب سوريا بداية العام الحالي، وبحسب وزير التربية دارم طباع، إلى تَضرر نحو 248 مدرسة، بشكل جُزئي أو كُلي، توزَّعت في محافظات حلب، اللاذقية، طرطوس، حماة وإدلب.  

  ونتيجة ظروف الحرب ومن ثم انهيار الواقع الاقتصادي في البلاد، وبالتالي تراجع حجم الإنفاق الحكومي على القطاع التعليمي (بحسب صحيفة قاسيون المحلية تراجع الإنفاق من 1,7 مليار دولار في العام 2010 إلى 228 مليون دولار في عام 2022) أصبحت معظم المدارس التي تستقبل الطلاب اليوم عاجزة عن توفير أهم مستلزمات العملية التعليمية كوسائل الإيضاح والقرطاسية، والاحتياجات اللوجستية، والتجهيزات العلمية والعملية والتكنولوجية، هذا بالإضافة لعجز بعض المدارس عن توفير كميات الكتب الدراسية المطلوبة، مما يضطرها لتسليم بعض الطلاب كتباً مستعملة، مهترئة وتالفة  ولا تصلح للاستخدام.         

وإلى جانب ذلك تعاني اليوم كثير من المدارس من نقص الأثاث المدرسي  وتفتقر قاعاتها الدراسية بمعظمها للإنارة الجيدة والتدفئة والتهوية، وشروط الراحة النفسية التي يحتاجها الطلاب، حيث يعانون من ظروف الحَرّ صيفاً، في ظل الانقطاع المستمر للكهرباء، وبالتالي صعوبة توفير التكييف أو حتى مراوح الهواء، فيما يعانون من ظروف البرد شتاءً، نتيجة شح كميات مازوت التدفئة  في ظل أزمة الوقود المستمرة في البلاد. ويؤثِّر ذلك كله بشكلٍ سلبي على طاقاتهم وتركيزهم  واستيعابهم للمعلومات خلال الدروس، كما يؤثِّر في الوقت ذاته على أداء المعلمين ويُشعرهم بالتعب وانعدام الطاقة، لذا يضطر كثير من الطلاب والمعلمين في الصيف لاستخدام المراوح اليدوية، ولجلب ثيابٍ دافئة وسميكة، إضافة لما يرتدونه، لتقيهم بعض البرد في الشتاء.

ولأن بعض المحافظات تستقبل الكثير من النازحين، فإن أعداد الطلاب في مدارسها قد ازدادت خلال السنوات الماضية، لتزدحم بعض القاعات الدراسية بنحو خمسين طالباً، وهو ما يولّد شعوراً من الضيق والاختناق لدى الطلاب، يؤدي إلى تشتيت أذهانهم وانتباههم، ويعرقل عملية إيصال المعلومات، ليؤثَّر سلباً على مستويات فهمهم وإدراكهم، ويفرَض عدم مساواة في التعليم بين طلاب الصف الواحد. كما يؤثَّر ذلك الازدحام أيضاً على أداء المعلمين، الذين يبقون طوال الدرس في حالة من الضغط والتوتر وهم عاجزون عن جذب انتباه الطلاب وضبط شغبهم، وبالتالي عن منحهم الاهتمام المطلوب والطاقة التعليمية اللازمة. فبعض المعلمين يضطرون للاستغناء عن طرق التعليم التعاوني، لصعوبة تطبيقها، وعن تطبيق بعض التمارين والمسائل العملية التي تساعد الطالب في استيعاب المعلومات بالشكل الأمثل، فيما يعجزون عن مناقشة معظم الطلاب في بعض الدروس التي تحتاج للنقاشات التفاعلية والاستنتاجية، هذا إلى جانب عدم تمكنهم من مشاهدة جميع الوظائف والواجبات، التي يكلفون طلابهم بها، أو إجراء الاختبارات الشفهية لهم جميعاً.

