الدراما السورية: صرخة رسخت الذعر

الدراما السورية: صرخة رسخت الذعر

صحيح أن الدراما السورية انطلقت وحققت انتشاراً ونجاحاً في السنوات الأخيرة، وخاض العديد من المخرجين السوريين مواضيع جريئة وتبدو للوهلة الأولى متجاوزة للخطوط الحمراء وأولها طبعاً الأجهزة الأمنية في سوريا. لكن ثمة رسالة لكل عمل فني وإبداعي. فأية رسالة أوصلتها تلك الأعمال الدرامية الجريئة والناجحة جداً للجمهور السوري والعربي. سأعطي مثالاً عن مسلسل تم إنتاجه في 2018 (أي بعد الثورة السورية)، وهو مسلسل (ترجمان الأشواق) بطولة ممثلين مبدعين غسان مسعود (الذي مثل في أفلام هوليودية وأصبح نجماً عالمياً) والممثل المبدع عباس النوري. قصة المسلسل  تحكي عن سجين سياسي (عباس النوري) هرب من سوريا إلى أميركا وبقي فيها عشرين عاماً، ويأتيه خبر أن ابنته الوحيدة ذات العشرين ربيعاً خُطفت، وهو لا يعرف ابنته لأنه حين هرب من سوريا إلى أميركا كانت طفلة صغيرة. ويبدأ صراعاً شرساً في نفسه حول كيفية العودة إلى سوريا (وهو السجين السياسي الهارب منها) وضرورة عودته للبحث عن ابنته المخطوفة. ويقرر أخيراً العودة إلى دمشق كي يبحث عن الخاطفين لابنته الوحيدة، وما أن يصل إلى دمشق حتى يتم إستدعاؤه إلى أحد الفروع الأمنية، ولا أحد من أسرته  (أمه العجوز وأخته وصهره) ولا أصدقاؤه (غسان مسعود الذي يعمل طبيباً جراحاً في المسلسل) وغيرهم من المعارف والأصدقاء، لا أحد يعرف أي فرع مخابراتي استدعى السجين السياسي السابق الذي تبين أنه شيوعي لأن مكتبته تضم كتباً عن لينين. وتبدأ حالة من الهيجان والهستيريا عند كل فرد من أسرة السجين السياسي وعند أصدقائه في الترجي والتذلل لشخصيات ذات مناصب عالية في الدولة ومعظمهم ضباط فقط ليعرفوا في أي فرع من فروع أمن الدولة احتجز إبنهم. حالة مُروعة من القلق الذي يصل حد الذعر تصيب أهل السجين السياسي وهم يبحثون عنه في فروع الأمن. ونجد السجين السياسي وهو مترجم مهم ومؤلف كتب جالساً بكل ذل أمام المحقق في أحد فروع المخابرات يسأله المحقق عن رأيه بما يجري في سوريا، فيلتزم الصمت، ويسأله إن كانت له علاقة بتنظيمات معادية للنظام السوري، ثم يطلب منه أن يكتب على ورقة كل تفاصيل حياته وبالتفصيل الدقيق، فيقول له السجين السياسي السابق: لكنكم تعرفون تفاصيل حياتي تماماً فلماذا أكتبها؟

أكثر من عشر حلقات في بداية المسلسل تصور تسلط الأجهزة الأمنية في حياة السوري والرهاب الذي يحسه تجاهها، لدرجة يصبح موضوع المسلسل ليس بحث الأب عن خاطفي ابنته بل الخوف لدرجة الشلل والذعر من سطوة الأجهزة الأمنية على حياة السوريين، والسيناريو المُتقن والتصوير الآسر لممارسات الأجهزة الأمنية، على مدى أكثر من عشر حلقات نرى أقرباء السجين السياسي وأصدقاءه يدورون مُروعين من مسؤول إلى مسؤول فقط ليعرفوا في أي فرع أمني هو! يحضرني الكثير من المسلسلات التي ناقشت سطوة الأجهزة الأمنية في سوريا مثل مسلسل (غزلان في غابة من الذئاب) للمخرجة المبدعة رشا شربتجي حيث حكت بالتفصيل وبمصداقية عالية عن ممارسات (يعرفها بالتفصيل كل أهالي اللاذقية تحديداً) عن أحد الشخصيات من رأس النظام الذي روع أهل اللاذقية بممارساته السادية المجنونة كأن يطلب من مجموعة رجال كهول وعجائز في مقهى أن ينبطحوا تحت الطاولات ثم يقوم بإطلاق النار في الهواء وهو يضحك ضحكاً هستيرياً، أو يختار أجمل فتيات اللاذقية ليصبحن عشيقاته ويقتحم بيوت أهلهن في منتصف الليل ليطلب لقاء الصبية التي يريدها عشيقة. وأدت ممارساته إلى هرب العديد من العائلات في اللاذقية خارج سوريا خوفاً على بناتها من الجنون والسلطة المطلقة لأحد أهم شخصيات النظام الذي لا يجرؤ أحد على محاسبته. أبدعت المخرجة رشا شربتجي في هذا المسلسل وشعر أهل اللاذقية بالنشوة كما لو أنهم ينتقمون بطريقة ما من السافل المجرم الذي أذلهم والذي اشترى شهادة الحقوق وفتح مكتب محاماة. الكثير من المسلسلات والحلقات التلفزيونية خاصة (بقعة ضوء) وتحديداً الحلقات التي كان يعدها ويكتبها المخرج الوطني الراقي ياسر العظمة الذي أبدع في عرض حلقات ساخرة وجريئة حول ممارسات الأجهزة الأمنية وسطوتها وصلاحياتها المطلقة في الهيمنة على حياة الناس. ولا أنسى في أحد الجلسات التي ضمت العديد من الشخصيات الأدبية والفنية وكان أحد أهم ضباط الأمن في سوريا في الجلسة (لأنه أخ أحد المثقفين)، أذكر أنه اعترف متباهياً أنه كان هو شخصياً من يعذب المعارض عارف دليلة. وكان في الجلسة أحد أهم المثقفين الذين أخرسهم هذا الاعتراف الوقح كأنه صفعة، خاصة أن معظم هؤلاء كان قد سُجن لسنوات طويلة بتهم عديدة كالانتماء إلى رابطة العمل الشيوعي أو غيرها.

