تعنيف السوريّات في ظل قانون قائم على الدّين!

تعنيف السوريّات في ظل قانون قائم على الدّين!

أنظر إلى ابني الأصغر الذي لا يتجاوز عمره ثلاثة أشهر، وأفكر فيما واجهتهُ خلال الساعات الماضية فقط. كان شاهداً على نوبة جديدة من نوبات جنون زوجي الهمجية. زوجي الذي ضربني وطردني من المنزل برفقة أبنائي الاثنين، أكبرهما لم يتجاوز بعد عامه الثاني، هذا ما تقوله السيدة (ا.ع) من ريف دمشق لـ “موقع صالون سوريا”.

تخبرنا تلك الأمّ عن المعاناة التي تكابدها بينما تفكر في علبة الحليب التي لن تكفي أكثر من يومين، ثمّ؛ وبعد ذلك يجب أن تعود إلى جحيم الزوجية بسبب عدم قدرتها على إعالة طفليها، تقول: “الحليب مقطوع من الأسواق، ولو توفر فإن كلفته تبلغ حوالي 75 ألف ليرة سورية، ولا أملك منها حتى خمس ليرات!”.

ومع وجود صعوبات معيشية لدى عائلتها، يستحيل بقاؤها مع طفليها في بيتهم، على الرغم من محاولات الاحتواء والاحتضان التي يبديها الأهل، لكن هذه المرأة تشعر أنها تشكل عبئاً عليهم: “أدرك أنني سأعود إلى زوجي بسبب الحاجة إلى علبة الحليب تلك”. 

تخبرنا السيدة (ا.ع)، وهي في أواخر العشرينات اليوم، كيف درست في كلية التجارة والاقتصاد في جامعة دمشق، وتعرّفت هناك على زوجها من خلال أصدقاء مشتركين. وتؤكد في حديثها لـ “موقع صالون سوريا” أنها عاشت قصة حبّ جمعتها مع زوجها لسنوات “إلا أن ما حدث بعد الزواج لم يكن بالإمكان التنبّؤ به. عمل زوجي على عزلي عن أصدقائي، ثمّ دفعني لترك العمل من أجل الاعتماد عليه كلّياً من الناحية المعيشية. ربّما يُعتبر هذا السلوك أمراً عادياً بالنسبة للعديد من الأزواج، لكنّه في الحقيقة عبارة عن تكتيك يعتمده الشخص المُعَنّف للتأكد من أنّ زوجته لن تستطيع تأمين حياتها وحياة أبنائها خارج جدران سجنها المنزلي”.

تتالت الأيام ومعها تصاعد خطابه العنيف من سُباب وإهانة مستمرة، ثمّ تصعّد إلى عنف جسدي كبير، وقد يصل أحياناً إلى التهديد بالقتل! وفي كل مرة تخرج (ا.ع) من منزلها، تعرف أنّها ستعود بعد أيام، لأنها لن تستطيع العيش دون أطفالها الذين باتوا سلاح الابتزاز الأشهر في يد الزوج.

تقول: “لا أستطيع العيش دون أطفالي، مجرّد الفكرة تجعلني أتمنّى الموت قبل حدوثها. هذا ما يجعلني مستمرة في هذه الحياة رغم عدم وجود أيّة مقومات للحياة أصلاً”، وتضيف: حتى وإن قرّرت أن أترك زوجي، فإلى أين الرحيل؟ إلى أهلي الذين يعانون من أجل لقمة العيش؟ ومن سيحميني منه حين يحاول انتزاع أطفالي مني؟ بصراحة لا أثق بتنفيذ القانون الذي ينصّ أن لي الحق في الحضانة، حالياً، وذلك لأنّه -بحسب تجارب شاهدتها- يمكن تطويع القانون بالرشاوى.

وتختتم هذه الأمّ التي فطر الخوف على أبنائها، قلبها قصّتها وهي تؤكّد أنّ “مشوارها ليس سهلاً. إنّي أودّ تجنّب شرّ زوجي ليعيش أطفالي، ولست أعرف كيف يمكن أن أجد حلاً بعيداً عن ذلك الجحيم الذي يفترض به أن يكون جنّتي على الأرض..”.

ما البديل!

صدى قصة (ا.ع) يصل إلى مدينة حلب، حيث تأتي قصة السيدة (ك.ج)، التي تواصل معها “موقع صالون سوريا” للحديث عن تجربتها القاسية في العودة إلى زوجها بعد هجره لها لأكثر من عام بسبب التعنيف الذي تتعرض له.

تروي السيدة الثلاثينية (ك.ج) كيف عاشت مع زوجها لسنوات تتنقل بين المدن السورية بسبب ظروف الحرب والنزوح، في محاولة لإيجاد مدينة آمنة، لعلّهم يستطيعون بناء حياتهم فيها.

تقول: “مع مظاهر عودة الحياة إلى مدينة حلب، قرابة العام 2020، عدتُ مع زوجي إلى هناك، لكنّ طِباعه تغيّرت، وبات أكثر عنفاً وصداميّةً، حتّى وصلتْ به الحالة في أحد الأيام إلى طردي من المنزل مع ابني إلى الشارع، منتصف اللّيل دون أيّ سبب!”

وتشير السيدة (ك.ج) إلى الوقت العصيب الذي قضته في السفر من حلب إلى منزل أسرتها بريف دمشق، لتعيش معهم فترة انتظار زوجها أن يأتي، أن يرسل إليهم بعض المال على الأقلّ، لكنّ الأيام مضت ولم يعد الزوج، لأنّه قرر أن “يبدأ صفحة جديدة دون أن يكون لابنه وزوجته مكان فيها”.

تقول: “في تلك الأوقات كنت أعمل لساعات طويلة في عيادة طبيب، أنظّم المواعيد وبعض أعمال السكرتارية، لكنّ الراتب لم يكن يكفي سوى أجرة مواصلات! كنت أدور في حلقة مفرغة من العمل غير المأجور تقريباً، ناهيك عن الحالة التي يعيشها ابني بعيداً عن أبيه، وكذلك بعيداً عني-أحياناً كثيرة بسبب انشغالي بالعمل”.

وتضيف: “دفعني اليأس أخيراً إلى التواصل معه ومحاولة استمالته لإعادتنا. بالرغم من أنني لم أفعل شيئاً يتطلب عقابي أو نبذي أو حتى هجر ابنه بتلك الطريقة، وما صدمني حقاً أنه كان يريد الزواج بامرأة أخرى. تطلّب الأمر مني إقناعه حتى أعادني إلى هذا المنزل الذي لا أطيق العيش فيه مع زوج هجرني، وكاد أن يتزوج غيري. ما دفعني إلى العودة هو الحاجة المادية فقط، فأنا لا أحمل شهادة جامعية أو حرفة، وعشت أيامي إمّا معتمدة على عائلتي أو على زوجي، مادياً. ومع سوء الوضع المعيشي اليوم، بات من المستحيل استئجار بيت وتربية ابني وحدي، حاولت، ولم أستطع تأمين اللوازم الأساسية لحياتنا”.

وتختم السيدة (ك.ج) حديثها لـ “موقع صالون سوريا” بالقول: “لقد رأيت كثيراً من الفيديوهات والمنشورات على وسائل التواصل، عن سيدات يطلبن من النساء استجماع قوتهن والعيش بكرامة ورفض العودة إلى الزوج السيء، لكن ما تغفل عنه تلك الفيديوهات هو طرح ما هو البديل؟ كيف لي أن أعيش؟ لا يوجد منازل تقدم رعاية للسيدات الهاربات من العنف المنزلي أو المطلقات الباحثات عن فرصة ثانية بالحياة”.

تشكّل تلك القصص، جزءاً من آلاف السرديات الأخرى عن بلد نهشتها الحرب والفقر منذ سنوات، ولم يكن ازدياد حالات العنف الجسديّ والنفسيّ والجنسيّ ضدّ النساء، سوى أمر طبيعيّ في بلد يقبع أكثر من نصف سكانه تحت خطّ الفقر، بحسب تقديرات أممية. إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة التي دفعت بدورها لنمو العنف داخل الأسر السورية.

