الخسائر الاقتصادية السورية في عشرة أعوام

الخسائر الاقتصادية السورية في عشرة أعوام

أنهت الحرب السورية عامها العاشر بصمت عسكري شبه مطبق، لتحل مكانه مشاكل الاقتصاد التي طفت على السطح كنوع من الأوضاع الصعبة والتي يبدو أنها ستكون طويلة الأمد، فقرار الصباح الاقتصادي ينسفه قرار الليل الأشد وطأة، حتى صارت حياة السوريين من سيء لأسوأ مع مضي كل يوم واقتراب كل غد، وسط غياب تام للحلول وافتقار الداخل لسبل معالجة ما يمكن الاصطلاح عليه بأنّه كوراث بات من المستحيل حلها، فالمشكلة لا تكمن في عدم توافر البنزين وغلاء سعره وانتظار الأيام على “طوابير” محطات التعبئة، بل تجاوزتها الأزمة لتشمل كل مستلزمات الحياة. الغلاء وحده هو المشهد المسيطر في البلاد التي لا يتخطى راتب موظفها في أفضل الأحوال 20$، في حين يتطلب توفير أبسط مستلزمات الحياة ضعف هذا الرقم بعشر مرات على الأقل.

الانهيار الاقتصادي

نشرت الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر عام 2020 تقريراً حول الواقع السوري يتناول الثماني سنوات الأولى من عمر الحرب السورية وخلصت فيه إلى أنّ خسائر الاقتصاد السوري بلغت حتى ذاك الوقت نحو 442  مليار دولار.

كذلك فإنّ قطاع النفط تكبد خسارات هائلة تقدر بنحو 92 مليار دولار بحسب تصريحات لوزير النفط والثروة المعدنية “بسام طعمة” أدلى بها تحت قبة البرلمان في شباط/فبراير من العام الفائت. وبحسب تصريح الوزير فإنّ ما يقارب 80 برميلاً من أصل 89 برميلاً يتم إنتاجها يومياً كانت تستخرج من المناطق خارج سيطرة الحكومة السورية، ليطرح الوزير مقارنةً مع ما كانت تنتجه سوريا في عام 2010 والذي قارب نحو 400 برميل نفط يومياً.

وأيضاً انخفض راتب الموظف الحكومي أكثر من مئة بالمئة وتدهورت قيمة الليرة السورية حوالي مئة ضعف أمام الدولار الأمريكي في السوق السوداء والذي وصل عتبة 4700 ليرة سورية قبيل منتصف آذار/مارس الفائت مقابل كل دولار أمريكي واحد، لتتحسن الليرة في نهايات الشهر المنصرم وتسجل 3700 مقابل الدولار. بينما حافظ المصرف المركزي على سعر الصرف بمعدل 1250 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، وهو رقم لا شك يعتبر رفاهية اقتصادية مواربة، فكل شيء يتم تسعيره في سوريا على قياس السوق السوداء، بدءاً من الإبرة والخيط وصولاً للعقارات، مروراً بكل ما يلزم للمعيشة من أساسيات ورفاهيات، الأساسيات التي ارتفع سعرها قياساً بالليرة السورية بصورة متفاوتة ما بين خمسين ومئة بالمئة.

الكارثة بالأرقام

قالت نقابة عمال المصارف في دمشق في الشهر الأول من العام الحالي عبر بيان تلاه رئيس النقابة “أحمد حامد” خلال المؤتمر السنوي للنقابة إن “خسائر الاقتصاد السوري بلغت حتى الآن أكثر من 530 مليار دولار، أي ما يعادل 9.7 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2010”.

وأشار التقرير أنه “في ظل الحرب قد انعدمت التنمية التي أوصلت أكثر من 80 بالمئة من شعبنا إلى خط الفقر وما دونه، وباتت المجاعة تلوح في الأفق بالرغم من الجهود المبذولة على مستوى الحكومة”.

وأضاف التقرير أنه “حتى هذه اللحظة لم تقدم أي مبادرات حقيقية لتجاوز الأزمات التي نعيشها اليوم بل ازداد احتكار الثروة في أيدي قلة قليلة من المستفيدين على حساب الشريحة الكبرى من المجتمع وأخلّت الحكومة بمسؤوليتها عن واجباتها في إمكانية النهوض بالقطاع العام وإصدار القرارات لتشجيع القطاع الخاص على استثمارات حقيقية ما أدى إلى توقف نشاط المستثمرين الاقتصادي وإغلاق منشآتهم والهجرة خارج البلاد مع أموالهم التي سببت خسائر للاقتصاد الوطني.”
فيما قدرّ التقرير نسبة الدمار في البنية التحتية بنسبة تخطت 40 بالمئة.
وبحسب الأمم المتحدة فهناك أكثر من 13 مليون سوري بحاجة لمساعدات إنسانية عاجلة، وبحسب برنامج الغذاء العالمي فهناك نحو 12.5 مليون سوري في الداخل يكافحون بشتى السبل للحصول على طعام يكفيهم ليومهم، وكذلك أشارت منظمة “أنقذوا الأطفال” عن وجود ما يقارب 60 بالمئة من الأطفال الذين يعانون من الجوع.

وتتحدث المفوضية العليا لشؤون اللاجئين عن ملايين السوريين الذين هاجروا خارج بلادهم، والنسبة الأكبر باتجاه دول الجوار، ثلثهم من الأطفال، وهو ما يشي بحجم الكارثة الاقتصادية والتخلخل المجتمعي الذي أدى لتشظي الناس، بعد الأخذ بعين الاعتبار أنّ المعارك هي الفصل في ملف الهجرة، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن العامل الاقتصادي لم يلعب دوراً مؤثراً وأساسياً في الإطار.

وبحسب دراسة أعدها المركز السوري لبحوث الدراسات فإنّ نسبة الفقر ارتفعت في سوريا من 1% في عام 2010 إلى نحو 86% من السوريين مع نهاية 2019.

وأضافت الدراسة أنّ سوق العمل فقد ما يعادل 3.7 ملايين فرصة عمل، وبالتالي رفعت الخسارة الضخمة لفرص العمل نسبة الإعالة الاقتصادية من 4.13 أشخاص لكل مشتغل في عام 2010 إلى 6.4 أشخاص في عام 2019.

أرقام صادمة

أصدرت منظمة world vision، وشركة frontier economics، تقريراً مشتركاً حول الواقع الاقتصادي السوري، وقالت فيه إنّ الخسائر حتى اليوم بلغت 1200 مليار دولار أمريكي، وفي حال توقفت الحرب اليوم فستستمر الخسائر الاقتصادية حتى عام 2035 بواقع 1400 مليار دولار إضافي، أي تصبح الخسارة المجملة 2600 مليار دولار أمريكي، وبإضافة ملف الحرمان من التعليم والنظام التعليم فقد يصل الرقم إلى 3100 مليار دولار أمريكي.

في الشارع

ليس من الصعب، بل يكاد من المستحيل عدم ملاحظة الأوجه المكفهرة في الطرقات، الناس يعيشون تحت وطأة غضب عارم سببه الفقر والحاجة، فتذبذب أرقام البيع والشراء في المتاجر للأساسيات يختلف ما بين الصباح والمساء. يتعامل التجار (الصغار منهم والكبار) بالدولار ويضعون الأسعار على أساسه، في عملية مداورة لحظية يدفع المواطن ثمنها في فرق ارتفاع الأسعار نحو الأعلى. أما في حال تحسن سعر الصرف، فإنّ الأسعار تبقى على نفسها، ما شكل عبئاً وضغطاً إضافياً بات لا يطاق لذوي الدخل المحدود، وبالمجمل فإنّ كل السوريين تقريباً هم من ذوي الدخل المحدود، أو معدمي الدخل.

في البقالية ارتفع صوت المهندس رامي .د في خلاف مع البائع الذي طلب منه ثمن “صفد” البيض 7 آلاف ليرة، لينتهي الخلاف إلى عدم شراء المهندس للبيض، ليكمل سيره متأففاً من الغلاء، وفي حديث خاص عن تجربته يقول: “يحدث هذا كل يوم، بل وكلّما أردت شراء شيء من الأساسيات لأسرتي، الغلاء لا يصدق، أعمل موظفاً بشهادتي لثماني ساعات يومياً لأتقاضى راتباً بحدود 50 ألفاً، هو لا يكفي لأول ثلاثة أيام بالشهر، هو حرفياً لا يكفي هذه الأيام”. يتساءل رامي عن المصير المقبل، وما الذي ينتظر السوريين: “أنا يائس، لا شيء ينبئ أنّ حلاً اقترب أو يقترب، نحن في كل يوم يستجد نصبح فقراءً أكثر”.