ورغم تعديل معظم المناهج الدراسية، خلال السنوات الأخيرة، لتعتمد على التعليم التعاوني والتفاعلي،  لم يُشكل ذلك التعديل الفائدة المرجوة للطلاب، والتطوير النوعي المطلوب الذي تحتاجه منظومة العملية التعليمية، وتعزو المُعلمة هيفاء (40 عام/ مُدرسة إعدادي في ريف دمشق) سبب ذلك لمجموعة عوامل، تحدثنا عن بعضها: ” تعتمد المناهج المُعدلة على كمية المعلومات الكثيفة أكثر من نوعيتها، فهي ترهق الطلاب بكثافتها وتضطرهم للاستعانة بالمدرسين الخصوصيين، فيما يحتاج إنجاز بعض التمارين والمسائل وقتاً أطول من وقت الحصة الدراسية المقررة. كما إن تلك المناهج لم تأخذ بعين الاعتبار مدى جهوزية وإمكانيات المدارس لتطبيقها بالشكل الأمثل، فتدريسها يحتاج إلى وسائل للإيضاح ومختبرات للعلوم وللكثير من التجهيزات اللوجستية والتقنية، خاصة فيما يتعلق ببعض المواد العلمية، فيما تفتقر معظم المدارس لكل ذلك وتغيب عنها حتى خدمات الإنترنت”. وتضيف المُعلمة : ” لم تراع المناهج الحديثة قدرات وكفاءات المعلمين الذين درسوا في الجامعات والمعاهد طرائق التعليم التقليدية، فبعضهم، وخاصة الذين يعملون كمدرسين وكلاء، يفتقدون لآلية شرح تلك المناهج والتعامل معها لتطبيقها بالشكل المطلوب، ويعجزون عن فهم بعض مضامينها التي تعتمد على الاستنتاج، لذا مازالوا يعتمدون في تدريسها على الأساليب التقليدية التي تقتصر على الحفظ والتلقين، وتُدرِس بعض المواد العلمية بشكل نظري لا يراعي الأساليب العملية والتفاعلية التي تحفِّز تفكير الطالب وتطور مهاراته الذهنية”.    

واقع المعلمين وأثره على العملية التعليمية

بحسب بعض المصادر الرسمية خسر قطاع التعليم خلال سنوات الحرب نحو 100 ألف معلم، وذلك نتيجة نزوحهم أو سفرهم خارج البلاد أو استقالة بعضهم مع تردي الوضع الاقتصادي للمعلم وتراجع دوره التربوي وقيمته الاجتماعية نتيجة ما أفرزته ظروف الحرب. ويُلاحظ في السنوات الأخيرة تراجع حجم الإقبال على مهنة التدريس، نتيجة تراجع دخلها بشكلٍ كبير، حيث بات الكثير من الطلاب المُقبلين على الدراسة الجامعية يبتعدون عن دراسة الفروع والكليات المتعلقة بمجالات التعليم، وهو ما أدى إلى نقص الكوادر التدريسية، هذا إلى جانب سفر الكثير من خريجي الجامعات (الذين تخرجوا كمعلمين) إلى خارج البلاد فور إنهائهم للدراسة، وعزوف بعضهم الآخر عن مزاولة مهنة التدريس في المدارس الحكومية، إما لتوجههم نحو المدارس والمعاهد الخاصة أو لانتظارهم فرصة سفر.

وفي ظل الواقع الاقتصادي المتردي الذي يعيشه معلمو المدارس الحكومية اليوم، يضطر معظمهم للعمل خارج أوقات الدوام في معاهد المتابعة والمعاهد الخاصة أو في تقديم الدروس الخصوصية، فيما يضطر آخرون للعمل في أعمالٍ لا علاقة لها بالتدريس. وقد أثَّر هذا الواقع بشكل كبير على سويتهم المهنية وأدائهم التعليمي خلال تقديم الدروس في المدرسة. وعن ذلك الواقع يحدثنا المُعلم حازم (44 عاماً/ يعمل في مدرسة ابتدائية في ريف دمشق) :” دخلي الشهري كمعلم هو 300 ألف ليرة (حوالي 22 دولاراً)، لا يكفيني لشراء الخبز والسجائر، لذا أعمل في المساء، لثماني ساعات، بائعاً في سوبر ماركت، كما أعمل في تقديم الدروس الخصوصية لبعض الطلاب خلال فترة الامتحانات. ويؤثر عملي خارج المدرسة بشكل سلبي على أدائي كمعلم، فأنا بالكاد أجد وقتاً للراحة والنوم، حيث أشعر خلال تقديم الدروس بالإرهاق  وانعدام الطاقة والتركيز، وكثيراً ما تختفي المعلومات من رأسي فجأة، وأعجز في كثير من الأحيان عن بذل أي جهدٍ فاعلٍ وعن خلق تواصلٍ جيد مع الطلاب، الذين يحتاجون لكثيرٍ من الاهتمام “. ويضيف: “بعض مُعلمي المدارس الحكومية، ونتيجة إحساسهم بأن جهودهم وأتعابهم لا تقدر، باتوا لا يشعرون بأي مسؤولية تجاه طلابهم وإنما يزاولون عملهم فقط لكي يبقوا على تواصلٍ مع الطلاب لإعطائهم الدروس الخصوصية خارج المدرسة، والتي قد تحقق لهم في اليوم الواحد أكثر من نصف دخلهم الشهري في المدرسة”.