لقد تمّ توثيق نحو عشرة آلاف حالة عنف ضد النساء في سوريا عام 2022 منها ثلاثة آلاف حالة عنف جسديّ، إضافة إلى نحو ألف حالة اغتصاب أو محاولة اغتصاب وذلك بحسب تقديرات منظمة “العفو الدولية”.

 في وقت أشارت الأرقام الرسمية الصادرة عن “المركز الوطني للصحة والإحصاء في سوريا” أن 20% من النساء في سوريا تعرضن للعنف الجسديّ خلال حياتهن، و15% تعرضن للعنف الجنسي. بينما أشارت الأمم المتحدة إلى تعرض النساء والفتيات النازحات في جميع أنحاء سوريا للخطر بشكل خاص، لأن النزوح جعل النساء أكثر عرضة للعنف، بعد أن فقدن الكثير من وسائل الحماية التقليدية، مثل الدعم الأسريّ والمجتمعيّ.

ماذا يفعل القانون؟

وللوقوف على الجانب القانوني حول تلك القصص، تواصل “موقع صالون سوريا” مع رهادة عبدوش، وهي محامية سورية وناشطة في قضايا المرأة. والتي أخبرتنا بدورها أن السبب الأساسي في نمو تلك الظواهر هو “عدم قدرة القانون حالياً على حماية النساء وخاصة المعنفات، بسبب وجود الكثير من الفجوات التي تسهّل العنف وترسّخ التمييز ضدّ المرأة. لأن قانون الأحوال الشخصية مكتوب على أساس دينيّ (…) ويميز في العديد من مواده بين النساء والرجال”.

ومن بين تلك المفارقات القانونية تقول رهادة: “إعطاء الولاية للذكر فقط وليس للمرأة والطلاق بالإرادة المنفردة (الطلاق الإداري). إضافة إلى حرمان المرأة السورية من منح جنسيتها لأولادها، وزوجها. تزويج القاصرات، وواجب الطاعة المفروض على المرأة، وغيرها من المواد. كما تُعَاقَب المرأة بعقوبة أشدّ من الرجل في حالة الزنا، فيما يتمّ تخفيف عقوبة المغتصب في حال تزوج من ضحيته”.

وركّزت رهادة في حديثها على “فجوات قانون العقوبات السوريّ” التي يمكن استغلالها لترسيخ العنف ضدّ النساء وضمان استمراريته من قبل معنفيهم. تقول: “قانون العقوبات السوريّ لا يحتوي على قانون خاص يتعلق بالعنف الأسريّ أو مواد تحمي النساء منه، بالإضافة إلى عدم وجود بيت للحاضنة أو نفقة للأطفال ترعاها أو تشارك بها الدولة. إضافة إلى عدم وجود آلية تراقب إعطاء الإرث للنساء”.

وقد وجهّت رهادة مع العديد من الناشطات النسويات والحقوقيات، دعوات إلى سنّ قانون خاص بالعنف الأسريّ يحمي النساء ويسهّل آلية الوصول إلى النساء المعنّفات. وإيجاد أماكن أو منشآت خاصة لحماية النساء المعنفات، على أن تكون تلك الأماكن آمنة تشرف عليها الدولة والجهات المختصّة والمجتمع المحليّ.

مصادر:

  • الشبكة السورية لحقوق الإنسان: https://sn4hr.org/
  • منظمة العفو الدولية: https://www.amnesty.org/en/
  • منظمة هيومن رايتس ووتش: https://www.hrw.org/
  • منظمة الأمم المتحدة للمرأة: https://www.unwomen.org/
  • الأمم المتحدة: https://news.un.org/ar/story/2022/12/1116537
مهن نسوية ضد النمطية: معقبّات المعاملات مثالاً

مهن نسوية ضد النمطية: معقبّات المعاملات مثالاً

للحروب آثار كارثية على حياة البشر، لكنها كالسيل تجرف في طريقها مقومات القوة وكذلك مقومات الضعف، لدرجة تصل حتى حدود التغيير الجذري. وبالتحديد، يبرز التغيير واضحاً وغير قابلٍ للإنكارفيما يتعلق بالحياة الجديدة للنساء أثناء الحروب وبعدها. إذ غالباً ما تنتفض النساء على وقائع حيواتهن التقليدية ويباشرن الحضور في مواقع جديدة بفعل قوة الاحتياج أولاً وفي ظل غياب وتراجع سيطرة قوى مهيمنة تتحكم تاريخياً بتفاصيل عيش النساء.

ارتبط عمل النساء بعد الحروب بمفهوم الإعالة، فجأة أصبحت الكثيرات وربما الغالبية من النساء معيلات لأسرهن بعد وفاة الأزواج والآباء والأخوة وحتى الأبناء الكبار من ذكور العائلة، أو تغيبيهم أو هجرتهم أو إصابتهم بالعجز التام أو الجزئي عن العمل.

فوضى عارمة عمت في سوق العمل النسائي (إن صح التعريف)، تم تعميم قاعدة ذهبية وهي أن مجال العمل في البيوت كعاملات منزليات أو طباخات أو مقيمات للمرضى والمسنين مفتوح على مصراعيه أمام النساء ويستقبل كل النساء المعيلات أو المتعطلات ويؤمن لهن دخلا كريماً وكافياً، لكن الحقيقة بعيدة جداً عن هذه الفرضية العمياء والتعميمية. الأهم والأكثر إثارة للغضب، أنه تم تثقيل هذه الأعمال النمطية والملتصقة بواقع العمل النسوي ومنحها تراتبية عالية في سلم الأعمال التي تلجأ إليها النساء وخاصة بعد الحروب، لقد منحوها وصفاً عتيقاً ومغرقاً في ظلمه وتمييزه! “عمل شريف” وهذا أحد مكامن تحفيز النساء على اللجوء إليه وحده وحصرياً دون التفكير بأي عمل سواه.

وفي المقلب الآخر وحتى في السلك الحكومي، شهدت الأعمال النمطية والمغرقة في ثباتها كوظائف نسائية، تراجعاً كبيراً. فقد استقال عدد كبير من المعلمات والموظفات والممرضات، بمن فيهم حملة الشهادات العلمية العليا كالمهندسات، بسبب الهجرة أو النزوح أو تغيير أماكن السكن. وتناقص عدد الطبيبات بسبب خروج عياداتهن عن الخدمة أو بسبب تعذر الوصول إلى أماكن العمل. ولحق الضرر أيضاً بالسيدات صاحبات المشاريع الصغيرة لضيق سوق تصريف الإنتاج ولغياب الاستقلالية والخبرة التي تضمن استدامة العمل وعدم المتابعة مع النساء بعد انتهاء الدورات التدريبية وتقديم المنح.

تغير كل شيء، وفي كل تعمق أو تدقيق في المشهد العام نلحظ تغيراً حاداً علينا التقاطه. ومن هذه التغيرات الوجود الملحوظ لظاهرة جديدة هي مهنة تعقيب المعاملات. فمثلاً في بهو بلدية جرمانا، راقبتُ خمس سيدات امتهنّ هذه المهنة التي كانت مصنفة بأنها ذكورية وعصية وممنوعة على النساء. كانت هذه السيدات يتابعن تعقيب معاملات مكلفات بها من قبل أصحابها، ينبغي عليّ الاعتراف بأنني اليوم عرفت سرهن العظيم لأول مرة، العديد من المراجعين/ات لم ينتبهوا لهن، ظنوا أنهن مراجعات وربما موظفات، ربما لأن الجميع لم يتساءل عن مبرر وجودهن هنا، وربما لأن الغالبية العظمى لا تتخيل أن نساء قد انخرطن في مهنة تعقيب المعاملات.