لا يبدو الحال أفضل بالنسبة لميساء .ن (ربة الأسرة التي تعيش وزوجها وطفلها على راتبه الذي يتقاضاه من عمله الخاص)، وعن وضع أسرتها تقول: “صحيح أنّ راتب زوجي أفضل من رواتب الحكومة بقليل، ولكن ماذا سيكفي؟ سينتهي في بضعة أيام قليلة، نحن نعيش مستندين على أهلي، لولا أنهم يساعدوننا في المصروف لكنا الآن في الشارع نتسول ربما، أنا أقول الحقيقة، نحن ستصل بنا الحاجة إلى هناك”. وتؤكد ميساء أنّها لم تجد حلاً بعد بحث طويل بينها وبينَ زوجها سوى الهجرة خارج سوريا والبدء بحياة جديدة.

ومن جهته، يقول أبو سعيد صاحب بقالية في دمشق: “ما ذنبي أنا إذا كنت أشتري من التاجر الكبير بسعر الدولار في السوق السوداء، لستُ سعيداً أنني أبيع بهذه الأسعار، فأنا أولاً وأخيراً مجرد صاحب بقالية صغيرة، مثلي مثل هؤلاء الناس، لكنني أيضاً أريد أن أعيش، لست سعيداً ولكن كيف سأعيش إذا بعت بخسارة، كل الناس تشتمنا وتلومنا، ولكن ماذا نفعل، هذا قضاء على الجميع”. ويختتم حديثه بتمنيه أن يتحسن سعر الصرف لئلا يظل يتحمل نظرات الناس التي تشعره بأنّه يجني منهم أكثر مما يستحق بكثير.

ويشترك العديد من الأشخاص الذين التقيتهم بنظرتهم عن انعدام شرود توافر الحل الذي يمكن أن يحسن الوضع قريباً، ويجمع هؤلاء الأشخاص أن الأفق مبهم والأمور تسوء يوماً بعد يوم، ولا شك أن رأيهم صار يمثل السواد الأعظم. وهذا لا يعني بطبيعة الحال عدم وجود أشخاص متفائلين، وهم أشخاص يعتقدون أنّ الحل سيأتي عاجلاً أم آجلاً، وسيحمل معهم أياماً مريحة، إلّا أنّ هؤلاء الناس نفسهم يئنون تحت وجع الحاجة والفقر، ومثلهم كل البلاد تئن قبالة طبقة فاقت في ثرائها كل ما هو متوقع، الحرب برعت في خلق الأمراء الجدد، الأمراء المتباهين بثرواتهم فوق فقر السوريين وعوزهم.

قبل الحرب

بحسب الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والمكتب المركزي السوري للإحصاء كانت سوريا صاحبة واحد من أعلى معدلات النمو العالمي بالنسبة للدول النامية عشية اندلاع الحرب في آذار/مارس 2011، إذ كانت تنتج حوالي 85 بالمئة من أغذيتها ودوائها واحتياجاتها وتصدر منتجاتها إلى أكثر من 60 دولة. وكانت سوريا تحتل مرتبة بين الدول الخمس الأولى في إنتاج القطن وتربية المواشي وتنتج من الحبوب ما يصل إلى 6 ملايين طن سنوياً ما كان يؤدي لفائض عن حاجة السوق المحلية والذي كان يتم تصديره. ووصل راتب الموظف الحكومي إلى قيمة تتراوح ما بين 300 إلى 600 دولار أمريكي في عام 2010، بحسب ما أورده تلفزيون dw مفصلاً.

إضافةً إلى النشاط السياحي الكبير الذي وصل حدّ استقبال نحو 8 ملايين سائح سنوياً حوالي عام 2010، مع توافر كل الاحتياجات الأساسية من نفط وغاز وبنزين وتعليم وطبابة وأدوية وخبز وأرز وسكر مقابل أسعار لا تشكل شيئاً قياساً بالدخل الجيد حينها.

 في ظل كل هذه المعطيات بين الأمس واليوم يمكن الاستنتاج بأنّ الواقع السوري بات مشوهاً اقتصادياً واجتماعياً ما يستدعي البحث في حلول ووضع خطتين واحدة قصيرة الأمد لانتشال ما يمكن انتشاله وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وأخرى طويلة الأمد لتستعيد سوريا القدرة على إنتاج احتياجاتها وتحقيق الاكتفاء المعيشي لسكانها، وهو ما يبدو أنّه بحاجة سنينٍ طويلة ليتحقق، ولتعود سوريا لتحظى بمكانتها الانتاجية السابقة كمصدِّر لا مستورد، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ عقوبات “قيصر” الأخيرة جعلت الكثير من الملفات الاقتصادية أكثر تشعباً وتعقيداً في ظل واقعٍ غير مستقرٍ ومدمّرٍ بالأساس.

Photo credit: Mohammad Alzain, Shutterstock*

إنهاك الاقتصاد والشعب بسياسات ليبرالية جديدة أكثر توحشاً

إنهاك الاقتصاد والشعب بسياسات ليبرالية جديدة أكثر توحشاً

تصرّ الحكومة السورية على الاستمرار في انتهاج سياسات اقتصادية ليبرالية جديدة، والتي كانت ضمن الأسباب العميقة لاندلاع الاحتجاجات الشعبية في 2011، وذلك رغم الحصار الاقتصادي الخانق لعجلة الاقتصاد السوري، وكأنها لا تملك أي استراتيجية لتقليص آثار العقوبات الدولية على سوريا؛ بل هي تفعل العكس، أي تستثمر في اقتصاد الحرب لمصلحة حفنة من داعمي النظام من مافيات الحرب والاقتصاد الجدد. فقد أبقت الاقتصاد ريعيا، متمحورا في قطاعات العقارات والخدمات (المطاعم والمقاهي) والاستيراد، واستمرت في إنهاء دعمها للسلع الأساسية، وتجاهلت التوظيف المالي في الزراعة والصناعة، مما زاد من خلل الميزان التجاري، وبدأ الاعتماد على المديونية تحت حجة عجز الميزانية.

انخفض سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي في شهر آذار الماضي إلى قرابة الخمسة آلاف ليرة، ثم تحسن سعر الصرف قليلاً، حيث استفاد من ذلك مضاربو سوق العملة السوداء. ورغم اعتراف النظام بتدهور قيمة الليرة السورية، حيث يلقي باللائمة على المؤامرة والعقوبات الخارجية، لكنه ما زال يرفض رفع سعر دولار الحوالات ليقارب سعر الصرف في السوق السوداء، وهو يفضل تغذية دوائر الفساد المرتبطة بشركات الحوالات، حيث تذهب عمولات التحويلات إلى جيوب منتفعين من مافيات رجال الأعمال والشبكات الأمنية، بدلاً من خزينة الدولة، والتي كانت ستساهم في تحسين سعر الصرف، باعتبار أن قيمة حوالات السوريين القادمة من الخارج معتبرة.

والحكومة السورية لم تقدم دعماً للمنتوج الزراعي والحيواني، للحفاظ على الأمن الغذائي، بل هي تصعّب عودة الأهالي إلى المناطق الزراعية، في المدن والبلدات التي استعاد السيطرة عليها، عبر عدم الاهتمام بترميم بنيتها التحتية، بقصد معاقبتها، ولضرب تماسكها الاجتماعي؛ كما في الغوطة الشرقية، التي كانت رئة العاصمة وخزانها الغذائي، حيث ما زال يمنع إصلاح شبكة الكهرباء اللازمة لاستخراج مياه السقاية.

الحكومة لا تأبه بتحقيق الأمن الغذائي؛ حيث نشط قطاع تصدير المنتجات الزراعية والحيوانية، للحصول على القطع الأجنبي، أو مبادلتها بالمشتقات النفطية.