الفروقات الطبقية بين الطلاب   

 أدت ظروف الحرب والنزوح ومن ثم تدهور الأوضاع الاقتصادية في عموم البلاد إلى إيجاد فروقاتٍ طبقيةٍ واضحة بين طلاب الصف الواحد، تُظهر حجم التفاوت الكبير في مستويات المعيشة، فبينما يرتدي بعض الطلاب النازحون والفقراء ثياباً قديمة ومهترئة، وربما متوارثة عن إخوتهم، ويحملون كتبهم في حقائب مرتجلة (مصنوعة يدوياً من الجينز أو الأقمشة البالية) أو حتى في أكياس من النايلون، نجد زملاءهم الأثرياء وميسوري الحال يرتدون ثياباً جديدة وأنيقة ويحملون حقائب فاخرة ومتميزة، ويستخدمون أفضل أنواع القرطاسية.

وعن تأثير تلك الفروقات تحدثنا المعلمة غيداء (43 عام/ تعمل في مدرسة إعدادية في ريف دمشق) :”يشعر كثير من الطلاب الفقراء، وخاصة النازحين منهم، بشيءٍ من النقص والغيرة، وهم ينظرون بحسرةٍ تجاه زملائهم الذين قد يتباهون بنقودهم ولباسهم وحقائبهم، وبنوعية الأطعمة والمشروبات التي يشترونها أو يحضرونها من بيوتهم، وهو ما يترك آثاراً نفسية مؤلمة لدى أولئك الطلاب،  تؤثِّر بشكل كبير على توازنهم النفسي وتركيزهم الذهني وبالتالي على قدراتهم الاستيعابية ونجاحهم وربما مستقبلهم العلمي، وهو ما يدفع بعضهم لكره المدرسة، أو حتى للتسرب منها”.  

وبحسب المُعلمة غيداء لا تنحصر الفروق الطبقية داخل المدرسة فقط: “بينما يذهب بعض الطلاب الأغنياء خارج الدوام بسيارات آبائهم إلى المعاهد الخاصة ومعاهد المتابعة، يعجز كثير من الطلاب النازحين حتى عن إيجاد جوٍ أو مكانٍ مناسب للدراسة وحل واجباتهم المدرسية، فمعظم بيوت النازحين غالباً ما تكون مزدحمة، وقد يسكنها أكثر من عائلة (تضطر بعض العائلات للسكن المشترك لكي تتقاسم إيجار الشقة وتتساعد في تحمل نفقات المعيشة) وهو ما يخلق جواً دائماً من الضجيج ويعدم أي إمكانية عند الطالب للتركيز”. وتضيف المُعلمة: “بعض الطلاب النازحين يسكنون في شقق غير مكسية (على العظم) تفتقر لأبسط متطلبات الحياة وتنعدم فيها الإنارة الجيدة والتدفئة والشروط الملائمة التي يحتاجها الطالب للدراسة، وبالنتيجة يؤدي ذلك كله إلى تراجع المستوى العلمي لأولئك الطلاب ويؤثر على نجاحهم”.  

الأعياد في زحمة الحرب: الاحتفال من أجل البقاء

الأعياد في زحمة الحرب: الاحتفال من أجل البقاء

لم تنته الحرب، والرصاص تحوّل إلى تفصيل جزئي في زوايا الذاكرة، الإنهاك المعيشي هو السمة الأبرز، لكن روائح الحنطة المسلوقة المزينة بالقرفة تفوح من بعض البيوت. إنها الوجبة الساحرة والملهمة لطقس احتفالي بمناسبة عيد البربارة، أو عيد الحنطة كما تحب الغالبية تسميته، لذلك يحتفل السوريون بعيد البربارة بالحنطة المسلوقة مع القرفة واليانسون ومحلاة بالسكر أو بالدبس أو مطبوخة مع اللحم وخاصة لحم الدجاج. إنها مظاهر احتفالية لكنها تعيد الكرة إلى ملعبها الأول منذ سنوات طويلة وبعيدة جداً، لتشابه الأحوال الاقتصادية، حين كان للاحتفالات توظيف غذائي أهم من الديني، لدرجة أن عيد البربارة مثلاً يتحول إلى طقس غذائي بحت، كما يتحول يوم الأحد إلى موعد أسبوعي لأكل اللحم. حتى أن القصابين لا يقومون بعملية الذبح إلا مساء الأحد أو في صباحه.