 تقول إحداهن (و.س) وتبلغ من العمر اثنين وأربعين عاماً، وهي زوجة شهيد حرب: “فجأة وجدت نفسي امرأة وحيدة في مهب الريح، أنا وثلاث بنات، حاصلة على الشهادة الثانوية وبيئتي وعقلي يرفضون أن أعمل في الخدمة المنزلية، استعرضت كافة الأعمال النمطية المعروضة أمامي كامرأة، لكني رفضتها فوراً بمجرد مرورها أمام مخيلتي، فكرت بعمل خاص ومستقل يدر دخلاً كريماً وكافياً لأربع نساء يزداد احتياجهن مع الوقت ومع تضاعف  وتضخم الغلاء وصعوبة تفاصيل العيش اليومية.” وتتابع: “خضعت لدورة تدريبية وبعد الامتحان انتسبت لنقابة معقبي المعاملات.” تقول (و.س) أن عدد المعقبات في دمشق قد وصل لألفي امرأة، وأن اعدادهن في مدينة جرمانا لوحدها قد بلغ خمس عشرة امرأة.

تعتمد النقطة المركزية في اختيار هذا العمل على إرادة السيدات بأن يكنّ صاحبات عمل  ومستقلات ولديهن دخل يعتبرنه كافياً لإعالة أنفسهن وعائلاتهن، أو على الأقل أكثر وفرة من رواتب النساء الموظفات أو من العاملات في البيوت وفي قطاع الخدمات الهامشية وغير المحمية أو المسجلة في نقابات أو مؤمن عليها بشركات تأمين وخاصة لضمان حمايتهن من إصابات العمل وجور أصحاب العمل.

تعرفت إلى خمس معقبات معاملات، كلهن معيلات، زوجات وأمهات وبنات وأخوات لأفراد يحتاجون الدعم والسيولة، لكن التعامل معهن مختلف تماماً، حيث لا مكان للشفقة ولا للامتهان المباشر، اللافت أنهن متعاضدات ويساعدن بعضهن البعض.

شكت المعقبّة (ر.ع) من الرفض العلني لهن من قبل الموظفات بصورة رئيسية، ومن عدم تقبل وجودهن في الدوائر الرسمية، بسبب ترسخ الصورة النمطية أن تعقيب المعاملات مهنة ذكورية! مع أن إحدى المديرات الداعمات لهن أوضحت بأن عملهن متقن بشدة، وبأنهن أقل فجاجة من المعقبين الرجال وأقل ضجيجاً، كما أنهم لا يملن للتزوير أو الابتزاز ولا حتى للرشوة، إضافة إلى اهتمامهن الواضح بالصورة النهائية لكل معاملة وبرأي ورضا الموظفين والموظفات في الدوائر أو المكاتب التي يتابعن المعاملات فيها.

أجابت أصغر المعقبّات سناً (ل، ن) على سؤال رضا الأهل أو المجتمع عن هذه المهنة قائلة: “في البداية لم يعلم أحد بطبيعة عملي، أنا طالبة جامعية في كلية الحقوق، فمن الطبيعي أن الجميع معتاد على خروجي اليومي من المنزل خاصة وأني أعيش في بيئة اجتماعية ضيقة والجميع يعرفون بعضهم، مع الوقت شكت لي والدتي بأن البعض قد قال لها وفي تساؤل غير بريء بأنني أدور من مكان لآخر، وأن البعض قد رآني في عدة أماكن بصورة يومية، تخيلوا لم يسألني احد من الذين رأوني في عدة مراكز ودوائر أتابع فيها معاملاتي عن سبب وجودي هناك، رسموا سيناريو محدد (اتهامي بالطبع) لعجزهم عن تقديم أي إجابة عليه وتبادلوه ثم رماه البعض في وجه أمي.” وتضيف (ل، ن): “حين واجهتهم أمي بطبيعة عملي، اختلف تقييمهم، البعض هنأها على شجاعتي وتدبيري والبعض كرر أنها مهنة لا تليق بالنساء، أما الغالبية فقد باتت تلجأ لاستشارتي بقضايا تستلزم التعقيب والمتابعة.”

 لا تشكو المعقبات بشكل صريح من رفض معقبي المعاملات الرجال لتواجدهن في الدوائر والمحاكم، بل لاحظنا شكلاً من أشكال المساندة بين النساء والمعقبين الشباب خاصة وأغلبهم طلاب جامعيون ويعملون مستقلين أيضاً، أي أنهم لا يملكون مكاتب خاصة لتعقيب المعاملات،  لكن وفي الحقيقة ثمة صراع خفي بين المعقبّات وأصحاب المكاتب العقارية ومكاتب تعقيب المعاملات لأنهم يعاملون المعقبّات وكأنهن قد استولين على أرزاقهن. قال أحد أصحاب المكاتب العقارية صراحة شاكياً ظهور المعقبّات على ساحة العمل: “اتسلبطوا على شغلنا سلبطة!” وأضاف: “تعمل في مكتبي سيدتان، لكن مهامهما محددة، تصوير تنضيد، أرشفة، استقبال المراجعين ويكفي!”

ما بين تعتيم غير مقصود على دخول النساء معترك مهنة تعقيب المعاملات وما بين قبول ورفض إداري ومجتمعي واقتصادي ومهني لحضورهن المميز، تكرّ حبات المسبحة، وتنفرط العقد المتأصلة عقدة إثر عقدة، بحذر، برفض صامت أو بمواجهة معلنة، لا يهم، المهم أنهن هناك وفي كل مكان، قادرات ويملكن قرارهن، سعيدات تملؤهن الثقة والرضا ويملؤنا الأمل بوجود أوسع وأكثر فاعلية وقوة وتقبّل.

غابات سوريا في الزوبعة

غابات سوريا في الزوبعة

     ها هو البردُ يقترب في سوريا، ويشعر الناس مع اقترابه برعب كيانيّ، إذ سينتقلون من أعلى ذروات الحرارة في الصيف إلى أخفضها في الشتاء دون المرور بخريف حقيقيّ بسبب ما يجري من تغيُّرات مُناخيّة، وإذا لم يحضِّروا أنفسهم لمواجهة عواصف الثلج والزمهرير والصقيع، فستكون النتائج كارثيّة، وليس في وسع سكان المدن فعل شيء سوى انتظار حصصهم الشحيحة من مادة المازوت التي لن تكفي أكثر من أيام معدودات، فمن كان منهم مالكاً للمال يمكن أن يشتري المزيد من هذه المادة من السوق السوداء بأسعار مرتفعة جداً؛ أما من لا يملك المال فيجب عليه أن يتدرّب مع عائلته على ارتداء الملابس السميكة ولفِّ الجسم بالأغطية إلى أن ينقضي الشتاء، مُعَرِّضاً نفسه وأطفاله لأمراض من أنواعٍ مختلفة يزيدها هولاً ضعف المناعة بسبب سوء التغذية، علاوة على ما قد تتعرّض له العائلات من اضطرابات نفسيّة، تحديداً النساء والأطفال، بفعل الضائقة الشديدة التي تمر بها البلاد.

     لكن نجد اختلافاً في الموقف من هذه المعاناة بين سكان المدن وسكان الأرياف في سوريا، إذ إنَّ بعض سكان الأرياف أشدّ مراساً في مواجهة صعوبات الحياة في الشتاء من سكان المدن، ويبدو أنَّ بينهم رجالاً احتفظوا بجينات وراثيّة يمكن أن تحوّلهم إلى شخصيات مختلفة في أوقات المحن ليستعيدوا قدرة أسلافهم على مواجهة قسوة الحياة، إذ يخرج الكثير منهم في هذه الأيام إلى الغابات من أجل جمع الحطب، أو قطع الأشجار للحصول على مورد للتدفئة في هذه الظروف العصيبة، وتأمين مخزون يكفيهم الشتاء كلّه، وكأنهم يتحدون الطبيعة من أجل البقاء كما فعل أسلافهم من مئات السنين.