انعدام الحلول الناجعة للنظام دفعه إلى الاتجاه إلى جيوب مواطنيه؛ حيث رفع الدعم عن البنزين للمرة الثانية خلال أقل من ثلاثة أشهر، وكذلك الغاز المنزلي بنسب تجاوزت ال50%، وابتدع ضريبة عقارية جديدة عالية على بيع وشراء العقارات.

السياسة الاقتصادية التي يتبعها النظام لمواجهة أثر التضخم الاقتصادي هي التمويل بالعجز، بتكبيس الأزرار وطباعة أوراق العملة. في حين أنه مستمر في سياسة التشدد في الإجراءات التقشفية؛ واضطر بداية نيسان إلى اتخاذ قرار بتخفيض نسبة دوام العاملين في قطاعات الدولة، حيث لم يعد لديه وقود كافٍ لنقل موظفيه إلى مراكز عملهم.

هذه السياسات الاقتصادية الرديئة زادت من أثر العقوبات الاقتصادية على السوريين؛ حيث بات 2.4 مليون شخص في سوريا يعانون من انعدام الأمن الغذائي، في أسوأ حالة أمن غذائي شهدتها سوريا على الإطلاق، وفقاً لتقييم الأمن الغذائي الذي  أجري أواخر عام 2020 (تقرير لبرنامج الأغذية العالمي (WFP)) نشر في شباط الماضي (1)

السياسات الليبرالية الممزوجة بالفساد، والمجحفة بحق السوريين، ليست وليدة السنوات العشر الأخيرة؛ فقد رافق الانفتاح الاقتصادي مسيرة حكم حزب البعث إلى جانب الإصلاحات الاشتراكية الطابع. وتوسع القطاع الخاص في 1991 بالمرسوم رقم 10(2)، إرضاء لطبقة رجال الأعمال بعد انتصار النظام على جماعة الإخوان المسلمين في حرب الثمانينات. لكن الانفتاح اكتمل في 2007، في عهد الأسد الابن، وبصيغة ليبرالية جديدة، بعد الانتهاء من إصدار سلسلة مراسيم أحدثت تحولاً في بنية الاقتصاد.

النتائج كانت كارثية؛ حيث انهارت الزراعة مع رفع الدعم عن المازوت والبذور والأسمدة، وحدوث هجرة كبيرة من أهم المناطق الزراعية (منطقة الجزيرة)، إضافة إلى خصخصة مشاريع في القطاع العام والتعليم والطباعة وانهيار صناعات أساسية كالنسيج والصناعات الغذائية والأدوية.

كما أدى الانفتاح وفقاً لمفهوم السوق الاجتماعي إلى تشكل اقتصاد ينشط في (القطاع الثالث) كما يسمى في الفكر الاقتصادي، أي اقتصاد ريعي يقوم على تجارة الاستيراد والخدمات والبنوك والسياحة والعقارات (بالتشارك مع الرأسمال الخليجي ) تديره طبقة من رجال الأعمال الجدد المرتبطين بالسلطة، وأدى استيراد المنتجات الصينية والتركية بتسهيلات جمركية، إلى ضرب الكثير من الصناعات الوطنية، كالموبيليا، وكل ذلك على حساب إفقار الغالبية العظمى من الشعب وارتفاع معدل البطالة؛ وهو ما كان في الأسباب الخلفية لاندلاع الاحتجاجات ضد النظام في 2011.

طيلة سنوات الحرب، استمر النهج الليبرالي الجديد للسلطة القائمة في دمشق؛ إذ أعادت هيكلة الاقتصاد تشريعيا بما يخدم أمراء الحرب الذين صنعتهم كواجهة، بهدف الالتفاف على العقوبات والتخفيف من الضغوطات وعجز الميزانية المرافق  لظروف الحرب، وبما يؤسس للنهب المرافق لإعمار ما بعد الحرب.

فاستمرارا في نهج الخصخصة، أعلنت الحكومة السوريّة في شباط من عام 2016،  عن خطّة التشاركيّة الوطنيّة”(3)، بوصفها استراتيجيّتها الجديدة، والتي اعتبرتها بديلاً لنموذج “اقتصاد السوق الاجتماعيّ” المُطوَّر في 2005؛ وقد سمح هذا القانون للقطاع الخاص بإدارة وتطوير الأصول الحكومية في جميع قطاعات الاقتصاد بوصفه الشريك أو المالك الرئيسيّ، باستثناء قطاع استخراج النفط.

كما أصدر النظام جملة قوانين تتيح إعادة التوزيع العمراني، بتحويل أراضٍ زراعية إلى أبراج عقارية، والاستثمار العقاري لرأسمالييه في المناطق التي عادت إلى سيطرته، كالمرسوم رقم  66 لعام 2012 ، والقانون رقم 10 لعام 2018 (4) (5)، الذي يشرع سرقة الحكومة للأراضي من ملاكها وإعادة إعمارها بعقود توقعها مع شركات خاصة ومستثمرين.

وبالتوازي مع ذلك وافقت الحكومة عام 2015  على قانون يسمح بتأسيس شركات قابضة خاصة لإدارة الأصول العامة، وخدمات مجالس المدن والوحدات الإدارية الأخرى، مما يتيح مجالا جيداً للمقربين من النظام لاستخدام الأصول العامة في توسيع تجاراتهم العقارية؛ ومنها شركة (دمشق شام القابضة) عام 2016 المسؤولة عن تنفيذ إعادة إعمار مشروع “ماروتا سيتي” لتطوير العقارات الفاخرة في بساتين الرازي وتنظيم كفرسوسة في دمشق بالاستفادة من المرسوم 66، كما أنشئت شركة قابضة في حمص لإحياء مشروع حلم حمص بأبراجه العالية، وشركة قابضة في حلب عام 2018. وفي  2018، تم السماح للقطاع الخاص بالاستثمار في مشاريع البنية التحتية (6).

عمل النظام على تنشيط قطاع التجارة لتأمين حاجاته من منتجات معيّنة كالموادّ الغذائيّة والأدوية والمشتقّات البتروليّة، معتمدا على وسطاء اسميين للالتفاف على العقوبات الغربية ، أو وسطاء محميين بشبكاته الأمنية،  لتسهيل عملية تبادل المنتجات بين مناطق النفوذ المتعددة، كمجموعة القاطرجي، سيما وأن أكثر من 90 بالمائة من الاحتياطي النفطي، ونصف الغاز السوري، ومعظم الثروات الزراعية تقع خارج، سيطرته.

لقد كان الأهم بالنسبة للنظام الإنفاق على آلته العسكرية، لتمويل توسيع نطاق نفوذه مدعوماً بحليفيه الروسي والإيراني ومقابل ذلك كان عليه توقيع اتفاقيات استراتيجية، مع كل من روسيا وإيران لاستثمار الثروات الطبيعية من نفط وغاز وفوسفات، وموانئ ومطارات، لآجال طويلة (7)  لتعويض قيمة مساهمتهما في  العمليات العسكرية.

هذا الإصرار الحكومي على السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، لتغذية النهب عبر العلاقة مع السلطة ومشاركتها، وإصرار النظام على الحل العسكري، بكلفته الدموية والتدميرية، حيث قدرت الكلفة الاقتصادية للحرب السورية ب 1.2  تريليون دولار أمريكي وفقا لتقديرات تقرير مشترك لمنظمة “الرؤية العالمية وورلدفيجن” وشركة “فرونتير إيكونوميكس”(8)، كل ذلك أعطى العقوبات الخارجية فاعلية حقيقية، حيث ارتفعت نسبة الفقر إلى أكثر من 90%، وفقاً لتقرير صدر في آذار عن صندوق الطوارئ الدولي للأطفال (يونيسيف)(9)، وارتفعت معدلات البطالة، مع تدني الأجور وإرث ضخم من الدين الخارجي سيلاحق الأجيال القادمة ويقيد استقلالية الدولة ومستقبلها.

“!حصار “حلال” وحصار “حرام

“!حصار “حلال” وحصار “حرام

مع تطور نتائج الحصار الاقتصادي الأمريكي على سورية والمسمى بـ ”قانون سيزر“ يتداعى أمامي فيض من قصص الحصار العسكري والاقتصادي الذي فرضه النظام السوري على الغوطة الشرقية، والذي امتد من مايو/أيار 2013 حتى استعادة السيطرة عليها في فبراير/شباط 2018.