السؤال الوحيد الأهم الذي يطرح نفسه: ما تأثير هذه الدراما التلفزيونية السورية الناجحة جداً جماهيرياً وذات الحرفية والفنية العالية والتي تبدو أنها تنتقد بجرأة عالية متجاوزة الخطوط الحمراء والأجهزة الأمنية وسطوتها وكيف يعيش الناس مُروعين من سطوة الأجهزة الأمنية! في الواقع هذه المسلسلات ورغم أنها ساعدت الناس كي تنفس عن آلامها وإحساسها بالظلم والقهر وكأنها كانت صرختها المكبوتة لسنوات طويلة، لكن في حقيقة الأمر فإن كل هذه المسلسلات رسخت في وعي الناس ولا وعيهم حقيقة السلطة المطلقة لأجهزة الأمن، وبأنه لن يحصل أي تغيير على أرض الواقع؛ وبأن الاستبداد يتكاثر؛ وبأن شخصية السادي المجرم (كبطل مسلسل المخرجة رشا شربتجي في مسلسل غابة من الذئاب) قد ناب عنه ما هو أوحش منه وأكثر إجراماً ووحشية، وكان من هرم النظام وفوق القوانين، وهو من خطط لخطف العديد من الشبان الأثرياء وطلب فديه بالملايين عنهم. ودفع أهالي المخطوفين الملايين بصمت وذل ولم يجرؤ أي منهم بتقديم شكوى ضد المجرم مطلق الصلاحيات. وأحد الشبان الأثرياء المخطوفين كان من معارفي وكان في الـ 37 من عمره، وحين حرره المجرم من الخطف بعد أن دفع أهله 60 مليون ليرة سورية للخاطف الخارج عن القانون، زرته لأقول له الحمد لله على سلامتك. وطول ساعة قضيتها عنده في البيت لم ينطق بكلمة واحدة هو وزوجته وكل سؤال كنت أسأله له أو لزوجته كان جوابهما الوحيد: “يكثر خير الله”! أي ذل وذعر يعيشه الإنسان السوري الذي لا يجرؤ أن يقول كلمة واحدة حتى بعد أن دفع الملايين لتحريره من عصابة الخطف التي يقودها شخص لا يجرؤ أي قاضي على محاسبته. وهذا المواطن المسحوق الذي يعرف سلفاً أن لا جدوى من التقدم بشكوى بحق الخاطفين، بل كل ما يمكنه قوله: “يكثر خير الله”.

للأسف هذه الأعمال الدرامية السورية خاصة تلك التي انتقدت بفنية عالية ومصداقية عالية ممارسات وتسلط الأجهزة الأمنية في سوريا على حياة الناس، لم يكن لها أي تأثير على أرض الواقع، فتسلط الأجهزة الأمنية ما زال كما هو، بل أزعم بأن هذه الأعمال الدرامية التي سمحت بشيء من التنفيس وفشة الخلق للمواطن السوري من ممارسات الأجهزة الأمنية فإنها في الواقع رسخت في لاوعيه المزيد من الخوف والذعر من فروع المخابرات مُطلقة الصلاحيات. ولأن لا شيء يتغير على أرض الواقع. بالتأكيد لا أنكر أن الكثير من التنظيمات الإرهابية والسلفية مارسات ممارسات وحشية بحق الشعب السوري وخاصة الناشطين منه وخطفت وقتلت وتوحشت، وأن جبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الإرهابية أوغلت في أعمال الإجرام بحق الشعب السوري وبدعم من دول إقليمية عديدة. لكن ما أردت إلقاء الضوء عليه هو تلك الأعمال الدرامية السورية التي حققت نجاحاً لافتاً وشعبية كبيرة لدى الإنسان السوري المُروع من سطوة الأجهزة الأمنية. فهذه الأعمال تظل كمزهرية للزينة فقط، وسط خراب كبير في سوريا هدم الحجر وكبرياء البشر وإحساسهم بكرامتهم وعزة نفسهم.

وبما أن شهر رمضان الفضيل حل أماناً وفرحاً في نفوس الكثيرين، وبما أن هناك ازدحام كبير في عرض المسلسلات الخاصة برمضان (أي التي تُعرض عرضاً أولياً في رمضان)؛ فقد سمح لي فقر الحياة في سورية والفضول في معرفة الجديد والقديم الذي تعرضه هذه المسلسلات المُخصصة للشهر الفضيل. فقد رُوعت حقاً من التدني الفكري والفني لمعظم هذه المسلسلات وأحب أن أذكر بضع نقاط أساسية فيما يخص الدراما الرمضانية:

أولاً: هناك (وكل سنة في شهر رمضان) ما يُسمى مسلسلات أو دراما النجوم كما لو أن هناك قاعدة أن يكون لكل نجم مسلسل خاص به ويقوم ببطولته (كما لو أنهم يُفصلون بدله للممثل) فمثلاً كل سنة وعلى مدار سنوات من دراما رمضان يجب أن يكون هناك مسلسل بطولة الممثلة يسرى ومسلسل آخر بطولة عادل إمام. ومسلسل أو أكثر بطولة عابد فهد ( لذي كرر عدة أدوار كضابط أمني متوحش حتى حفظ الدور ظهراً عن قلب)، وكذلك الممثل جمال سليمان الذي يجب أن يكون له بطولة مطلقة في مسلسلات رمضان. كذلك في الدراما اللبنانية ثمة ترسيخ لنجوم معينين مثل كارين رزق الله وشوقي أبي شقرا. لا أقلل من القيمة الفنية لهؤلاء المبدعين النجوم لكن صدقاً الناس أصابها الملل منهم، خاصة أن الأدوار تُفصل على شخصيتهم أي يتم إبتكار أحداث وكتابة سيناريو حسب رغبة النجم. وغالباً ما يختارون أن يكون دورهم مثالياً وأخلاقياً كما لو أنهم واعظون ومبشرون للخير والفضيلة. أما مواضيع المسلسلات بشكل عام فهي بحالة قطيعة تامة مع واقع الناس وظروف حياتهم. الكثير من المسلسلات تكون القصة فيها الخيانة الزوجية (مثل مسلسل بردانه أنا اللبناني وأولاد آدم لمكسيم خليل، ومسلسل ليالينا 80 المصري وغيره)، وكأن موضوع الخيانة الزوجية هو أزمة الناس في العالم العربي (الذين – كما أعتقد نسوا الجنس وجنسهم) وأصبحوا لاهثين وراء رغيف الخبز ومهددين بالموت جوعاً. ومن الضروري الإشارة إلى عدة مسلسلات سعودية كُتب عنها كثيراً وحضرت بعض حلقاتها وأنا مذهولة وهي تروج علناً للتطبيع مع إسرائيل. وللأسف لم تتعرض تلك المسلسلات للنقد الجاد بل ثمة تواطؤ على التغاضي عنها. معظم مواضيع هذه المسلسلات هزيلة وغير مقنعة ومُفتعلة وتعتمد على الإطالة وتكرار المشاهد لغاية أن يكمل المسلسل 30 حلقة. لا يوجد مسلس عالج موضوع البطالة في العالم العربي وهجرة الشباب اليائس من إيجاد وظيفة في وطنه ولا ظاهرة انتحار الشباب يأساً (كما حصل في تونس وفي لبنان مثلاً)، ولم يتجرأ أي مسلسل أن يشير بشجاعة وصراحة إلى فساد الطبقة الحاكمة، بل دوماً هناك فاسد كبير وناهب للمال العام وعادة يكون تاجر مخدرات ويتمكن غالباً من شراء براءته برشوة القضاء؛ أما هذا الفاسد فلا أحد يعلم من يدعمه وواضح أن كل الطبقة السياسية تدعمه وفي كل العالم العربي (كلون يعني كلون)، لكن لا أحد يجرؤ على المس بشخص النائب أو الوزير (في كل بلدان العالم العربي) وفضح الـ(كلون يعني كلون). مواضيع رمضان هذا العام تُثير الخجل لضعفها الفني والفكري وانفصالها عن الواقع.