     ويمكن تحليل هذا الوضع من أوجه مختلفة: إذ إنَّ قطع أشجار الغابات من دون أيّ شك يتسبب في الاحتباس الحراريّ وهو ظاهرة مُناخيّة خطيرة تؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وإطلاق غازي ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرهما بكميات أكثر من المعتاد على نحو يفضي إلى نضوب المياه، كما يؤدي قطع الأشجار وإزالة الحِراج إلى نفوق الحيوانات البريّة، واتّساع رقعة التصحّر، علاوة على اتّجاه السكان على نحو حتميّ إلى الهجرة في المستقبل من مناطقهم بسبب تغيرات سلبية قاسية في العوامل المُناخيّة. ولا بدّ في هذا السياق من التمييز بين الأشخاص الذين يقومون بهذه الأفعال تبعاً لغاياتهم. ذلك أنَّ هناك أشخاصاً امتهنوا مهنة قطع الأشجار وإزالة الحِراج، لاستخدام أخشابها في البناء، او لبيعها كوقود (=فحم أو أخشاب مُقَطَّعة)، كما يمكن أن تتم إزالة الغابات أو البساتين من أجل الحصول على أراض صالحة للبناء من أجل السكن أو إنشاء المصانع أو المشاريع المختلفة، وهذا يجب مواجهته بكلّ الطرق المتاحة من أجل منع البلاد من الاتّجاه نحو الخراب الحقيقيّ.

     بيد أنّه ماذا يمكن نفعل أو نقول لقرويين فقراء يعيشون في أصعب الظروف وأقساها في تاريخ البشريّة، إذا قاموا بقطع الأشجار لتدفئة أطفالهم وشيوخهم ومرضاهم، فهل يمكن لنا أن نقنعهم بنظرياتنا عن الإيكولولوجيا والهيدرولوجيا وعلم الحفظ الحيويّ؟

   لا شك في أنَّ نظرات هؤلاء إلينا ستتحوّل إلى نظرات ازدراء، لأنهم سيتأكدون حينها من أننا سطحيون جدّاً لنقبل فناء الإنسان وبقاء الطبيعة، فما قيمة الطبيعة الخلّابة إذا كانت قبراً كونيّاً لأسمى الكائنات فيها؟

    لقد كان شعار الرواقيين كما كرّسه زعيم مذهبهم زينون الفينيقيّ-السوريّ هو “العيش في وفاق مع الطبيعة”، وهذا يعني أن يقبل الإنسان عن طيب خاطر كلّ ضربات القدَر بالمعنى الواسع؛ لكن شريطة أن يؤدي واجبه كاملاً في مواجهتها حتى لا تفتك به وتزيله من الوجود. وهذا ما يفعله أبناء سوريا في الوقت الراهن، فهم يواجهون القدر بمختلف معانيه، ويجب أن نعرف أنَّ القدَر بالمعنى الرواقيّ مختلف عن القدَر بالمعنى اللاهوتيّ أو الدينيّ. إنّه يعني كلّ ما يصيب الإنسان من مصائب مهما كانت أسبابها، لكن شريطة تقبُّلها ومواجهتها في آن واحد!

     وإذا مزجنا تجربة السوريين الحاليين بتجربة أسلافهم الفينيقيين الذين كان زينون نفسه واحداً منهم، لاكتشفنا أنَّ أشجار غابات فينيقيا لم تُقطع قديماً إلا لصناعة سفن مخرت عباب البحار لإنشاء مستوطنات على مختلف سواحل البحر الأبيض المتوسط، ولنقل أدوات التطور الحضاري وفي مقدمتها الأبجدية الألفبائيّة الصوتيّة إلى اليونان وروما ومنهما إلى سائر أنحاء أوروبا وأجزاء كثيرة من العالم.

     لقد كانت جبال الساحل السوري التي كانت تشمل تاريخيّاً جبال لبنان مغطاة بأعظم الغابات الغنية بالحياة البرية بمختلف أشكالها؛ لكنها الآن مع مجيء عصر العولمة تتحوّل إلى جبال جرداء مقفرة، أو إلى صُقعٍ بَلْقَعٍ على حدّ تعبير العرب القدماء حينما يصفون أرضاً خاوية من كلّ شيء.

    غير أنّه يجب فهم معاناة القرويين في هذه الجبال والتعمُّق في معاناتهم إلى أبعد حدّ ممكن، فقد تعاقبت أجيال عديدة منهم طوال قرون من أجل جعل هذه الجبال صالحةً للحياة الإنسانيّة، ولا يمكن إلا أن يشعر كلّ واحد منهم بألم كبير حينما لا يجد أمامه أي إمكانيّة للمحافظة على حياته وحياة عائلته إلا باللجوء لقطع أشجار لها رمزيّة كبيرة في عقولهم ونفوسهم، وكـأنّي بواحدهم حينما يضطر لقطع إحدى الأشجار يشعر بأنّه يجتثُّ ذاته من جذورها؛ ولكنه لا يفعل ذلك إلا مرغماً، وقد وصل الأمر بأشخاصٍ إلى حدّ قطع أشجار جوز أو مشمش أو زيتون محيطة بمنازلهم ويستفيدون من ثمارها، لأنهم يخشون من هول البرد القادم إليهم، على نحو لا تمكن مقاومته، فيُقدمون على قطع هذه الأشجار بعد إحجام، لكنهم يفعلون ذلك لاعتقادهم أنَّ بقاء أطفالهم أكثر أولويّة من بقاء الأشجار، ولا بدّ أن يأتي يوم في رأي هؤلاء يمكن فيه غرس الأشجار من جديد، أعني غرسها في تربة صالحة، غير هذه التربة الحالية التي أصبحت مَوْحِلاً للفساد الداخليّ والتآمر الخارجيّ بمختلف أشكالهما.

     وينطبق هذا الأمر على مختلف مناطق الغابات في سوريا، سهولاً وهضاباً وجبالاً وسواحل، وأعتقد أنَّ التنوّع الأنثروبولوجي الرائع في الشعب السوري تبعاً لتوزّع السكان في التضاريس المختلفة يحمل غنى إنسانيّاً لا مثيل له في التاريخ، فحتى التنوّع السكانيّ في الولايات المتحدة الأمريكيّة هو في العمق تنوّع مصطنع قائم على اجتماع أو جمع شعوب من مختلف أصقاع الأرض لتكوين أُمّة عالميّة؛ أما في سوريا فالأمر مختلف، فنجد طبيعة مخصوصة حتى على مستوى الشكل والهيئة والملامح واللهجة على نحوٍ يدلّ على غنى إنسانيّ عظيم؛ لكن أين من المشتاق عنقاء مُغْرب؟

     لقد دنَّست هذا التنوّع السوري العظيم العرقيّة والطائفيّة والحزبيّة، لكن رغم كلّ شيء يبقى كلّ سوريّ مشدوداً نحو ما أسماه الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر ببراعة كبيرة “نداء الأصول”. نعم إنَّ صوت النداء يتردّد في سمع كل سوريّ من أجل إعادة خلق سوريا من جديد. ولقد أبدعَ أنطون سعادة حين تحدّث عن أصل القوميّة، فأكّد أنَّ ما يحدّد الانتماء القومي هو “البريَّة”، ويقصد أنَّ البريّة أو أرض الغابات التي شاهدها المرء لأول مرّة في حياته هي التي توحّده مع أشخاص شاهدوا المنظر نفسه، ولا يجب أن يوحّده مع الآخرين، قوميّاً، أي عامل آخر، سواء أكان عرقيّاً، أم دينياً، أم لغويّاً.