لقد كانت أطول فترة حصار شهدها التاريخ الحديث، فطيلة مدة خمس سنوات حوصر ما يزيد عن 350 ألف في منطقة مساحتها تزيد قليلاً على 100 كيلومتر مربع، تعاون على من يعيش فيها تجار الحرب وتناحر على غلالها قادة الفصائل فكان الحال شبيهاً بالوضع الذي يعيشه المواطن السوري في الداخل بعد فرض الحصار الأمريكي عليه.

”قانون سيزر“ الأمريكي لم يوضع لخدمة المعارضة في حربها ضد النظام، بل وضعه المشرع الأمريكي بغاية ”تحسين سلوك النظام“ كما صرّح جيمس جيفري، الممثل الخاص لشؤون سوريا والمبعوث الخاص للتحالف العالمي لهزيمة داعش، في عدة مناسبات. وحتى لو توافق هذا القرار مع مصالح المعارضة السورية ورغبتها في إخراج إيران وحزب الله من سورية إلا أنّ المشروع الأمريكي يضع في اعتباره أمن اسرائيل أكثر من تحقيق العدالة والمحاسبة لصالح المواطن السوري المتضرر الأول والأخير من أفعال النظام ومن قانون سيزر على حد سواء.

القانون الأمريكي ينص فعلياً على الكثير من الأمور البراقة التي تهم المعارضة والمواطن السوري ولكنه لا يضع آليات لتطبيقها، وأكبر مثال على ذلك ما حدث في الأسبوع الماضي حين قامت روسيا والصين بالاعتراض على قانون يسمح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر المعابر الواقعة خارج سيطرة النظام في حين أنّ قانون سيزر ينص صراحةً على السماح بمرور المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة من قبل سوريا أو روسيا أو إيران أو أي داعمٍ أجنبي، والسماح بحرية الحركة والمساعدات الطبية، والتوقف عن استهداف المنشآت الطبية والمدارس والمناطق السكنية والتجمعات المدنية والأسواق.

القانون له تأويلات كثيرة ويبدو أن له تطبيقات خارج نصه ”البراق“، بحسب الاقتصادي السوري عارف دليلة، وسيطال في النهاية معيشة المواطن ولقمة عيشه وصحته، ولا يمكن التغاضي عن هذه الآثار الكارثية مهما كانت دوافع معدّي القرار المعلنة بأنها عقابٌ للنظام بسبب جرائمه ورغبةً في فرض التغيير.

يحمل هذا السيف الأمريكي دوافع أمريكية، وقد يتفق معارضو النظام مع بعض النقاط من حيث ابتزاز النظام وداعميه الروس في سورية، ولكن القرار سيبقى مسلطاً على أي نظام بديل قد يأتي من بعده، حتى ولو كان بقيادة المعارضة نفسها، تجربة العراق والعقوبات الأمريكية عليها لا زالت نصب أعيننا ولا فائدة من الدروس ما لم نعتبر منها.

بالرجوع إلى الغوطة الشرقية إبان حصارها، فقانون سيزر يشبه كثيراً ما حصل هناك مع وجود القصف الوحشي الذي لم يرحم المحاصرين ولم يفرق بين مدني وعسكري. وفي محاولة للتغلب على الحصار قامت فصائل المعارضة – كل على حدة – بحفر أنفاقٍ لها تصل بين مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة النظام لإدخال المواد الغذائية والطبية والمحروقات من جهة، ولتسهيل حركتها وإمداداتها العسكرية من جهة أخرى. كانت هناك خمسة أنفاق تم حفرها وتشغيلها خلال الفترة الممتدة بين عامي 2014 وحتى مايو/أيار 2017 بعد إعادة النظام السوري سيطرته على حي برزة الدمشقي، ويمكن تعداد الأنفاق بالترتيب الزمني:

  • نفق الزحطة (حرستا – غرب الأوتستراد) بإشراف فصيل فجر الأمة ثم لاحقاً أحرار الشام الإسلامية.
  • نفق جيش الإسلام (حرستا – برزة) والذي أغلق مباشرة لوجود النفق في مناطق سيطرة فجر الأمة مما نتج عنه الكثير من الإشكالات والخلافات.
  • نفق الفيلق (عربين – القابون) وهو أكبر نفق كانت تسير فيه الشاحنات وبإشراف فيلق الرحمن.
  • نفق النور (عربين – القابون) وهو كبير أيضاً وبإشراف جبهة النصرة.
  • نفق (حرستا” المعارضة“ – حرستا ”المهادنة“) وهو نفق واسع وتم تفجيره عدة مرات ولكن فصائل المعارضة أعادت فتحه عبر تحويلات متعددة.

عندما لاحظ النظام السوري عدم جدوى الحصار مع تدفق البضائع عبر المعابر إلى المناطق المحاصرة بدأت فكرة الاستفادة المادية من الحصار مع إمكانية مراقبة تدفق البضائع ونوعيتها مع التحكم بأسعارها، فأصبحت سيارات ”المنفوش“، وهو متعهد محلي من مسرابا في الغوطة الشرقية، تدخل بسلاسة عبر معبر مخيم الوافدين الواصل بين دوما والمخيم، وبذلك بدأ عمل الأنفاق يتناقص، واقتصر على المواد التي لم تدخلها سيارات المنفوش مثل الدواء والمحروقات والأدوية الزراعية والذخيرة. وخلال الأشهر الستة التي سبقت استعادة السيطرة على الغوطة الشرقية توقف تدفق البضائع نهائياً ليعيش المحاصرون في ظل وضعٍ معيشي هو الأصعب تماماً بالمقارنة مع أية منطقة محاصرة، فأصبحت مادة السكر والرز والزيت تباع بالغرامات وبأسعارٍ خيالية.

من سياق ما حدث في الغوطة الشرقية، لم ينجح الحصار في إسقاط فصائل المعارضة بل عزّز نفوذها ومكنّها من إحكام سيطرتها على المنطقة، وكذلك فعلت الحرب، فقد غاب العمل المدني عن الواجهة وتمت السيطرة عليه، حتى أن قائد فيلق الرحمن أعلن نفسه قائداً عاما للقطاع الأوسط بما فيها المؤسسات المدنية والثورية في تلك المنطقة وجير لصالح معركته كل المواد والأموال المرصودة والمودعة ”أمانة“ في عهدته كما اكتُشف لاحقاً.

نرى تلك الصور والأمثلة من الغوطة الشرقية تتكرر، لكن على نحوٍ أوسع لتشمل سورية. فالنظام السوري أصبح في وضع المحَاصَر، وباتت قنوات هروبه من العقوبات في وضعٍ لا تحسد عليه، فلبنان الذي كان بمثابة حديقة خلفية للنظام السوري وتجار الحرب للهروب من المراقبة الأمريكية أصبح هو نفسه يعاني من حصار ٍأمريكيٍ غير مباشر وانحساٍر للدعم الخليجي، مما هدد المواطن اللبناني بكارثة اقتصادية غير مسبوقة.

بدأت أولى عمليات التصعيد في لبنان مع تقديم رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته في أكتوبر/تشرين الأول 2019 على خلفية احتجاجات مدنية ضد النخبة الحاكمة التي يتهمها اللبنانيون بالفساد وجرِّ لبنان إلى انهيار اقتصادي لم يشهده منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990، ثم أتبع ذلك تخفيض تصنيف لبنان الائتماني مع نظرة مستقبلية سلبية في فبراير/شباط 2020 مما أدى إلى انهيار كبير في سعر صرف العملة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية، حيث وصل سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية إلى 9500 ثم تحسن تدريجياً ليصل حتى تاريخ كتابة هذه المقالة إلى حدود 6800، مع العلم بأن الليرة اللبنانية بقيت محافظة على سعر صرف ثابت منذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان بحوالي 1500 مقابل الدولار.

يمكن أن نلاحظ مما سبق ومن تزامن انهيار العملة السورية الأخير مع العملة اللبنانية بأنّ ما يحدث لليرة السورية متأثر بشكل كبير بما حدث للاقتصاد اللبناني.