لم تنته الحرب، وفي تفاصيل العيش تدور رحى حرب أكثر سطوة وشمولاً، إنها حرب الخوف من الجوع والتردي الواسع للقوة الشرائية للسكان، لكن الغالبية مصرة على الاحتفالات على الرغم من استنكاف البعض عن إضاءة أشجار الميلاد أو تركيبها، حتى أن البعض استغنى نهائيا عن الاحتفال بالأعياد. إلا أن بضعة أشجار تبدو واضحة على بعض الشرفات وخلف زجاج واجهات البيوت، عدا عن وجودها في واجهات أو زوايا المحال التجارية في غالبية الأسواق والأحياء المزدانة بالأضواء رغم شح الكهرباء. تبدو أشجار الميلاد وكأنها قد تحولت لفعل يعاند الحرب ويصر على البقاء ولو بأضواء باهتة ومتناوبة تخضع لساعات التقنين الطويلة والمعتمة، كما يلاحظ احتواء الواجهات التجارية على ملابس أو معروضات بألوان محددة ترتبط بأعياد الميلاد كالأحمر والأخضر والذهبي، بل ويمكن وبكل وضوح ملاحظة أشجار ميلاد عملاقة موضوعة في ساحات الأحياء والقرى وبعض المناطق التي قررت إعلان المظاهر الاحتفالية رغم كل الخراب. هناك تنتصب أشجار بكامل زينتها لكنها غير مضاءة أبداً بلون أخضر داكن كئيب وبزينة باهتة لا يزورها الضوء إلا لماماً، لكنها تبقى مساحة متفردة ليجتمع حولها الأطفال أو أفراد العائلات لالتقاط الصور التذكارية، والصورة تصير صفعة مدوية في مواجهة كل هذا الخراب.

 اللافت في احتفالات هذا العام هو التحضيرات المسبقة لاحتفالات غنائية واسعة، ويبلغ التزامن حده الأقصى في الإعلان عن حفلات ميلادية لكورالات كبيرة العدد وفي نفس التوقيت في طرطوس وحمص مثلاً في الثاني عشر من شهر كانون الأول\شهر الميلاد.

أوجد السوريون والسوريات مساحات احتفالية رغم كل الضيق، لم يتوقفوا يوماً عن الغناء ولا عن عزف الموسيقا ولاعن تشكيل الكورالات والجوقات الاحتفالية التي تستعيد الإرث الجميل لأغان تراثية أو لأغاني فيروز المشهورة والمحببة. وكذلك الأغاني الميلادية والأغاني الاحتفالية بالسنة الجديدة، وكأن شيئاً لم ينقطع أبداً، وكأن خيوط الحياة السعيدة ما زالت مرتبطة ببعضها بوشائج إبداعية والأهم أنها جماعية ومعلنة ومشرعة أمام الجميع.

 من زاوية معتمة في بيته يراقب جواد حركة العابرين في الشوارع المظلمة، يلتمع ضوء شجرة ميلاد على زاوية مقابلة، تراوده فكرة طريفة، سيذهب إلى ذاك المنزل وبيده هدية لطفل المغارة، المسيح، هدية عبارة عن حبة حلوى كمعايدة له بعيد الميلاد أو بيوم ميلاده، وربما يكتب له رسالة مختصرة جداً قائلاً له، كن معنا، فقلوبنا تحتاج دفء المحبة ونحن نحتاج السلام والراحة.

 ينتظر السوريون الأعياد ليكونوا على مواعيد لشراء الملابس والأحذية وربما وجبات الطعام المميزة اللازمة لهم والتي يؤجلونها لأوقات الأعياد فتصير فرحتهم بها مضاعفة، فرحة تلبية الاحتياجات وفرحة استقبال الأعياد بملابس جديدة وأنيقة تفرح الصدور وتدعم القلوب المنتظرة للحظات فرح حقيقية.