    ها هي الآن تُقطع أشجار هذه البريّة السوريّة بعد أن اقتُطعت أجمل أراضيها سابقاً من المحتلين والمستعمرين، بسبب زوبعة مدمِّرة هائلة سحقت بعواصفها الرعديّة ورياحها الثلجيّة وأمطارها الغامرة كلّ شيء؛ لكن أفلاطون قال مرَّةً وبحقّ: “إنَّ كلَّ ما هو عظيم يكمن في الزوبعة”. وأراد من ذلك أنّه لن يبقى بعد الزوبعة إلا الأصيل والجوهري وسيتلاشى كلّ ما هو عرضي وعابر، لذلك مهما حدث ستبقى ماهيّة الشعب السوريّ خالدة، ولم يكن الفينيقيون السوريون القدماء إلا معلّمين لأفلاطون نفسه حينما تحدّثوا عن طائر الفينيق الذي سينبعث من رماده، ولن يتجدد طائر الفينيق وحدَه، بل ستتجدّد معه هذه الغابات ليحلّق فوقها مُطلقاً صيحة الرجوع.

الصديق العابر للقلوب: عن خالد خليفة وحب البلد والأصدقاء

الصديق العابر للقلوب: عن خالد خليفة وحب البلد والأصدقاء

على مدار السنوات الماضية، فقدنا الكثير من الأحباب، الأصدقاء والغرباء أيضاً. حتى اللحظة لم أشعر بغياب أيّ منهم، فهم يأتونني في مناماتي المشربكة جداً، ينسجون وإياي سيناريوهات متقنة لأحداثٍ يلعبون دور البطولة فيها. أستيقظ من النوم ورائحة كل منهم تخز أنفي وتبقى عالقة في مسامات جسدي. في أحد مناماتي، أرسلت إلى صديقي المقرب جداً أخبره بأنني رأيته اليوم ينقذني من رصاصة كانت عالقة في رقبتي، فأخبرته: “تخيل بأنني لم أمت، كنت ُ في إحدى المظاهرات فهاجمنا الرصاص من كل حدب وصوب لتستقر طلقة في رقبتي”. الغريب في الموضوع أنني لم أرَ دمي في المنام، هذا فأل سيء، “الدم يفسد المنام” هكذا كانت والدتي تطمئنني عندما أستيقظ هلعة. إلا أنني في منامي هذا كدت أختنق حتى الموت، وعندما استيقظت شعرت بانحلال في الاعصاب، وخدر في اللسان.. اكتمل يومي وأنا لا أشعر بجسدي، وحتى هذه اللحظة أحس بخدر الموت والطلقة المستقرة في رقبتي ما زالت تخنقني. بحتُ لصديقي بأنه كان المطمئن هذه المرة في المنام وليست أمي! منذ تلك اللحظة التي سمعت فيها رشقات الرصاص تصمُّ أذني وأنا خائفة من خبر يفزعني، فصوت الرصاص في المنام يترجمه الواقع بخبر وفاة، وهذا أيضاً ما باحت به والدتي وهي تضع يدها على فمها لإسكاتي: “يا قلبي لا تخبري أحداً عن أحلامكِ السيئة، فعند رويها على مسامع الآخرين فأنتِ تثبتينها في عالم الحقيقة”.

هكذا إذا يا خالد، أنت من كنت المخصوص بالحلم، وتلبستك ترجمته!

نادمة على سردي لذلك الحلم اللعين، والذي حتى اللحظة لم أستفق منه..

في نفس اليوم الذي رحلت فيه يا خالد كنا نراسل بعضنا البعض في تمام الساعة 1.11، أخبرتني كم أنك مشتاق لنا وأصبحت بالشام، وبعد فترة سوف تذهب إلى دبي لتحصل على الإقامة “التنكية” حسب اصطلاحك، عندها يمكنك القدوم إلى بيروت والبقاء مطولا دون شروط الأمن العام القذرة وتحديدهم لزمن وجودك معنا. تخيل أننا في بلاد لا تعرف قيمة الإنسان ولا تحفظ كرامة الكتاب والعمال والباحثين والهاربين من الموت، في كل يوم يخرجون إلينا بقرار يجعلنا نعود إلى ذاكرة الأفرع الأمنية التي لم نخرج منها أصلاً. أستعيد ذكرى أحد الايام التي أعادوك فيها من مطار رفيق الحريري لأسباب تافهة جداً، عدت مخذولاً ولم تساومهم أو تحاول معهم لأنك على علم بأنهم سيعقدون الأمر أكثر.

تعارفنا لم يكن منذ زمن بعيد، تعرفت عليك في محاضرة مهمة بعنوان “التحولات المعمارية لمدينة دمشق” في حركة البناء الوطني، على الرغم من أننا في وقت سابق لهذه المحاضرة كنا نلتقي كثيرا لحضور العرض السينمائي في المكان نفسه، إلا أنني كنت أخاف أجواء الفن والمثقفين، جئت إلينا، كنت أنا وأحد أصدقائنا، سلمت بيديك المدببتين وكانت تلتصق برقبتك كتلة دهنية، شرعت بفتح حديث سريع ونظرت إلي وسألتني: “أشعر بأنك لا تحبينني”، حينها كدت أموت خجلاً، فأجبتك: “لا الموضوع ليس على هذه الشاكلة ولكنني لا أرتاح لأجوائكم”، وسألته عن الكتلة التي على رقبته فغير الموضوع وفتح آخر..

منذ تلك اللحظة نشأت بيننا صداقة عميقة اختصرت سنيناً طويلة، وبدأت مرحلة جديدة في حياتي التي كانت حينها متجمدة بعد استقالتي من المديرية العامة للآثار والمتاحف. طوال تلك السنين تحمّلت جرمانا التي ضمت أغلى الأرواح على قلبي، ونادي السينما أعباء الوحدة والمنفى داخل البلاد التي نحب

أكثر ما يميز خالد هو ذكاؤه بفتح الأحاديث والمواضيع التي تعني من يجلس معه، ففي بداية صداقتنا جلس يحدثني عن عفرين، وقتها سألني: هل أنتِ من هناك قرأت لك مقال عن آثارها، أجبته بـ”لا، ولكنني من عشاق تلك الجغرافيا”. جرى نقاشٌ مطوّل عن مشاريع مؤجلة توثق تاريخ ذلك المكان وتصف بقاعه وروعة أهله. أتى من أحدثه عن الفطور من تحت سواعد العم أبو إسماعيل وهو يجلب لنا الزيتون المعشق بالزعتر البري والزيت العفريني، وأنا أرتشف مشروبي أخبرته: “من لم يتذوق الزيت والزيتون العفريني خسران كتير”.

برقت عيناه وأخبرني عن فيلم وثائقي كان قد أعده للتلفزيون السوري يتحدث عن تأريخ جغرافي لتلك المنطقة ومقابلات مع سكانها ليتحدثوا هم بأنفسهم عن ضيعهم وجمال الطبيعة المعكوس في طيبة أرواح أهلها.

يميز خالد الكثير من الأشياء، إلا أن أهم خصاله تبسيط الحدث أو القصة ورويها بأسلوبٍ مشوّق وبأرق الكلمات وأبسطها، يجذب من حوله بسوالف لا تنتهي، كنت أعود من جلساتنا المسائية في “القصبجي” مفعمة بالطاقة، المكان الذي يحب والذي تفاجأ جداً بأنني لم أسمع به مسبقاً، أنبني وقال: “أنتِ آثارية ما بصير ما تعرفي مقاهي البلد الأصيلة”. صحيح جداً تأنيبه هذا، فدائما ما تشدقت بأن المقاهي هي ذاكرة البلاد ووثيقتها الأساسية، إلا أنني اكتشفت حينها بأنني أجهل الكثير عن المباني المعمارية الرمزية التي تعد الركن الأهم في الذاكرة الشعبية.. التأنيب الآخر الذي حظيت به من خالد، عندما شاركت بأمسية “حكايا الصور” -الفعالية الأهم على الإطلاق عندما انتهيت من حكايتي، جاء دور خالد في الحديث: “هذه ليست بالقواعد الصحيحة للحكاية أو القصة عليكِ أن تتجردي من التورط بتعريف المحيط بتاريخ البلاد وأهميتها، شطحتي جدا في وصف الآثار والتاريخ، فورطي من حولك ببذل مجهود كبير في التركيز في عتبات الحكاية”.