ثانياً: من الضروري أن نشير إلى شكل النجمات أو الممثلات أو تجاوزاً الحسناوات، المبالغة في عمليات التجميل وخاصة نفخ الشفاه والخدود ووشم الحواجب بطريقة معينة حيث يبدو الحاجب كخط عريض بعرض الإصبع معيب، كذلك المبالغة في حقن البوتوكس الذي يشل العضلات فيفقد الوجه قدرته التعبيرية. صدقاً لم أعرف مثلاً الممثلة الجميلة (رواد عليو التي لعبت دور عفوفة في ضيعة ضايعة وكانت جميلة جداً وجمالها طبيعي) بعد أن غيرت كل ملامح وجهها من نفخ شفتين وخدود ووشم حاجبيها. صدقاً لم أعرفها، صارت كما يسمونهم في فرنسا (دمية كولاجين) وغيرها من الممثلات اللاتي أصبحن صورة نمطية واحدة لمفهوم الإثارة والجمال ولا أعرف من يحدده! منظر نيكول سابا الجميلة أساساً أصبح مُنفراً بعد حقن شفتيها، كذلك ملكة جمال لبنان سابقاً نادين نجيم أستغرب لماذا حقنت شفتيها وغيرهن كثيرات. كما أن المبالغة في إظهار المفاتن بالثياب الضيقة جداً والفساتين القصيرة والشورت وغيره غريب عن بيئة مجتمعاتنا المحافظة. واضح أن غاية المنتج والمخرج جذب أكبر عدد من المشاهدة عن طريق إغواء وإغراء المشاهد بالممثلات الحسناوات. أستغرب هذا الاستهتار والخيانة للفن الراقي والمقنع للمشاهد فميريل ستريب الحاصلة على أربع أوسكارات لم تقم بحقن نقطة بوتوكس في وجهها وفي مقابلة معها قالت: “أنا أعبر بملامح وجهي، كل خط في وجهي يعبر”. كذلك صرح جورج كلوني الممثل العالمي أنه ممنوع على الممثل تغيير ملامح وجهه لأنها أداته في إيصال الانفعالات والأحاسيس للمشاهد. بينما نجد نجمات مثل نبيلة عبيد وناديا الجندي وبوسي ويسرى وغيرهن بوجوه من كولاجين، ملامح جامدة ولا يوجد خط واحد في وجوههن المنفوخة وقد فقدن القدرة على التعبير. للأسف سقطت معظم الممثلات الشابات في العالم العربي بفخ التجميل، ما يعكس ضغط المجتمع على النساء وإحساسهن بعدم الثقة بجمالهن لدرجة تشعر فيها أجمل نساء المجتمع على شاشات تلفازنا بالضغط لاجراء عمليات تجميل قد لا تمنحهن الثقة التي حرمهن منها المجتمع.

ثالثاً: وأخيراً يؤسفني وأستغرب لماذا تغيب معظم البرامج الهامة الثقافية والاجتماعية الهامة والراقية والتي تعني حقاً بوجع المواطن في شهر رمضان الحالي! هل ثمة تعارض بين حشد التسلية في شهر رمضان والثقافة الأصيلة الجادة!

الدراما السورية في موتٍ سريري

الدراما السورية في موتٍ سريري

مرةً أخرى تعود الدراما السورية في هذا العام، لتتلقى سهام النقد، من قبل أغلب المهتمين والمتابعين للحدث الدرامي، نقدٌ طال أهم وأفضل الأعمال وحوَّل بعضها إلى مادةٍ للسخرية والتهكم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض البرامج الكوميدية. لذا نجد اليوم عدداً كبيراً من جمهورها قد آثر العودة الى ماضيها الجميل، حين كانت بأوجها وألقها، لمشاهدة أعمالٍ قديمة تحظى بقيمةٍ فنيةٍ جيدة.

دراما خارج سيناريو الواقع

حاولت معظم أعمال الدراما السورية في الآونة الأخيرة التغريد خارج سرب الواقع السوري، لتحاكي ظروفاً وأحداثاً وأمراضاً تعيشها المجتمعات المثالية في أوقات السلم، بينما غفلت عن ملامسة معظم الأمراض والكوارث التي أفرزتها الحرب.

أعمالٌ ترصد حالات البذخ والثراء في المجتمع، تم تصويرها في أماكن فارهة وبيوتٍ واسعةٍ فخمةٍ، في وقتٍ أصبحت فيه معظم عائلات المجتمع السوري تعيش تحت خط الفقر، ويسكن بعضها في بيوتٍ مقفرةٍ ضيّقة، وأحياناً في غرفةٍ واحدة تضم عائلتين وأكثر.

تتحدث معظم الأعمال عن مشاكل الشباب في الحب والزواج وفشل الدراسة، وتغمض أعينها عن معاينة همومهم اليومية التي ولدت في سنوات الحرب، كهموم الهاربين من معارك القتال أو المنخرطين فيها رغماً عنهم، والمتوارين عن الأنظار خوفاً من اعتقالهم أو سوقهم إلى الخدمة العسكرية، والذين تم سحبهم من الحواجز إلى الجبهات وماتوا قبل أن يتعلموا لغة السلاح. قد يقول قائلٌ إن لسلطة الرقابة دوراً في منع الدراما من رصد ما سبق، ولكن أين هي من الواقع الإنساني الحياتي الذي تعيشه أغلب شرائح وأطياف المجتمع ويراه القاصي والداني؟

يمكن القول إن بعض الأعمال حاولت أن تلامس شيئاً من جوانب الواقع (من وجهة نظرها) فتناولت مواضيع عامة كالفقر وأحوال النازحين ميسوري الحال وجزءاً من آلام الناس ومعاناتهم مع بعض مافيات وسلطات الحرب والمتنفذين.

ولكن ذلك التناول كان، برأي البعض، خجولاً وسطحياً وهامشياً، يتجاهل كوارث وأزمات كبيرة وصورته لا تشبه ما نراه في حياتنا اليومية، أما الممثلون فقد كانوا بعيدين عن شخوص الواقع حد التناقض، مشهدٌ يؤكد أن صناع تلك الدراما مغتربين عن الواقع ولم يلامسوا حقيقته ومأساته عن كثب. حتى اليوم لم نجد مسلسلاً رصد معاناة النازحين بشكلٍ متكاملٍ وحقيقي، في مساكنهم البائسة داخل (شقق العظم) ومراكز الإيواء، أو تناوَل موضوع التحرش الذي تعرضت له بعض النساء والأطفال هناك.

أين أعين الدراما من رؤية أطفال الشوارع المشردين والمتسربين من التعليم نحو التسول وسوق العمل المليء بالمستغلين والوحوش؟ ماذا عن العصابات التي تقوم بتشغيل الأطفال بأعمال التسول والسرقة ونقل المواد الممنوعة، لتحوّلهم إلى كتلةٍ من الأمراض وتجعل منهم مشاريع مجرمين؟ ماذا عن النساء اللواتي يفترشن أرصفة دمشق، في مشهدٍ بات مألوفاً، ليبعن على البسطات بضائع بائسة توفر لهن لقمة عيشٍ مريرة؟

دراما تفتقر إلى المهنية ومقومات الفن

بنظرة سريعة على مسلسلات هذا الموسم سيبدو واضحاً حجم تردي المستوى الفني والمهني لمعظم الأعمال، نصاً وأداء وإخراجاً، وهو ما أبعد بعض الأعمال السورية خارج مضمار المنافسة الرمضانية لتحل مكانها أعمال مصرية وخليجية حققت شروطاً فنيةً أفضل ولاقت قبولاً من قبل محطات العرض.