لقد حافظت الليرة السورية على سعر صرف وصل إلى 500  ليرة مقابل الدولار وذلك طوال سنوات الحرب الشديدة (بعد أن كانت 47 ليرة مقابل الدولار قبل بداية الأحداث في سوريا في 2011) وحافظت على هذا الرقم سنوات عدة حتى بداية الاحتجاجات في لبنان وبداية انهيار المصارف اللبنانية، حيث بدأ سعر صرف الليرة بالارتفاع حتى وصل إلى 2500 ليرة سورية مقابل الدولار وذلك قبل تفعيل قانون سيزر، ليرتفع مع بداية تطبيق العقوبات الأمريكية الى أكثر من 3000 ليرة ثم ليعود بعدها خلال أقل من شهر إلى حدود 2400 ليرة مقابل الدولار.

كانت الأزمة الاقتصادية والسياسية  في لبنان القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد السوري الذي اعتمد على لبنان بشكل كامل للالتفاف على أية عقوبات خارجية مفروضة على مصارفه ووزاراته ومؤسساته وتجار حربه، وإنّ مفاعيل قانون سيزر سوف تطال المصارف والمؤسسات والشركات اللبنانية في حال تعاونها مع نظيراتها في سورية كما هي الحال بالنسبة للمؤسسات البنكية ومراكز التحويلات خارج لبنان، وبالتالي أحكم القانون الأمريكي الجديد خناقه على النظام السوري والاقتصاد الذي احتكره النظام طيلة العقود الخمسة الماضية، حتى أصبحنا لا نفرق بين مؤسسة خدمية والنظام الحاكم.

في النهاية، وبعيداً عن الحالة المعيشية للمواطن والتي أصبحت ما دون خط الفقر، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: أليس هذا ما يريده أغلب نشطاء الثورة ومعارضي النظام؟ ألم يفرح هؤلاء بالحصار على سورية/النظام في الوقت الذي شجبوا فيه ونددوا عبر بياناتهم الكثيرة بحصار الغوطة الشرقية ومناطق الحصار الأخرى ونادوا بفك الحصار عنها؟ أم أنّ هذا الحصار حلال وذاك حرام؟

في المقابل لا يمكن لنا التفريق بين المؤسسات الخدمية – كما أسلفنا – وبين مؤسسات النظام، وبالتالي مع انعدام أفق الحل في سوريا فهل سيكون هذا الحصار بداية لتصويب الحل السياسي كما طرحت الخارجية الأمريكية على موقعها وعلى لسان وزير خارجيتها مايك بومبيووالسفير جيمس جيفري؟

أليس أكثر المتضررين من انهيار العملة السورية وغلاء الأسعار هم المواطنون العاديون والموظفون المدنيون إلى جانب العاملين في قطاعات الجيش والأمن والشرطة المساندة للنظام؟!

لا أعتقد بأنّ أي خير قد يأتي من الإدارة الأمريكية الحالية أو أي إدارة سابقة ولاحقة، فالتاريخ شاهد على ذلك وهو مليء بالعبر.

اقتراحات اقتصاديين لمنع تفاقم الأزمة الاقتصادية في سوريا

اقتراحات اقتصاديين لمنع تفاقم الأزمة الاقتصادية في سوريا

طغا التخبط الاقتصادي الذي يعيشه السوريون في هذه الفترة على كل ما عاشوه خلال سنوات الحرب التسع الماضية. ولاسيما مع الإجراءات الحكومية المتخذة لتفادي انتشار جائحة كورونا، ومما فاقم الأمر سوءاً انهيار قيمة الليرة السورية وتصاعد سعر صرف الدولار إلى عتبة 2700  ليرة سورية؛ فأصبحوا تائهين فيما سيؤول إليه الحال بعد كل هذا التدهور المعيشي. ترافق تصاعد صرف الدولار مع إغلاق عشرات المحلات التجارية لعدم ثبات أسعار المواد، وعزوف الموظفين عن الذهاب إلى العمل الذي لا يسمن أو يغني عن جوع.

تقول (هادية 38 عاماً، موظفة في وزارة التربية ولديها طفلان): “كيف لمواطن يتقاضى متوسط دخل 50 ألف ليرة سورية ما يعادل (19 دولار) أن يتمكن من تغطية نفقاته المعيشية، ونفقات أطفاله وفواتيره وأجرة منزله، ألغينا الكماليات ونسعى لتأمين الأساسيات ولكن الوضع المعيشي لم يعد يحتمل، ولم نعد نستطيع تأمين أدنى احتياجاتنا كأسرة، الإجراءات الحكومية تمعن في إفقار المواطن والتأطير في المواد المدعومة عن طريق البطاقة الذكية التي فتحت باب جديد للفساد ولإذلال المواطن.” وتضيف: “منذ حوالي الشهرين لا أذهب إلى عملي لأنني سوف أدفع مواصلات أكثر مما سأتقاضى، بدنا فعل ما عاد بدنا حكي بدنا حل ولادنا ماتت من الجوع”.

ويرى الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي ابراهيم العدي أن الموظفين هم الفئة الأكثر تضرراً في الأزمة الاقتصادية، وبما أن الحكومة عاجزة عن ضبط والتحكم بالأسواق والأسعار فيجب عليها زيادة ما تتحكم به وهو الكتلة النقدية (الرواتب). وأضاف التجار بيدهم السلع والخدمات، والحكومة بيدها الكتلة النقدية، وطالما أنها لا تستطيع التأثير في سعر السلع والخدمات، فهي حتماً تستطيع التأثير في الكتلة النقدية، يجب زيادة الرواتب حتى 500% على أقل تقدير وهذا أمر لن يغطي كامل نفقات المواطن، فالهدف ليس تغطية كامل نفقات وانما تحسين الوضع قليلاً، زيادة الرواتب من الممكن أن تدعم فئة محددة في المجتمع وليست حلاً  كاملاً للوضع المعيشي وإنما دعم جزئي  للموظفين، فالحكومة تتحكم في الكتلة النقدية ومن واجبها زيادة الرواتب.

زيادة الرواتب والتضخم المحتمل

دخلت الأسواق السورية مرحلة التضخم الجامح والبلاد تذهب إلى مرحلة صعبة ولا يمكن التكهن بمدى هبوط الليرة ومتى سيكون الاستقرار، فقد فقدت الليرة السورية أكثر من 10 مرات من قيمتها من 2011 لغاية منتصف عام 2019، و40 مرة إضافية من منتصف 2019 لغاية الآن. وبالتالي فإن معدل التضخم كان لغاية منتصف 2019 بحدود 1000%، وتجاوز في الظروف الراهنة 3000%. بينما يذهب خبراء اقتصاديون إلى أن أكثر من 80% من السوريين تحت خط الفقر، وحسب د. العدي: “التضخم هو حالة موجودة وحدثت، زيادة الرواتب يجب أن تحدث لو حدث التضخم، التضخم ليس سببه زيادة  الرواتب فقط، وإنما مجموعة عوامل كالعرض والطلب، ونمط الاستهلاك، وسعر الصرف. إن زيادة رواتب هي واحدة من عشرة عوامل، في سوريا يعتبرون التضخم عدواً افتراضياً لا يمكن القضاء عليه، إذا فرضنا زاد الراتب بمعدل 100% التضخم ممكن يبتلع 20 إلى 25 بالمائة وعلى مدى زمني.”

يضيف مستغرباً: “لا أعرف ماذا يقدم المستشارون الاقتصاديون من نصائح للدولة! كل دول العالم التي تحدث فيها حروب تتأثر العملة ولكن عملياً كل دول العالم عندما تزيد الأسعار تزيد الرواتب.” ويكمل: “تجارب وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ميؤوس منها، ليس لها دور، لم يكن لها دور في الماضي ليكون لها دور في الحاضر، بعز قوة الدولة الاقتصادية لم تضف شيئاً كانت شكلية لا أكثر، فإذا كانت دولة عاجزة عن التحكم في السوق فيجب أن لا تعجز عن زيادة الرواتب كحد أدنى لدعم المواطن في هذه الأوضاع الكارثية التي يمر بها الشعب..”