هذا أيضاً أكثر ما يميز خالد وجوده في كل الأوساط، يشعر بأنه ملزم ومسؤول أمام هذه الفعاليات التي يغيب عنها عادة الروائيون والمثقفون، بينما هو كان يقحم نفسه فيها فنجده دوما بقربنا يقدم النصح والنقد اللاذع دون سماحه لأواصر الصداقة بأن تسرق جزءا من ملاحظاته.

في كل يوم أحد، نأتي إلى النادي السينمائي المكان الذي استقطب إليه جيلاً جديداً، استيقظ على عتبات الحرب وفقدان معاني الحياة الطبيعية، القذائف تشتعل خارجاً ونحن في قبوٍ يعرض موسيقا أفلام الحروب، ولكن بنبرة مخففة لما يجري خارجاً. استطاع النادي السينما أن يركز على عرض الأفلام التي تعرض ويلات الحرب، ولكن بأسلوب خال من الدماء والوحشية، التركيز على ملامح البشر، المعاناة الحقيقة للخارجين منها، كان الجو يلتهب تارة ويشتعل طوراً بمشاهد وحشية وإنسانية تفرزها المجزرة وغريزة البقاء المشبعة بما نعيشه.

رافقنا خالد طوال يوميات السينما، ورافقناه نحن في المشوار المسائي بعد نشاط السينما، حيث تبدأ رحلة الهزل والضحكات العالية التي تنزع صمت المدينة من كبوته، يخلع في مكاننا-في شارع بغداد سابقاً، والقصاع لاحقاً جديته ليرتدي ثوبا مزركشاً بالرقص وإلقاء الخطب على الجمهور.

عندما قرأت رواية “لم يصلِ عليهم أحد” أرسلت له ملف word يحوي رأيي بالرواية، احتوى الملف الكثير من الأشياء التي احببتها والقليل القليل من التفاصيل التي لم أستسغها، فأخبرني حينها “ختومة بدك حطها على صفحتي أو تنشريها بشي مكان”، أخبرته بأنني أفضل أن يبقى الأمر بيننا، فأنا لا أعرف التحدث على العام بشأن من أحب.

عند انتقالي إلى بيروت لم ينقطع تواصلنا مطلقاً، يفتح أسبوعيا تقريباً فيديو للسهرات ويخبرني بأنهم يفتقدونني ويدير الموبايل على المجموعة التي أحب.. لا أقوى على كل هذا الحب..

محظوظون بأن خالد كان قبل كل رحلة إلى الخارج يأتي إلينا، ويبقى ليلة أو ليلتين، كنا نشعر بالامتنان كوننا محطته التي تجعلنا نراه ولو قليلاً، يأتي محمّلاً بأخبار من نحب ورائحتهم التي تزكي بيتنا، فنبقى أياماً وليالي نستحضر أحاديثه ونضحك من قلبنا، فخالد لا يعرف سرد المأساة بحذافيرها، بل يضفي عليها خلطته الساخرة وضحكاته التي تخفي شرح عينيه المشعتين حتى وهما مغلقتان. وكان لنا نفس الجمعات عندما يحين موعد عودته من الخارج يأتي وفي جعبته العديد من السرديات والحكايات المضحكة والمضحكة حتى التخمة. استمرت إحدى حكاياته تدور في الأرجاء وتنتشر زمناً كاملاً، والتي تروي تفاصيل مترجمته التي صدم عندما اكتشف بأنها السيدة الأولى، ليخبرها ماذا تفعل سيدتنا الأولى في بلدنا.

تاريخ كامل سيطوى بالنسبة لي برحيل خالد، فقط لأنه يعرف كيف يحب، لقد أتقن فعل الحب بشكله العميق والمباشر، احتفى بأصدقائه جل الاحتفاء، في إحدى زياراتنا مع أحباب قلبي إلى شاليه خالد، أخبرني بأنه يريد أن يجعل من غرفة الأصدقاء أجمل من غرفته.. “هم أغلى ما يوجد لدي”، لن أنسى مقدار الدلال الذي حظينا به ثلاثتنا في شاليه “الندم” حسب تسميته.

مرت سنوات الحرب وكان مرورها قاسياً جداً، أنعش الأصدقاء الأغلى من الروح يومياتها وصعوباتها التي كانت تأتينا بحلة مختلفة عن السابقة لنا، تعرقل أنفاسنا فنعجز عن مجابهتها فنهرب إلى باحة القلوب المتعبة إلا أنها الأجدر بالمواساة وامتصاص فعل الغصة والحرقة. خسرنا الكثير من الأحبة وكنا نتجاوز الفاجعة بسهراتنا وجمعاتنا الغالية. لم أنعِ رحيلهم يوماً باستثناء رحيل واحد منهم، شكّل رحيله نقطة انعطاف في حياتي. بتّ على يقين بأن من يرحل يأخذ جزءا من قلوبنا، لا يتركها وحيدة يسكن بقاعا داكنة، فيأتي إلينا في أحلامنا ليخبرنا بأنه معشش في منزله الملون بذكرياتنا معاً

حرقة كبيرة هذا الفقد.. إلا أنه فقدٌ غريبٌ من نوعه، فمنذ خبر الوفاة وأنا لا أتقن إلا فتح ملفات الصور والبحث عن يومياتنا وضحكاتنا، فأعيد فعل الضحك كما لو أنني أعيش المشهد ذاته، وهذا ما يتميز به خالد أيضاً يجبرنا على الضحك حتى في أقسى اللحظات.

لم أتوانَ يوماً عن الإفصاح عن مشاعري تجاه أصدقائي، فهم أغلى الموجودات في هذه الحياة البائسة، وجودهم أضفى جمالاً لا يحظى به أي إنسان، ولطالما أخبرت من حولي بأن الحياة جبرت بخاطري بأنها كللتني بأصدقاء هم ليسوا بالأصدقاء هم الحياة بكل تفاصيلها، والروح ترخص لهم. وهذا ما كنت أبوح به لخالد دوماً، أخبره كم أحبه وكم وجوده جميل في هذه الحياة، كان يخجل ويرد بابتسامة تلتصق بخدين محمرين، فأقول مستهجنة: “لااا آخر ما أتوقعه بأنك تملك حس الخجل، غريب هذا الفعل عنك”.

فيعود لطبيعته ويخبرني: “ختومة وأنا بحبك وأنتوا أكتر شي بحبه وبحتفي فيه”.

نهايةً لا أعلم إن كان لزاماً علي أن أذكر بأن هناك أمانة تثقل كاهلي “مخطوط روايتك” المقبل الذي كنا سنفرد اتصالاً طويلاً لأجله، لقد تركت لدي هذا الأثر الذي لازال ينبض وفي طور الخلق، ماذا سأفعل به الآن!

*الصورة من تصوير أحمد حسن.

ذاكرة الناس تُباع في الأسواق السورية

ذاكرة الناس تُباع في الأسواق السورية

 قبل عام 2011  كان الاقتصاد السوري من أكثر اقتصادات الدول النامية تنوعاً، حيث كانت سوريا تنتج أكثر من 80% من غذائها وأدويتها وتُصدر الفائض منها إلى أكثر من 60 دولة، كما كانت من بين البلدان الخمسة الأولى عالمياً في إنتاج القطن وتربية الأغنام والأبقار، ويترواح إنتاجها من الحبوب بين 3،5 إلى 6 ملايين طن سنوياً، وهو ما يزيد عن حاجة السوق المحلية، فيما يصل إنتاجها من النفط إلى حدود 45 ألف برميل يومياً، هذا إلى جانب أنها كانت قبلة لملايين السياح من حول العالم، إذ وصل عددهم عام 2010 إلى أكثر من 8 ملايين سائح. 