 لكن العيد هذا العام أجبر وعد على بيع خاتم زواجها، وهو القطعة الذهبية الوحيدة التي أبقتها الحرب لها. فور بيعها لخاتمها اشترت حذاء لابنها الأصغر، الذي انتظر طويلاً وهي تؤمله بأنها ستشتري له ما يريده. والحقيقة أنه لا يريد شيئاً بدافع الاقتناء أو الاشتهاء أو مجرد الرغبة، بل يحتاج الكثير من الأساسيات بدءاً من الملابس الداخلية وصولاً إلى معطف مناسب وكاف لرد البرد القارس في مواجهة غياب التدفئة بكافة أشكالها، كما اشترت بعض المؤونة للمنزل الخالي بكل ما في الكلمة من معنى من كل مقومات الاحتياج وخاصة زيت الزيتون والسكر والأرز ومواد التنظيف، عدا عن ضرورة دفع بعض الفواتير اللازمة والمتأخرة.

هنا تبدو الإشارة ضرورية جداً إلى أن ابن وعد عضو في فريق الكشاف العائد لإحدى الكنائس التي تحتفل بعيد الميلاد. إنه يحتاج حذاءً جديداً ليس فقط لأن حذاءه مهترئ، بل من أجل الاحتفال بمظهر لائق ويناسب العيد ولا يخدش حاله المهترئ مشاعر وعيون المحتفلين الذين يؤدي الفتى الألحان لهم. سيكون هناك في الطريق ليعزف الألحان الكورالية والميلادية الاحتفالية ليسعد الناس المحتفلة بالأعياد، ليتذوقوا نكهة العيد السعيد ولكي يقول الجميع إن العيد قد مر من هنا، لكن ثمة أم عرفنا قصتها بالصدفة تروي أنها باعت خاتم زواجها من أجل حذاء العيد لابنها.

 لم تنته الحرب، وكل الأعياد وأشجار الميلاد عاجزة عن تدفئة قدمي طفل يعزف الموسيقا احتفالاً بالعيد لإسعاد الناس وبقائهم في مواجهة الخراب.

 لم تنته الحرب ولن تنتهي الأعياد والأشجار باقية ما بقيَ الناس والزينة والأضواء والألوان والموسيقا والأغاني ستبقى امتداداً للذاكرة ولقوة الوجود، لكن الرسائل ليست في عناوينها دوماً، بل في مضامينها المضمرة والساطعة في حزنها وعجزها، في الحكايات التي تدور وراء الأبواب من أجل تلبية الحاجات الأساسية، في خواتم الزواج المباعة على وعد بالانفراج والكرامة والأمان. وربما ستبقى على موعد مع ابتسامة طفل يجدد حذاءه المهترئ، الذي أصرت أمه على أن يحتفل وأن يشارك الناس ألحانه الاحتفالية بحذاء جديد، طالما كانت وستبقى أحذية الأطفال وصمة عار على جبين الحروب، طالما سيكون حضور الأطفال والموسيقا والأغاني والحكايات صفعة على وجوه الحرب، المتعددة التي بات لزاماً أن تتوقف.

 على الأرض السلام وفي الناس المسرة.

حين لا يأتي أحدٌ ليضع حداً للمجزرة: قصائد للشاعر الأمريكي كوس كوستماير

حين لا يأتي أحدٌ ليضع حداً للمجزرة: قصائد للشاعر الأمريكي كوس كوستماير

ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر

كوس كوستماير شاعرٌ ومسرحيٌّ وروائيٌّ أميركي بدأ حياته الأدبية كاتباً مسرحياً وكاتب سيناريو. صدرت له عدة مسرحيات وثلاث مجموعات شعرية وتُرجمت له رواية إلى العربية بعنوان ”فارغو بيرنز“  صدرت عن دار خطوط وظلال في الأردن في ٢٠٢١. عُرضت مسرحياته في أميركا وفي بلدان غربية أخرى وحصل على العديد من الجوائز بما فيها جائزة دائرة نقاد المسرح في لوس أنجلوس لأفضل مسرحية وجائزة جمعية نقاد المسرح الأميركية.

من أعماله المسرحية ”حول النقود“،  ”تاريخ الخوف“، “المستنقع الغربي الكبير“، و”حلم الحرية المطلقة“، وصدر له في الشعر الدواوين التالية: ”سرير الزواج“، ”العام الذي اختفى فيه المستقبل“، ” بلا عنوان“، أما في الرواية فله ”دين مفقود“، ”سياسة اللامكان“، و“جادة الأيام الحزينة“.