الاستغلال أصبح حالة عامة

ارتفاع الأسعار ليس من قبل التجار فقط، وإنما طال جميع المهن الأخرى والمدارس والجامعات والمشافي الخاصة. يقول د. ابراهيم العدي: “فالوضع الطبيعي للعامل في الدولة إن لم يكن فاسداً وصل لمرحلة اللامعقول مع مثل هذه الرواتب وتلك الأسعار، وإذا أردنا النظر حولنا في الحياة اليومية العملية نجد جنون الأسعار طال كل مجالات الحياة من سيارة الأجرة أو عامل صحية أو حتى الأطباء جميعها رفعت أجورها كما التجار، المهن الطبية والتي تعتبر ضرورة للمواطن كمثال بسيط طبيب الأسنان أصبح يتقاضى أجر معالجة السن الواحد 100 ألف ليرة بما يعادل راتب موظف لشهرين كاملين، والمعاينة بلغت عند بعض الأطباء خمسة  عشرة  ألفاً  والتي لا تحتاج أكثر من عشر دقائق، المهن الطبية ومن في حكمهم تجاوزت حدود المعقول”. وحسب تعبير دكتور العدي: “من غير المنطقي أن يتقاضى طبيب ثمن زيارة مريض لعدة دقائق بضعة آلاف في الوقت الذي يتهرب الأطباء من الضريبة بأساليب عدة، لذلك الضبط يجب أن يكون بما يتناسب مع دخل المواطن ليس بما يحصل عليه الأطباء في الدول المجاورة”.

 من جانبها “ليلى جمعة” تحدثت عن معاناتها مع أقساط مدارس أولادها التي أصبحت غير معقولة: “هل يعقل قسط إحدى المدارس الخاصة كان في العام الماضي 310 ألف وفي هذه السنة ارتفع 500 ألف ومن عشرة أيام ارتفع إلى 700 ألف، واليوم اتصلوا بنا من الإدارة ليتم إعلامنا أن القسط أصبح مليون ومئة ألف، متسائلة أين الرقابة ووزارة التربية، لم يعد أحد يستطيع دفع كل هذه المبالغ.”

أما الخبيرة الاقتصادية الدكتورة “رشا سيروب” فدعت عبر صفحتها على الفيسبوك لتطبيق المادة  /5/ من الدستور السوري  التي تنص على: “تجوز المصادرة الخاصة  لضرورات الحرب والكوارث العامة”،  وأضافت ” الوضع لم يعد يحتمل  شد وجذب ومسلسلات فيسبوكية”.

الاقتصاد المغلق

يرى الصناعي “عاطف طيفور” أن الاقتصاد المغلق هو الحل فقد اقترح أن يتم إغلاق جميع منافذ التصدير والتهريب، وإغلاق جميع منافذ الاستيراد للكماليات، وعبر بالقول:  “كل من يظن أن الوطن بحاجة لقطع أجنبي فهو على خطأ، نحن بحاجة لمنتجات زراعية وصناعية وبحاجة لليرات السورية وبحاجة للذهب والعالم مقبل على جفاف اقتصادي والعملة الوطنية لكل دولة هي الأساس مع اكتفائها الذاتي واقتصادها المغلق، وليس هناك حاجة  للتصدير ولكننا بحاجة لاكتفاء ذاتي، وأن يكون التصدير بيد الدولة للمواد الاستراتيجية فقط، وأن  يكون القطع التصديري بيد الدولة فقط”، ويضيف: “تتضاعف الاستيرادات كلما ارتفعت نسبة إعادة التصدير والتهريب، كما أن الأسعار تتضاعف كلما ارتفعت نسبة التصدير لأي مادة على حساب الفائض الداخلي، فالوطن  بحاجة لفائض من خيراته ومنتجاته.” ويختم “طيفور”: “بدل أن يكون تقشفاً على المواطن، ليكن تقشفاً بالتصدير يفتح ويغلق حسب دراسة أسبوعية وشهرية لكل مادة على أساس توفرها والفائض والسعر المحلي. لا يمكن فرض تقشف وشد أحزمة على فئة بشكل غير مباشر وفتح الأبواب على مصراعيها لباقي الفئات بشكل مباشر.”

مهما كانت الحلول المقترحة لحل الكارثة المعيشية التي يعيشها المواطن السوري، يبقى أثرياء الحرب والفاسدون بقوتهم وجبروتهم وتزايد ثرواتهم بالمليارات التي جنوها من لقمة عيش الفقير، ويبقى الفقير ينتظر بضع آلاف ليرة في نهاية كل شهر والذي لا يستطيع من خلالها أن يمضي يومه إلا بشق الأنفس غير آبه لا بانتشار مرض ولا غيره، فهو الخاسر الوحيد الذي يطبق أسنانه على الحديد راجياً من الله أن يكفيه حاجة العوز.

ما بين قناع أسماء النيوليبرالي وقناع رامي الديني

ما بين قناع أسماء النيوليبرالي وقناع رامي الديني

انتقلتْ أسماء الأسد من موظفة في مصرف جي بي مورغان في لندن إلى سيدة القصر الجمهوري في دمشق، وكان الجسر الذي عبرتْ عليه هو زواجها من رجلٍ ورثَ سلطة على بلاد بأكملها جاءتْهُ على طبق من ذهب، فقد كان طالبَ طبٍ، لم يمتلك ميولاً سياسية أو عسكرية. وربما لم يفكر بالرئاسة، لكن خللاً أحدثه القدر في ترتيبات أبيه الرئيس حافظ الأسد، غيّر مسار حياته من طبيب عيون إلى طبيب سياسي فشل في مداواة الجسد السوري وزاد من أمراضه. وكان هذا خطأ ارتكبه هو بقبولهِ للمنصب، بقدر ما ارتكبه من ورّثوه رئاسة سوريا، وكل من لعب دوراً في حدوث ذلك، ذلك أن سوريا ما تزال تدفع ثمن هذا القرار الذي اتخذتْه حلقةٌ ضيقة من الرجال من خلال تمثيلية في برلمان لا وجود له بالمعنى الديمقراطي الحقيقي، ويتسم بعض أعضائه بالجعجعة والتظاهر بمحاربة الفساد وبادعاء العلمانية عبر تصنيع عداوة مسرحية مع وزارة الأوقاف. وظنّ الذين مهّدوا للتوريث أنهم فعلوا الصواب أملاً في إبقاء الوضع في البلاد كما كان في عهد الأب، دون أن يفتحوا أعينهم جيداً ويفكروا باحتمالات أخرى قد يقود إليها الأمر. ولم يعرفوا أن يستثمروا بذكاء قوتهم الضاربة وتحالفاتهم الدولية والإقليمية وعلاقاتهم، ويلعبوا لعبة من ألاعيب عصر الديمقراطية، بل قرروا وضع صمْغ على مؤخراتهم والجلوس على الكرسي والالتصاق بها إلى الأبد، دون اكتراث بانحسار الثروة النفطية، وزحف التصحر والجفاف وشح المياه والأخطار الأخرى الناجمة عن التغير المناخي، ودون معالجة لتصاعد البطالة وللشرخ الطبقي الذي ازداد اتساعاً وللفساد الإداري الذي استشرى، وهيمنة الفاسدين على سلك القضاء، وكل الأزمات الأخرى المتراكمة التي أدت إلى الانتفاضة، وإلى الصراع الذي لم يُحْسم بعد. ولم يكن وضع الصمغ على المؤخرات الأبدية إلا ترجمة لشعارات كان السوريون صغاراً وكباراً يرددونها بقرف حين يُساقون إلى مسيرات التأييد المصطنعة، من الجامعات والمدارس ومن دوائر القطاع العام والخاص، شعارات مسختْ حزب البعث العربي الاشتراكي إلى ببغاء في قفص السلطة. وكانت النتيجة انتفاضة مدنية ملحمية في بداياتها تطورت إلى حرب طاحنة ما تزال احتمالات استمرارها قائمة.