يتحدث المسلسل الكوميدي “الواق واق” (للكاتب ممدوح حمادة والمخرج الليث حجو) عن سبعة عشر رجلاً وامرأة غرقت سفينتهم فاجتمعوا على جزيرةٍ منعزلة محاولين بناء مجتمعٍ مثالي. بالرغم من أن العمل يحظى بمشاهدةٍ كبيرة، لكنه لم ينج في أعين النقاد، كونه لم يأت بفكرةٍ جديدة– الفكرة تم تناولها كوميدياً وتراجيدياً عبر أعمالٍ غربيةٍ وعربيةٍ، منها فيلم” البداية” ومسلسل “في اللا لا لاند”.

أيضاً تنحو بعض شخصيات المسلسل نحو التهريج والسذاجة، وبعضها الآخر يبدو فنتازياً أو قادماً من كوكبٍ آخر، كما أن تكرار معظمها لثيماتٍ تعبيرية إيمائيةٍ وفكاهيةٍ وترديدها لعباراتٍ ومفرداتٍ، تُبرز من خلالها هويتها الكوميدية، قد منحها صفةً وصبغةً نمطيةً، تُذكرنا بمواقف وأداء (كاركترات) شخصيات مسلسلاتٍ أخرى حملت توقيع الكاتب ذاته، وهي سمة باتت مستنسخة في بناء شخصيات ممدوح حمادة.

تمر أحداث العمل بشكلٍ رتيبٍ ورتمٍ بطيء ينقصه التصعيد والتجدد، تُعاد فيه بعض المواقف والحوارات والدعابات بشكلٍ ممجوجٍ وممل يُظهر عجز معظم الحلقات عن خلق تنوعٍ وتميزٍ في محتوى قصصها. من جهةٍ أخرى، يتساءل البعض كيف لهذه الجزيرة المعزولة أن تتوفر فيها كميات كبيرة من الأطعمة المعلبة والأواني المتنوعة والفرش والأغطية وبعض متطلبات العيش الرغيد وأشياء أخرى؟ هل يمكن لهاربٍ من الغرق أن يصطحب معه كل تلك الأشياء؟

يحاول المخرج ايجاد مَخرجٍ درامي، فيرينا أن البحر قذف إلى الشاطئ ببعض صناديق المعلبات، لكن هذا، برأي البعض، لم يكن إقناعاً درامياً كافياً لحضور معظم متطلبات الحياة إلى شاطئ الجزيرة في زمنٍ قصير.

صُنف المسلسل الواقعي “فوضى” (للكاتبين حسن سامي يوسف ونجيب نصير والمخرج سمير حسين)، من ضمن أفضل مسلسلات هذا العام، لكنه رغم ذلك لم يكن عملاً متكاملاً وتلقى بعض الانتقادات، فهو يفتقر إلى التنوع في الحدث والحبكة والصراع، حيث تتشابه معظم خطوطه الدرامية ومسارات شخصياته وصراعاتها، لتبدو قصص ومعالم تلك الشخصيات مطابقة لبعضها البعض في معظم الحلقات.

فمثلاً، يتناول العمل موضوع العلاقات العاطفية عند النساء من خلال أغلب الشخصيات النسائية في العمل، فيُخضعهن بمجملهن لنفس المواقف والظروف، ويظهرهن جميعاً، بما فيهن الفتيات المراهقات، كأنهن يعانين من مشاكل في العلاقات العاطفية والبحث عن الرجل بشتى السبل، لتنحصر جميع أدوارهن وصراعاتهن فقط في إطار العلاقة المعقدة مع الرجال. يتكرر الأمر ذاته في موضوع العلاقة المتأزمة بين الأهل وأبنائهم، إذ يُقحم العمل جميع شخصيات الأبناء في التعبير عن هذا الموضوع، فتحاكي بمجملها واقع الصراعات والخلافات ذاتها التي تقع بين الابن وأمه أو أبيه حول المفاهيم ذاتها كالتربية الصالحة والحياة المثالية وصراعات الأجيال، لتتكرر القصص والمواقف والأحداث بين شخصيات هذا الخط الدرامي، وتبدو وكأنها شخصية واحدة تعيش في بيوتٍ مختلفة.

لا يقتصر موضوع التشابه والنمطية على طبيعة الشخصيات وقصصها، بل يشمل أيضاً لغة وطبيعة الحوار، إذ نجد أن معظم الحوارات تتشابه في مضامينها وفحواها وأحياناً مفرداتها، لتبدو الشخصيات وكأنها تقمصت أحاديث بعضها البعض وتماهت حواراتها فيما بينها، أو تبدو وكأنها تعلمت لغةً مشتركة ونهلت من منبعٍ ثقافيٍ اجتماعيٍ واحد ومدرسة حياةٍ واحدة.

رغم انحدار مستواها الفني في السنوات الماضية عادت دراما البيئة الشامية هذا الموسم بغزارةٍ إلى الشاشات عبر أعمالٍ مترهلةٍ ومتوارثةٍ عن بعضها البعض، لتعيدنا إلى قصص الحارات وصراع العائلات والخلافات النسائية على أمورٍ تافهة، إضافة لبطولات الزعيم والعقيد ورجال الحارة في محاربة الشر لينتصر الخير في النهاية.

ولأن هذه الدراما تحظى بتسويقٍ جيدٍ عبر المحطات اللبنانية والخليجية، واصل صناعها ومنتجوها استنساخ مسلسلاتها كيف ما اتفق وشحنها بأجزاءٍ جديدةٍ، مفضلين المعايير التجارية الربحية على المعايير الفنية والمهنية، على الرغم من إساءة معظم تلك الأعمال للتاريخ السوري وإظهارها للمرأة كجاريةٍ وعبدةٍ لسيدها الرجل، وإظهار الأخير كرجلٍ غوغائي لا يفكر سوى بقيم العرض والشرف، المحصورة عنده بجسد المرأة، ولا يتقن سوى لغة العضلات والخناجر والعنتريات.

“وردة وشامية” عملٌ وحيد حاول الخروج، نسبياً، عن السيناريو المعتاد لأعمال البيئة الشامية، حيث استمد تفرده من كونه مقتبساً عن “ريا وسكينة” الحكاية المصرية المعروفة التي قُدمت سابقاً كمسرحيةٍ ومسلسلٍ، لكن ذلك لم يشفع له ليرقى إلى المستوى الفني المطلوب؛ فهو يفتقر إلى عنصري التشويق والإثارة وتبدو صراعاته وأحداثه متوقعة سلفاً تخلو من عنصر المفاجأة، ليبدو العمل لبعض المشاهدين وكأن “ريا وسكينة” تقتحمان دراما البيئة الشامية.

أما المسلسل التاريخي “هارون الرشيد” العمل الأضخم إنتاجياً، فقد كان حديث النقاد الأول، فهو، بحسب آراء كثيرة، يشوِّه حقيقة تاريخ الخليفة العباسي ويقع في هفواتٍ تاريخيةٍ كبيرة، إذ يتجاهل تناول محطات التطور ومظاهر الحضارة والازدهار التي شهدها عصر الرشيد أو الفتوحات والمعارك التي خاضها الخليفة، لتزدحم الحلقات بقصص النساء والجواري والجلسات الغنائية والمؤامرات المحاكة من أجل النزاع على سلطة الحكم، وذلك على حساب أحداثٍ تاريخيةٍ هامةٍ، ما جعل بعض الساخرين من العمل يمنحونه عنوان “جواري هارون الرشيد.”