ذلك الاقتصاد، الذي لم تُبق منه الحرب وتبعاتها  أي شيء يُذكر، بات اليوم يحتاج إلى معجزة لكي يتعافى، وذلك في ظل تراجع حجم الإنتاج المحلي في شتى المجالات، خاصة الإنتاج الزراعي والصناعي، وتراجع حجم الصادرات بشكل كبير، وغياب الاستثمارات، هذا إلى جانب توقف مئات المصانع والمعامل عن العمل، وهجرة آلاف الصناعيين -الذين نقلوا أعمالهم إلى الخارج- وأهم الخبرات والكفاءات الاقتصادية ورجال الأعمال والأيدي العاملة الماهرة.

ورغم أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد مستمر منذ سنوات وبشكلٍ متصاعد، أدى لانحسار وجود الطبقة الوسطى وازدياد نسبة طبقة الفقراء، إلا أن ما جرى خلال الشهرين الماضيين كان الأشد قسوة على معيشة الناس، مقارنة بسنوات الحرب وما بعدها، حيث  تصاعد سعر صرف الدولار من 7 آلاف ليرة إلى أكثر من 14 ألفاً، علماً أن سعر الدولار  مقابل الليرة قد تضاعف بنحو 280 ضعفاً بين عامي 2011 و 3023، فيما وصلت معدلات التضخم، وفق بعض المصادر، إلى 16137،32 بالمئة مع بداية العام الحالي. وفي ظل ذلك كله، أصبح اليوم متوسط دخل الموظف الحكومي أقل من تسعة دولارات، وهو يكفي فقط لشراء ثلاثة كيلو لحم فروج، أو 6 كيلو أرز، أو 6 كيلو عدس، أو أربعة ليترات زيت نباتي من أسوأ الأنواع، فيما لا يكفي لشراء كيلو لحم خاروف.

وبحسب بعض الدراسات الحديثة باتت الأسرة المكونة من خمسة أفراد تحتاج اليوم إلى نحو 6.5 مليون ليرة  لشراء متطلبات المعيشة الأساسية، ووفق بعض التقديرات المتعلقة بمستويات المعيشة الحالية فإنه يجب أن يتجاوز دخل الموظف الحكومي الستة ملايين ليرة شهرياً لكي يقترب من حجم القوة الشرائية لعام 2010.  وبالنظر إلى حجم دخله الحالي سيحتاج الموظف الحكومي اليوم، إذ ما ادخر كامل دخله الشهري، إلى نحو 150 عاماً (قرن ونصف) ليتمكن من شراء بيتٍ في مناطق العشوائيات، فيما سيحتاج إلى أكثر من ست سنوات ليتمكن من شراء برّادٍ منزلي، علماً أن سعر البرّاد (متوسط الجودة) حالياً يعادل سعر ثلاثة شقق سكنية في ريف دمشق عام 2010. 

ورغم أن القدرة الشرائية معدومة أصلاً عند معظم الناس، بعد أن تضاعفت أغلب الأسعار نحو 161 ضعفاً  بين عام 2011 وبداية عام 2023، إلا أن قفزات أسعار السلع الأساسية تتالت خلال الأسابيع الماضية لترتفع إلى أكثر من 70 % وتزيد من مأساة وأوجاع الشعب المهدد بلقمة عيشه.

هذا الواقع جعل عائلة الموظف عدنان (45 عاماً)، التي لجأت لسياسة تقشف مالية قاسية، تتخلى عن معظم عاداتها المعيشية بما فيها طقس شرب الشاي، وعن ذلك يحدثنا عدنان: “منذ سنوات اعتدت وعائلتي شرب الشاي ثلاث مرات يومياً، لكن هذا الطقس بات يكلفنا اليوم كامل دخلي الشهري (115ألف ليرة) من وظيفتي الحكومية، فهو يحتاج شهرياً لأربعة كيلو سكر (حوالي 65 ألف ليرة) ونحو 400 غرام شاي (60ألف ليرة)، لذا تخلينا عنه واستبدلناه بشرب النعناع -الذي نزرعه على الشرفة مرة واحدة يومياً مع إضافة بضع ذراتٍ من السكر في حال توفره”.

وإلى جانب عمله الوظيفي يعمل عدنان في المساء ولنحو ثماني ساعات سائقاً لسيارة أجرة، لكن عمله هذا لا يلبي ربع الحاجات المعيشية لعائلته، حيث تراجع دخل تلك المهنة بشكلٍ كبير، نتيجة شراء الوقود من السوق السوداء وارتفاع تعرفة النقل التي بات معظم الناس يعجزون عن دفعها.

وبالإضافة لمشروب الشاي، أصبحت القهوة، التي تُعد من أهم المشروبات اليومية، تغيب عن بيوت كثير من الناس، الذين باتوا يشربونها بتقشفٍ شديد، ويشترونها بكمياتِ قليلة قد تقل عن 100 غرام، حيث وصل سعر كيلو القهوة الجيدة إلى ما بين 130 و 160 ألف ليرة. وقد انتشرت في الأسواق بعض أنواع القهوة المغشوشة التي يضاف إليها مواد أخرى، مثل نواة التمر والقضامة والخبز اليابس، وذلك في محاولة لتخفيض سعرها (سعر الكيلو أكثر من 80 ألف) الذي بقي مرتفعاً ولا يتماشى مع القدرة الشرائية للفقراء.

سوء التغذية يهدد صحة الناس 

بحسب أحدث تقارير برنامج الأغذية العالمي فإن أكثر من نصف سكان سوريا يعانون اليوم من انعدام الأمن الغذائي، وهو ما وضعها في صدارة البلدان التي تواجه أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم، ما يعني أن معظم الناس باتوا يعانون من سوء التغذية الحاد، الذي يجعلهم عرضة للعديد من الأمراض مثل فقر الدم، الكساح، هشاشة العظام، الاكتئاب، تضخم الغدة الدرقية وضعف المناعة، كما يؤثر بشكل كبير على صحة النساء الحوامل والمُرضعات وعلى نمو الجنين، ويهدد الصحة الجسدية والنفسية للأطفال الذين سيكونون عرضة لأمراض الهزال والتقزم، إلى جانب الإعاقات العقلية وصعوبات التعلم.

ولأن 90 % من الناس يعيشون  اليوم تحت خط الفقر، فإن معظمهم باتوا محرومين من تناول أبسط الأطعمة الصحية، التي يحتاجها الجسم السليم، خاصة اللحوم الحمراء (كيلو لحم الخاروف 130 ألف ليرة) ولحم الفروج (الكيلو بين 30 و50 ألف ليرة)، وقد باتت محلات بيع اللحوم تقلل من حجم الكميات المعروضة للبيع خوفاً من تعرضها للتلف، بعد تراجع نسبة الإقبال على شرائها، فيما غاب الفروج المشوي عن معظم المطاعم، لينحسر بيعه في أماكن محددة بعد أن تجاوز سعره السبعين ألف ليرة. وبينما كان بعض الناس يستعيضون عن تناول الأسماك (سعر كيلو السمك البحري بين 70 و200 ألف ليرة) بتناول السردين المعلب، فإن هذا الأمر لم يعد متاحاً اليوم، بعد أن وصل سعر علبة السردين إلى10 آلاف ليرة، وعلبة التونة إلى 20 ألف ليرة.

وإذا كان بعض الفقراء قد استبدلوا اللحوم بالبقوليات والحبوب، التي تمد أجسادهم ببعض القيم الغذائية، فإن الكثير منهم باتوا اليوم عاجزين عن شرائها، حيث وصل سعر كيلو العدس إلى عشرين ألف ليرة، والبرغل إلى أكثر من 12 ألف ليرة، والحمص إلى 15 ألف ليرة، فيما تجاوز سعر كيلو الفاصولياء اليابسة الـ 25 ألف ليرة. وفي المطاعم الشعبية التي كانت قبلة الفقراء، وصل سعر صحن الفول أو الحمص إلى 10 آلاف ليرة، وسعر الكيلو من تلك المادتين (مع إضافة صلصة اللبن أو الليمون والثوم) إلى 20 ألف ليرة.