وطفتْ على شاشة الحدث قصةُ صراعٍ جديد على مال شعب السوري دخلت أسماء الأسد كطرف رئيسي فيه، ولم يكن هذا الدخول مفاجئاً ذلك أن أسماء، وبحسب معطيات كثيرة، كانت قد بدأت بترتيباتها الخاصة، وحاولت قنوات إعلامية سورية ودولية تحويلها إلى أيقونة تمثل الوجه الحضاري الناعم للسلطة في سوريا، وقدمتها كمحبة للفنون وللمواهب وللخبرات، والتي تَتوَّجَ حب زوجها الرئيس لها في الآونة الأخيرة بهدية ثمينة، وهي لوحة فنية للفنان العالمي ديفد هوكني اشتُريت من مزاد بريطاني بسعر قارب ٣٠ مليون دولار على ذمة مواقع إعلامية روسية، في وقت يعاني فيه معظم أبناء الشعب السوري من فقر مدقع بعد حرب طويلة مدمرة. وربما كانت الفتاة أسماء تحلم بحياة من نوع مختلف إلا أن “القسمة والنصيب”، كما يقول السوريون، قاداها إلى زواج أخرجها من سياق حياتها العادية ووضعها في سياق آخر يختلط فيه المعشوق بالكرسي، وأحياناً ينحسر الحب ويتحول إلى حب للكرسي. وبدأت أسماء تمارس أدوارها الاجتماعية والاقتصادية والخيرية في ظهوراتها التلفزيونية الكثيرة وانبرت إلى القيام بدور راعية الشباب ومنظِّمتهم ومهندسة المواطن الفاعل، والباحثة عن الموهوبين والمتفوقين، والأهم من ذلك كله دور مصادرة الألم وامتلاكه كما لو أن ألم سوريا هو ألمها، هذا الألم السوري، نتاج الأضاحي الكثيرة لحماية الكرسي. وهذا موضوع أشارت إليه بتعمق الباحثة الأميركية ليزا ودين في كتابها الصادر مؤخراً عن مطبعة جامعة شيكاغو بعنوان”استيعابات سلطوية، الإيديولوجيا والحكم والحداد في سوريا“. وبدأت أسماء عملها كي تصبح ”أم الكل“، عقيلة ”سيد الكل“، إذا ما استعرنا عنوان فيلم دعائي ظهرت فيه أثناء الحرب، والذي أجلست فيه أمامها أمهات الشهداء كي تحدثهم عن معاني الوطنية وتغيير وجه التاريخ، أمهات الشبان الصغار الذين قضَوا على جبهات أعلن السيد الرئيس أثناء زياراته المتقطعة لها أنها جبهات لمعركة كونية، معركة السيطرة على العالم، ضد قوى الشر والاستكبار العالمي، إذا ما استعرنا من قاموس البلاغة الإيرانية. ولكن ينبغي أن نشير هنا، توخياً للدقة والموضوعية، أن تلك الجبهات لم تكن جبهات بريئة، فقد كان هناك ميلشيات ممولة ومدعومة بالمال النفطي ومال الاستخبارات الأردوغانية والسعودية والقطرية والأمريكية والأدوات الأصولية السلفية والجهادية العابرة للحدود. ولم يكن هناك ثوار حالمون، ذلك أن الجيل المدني للثورة السورية تلقى ضربات متواصلة على يد النظام والتيارات الجهادية فقد سُجن من سُجن وقُتل من قُتل وهُجِّر من هُجِّر وهاجر من هاجر وارتد من ارتد، واحتل جبهات القتال مقاتلون منضوون في تنظيمات متشددة ومريبة مرتبطة بقوى أخرى، بل صار بعضهم بنادق قابلة للتأجير خارج سوريا. وحيث يهيمن لوردات الحرب والميلشيات المسلحة والممولة يخمد الحس المدني والنَفس الثوري، ويتحول إلى أصوات مختنقة ومشتتة في الإعلام الاجتماعي، ويُصادَر الخطاب ويُشوَّه. وحين يُصاب المثقفون باليأس يفقدون البوصلة، أو يراهنون حتى على الشياطين، وهذا ما حصل لكثير من المثقفين السوريين المؤيدين للانتفاضة حين وضعوا زعيم جبهة النصرة ابن تنظيم القاعدة الشيخ أبو محمد الجولاني وتشي غيفارا في خانة واحدة، وحجَّ كثيرون منهم إلى البلاط الملكي السعودي وغيره من البلاطات الأوربية والأميركية كي يسترزقوا باسم الثورة وأجّرتْ كثير من الأقلام نفسها لإعداد جرعات السم الطائفية وتوزيعها.

وكما فعلت سوزان مبارك وغيرها من عقيلات القصور الجمهورية سابقاً، بدأت أسماء الأسد برعاية المهرجانات الثقافية والعلمية والطبية وبالتحدث عن دعم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة دون أن يكون هناك تمويل حقيقي للعناية بهم ومتابعة فعلية لهم تتعدى الظهور الإعلامي، ودون أن يكون هناك عدل في استقبال الحالات الكثيرة منهم في المراكز النادرة في سوريا. وغالب الظن أن موضوعهم بات طي النسيان في سنوات الحرب. وقبل ذلك كانت أسماء الأسد تحاول أن تبني شبكات في أوساط الشباب الموهوبين والمجتهدين، وأن تشكل جيلاً جديداً يعكس وجهاً آخر للابن القائد، الذي لم يحصل بعد على لقب الأب القائد، كما لو أنه فشل في امتحان الحصول على لقب البطريرك حتى بين الموالين له. وكما حدث تحول من أسماء الأخرس إلى أسماء الأسد، حدث تحول آخر بدأ يشغل الإعلام العربي والعالمي، وهو التحول من القوة الناعمة إلى القوة الخشنة، ذلك أن وضعيات النعومة والظهورات التلفزيونية المدروسة والمدبرة لا تساعد كثيراً في ترتيب بيت السلطة إذا لم يُرتَّب الوضع المالي، وترتيب الوضع المالي يقتضي وضع اليد على الشركات التي كان رامي مخلوف “مؤْتَمَناً” عليها. هكذا صار لأسماء مخالب أمام باب بيت المال، وبدأت هذه المخالب تخدش وتمزّق. وأسماء ”امرأة تحب السيطرة“، كما وصفها رجل الأعمال السوري فراس طلاس في مقابلة أجرتْها معه قناة الحرة مؤخراً، مضيفاً أنها بدأت تستغل ضعف خصومها وتعيّن موظفين أوفياء لها في مناصب حساسة وتسرّح من لا يُصْغي إلى كلمتها واضعة نصب عينيها هدف السيطرة على الثروة التي يديرها رامي مخلوف لا لكي تعيدها إلى أصحابها وإنما كي تؤمن مستقبل أولادها، عبر لعبة تنقل فيها الإشراف على سيرياتيل وراماك والشركات التابعة إلى الأمانة السورية للتنمية، أو تُلْحقها بوزارة الاتصالات مما يفسح المجال لتقديم زوجها في صورة محارب الفساد، حتى ولو كان الفاسدون من عائلته. ولم يفت فراس طلاس أن يشير بذكاء يميزه عن كثيرين من المتحدثين في الشأن السوري إلى وجود طائفتين في سوريا، الأولى هي الطائفة العلوية التي حاول رامي مخلوف أن يشدها إلى صفه في كلمتيه المصورتين، وطائفة الرئيس، وهي الشبكات التي تشمل أطرافاً من الطوائف كلها في سوريا، تسيطر على المال والقرار، وهذا يحيل إلى موضوع الشبكات الاقتصادية التي شكلها النظام، والتي ضمت مسؤولين وأبناء مسؤولين ورجال أعمال سنة ومن طوائف أخرى، وقد درسها بشكل مستفيض ومتعمق الباحث الأميركي من أصل لبناني بسام حداد في كتابه الموسوم ”شبكات الأعمال في سوريا: الاقتصاد السياسي للمرونة الاستبدادية“، وهو كتاب تساعد قراءته في فهم الصراع الدائر في سوريا من منظور تاريخي يضع في حسبانه السياقات التي توجد فيها سوريا والأطراف المعادية المتربصة بها.