يفتقر العمل إلى الغنى والإقناع البصري، حيث تنحصر معظم مشاهده في كوادر داخلية ضمن القصر وأروقته وعبر لقطاتٍ قريبة وهو ما ظهر كضعفٍ إخراجي يتجنب المشاهد الخارجية التي تحتاج إلى جهدٍ فنيٍ تقنيٍ كبير وبراعةٍ في الرؤيا، بالإضافة إلى كوادر بشرية وديكورات ضخمة وإكسسوارات وغيرها. كما يقع العمل بأخطاءٍ مهنيةٍ أخرى منها الأخطاء اللغويةٍ وأخرى تتعلق باختيار ممثلين لا يعبِّرون عن العمر الحقيقي للشخصيات، وليس آخراً الخطأ الذي أثار ضجةً كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، “هارون الرشيد يلقي قصيدةً للشاعر المصري المعاصر هشام الجخ!”    

دراما بعينٍ واحدة  

يرى كثيرٌ من السوريين، جمهوراً ونقاداً ومهتمين، أن الدراما السورية قد فقدت هويتها، وصار بعضها مسيَّسا وتابعاً، فهي ترى بعينٍ واحدة، عين الإعلام السوري الموالي للنظام، وتنطق بلسانه وتبث رسائله السياسية، وتتبنى الحقائق من وجهة نظره. ففي السنوات الماضية أنتجت أعمالاً كثيرة حاولت من خلالها إظهار جميع المعارضين للنظام كإرهابين تكفيرين أو عملاء أو مغرراً بهم، وحمَّلتهم مسؤولية القتل والخراب والدمار الحاصل في البلاد. من هذه الأعمال: مسلسل “تحت سقف الوطن” لنجدت أنزور، “عناية مشددة” لأحمد ابراهيم أحمد، و”شوق” لرشا شربتجي وغيرها.

واليوم تواصل تلك الدراما مهمتها الإيديولوجية لتطل هذا الموسم عبر أعمالٍ تحاكي سابقتها، من بينها عملان لقيا جدلاً وانتقاداً واسعاً من قبل بعض النقاد والمشاهدين، الأول “روزانا” لمخرجه عارف الطويل، والآخر”يوميات المختار” لمخرجه علي شاهين.       

يتحدث “روزانا” عن عائلةٍ حلبيةٍ كانت تملك معملاً صناعياً دمّرته “المجموعات الإرهابية”، التي قصفت المدينة بالقذائف، وخلال نزوح العائلة هرباً من الحرب نحو دمشق، يلاقي كل فردٍ من أفرادها مصيراً مختلفاً، ليتعرض أحدهم للقنص من قبل “إرهابيين”. يرى منتقدو هذا العمل أنه يروج لخطاب الإعلام السوري حول نظرية “المؤامرة والإرهاب” و”الصمود الوطني الأسطوري للشعب في مواجهة الإرهاب”، ويُحمِّل المعارضة مسؤولية ما جرى في حلب من قتل ودمار، بينما يغفل عن تناول موضوع الأبرياء الذين ماتوا جراء قصف الطيران أو الذين قضوا في المعتقلات دون ذنب، كما يتجاهل ذكر البيوت التي دُمِّرت فوق ساكنيها أو التي تم (تعفيشها).   

“يوميات المختار”، عُرِّف عنه بأنه (مسلسل كوميدي)، يطل فيه الفنان زهير رمضان عبر شخصية المختار “عبد السلام بيسه” المقتبسة من مسلسل “ضيعة ضايعة”، ليتحدث عن الوضع السوري من وجهة نظر النظام ومؤيديه.

لاقى العمل نقداً وسخريةً كبيرة من قبل بعض المشاهدين، فهو من حيث القالب لا يمت للدراما بصلة، إنما يشبه برنامجاً تلفزيونياً سياسياً، ويظهر الممثل كمقدم برنامج أكثر من كونه ممثلاً.

أما من حيث المضمون فهو لا يخرج عن كونه تهريجاً خطابياً يُقدم دروساً وطنية تلقينية فجة، تستقي مواضيعها من لغة وإيديولوجية الإعلام السوري وتتشبه بنشرات أخباره وتذكرنا بمادة التربية القومية.

يتحدث العمل عن شكل التعايش بين السوريين قبل “الأزمة” بشكلٍ أقرب إلى من يلقي محاضرةً في الوطنية، ويستغل حجم المناطق المدمَّرة في سوريا ليحاول الرقص على جراح الناس، فيطل “المختار” من وسط الدمار في بعض الحلقات سارداً ما فعله “الإرهابيون التكفيريون” وكيف دمروا الجوامع والكنائس والبيوت.

كما يلقي العمل في معظم حلقاته باللوم على السوريين وتحميلهم مسؤولية الحرب الدائرة في بلادهم ومسؤولية تردي الوضع الاقتصادي وغلاء الأسعار، دون ذكر تجار ومافيات الحروب التي نهبت البلاد طولاً وعرضاً.

ولأن مسلسل “ترجمان الأشواق” قد حاول أن يرى بعينٍ درامية أخرى ويبصر شيئاً من حقيقة الواقع، لم يخرج إلى النور.

فقد أثار العمل جدلاً واسعاً بعد منع عرضه من قبل الرقابة التي وافقت على تصويره في البداية. تلك الرقابة التي قمعت أعين وخيال صناع الدراما لم تتوان حتى عن قمع نفسها.

المنع جاء بناءً على اعتباراتٍ سياسية، لأن العمل حاول التطرق للفساد والأحزاب السياسية وتحدث عن شخصيات بعض المسؤولين، ولم يشفع له وجود ممثلين مؤيدين للنظام كعباس النوري وفايز قزق وغسان مسعود وغيرهم.

الهروب نحو الدراما المشتركة

خلال السنوات الماضية هرب كثيرٌ من صناع ونجوم الدراما السورية من محاكاة الواقع السوري بتوجيه بوصلتهم نحو لبنان، لإنتاج ما يسمى بالدراما المشتركة التي تحظى بالطلب والتسويق، فكان لهذه التوأمة تأثيرها السلبي على الدراما السورية إذ خطفت معظم نجوم الأخيرة عن ساحاتهم الفنية وقزّمتهم وحدت من نجوميتهم لتنهض الدراما اللبنانية بفضل جهودهم وعلى حساب نظيرتها السورية، حتى أصبحت بعض الأعمال (المشتركة) تنسب للدراما اللبنانية، من قبل بعض النقاد والفنانين، لمجرد أنها أُنتجت في لبنان وضمت بعض فنانيه، على الرغم من أن كتابها ومخرجيها وأهم ممثليها سوريون.