القصائد التالية هي قصائد جديدة كتبها الشاعر عن حرب غزة، وخصَّ بها ”صالون سوريا“.

١- عناد

الرجلُ يستعملُ يديه بدل المطرقة

يركع وحيداً بين الأنقاض

يضربُ الفولاذ

يُدْمي الحجر

يصرخُ منادياً أسماءهم بأعلى صوته

 يصلّي كي ينطق من تبقى

غير أنه لا يخرج أحد.

الرجلُ الذي يستخدم يديه بدل المطرقة

ينبش الأرض بأظافره

يتضرّعُ إلى الموتى

يتوسّل إليهم أن يرجعوا.

حين تكتفي الريح من الإصغاء

تُعْول وتهبّ مبتعدةً

حينها، حتى المطر

يشعر بالعار من بقائه.

٢- الحرب على الأطفال

“هذه حرب على الأطفال”.

جيمس إلدر الناطق باسم الأمم المتحدة متحدثاً من جناح في مستشفى في غزة.

تتقدّم الجيوشُ

فوق الحليب الأسود والدم المسفوح.

يبكي أطفالٌ رضّعٌ

تحت الأنقاض ويفرُّ الناس.

تُعرّى أمهاتٌ

وتُقْحم أصابعُ في أعضائهن.

يُلفُّ آباء بالرايات ويُضْرَبون.

يُجْبرُ أطباء على السير على الماء

يُقتل أطفالٌ في حاضناتهم

يُقتل أشقاءٌ وشقيقات

وتتعفّن جثثهم في ضوء الشمس

حين لا يأتي أحدٌ كي يضع حدّاً للمجزرة.

تتدفق الأسلحةُ من الولايات المتحدة.

سياستنا موادّ لصناعة الأسلحة.

شهدْنا نهاية الأيام

وما من طريقةٍ كي نبعث المستقبل.

الأنهار تتدفّقُ داكنةً وحمراء من الدم

وما من مكانٍ نهرب إليه،

 أو نختبئ فيه

ما من طريقةٍ لإصلاح الريح المتكسرة

أو لإعادة الأطفال

كي نغنّي وندغدغ بشرتهم الناعمة التي كالعسل

حين لا يأتي أحد ليضع حداً للمجزرة.

نرى أجساد الأطفال

تُرْفَع محطّمةً من تحت الأنقاض.

نسمعُ أشخاصاً يتسوّلون شربة الماء

يصلّون للسلام،

لكن لا أحد يأتي كي يخفّف أحزانهم

ويحوّل أمنياتهم إلى خبزٍ

أو يروي ظمأهم الحارق

لإنقاذ أطفالهم من الدفن

لا أحد يتمرد

 ضد العرض المقيت لأكاذيب قديمة

تتقدّم عبر أخبارنا اليومية

وتزحفُ على شاشاتنا في الليل

كي تحتفي بدولارات جُمعت

وأذى أُلحق بالآخرين

حين لا يأتي أحدٌ ويضع حداً للمجزرة.

٣- درس لشرح المفردات

(إلى نعومي شهاب ناي)

نتعلّمُ اللغة في مركز العالم المحترق.

(السياسة، جريمة، صديق، عذاب، شظايا، دولة)

كلّ كلمة لطخةٌ لا نستطيع إزالتها

(بطل، قناص، شهيد، طاغية، سلطة، مصير)

هناك كلمات مجنونة، وأخرى مُهلكة وغادرة

وهناك كلمات كثيرة كاذبة.

(غريب، صاروخ، وطني، خصم، الآخر، نار)

إن نَحْو المأساة عظيمٌ، وإذا ما أصغيتَ

ستسمعه يتكسّر على الجدران

ويعاود ترتيب الجثث في جميع الأمكنة.

دَرْسُنا اليوم هو كلمة ”دبابة“.

 هل تعرفونها؟

Tank: الكلمة ذات المقطع الأحادي الثقيل

تمتلك شهية أسطورية

للموت وتقتلُ كل شيء

يقع في مدى بصرها.

تستهدف الجنود والأطفال والنساء والمعلمين

والطلاب والمزارعين، والأطفال

والناس بشتى أصنافهم.

هذا الاسم الذي لا يعرف الصفح

يتكاثر في جميع الأمكنة

ويفضّل أن يعمل في الشوارع

ليتمكن من استخدام خطمه القاتل والإجهاز على فريسته

دون أن يضطر لالتهام ما تبقى.