أما الخضار والفاكهة فقد غادر بعض أنواعها موائد الكثير من الفقراء، فعلى سبيل المثال وصل سعر كيلو الفاصولياء الخضراء والبامية إلى نحو 15 ألف ليرة، وتخطى سعر الليمون  حاجز العشرة آلاف ليرة، فيما تراوح سعر بعض أنواع الفاكهة، كالخوخ والإجاص والتفاح والعنب، بين 8 و12 ألف ليرة. أما الكرز والتين والموز، التي وصل سعرها إلى 20 ألف ليرة، فقد باتت تتواجد في الأسواق بكميات قليلة وتباع في بعض المحلات التي يرتادها الزبائن الأثرياء.

ويعود ارتفاع أسعار الخضار والفاكهة غير المبرر، إلى مجموعة عوامل منها: ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وتكاليف النقل بين المحافظات، صعوبة توفير المحروقات وارتفاع أجور العمالة، وانتشار أزمة المياه، التي أجبرت كثيراً من الفلاحين على شراء صهاريج الماء بأسعار كبيرة، هذا إلى جانب فتح أبواب التصدير الذي ساهم بارتفاع الأسعار محلياً، فعلى سبيل المثال وصل سعر كيلو الثوم بعد تصديره إلى 25 ألف ليرة، وهو ما حرم معظم الناس من شرائه بغرض المؤونة.

بيع الممتلكات لتأمين لقمة العيش

” خلال العام الحالي بعتُ كل ما تملكه زوجتي من مصاغٍ ذهبي، في محاولة لمقاومة الفقر وتأمين لقمة عيشنا، فالبقالية التي أعمل بها منذ سنوات لم تعد تحقق أية أرباح تذكر ولا تعود عليَّ سوى بمزيدٍ من الخسائر، في ظل ارتفاع الأسعار- الذي قلص حجم رأس المال وتراجع القدرة الشرائية. وخلال الشهرين الماضيين، ومع تدهور الأوضاع المعيشية بشكل غير مسبوق  وصعوبة إيجاد عملٍ بديل يحقق أبسط متطلبات المعيشة، أُجبرت على بيع خاتم زواجنا الذي لم يُغادر إصبع زوجتي طوال عشر سنوات”. هذا ما يقوله خليل (45 عام/ أب لثلاثة أبناء) عن واقعه المعيشي الذي استهلك جميع مدخراته، مضيفاً بحسرة وألم: ” في الأسبوع الماضي وبعد عجزي عن دفع إيجار البيت (400 ألف ليرة شهرياً) لمدة شهرين، اضطررت لإعطاء صاحب البيت  بعض الأثاث المنزلي (تلفاز، أسطوانة غاز، مروحة، خمسة كراسي بلاستيك) كتعويض عن مبلغ الإيجار”.

  خليل هو واحد من آلاف الناس الذين أجبرهم تردي الواقع المعيشي على بيع مدخراتهم وأثاث بيوتهم. ففي محلات بيع الأثاث المستعمل ستشاهد المفروشات والخزائن وأدوات المطبخ والقطع الكهربائية تتكدس فوق بعضها بشكل يفضح حجم الألم، وكأن ذاكرة الناس تباع في الأسواق. ويحدثنا أبو معتز (54 عام/ صاحب محل لبيع الآثاث المستعمل) عن طبيعة مهنته في ظل الظروف الحالية: “فيما مضى كان الناس يبيعون بعض الأثاث القديم (خزائن، أَسرَّة، كنبايات، برادات وغسالات) بغرض استبداله بأثاثٍ جديد، أما اليوم فقد بات الكثير منهم يبيعون كل ما يمكن بيعه، بما في ذلك الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها. فإلى جانب المفروشات والكراسي وأسطوانات الغاز والأدوات الكهربائية (خلاط، مكنسة ، مروحة ، مكواة.. الخ) يضطرون لبيع البطانيات والطناجر والصحون والفناجين وجميع أدوات المطبخ”. ويضيف “كل يوم يأتينا من يعرض أغراضاً يُمكن بيعها مباشرة أو وضعها برسم البيع، حتى ولو حصل على ثمنها بالتقسيط. وقد استغنى كثير من الناس عن بعض القطع الثمينة (أطباق القيشاني والخزف، النحاسيات، التحف والأنتيكا وغيرها) التي كانوا يفاخرون باقتنائها، كونها تحظى بقيمة فنية أو أثرية، ليبيعونها بأثمان بخسة لا تراعي قيمتها”.

 وإلى جانب بيع المدخرات والأثاث المنزلي يضطر بعض الناس لبيع ثيابهم وأحذيتهم، التي كانوا يوزعونها على الفقراء فيما مضى، إلى محلات البالة وبسطات بيع الألبسة، التي صار بعضها يعتمد على البضائع المحلية المستعملة، بعد ارتفاع تكاليف استيراد الثياب الأوربية وارتفاع أسعار بيعها في الأسواق وعجز كثير من الناس عن شرائها.

هل هناك حلول؟

عند سؤال البعض عن الحلول الاقتصادية الممكنة في سوريا وكيف ينظرون إلى المستقبل، أجاب معظمهم  بكلمات مقتضبة، سوداوية وتشاؤمية، أو تحمل طابع السخرية المفرطة. المهندسة المعمارية نسرين، التي عجزت عن تكوين تصور واضح لأي حلٍ يمكن أن يضع حداً لتردي الواقع المعيشي، اكتفت بتوصيف معاناتها طيلة السنوات الماضية: “حين بدأت الحرب في سوريا كنت في الخامسة والعشرين من عمري، اليوم أصبح عمري  37 عاماً، المرحلة الذهبية من شبابي ضاعت وأنا ألهث باحثةً عن فرصة عملٍ مناسبة وعن تأمين أبسط متطلبات المعيشة ومقومات الحياة البشرية. نفذ صبري في انتظار أمل ما أو حلٍ لا يبدو أنه سيأتي قريباً، حتى صرت أشعر بالكره تجاه هذه البلاد وأحقد عليها”.

من جهته يرى الفنان التشكيلي منيار (34عام) أن تحسن الواقع المعيشي بات مستحيلاً في الأمد القريب، وسيزداد سوءاً مع قادم الأيام، في ظل غياب جميع مقومات الاقتصاد. ويضيف: “يجب على العالم ومنظمات الأمم المتحدة إيجاد حلٍ يوقف مأساة  الشعب السوري، وهذا الأمر يحتاج إلى حل سياسي ينهي وجود القوى الخارجية في سوريا، ويتيح إمكانية البدء في إعادة الإعمار وترميم البنى التحتية و فتح أبواب الاستثمارات”.

منيار الذي حرمه واقعه المعيشي من تحقيق حلمه الفني، ينتظر وعائلته بيع بعض ممتلكاتهم(منزلٍ أو قطعة أرض) لجمع مبلغ مالي يساعدهم على السفر نحو الخارج.

قبل أيامٍ قام جاري ببيع منزله، الذي بناه وأثَّثه بعناية فائقة، بنصف سعره الحقيقي، ليسافر مع عائلته إلى أربيل على أمل مغادرتها فيما بعد نحو أوروبا. ورغم أن جاري يُعد من ميسوري الحال، إلا أنه عجز عن مواصلة العيش في هذه البلاد، التي رفض مغادرتها طوال سنوات الحرب، رغم الخطر والموت، إذ كان يعشق دمشق بشكل جنوني ويشعر بانتماءٍ كبير نحوها، لكنه غادرها اليوم، وهو على أبواب السبعين من عمره، دون أن يشعر بأي حزنٍ أو أسف.