أنتجت هذه الشراكة أعمالاً تفتقد إلى هويةٍ واضحةٍ أو بصمةٍ فريدة، فعند مشاهدتها ستبدو للوهلة الأولى وكأنها دراما تركية مدبلجة، كونها وبشكلٍ ببغائي تحاول محاكاة وتقمص الدراما التركية والمكسيكية وغيرهما، من حيث حركات الكاميرا وشكل الإخراج واختيار أماكن التصوير وانتقاء الممثلين، فهي تستدرج المشاهد من خلال الحضور الملفت والإطلالات المثيرة لشخصيات العمل، المبالغ في جمالها وأناقتها المفرطة وكأنها في مهرجانٍ لعرض الأزياء،  وأيضاً من خلال منازلها وسياراتها المترفة بالفخامة والثراء، فلا عجب أن يحظى مسلسل كـ “الهيبة” بتلك المشاهدة لمجرد حضور نجم وسيم كتيم حسن ونجمة مثيرة كنيكول سابا، ومثله مسلسل “طريق” الذي يضم النجمين عابد فهد ونادين نجيم.

تطل هذا الموسم عبر الشاشات أكثر من خمسة أعمالٍ (مشتركة). بنظرةٍ سريعةٍ عليها ستكتشف كم التشابه بينها من حيث مضمون السيناريو وحبكة الحدث والمشهد البصري، لتتداخل أحداثها في رأس المشاهد ولا يكاد يميّز بين عملٍ وآخر، فهي بمعظمها تتحدث عن حالات الخيانة الزوجية وقصص الحب الخيالية، التي تحدث في مجتمع الطبقات المخملية، بالإضافة لبعض القصص البوليسية التي تحمل طابع الآكشن.

مشهدٌ يؤكد مجدداً افتقار أعمال الدراما المشتركة إلى سيناريوهات ناجحة، تحظى بشيءٍ من الحرفية والتشويق، واعتمادها على المشهد البصري وأداء بعض النجوم لملء الفراغ الذي يخلِّفه ضعف السيناريو، ضعفٌ يتجلى بلجوء معظم الأعمال إلى تقمص سيناريوهاتٍ جاهزة والاقتباس من أخرى أو تعريب قصصٍ مسلسلاتٍ وأفلامٍ غربية، أو اللجوء إلى بعض الروايات والقصص وإعدادها درامياً.

وهذا ما شهدناه عبر  فيضٍ من أعمال السنوات الماضية، فمسلسل “تشيلو” اقتبس من الفيلم الأجنبي “عرض غير لائق”، ومسلسل “لو” من فيلم “الخائنة”، بينما اقتُبس مسلسل “نص يوم” من فيلم ” الخطيئة الكبرى”.

يتكرر الأمر في هذا الموسم لنجد أن مسلسل” تانغو” مأخوذ عن المسلسل الأرجنتيني”حب بعد حب”، بينما اقتُبس سيناريو مسلسل “طريق” من روايةٍ لنجيب محفوظ، أما مسلسل “الهيبة” فقد اتهمه بعض النقاد بأن معظم مشاهده مقتبسة من فيلم “العراب”، واتهمه آخرون أنه يحاكي المسلسل الأمريكي “ناركوس” وأن شخصية  “جبل/ تيم حسن”، هي ذاتها شخصية “اسكوبار” بطل مسلسل “ناركوس”.

تم تصوير تلك المسلسلات بمحاذاة مخيمات اللاجئين السوريين، المكتظة بأحداث الدراما الملحمية، وفي حاراتٍ وبناياتٍ يقطنها سوريون مهجرون يعيشون كل يومٍ عشرات القصص الدرامية التراجيدية.

لماذا أشاح صناع الدراما المشتركة بوجوههم عن رصد ظاهرة الوجود السوري في لبنان خلال سنوات الحرب، على الرغم من أن هذه الظاهرة يمكنها إنتاج عشرات السيناريوهات المليئة بالأحداث والصراعات؟

أين هم من أوضاع اللاجئين والعمال والمتسولين في الشوارع ومن ظاهرة استغلال النساء السوريات والاتجار بهن وتشغيلهن في بيوت الدعارة؟

يبدو أن الأمر متعلقٌ بسوق العرض والطلب، فالاعتبارات التسويقية الربحية ورؤية المحطات التلفزيونية هما من يتحكمان بخيال الكاتب وكاميرا المخرج، بعد تخلي الدراما عن مهمتها الإبداعية والفنية وتحولها إلى تجارةٍ تحكمها أسواق المنتجين.

الدراما السورية في الحرب

الدراما السورية في الحرب

مشاهدة الحلقات العشر الأولى من معظم الأعمال التلفزيونية السورية التي قُدمت لموسم 2017، لن يشكل حافزاً للجمهور بمتابعة تلفزيونية لعام 2018 أو كالتي كانت قبل عام 2011، فالاستثناءات تكاد تكون نادرة في خريطة الإنتاج الدارمي السوري، وما نجا من سخط الجمهور، سوف لن يعثر بسهولة على أعذار لأعمال توافر لها المال والخبرة الإخراجية، دون أن تكون جديرة بالمتابعة على مساحة البث منذ نيف وسبع سنوات.

الحلول المقترحة لإبعاد شبح انقراض ظاهرة الدراما التلفزيونية السورية التي سطع نجمها مع بداية التسعينيات، جميعها أخفق في إيجاد مخرج لأزمات متعددة تحيط اليوم بهذه (الصناعة) تاركةً مصير عشرات العائلات التي كانت تعيش من المهن التي توفرها هذه الدراما على قارعة الطريق، فمن مؤتمرات ولقاءات أقامتها المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني عام 2014 في فندق شيراتون دمشق، إلى دعوات بإقامة مجلس أعلى للدرامين السوريين، وصولاً إلى تخصيص صندوق دعم وطني لتمويل وشراء الأعمال السورية. جميعها حتى الآن بقي قبض ريح في مواجهة ما يشبه عزلة أو حصار تعاني منه المسلسلات السورية، وذلك بعد فك الارتباطات الإنتاجية بين الدراما السورية والمحطات العربية الكبرى في الخليج العربي التي كان لها الوزن الأكبر في إنتاج وتمويل وتسويق هذه الأعمال.

وأوصلت هذه القطيعة اليوم بين سوق الدراما السورية ومحطات البث الخليجي إلى ما يشبه حالة موت سريري لعشرات الأعمال التي تم إنتاجها دون أن تجد فرصة تسويق فعلية على قنوات من مثل: (أبو ظبي) و( دبي) و(إم بي سي). المحطات البارزة في سوق الدراما العربية، حيث استعاضت هذه المحطات عن الإنتاج السوري بأعمال مصرية وخليجية وتركية مدبلجة (مؤخراً تم إيقاف الدبلجة عن التركي). وفي ظل انعدام سوق محلية قادرة على استيعاب الإنتاج التلفزيوني السوري والتعويض عن خسائر بملايين الدولارات، يبدو الوضع يزداد سوءاً مع تحكم قنوات لبنانية من مثل (الجديد) و(إم تي في) بشراء بعض الأعمال السورية بأبخس الأسعار، حيث وصل ثمن الساعة الدرامية السورية في بازار هذه المحطات إلى (500 دولار أمريكي) بينما كانت الساعة الدرامية السورية تباع بما يقارب ( 30 ألف دولار أمريكي) للحلقة التلفزيونية الواحدة.

ويقول ممثل من ممثلي الصف الأول رفض ذكر اسمه: “الدراما السورية كانت حلماً جميلاً استفقنا في هذه الحرب على ضياعه من بين أيدينا، الآن أفكر بتأمين قوت أطفالي وعائلتي لا أكثر، وكما ترى أعيش في فندق منذ سنوات، وقد بعتُ سيارتي مؤخراً كي أستطيع دفع أجرة الغرفة.”