وكل ما يتبقى هو الشيء نفسه دوماً:

مرادف للأسى

وكلمة أخرى للكراهية.

٤- فن الحرب

حين جاءت الطائرات

كان قايين يستلقي في فراشه في البنسيون

 شبه نائمٍ ولم يحلق ذقنه بعد.

أنتم تعرفون المشهد،

أعرف أنكم تعرفونه،

ومطّلعون على خلفية الفيلم:

الغرفة القذرة بالأسود والأبيض

حيث كلّ الأغطية رطبة من الخبز المتعرّق

التلفاز مُدار، والسيجارة مُشعلة.

وحين بدأت القنابلُ بالسقوط

كان يقف عند النافذة

في الوهج الأحمر للصواريخ

والسماء مذهلة وملتهبة.

تعرفون الأغنية،

 أعرف أنكم تعرفونها:

الأطفال يموتون، هذه الجعجعة الفارغة.

النار تلتهم حقول القمح

الظلال تتقيّح في الشوارع.

لكن هذا هو قابيل، أتفهمون؟

الرجل نفسه الذي يحدّق بالأطفال وهم يحترقون،

ويركضون في عاصفة معدنية

صُنعت بلغةٍ

لم يتعلموها أبداً في المدرسة.

يتذكر فجأة

كيف سقط أخوه الأصغر هابيل تحت الضربات

قرب مذبحٍ دمويٍّ في يوم الأضاحي الكريه ذاك.

السماء فارغةٌ وصامتة الآن

آه، لكنّ جميع الأمهات يعرفْن

أن الموت قادم غداً إلى البلدة.

يقفْن خلف نوافذهن ويحدّقْن في الخارج

إلى الأشلاء وشظايا العظام، والبراز الدموي.

تعرفون المشهد:

 الرئيس، ثم بالطبع فواصل إعلانية

وفجأة ابن الإنسان

بوجهه المنهك منعكساً على لوح زجاج النافذة

يصيح بصوت مرتفع: ما الذي فعلتُه؟

ما الذي فعلته؟ 

ثم يكرر الصياح: ما الذي فعلته؟

٥- النظام العالمي الجديد

يتجلى جمال الأمم حين تكون النكهات كلّها محليةً،

 وتصبح الحياة لذيذة في جميع الأمكنة

إذا تُبّلت بطريقة ملائمة.

في اليونان، مثلاً، يمكن أن تشرب الريتسينا، وتتذوّق على شفتيك

أحجار التاريخ المرّة. يتصلّبُ لسانك كالفولاذ داخل فمك

وتشعر بأنك قادر على ممارسة الحب مع زوجتك

طوال الليل حتى الصباح.

أحجارُ اليونان نظيفةٌ وبيضاء،

لكن النبيذ الأحمر الداكن لبوجليا يجب ألا يُزدرى أبداً. فهو يمنح

فمك طَعْم الطمي

والشذى الأسود للتوت المسحوق.

لكلّ منزل سرّهُ،

 ولكلِّ أمةٍ متعتها:

الجوز الأرضي من السنغال

نبيذُ النخيل من غامبيا.

خيوط المعكرونة الفضية النحيلة والساكي الحارق من اليابان،

الشنكليش والمكدوس من قلب سوريا الجريح،

 أطباق المازة التي تُدْعى التاباس من أسبانيا

وخبز التشاباتي من إسلام آباد.

يجب أن تُزال الحدود اليوم،

على الفور،

وتحلّ محلّها قوائمُ طعامٍ بأطباقٍ محلية.

وفي هذا النظام العالمي الجديد

سنمدّ مائدةً مشتركة تحت قبة السماء

ونتحلّقُ حولها كأصدقاء وجيران

ونعدّ وليمةً عظيمة.

نحتفي بالصداقة أولاً،

نحكي قصصاً مدهشة بكل اللغات

عن أعاجيب عادية رأيناها.

نتقاسم كلّ ما أحضرناه،

 ونعتني بالجميع

مبتدئين بكبار السن ثم بالصغار.   

حينها كم ستبدو الحياة ثمينة لنا!

 كم ستبدو رائعة وعذبة!

وبعد العشاء نتذوّق أباريق متخمّرة

من شاي النعناع القوي،

ثم نجتمع معاً تحت النجوم

ونهدهد أطفالنا إلى أن يناموا.