حال هذا النجم السوري ليس أفضل من زملاء كثيرين له فقدوا مورد رزقهم، دون أن يكون للمؤسسة العامة للإنتاج دور فعلي في تغطية خساراتهم الفادحة، مما يجعلهم اليوم عرضةً هم ومخرجو وكتّاب وفنيو الدراما السورية لابتزاز رؤوس أموال جاهلة لأمراء الحرب تدخل اليوم سوق الإنتاج التلفزيوني، ممارسةً نوع من التبييض لأموال الحرب في الدراما وسوق الميديا، لكن في شروط غير إنسانية، وبتحكم ذهنية مافياوية ريعية لا تحسب حساباً لجودة النص ولا لخبرات المخرج والممثلين، بل تدير شركاتها الجديدة بعقلية (المعلم) ناسفةً كل تقاليد المهنة، وحافرةً قبوراً جماعية لعشرات من الممثلين والفنانين والكتّاب الذين لم يمتثلوا حتى الآن لمزاج دراما الرقاصات وغواني الليل وقواد الساحات الخلفية للحرب.

دون ألم تابع الجمهور العام الماضي أعمال ما اصطلح على تسميتها بـ (مسلسلات البيئة الشامية) التي تصدرت أجزاؤها واجهة العرض الرمضاني، كما لو أنها (مهابهاراتا شامية) لا ينقضي جزء منها حتى يأتي جزء جديد من غامض علمه، لنكون مع (طوق البنات4) و ( باب الحارة9) و (عطر الشام2) و( خاتون2) فيما احتجب (وردة شامية) النسخة السورية من (ريا وسكينة) بعد امتناع العديد من المحطات الفضائية عن شراء العديد من الأعمال السورية، فيما يشبه حصار سوق خليجي لهذه المسلسلات، فيما نجح ( قناديل العشاق) لمؤلفه خلدون قتلان ومخرجه سيف سبيعي بكسر هذا الحصار بعد الاستعانة بالمغنية اللبنانية سيرين عبد النور، كوصفة جديدة للتسويق إلى المحطات العارضة، أحال أعمال برمتها إلى ما يشبه (دراما فيديو كليب).

معادلة يبدو أنها سوف تكون بمثابة منفذ بيع وحيد لأعمال تكدست أشرطتها في أدراج الشركات المنتجة، دون أن تلقى فرصة لائقة بعرض في سوق المهن التلفزيونية الجديدة، فلا النص الجيد ولا الإخراج ولا حتى إدارة الممثلين أمست من أولويات الإنتاج السوري الجديد، بل شيئاً فشيئاً ومع دخول الحرب عامها الثامن، تبدى المأزق أكثر فأكثر بالنسبة لمزاج السوق الجديدة، والذي عكس بجلاء منقطع النظير ما تعرض له الوسط التلفزيوني السوري من انقسام حاد بين (دراما الداخل) و(دراما المنفى) ولكن بتباينات حادة من عمل لآخر، ووفقاً لأمزجة الشركات الدولية التي ترعى نوعية جديدة من هذه الأعمال بين استوديوهات بيروت ودبي، وما تبقى منها في دمشق، حيث تعاني هذه الأخيرة من تدني حاد في أجور المخرجين والكتّاب والممثلين والفنيين، نظراً لانهيار الليرة السورية أمام الدولار بما يعادل انخفاض القيمة الشرائية للعملة الوطنية إلى عشرة أضعاف قيمتها ما قبل آذار 2011.

كل ما سبق لن يعطي صك غفران لأعمال الموجة الجديدة من (دراما الخناجر) والعنتريات والعودة إلى الحارات المغلقة كبديل عن دراما المدينة المنفتحة على الآخر، وليضاف لها (دراما العشيرة) مع قرار الشركة المنتجة إنتاج جزء ثانٍ من مسلسل ( الهيبة- هوزان عكو وسامر برقاوي) الذي زاد في الطنبور نغماً بعد الرواية الجديدة لسيرة العائلة، وما اكتنفها من تكريس (الجناح العسكري) لعائلات تعيش على تجارة اللبن والمخدرات والأخذ بالثأر في أجواء حداثية، بينما ينسحب الوطني إلى الخلف تحت وطأة القتل العبثي وأخلاق المافيا.

دراما التوحش هذه يبدو أنها في ازدياد وتغوّل على حساب الترويج لأنماط عيش جديدة، تعكسها الدراما بقوة المحاكاة على جمهور بات اليوم رهين أعمال تحرّض على العنف والإرهاب، ناسفةً العقود الاجتماعية المدنية، وواضعةً الدولة كهيكل فولكلوري ليس أكثر على هامش ولاءاتها الجديدة.

مع هذا وذاك لم يعد من السهولة بمكان أن نطلق صفة (دراما سورية) على أعمال لم يبق منها سوى جنسية من يكتبها أو يخرجها أو يقف أمام الكاميرا لأداء مشاهدها، فمن حيث الجنسية، نعم هذه أعمال سورية حققها فنانون يتمتعون بالجنسية السورية، لكن معظم ما يقدم عبرها لا يعدو أن يكون شخصيات باهتة وضائعة في سديم عولمي خالص، فلا المكان واضح ولا الزمان جلي، فقط هناك حفاظ على وحدة الحدث كضلع أساسي من أضلاع الوصفة الأرسطية، تماماً كما كان الحال مع مسلسل (أوركيديا) لكاتبه عدنان عودة ومخرجه حاتم علي، والذي نزع نحو بنية استعراضية لأماكن التصوير (تم تصوير معظمه في رومانيا) على حساب نص تبدو فيه النزاعات محرّفة عن (صراع عروش) ومآسي شكسبيرية لممالك تميد وأخرى يؤلفها القتل والدسائس والمؤامرات. بنية رمزية لم تسعف صاحب (ربيع قرطبة) في تقديم عمل حجز مساحته على قنوات عرض بارزة، دون القدرة على التأثير المتوقع منه نظراً لحشد ممثلي الصف الأول في كوادره الباذخة، وميزانيته المالية العالية ( تم تداول خمسة ملايين دولار لإنتاجه).

رغم كل ذلك ثمة من أصر على دراما سورية صرفة، أعادت أنماط العيش والظروف الحياتية للعائلة في الحرب السورية إلى واجهة الفن التلفزيوني، حدث ذلك مع مسلسل (أزمة عائلية) لمخرجه هشام شربتجي الذي قدّم العائلة هنا على مسافة حذرة من طرفي النزاع، لأسرة من الطبقة المتوسطة في المجتمع السوري وما تكابده من أحداث الموت والتهجير اليومي، حيث جاء العمل في شرطه الكوميدي خافتاً، لكنه أعاد صورة الطبقة الوسطى التي حوّلتها الحرب إلى حطام في معظم المدن السورية الكبرى، منحازاً مرةً أخرى إلى تناول تهكمي للأحداث بعيداً عن شرطها السياسي، بل بالاتكاء على زحمتها اليومية ولعبجاتها المعيشية ومفارقاتها الدامية.

مكابدات لن نعثر عليها بعد اليوم في معظم خطوط الإنتاج المعطّلة التي إما تعكس حياة غاية في الرفاهية، أو تصوّر قاعاً لمجتمعات هامشية ترعرعت فيها الجرائم ونمت في ساحاتها الخلفية قيم الانحلال الأخلاقي وتجارة الكيف. عشوائيات وممالك رملية محدثة في قلب المدن التي تعيش على حواف الحرب، كما هو الحال مع مسلسل (شوق) لمخرجته رشا شربتجي وكاتبه حازم سليمان والذي حقق مستوى عالياً من المجازفة والخوض في أحوال عصابات الحرب وما تركته من آثار مباشرة على كرامة الإنسان وحقه في الحياة، لنتعرف على (روز) السيدة التي ستختطفها مافيا إسلامية أقرب إلى داعش، لتقوم ببيعها هي ونساء سوريات في سوق السبايا لمجاهدين على جبهات القتال، حيث تدور القصة على ثلاثة محاور، فبالإضافة إلى معسكر اعتقال النساء، هناك قصة حب بين بيروت ودمشق لا تلبث أن تصبح بمثابة تمرير مناظر فارهة بغية تحقيق شروط التسويق على حساب القصة المحورية التي حظيت باهتمام الشارع السوري، لما فيه من عرض حال لأول مرة لواقع عشرات النساء المختطفات في سجون الفاشيست الديني (داعش).

المشهدية المنقبضة والمكان الخطر وكمية العنف الزائدة تبدو اليوم من مفاعيل التسويق للدراما المنفية من معظم تلفزيونات العرب، لكنها في الأعمال الكوميدية تبدو أكثر استخفافاً بعقل المشاهد وذائقته. تجلى ذلك في الجزء الثاني عشر من مسلسل (بقعة ضوء) الذي شهد تراجعاً كبيراً على مستوى الأفكار التي ناقشها في لوحاته في العام الماضي (كتب معظمها شادي كيوان وسامر سلمان) فيما توقفت شركة (سما الفن) عن إنتاج جزء جديد منه بعد تدني مستوى لوحاته، خصوصاً لوحات (سيفون) التي كتبها وقام بأدائها الممثل أيمن رضا، مفتتحاً نوعاً جديداً من (دراما المرحاض) والتي يقضي فيها رجل خمسيني مذعور أيامه ولياليه في الحمّام لتسجيل اعترافات أمام كاميرا منزلية، لا يلبث أن يقوم بمسحها بعد جلسات التصوير، خوفاً من تعرضه للمساءلة.

فكرة قد تكون مناسبة لفيلم روائي قصير، لكن لا طاقة على مطّها في ثلاثين لوحة وفق سطحية النصوص المكتوبة لها، ناهيك عن لوحة ( ترامبو- تأليف ديانا فارس) التي تطرقت للانتخابات الرئاسية الأمريكية ببطولة (سلوم حداد)، لتكون هذه اللوحة مجرد (تنكيت) وتقليد لكاركتر قاطن البيت الأبيض دونالد ترامب وخصمه (هيلاري كلينتون- أدى الدور وفاء موصللي) لوحة لم تبلغ شكل الكباريه السياسي، كما أنها لم تتعد التهريج في مستوياته الدنيا، كما كان الحال مع استعادة لوحة (أم سعيد الرز) التي بدت في هذا الجزء باهتة وبعيدة عن الصدمة التي حققها مؤلفها ومؤديها ( أيمن رضا) في الجزء الثاني عشر من مسلسل ( ياناس خلوني بحالي).

أعمال كثيرة لم تحظَ هذا الموسم بفرصة العرض من مثل  (سايكو) لأمل عرفة و (ترجمان الأشواق) لمحمد عبد العزيز، و (فوضى) لسمير حسين و( هوا أصفر) لأحمد إبراهيم أحمد و(الغريب) لمحمد زهير رجب، حيث لم تحظَ هذه الأعمال بفرصة عرض مناسبة على قنوات الخليج، وذلك بعد عرض معظمها على الرقابة في محطات خليجية بارزة فضلت استبعادها عن خارطة البث الخاص بها للالتحاق بسوق الفرجة الرمضانية القادم، بينما تستمر شركات ذات رؤوس أموال غامضة في إنتاج أعمال غاية في السخف والاستهانة بذكاء المشاهد، من مثل (جنان نسوان) و (غضبان) و(سنة أولى زواج – قررت الشركة إنتاج جزء ثانٍ منه) الأعمال التي ضربت عرض الحائط بألف باء الكتابة والإخراج والتمثيل، مورطةً ممثلة مثل ديمة قندلفت في المشاركة ببطولتها.

يبقى (الرابوص) لمخرجه إياد نحاس وكاتبه سعيد خناوي خطوة جريئة في خلق عوالم غرائبية لم يتوفر لكوادرها ذات الأجواء المريبة سيناريو قادر على سرد حكاية شخصياته المأزومة والخائفة، مثله في ذلك مثل (حكم الهوى) لمخرجه محمد وقاف، والذي عانى النص الذي كتبته ريما عثمان له من هنات عديدة وضعف في معالجة قصص الحب التي روتها عبر ثلاثيات كررت ثيمات درامية تم تناولها في أعمال مشابهة على نحو: (أهل الغرام) و (سيرة الحب) وسواها من مسلسلات الحيارى والعشاق والضائعين، بعيداً عن زمن الحرب وويلاتها، وبانسلاخ تام عن ظروف الحياة تحت القذائف والصواريخ وعلى مقربة من السيارات المفخخة، حيث تبدو الحياة بلون وردي مع إقحام بيروت على حكاية بعض الثلاثيات، من أجل الدخول في وصفة ما يسمى (البان آراب) وسواها من بدائل الوحدة والسوق العربية المشتركة في الدم والمسلسلات.

بالمقابل فضل آخرون الاتجاه إلى خيار مسلسلات (النت فليكس) والعرض مباشرة عبر اليوتيوب، حيث حظي مسلسل (بدون قيد) لكاتبه زاهي وهبي ومخرجه أمين دره بمتابعة لافتة على موقع الفيديو العالمي، مقتحماً محظورات رقابية عديدة، لكن دون الاشتباك فعلياً مع البنية الاجتماعية السورية الراهنة، زاد في ذلك التقتير في الإنتاج المرصود للمسلسل. على عكس مسلسل ( المهلب بن أبي صفرة) الذي أعاد ذكرات المسلسلات التاريخية السورية عن نص لمحمد البطوش وإخراج الأردني محمد لطفي، مستعيداً سيرة أحد ولاة الأمويين، بينما يشهد مسلسل ( هارون الرشيد) لمؤلفه عثمان جحا ومخرجه عبد الباري أبو الخير نكوصاً نحو العصر العباسي عبر تقديم خفايا من شخصية ملك الشرق القديم، وبميزانية قدمها تلفزيون أبو ظبي بالشراكة مع شركة (غولدن لاين) كمنتج منفذ للعمل الذي يضم العديد من ممثلي الصف الأول بين نجومه. بادرة ينظر إليها البعض بعين الريبة، ففي الوقت الذي تمتنع فيه المحطات العارضة عن تقديم الأعمال السورية على شاشاتها لاسيما التي تختص بالحرب، تقدم هذه المحطات على تمويل مسلسلات تاريخية ذات سياق ديني رجعي، مما يطرح أسئلة مجدداً عن الأجندة التي تقف خلف إعادة تكريس العصور الإسلامية على مساحة الفرجة العربية!