ولا نعرف إن كان رامي مخلوف سيتمكن من الظهور في فيديو آخر كي ينذر بعقابه الإلهي، ذلك أن طلاس توقع في الحوار نفسه أن يغادر رامي المشهد بهدوء بعد أن يعتذر ويتنازل عن الشركات التي لا تشكل إلا ١٠٪ من الثروة، وأن يتم التنازل عن الأموال التي في الخارج عبر ترتيب أو اتفاق معين. وفي أحدث تصريح له في الإعلام الاجتماعي في وقت كتابة هذه السطور قال رامي مخلوف بالحرف الواحد متبنياً لغة دينية باطنية مدروسة: ”بعدما توجهتُ إلى عبادكَ لتبليغ مرادكَ لرفع الظلم عن عبادكَ فلم يعينني أحد… فعدتُ واستجرتُ بالواحد الأحد“، وهذا يؤكد أنه لم ولن يحصل على أية مساعدة من الرئيس، وأن الأمور ستأخذ مجراها في تجريده من الأموال والأملاك. وينطوي لجوء رامي إلى لغة دينية كهذه مدروسة وحمالة أوجه على احتمالات نجهل طبيعتها وعلينا أن ننتظر تطور الأحداث. ولا نعرف إن كان ما يجري نوعاً من ترتيب شبكة جديدة تجمع بين رموز سنية وعلوية لإرضاء الأطراف المغذية للصراع وللوصول إلى حل يخرج سوريا من مأزقها الحالي، إذ لا نمتلك معلومات أو إحصاءات دقيقة حول أي شيء في سوريا، إذا لم يكن مسرباً، ولا أحد يستطيع الوصول إلى أية معلومة، داخل القبضة الأمنية الساهرة على حراسة الأخطاء المتراكمة والمكدسة والتي تحولت إلى طبقات جيولوجية فوق خط زلازل السياسة في منطقة حساسة تشهد صراعاً إقليمياً وعالمياً للسيطرة عليها. ولن يكون هناك دور لأعضاء الحكومة الآخرين أو للمستشارين أو المقربين لأن أسماء وزوجها لا يستشيران إلا نفسيهما، ولا يصغيان إلا إلى ما يقولانه (بالطبع، باستثناء القنوات الأمنية). وروى مرة أحد الأدباء العرب في جلسة شخصية أن الرئيس بشار الأسد وجه دعوة من خلال مسؤولة الثقافة في سوريا السيدة نجاح العطار لعدد كبير من المفكرين العرب لمناقشة قضايا الأمن القومي والأخطار التي تهدد المنطقة. وكان من المتوقع أن يصغي الرئيس إلى المفكرين المدعوين كي يتنوَّر بآرائهم، لكنه قرر بدلاً من ذلك أن ينظّر عليهم كعادته، وحاضر بهم فترة طويلة ثم صرفهم دون أن يصغي إلى أي منهم. ولماذا يصغي؟ ومتى أصغى الدكتاتور العربي إلى مثقف أو مفكر؟ هذا طبيعي جداً في الدكتاتوريات. وأُشيعَ أيضاً أن الرئيس وزوجته لا يجالسان إلا الشخصيات الدرامية ولا يحترمان من المثقفين إلا الممثلين والمخرجين وبعض الرسامين والنحاتين المشهورين، ربما لأنه من السهل إعادة توجيه الممثل أو المخرج ودفعه إلى الاشتغال على موضوعات تخدم توجه السياسي، وهذا يفسّر محاولة بعض الممثلين والمخرجين احتلال دور المثقف المنظّر أو النزول إلى الشوارع لتهدئة المتظاهرين سواء في بدايات الانتفاضة أو بعد تفشي وباء كوفيد ١٩، رغم أن موضوع الدراما، وخاصة الكوميديا، معقد، ويمكن أن تكون الكوميديا أداة للسلطة وتنطوي على تمرد عليها في آن واحد معاً كما تبين الباحثة الأميركية ليزا ودين في كتابها ”استيعابات سلطوية، الإيديولوجيا والحكم والحداد في سوريا“، وهو كتاب يخلو من الآراء المسبقة ومسلح بالأدوات المعرفية والمنهجية الدقيقة، وقائم على بحث ميداني إثنوغرافي دقيق. ومن خلال أدوات معرفية وعبر مناهجية يقرأ الكتاب الحدث السوري بعيداً عن الاصطفافات والولاءات من أجل الإسهام في جدل حول الإيديولوجيا واشتغالاتها على الساحة السورية، مما يلغي الفارق بين باحث من ثقافة أخرى وباحث محلي، لأن الصراع ضد السلطة والهيمنة هو صراع عالمي نظراً لتشابكات السلطة العابرة للحدود القومية وقد تنفع فيه دراسة مكتوبة بلغة أخرى أكثر من دراسة مكتوبة بلغة البلد خاصة إذا كانت تخلو من الموضوعية، مما يقود إلى ضرورة إلغاء النظرة القائمة على الشبهة إلى الباحثين الغرببين الجادين الموروثة من النظرة إلى المستشرقين الذين كانوا موظفين في المشروع الكولونيالي. وتكفي الإشارة هنا إلى أن ليزا ودين فُصلت لمدة عام من جامعة بيركلي لأنها انتقدت الممارسات القمعية والاستيطانية الصهيونية. ويفرد كتابها فصلاً كاملاً للكوميديا السورية بعنوان ”الفكاهة في الأزمنة المظلمة“. وفي الفصل الأول الذي جاء بعنوان ”أوتوقراطية نيوليبرالية وتقويضها“، توضح ودين أنه من خلال تسويق دعائي مدروس حاولت أسماء الأسد أن تجسد الفعالية النيوليبرالية، وتقدم نفسها على أنها الاستعارة السائرة والمتحدثة للنظام الأخلاقي النيوليبرالي، على أساس أن مشاريعها مختلفة عن آليات النظام الاستبدادي في السيطرة الاجتماعية سعياً إلى “المواطن الفاعل“. ذلك أن أسماء التي سماها الإعلام السوري سيدة الياسمين وسمّتْها مجلة فوغ وردة الصحراء، والتي تدير مكتبها، بحسب أحد كتاب هذه المجلة الذي تستشهد به ودين، كما لو أنه مشروع أعمال تجارية، عملت، على أن تُظهر نفسها كوجه من وجوه الثراء الليبرالي الجديد، وبُذلت جهود إعلامية في هذا الإطار لتصنيع صورة نيوليبرالية عن رفاه مزعوم لجذب السوريين إلى مزيد من القبول والإذعان للنظام القائم يختلف عما كان يحدث في العهد السابق. وفي خضم التغطية الإعلامية السائدة للخلاف المزعوم بين رامي وأسماء تُختزل القضية السورية الآن إلى صراع على النفوذ والمال بين أطراف إما تعمل على البقاء في السلطة أو تعمل على أن تجدد السلطة وتمنحها وجهاً جديداً، دون إحداث تغيير جوهري في بنيتها، لإرضاء أطراف معينة قبل أن تبدأ وليمة إعادة الإعمار.

وفي هذه الأثناء يحتدم الصراع على بيت مال السلطة، وتنبري له الخبيرة المصرفية السابقة، التي لم يحدث أن وقفت (لا هي ولا غيرها من المسؤولين) مرة في طابور كي تستلم جرة غاز، ولم تركض لاهثة تحت جسْر عمها الرئيس للحاق بميكرو صغير كي تذهب إلى غرفتها المستأجرة في الضواحي أو في العشوائيات، والتي لم تنتظر أمام فرن في ركن الدين أو القدم أو قدسيا أو التضامن أو دف الشوك أو ال ٨٦ وغيرها من الأحياء الأخرى كي تحظى بربطة خبز تسد بها رمق أولادها. غير أن أسماء الأسد أو رامي أو الرئيس ورجال أعمال المرحلة وأصحاب القرار الآخرين في سوريا يستخرجون ثرواتهم من هذا التهميش والتفقير لسواد الشعب السوري، الذي قرف من التكنوقراط ورجال الأعمال والمقاولين وشركاء البزنس والسياسيين الذين عمَّتْ فضائح صفقاتهم حتى فاحت روائحها الفاسدة.
يختزل الإعلام القضية السورية إلى رواية أبطالها رامي وأسماء وبشار وماهر ومهند لكن القضية أكبر من ذلك، والمشكلة أعقد. وإذا كان النزاع قائماً على ثروات وشركات ستوسّع أموالهم وتمتّن أمنهم، وتساعدهم في التضييق على منافسيهم، وتمول أدوات قمعهم فإن كارثة انهيار المجتمع والدولة، وتمزق الجسد الاجتماعي، والجراح العميقة التي لم تندمل، والتي سيمضي وقت طويل قبل أن تشفى أو تُنسى، لن يفعل لها هذا الصراع على المال شيئا سوى مفاقمتها. ولن تستطيع وردة الصحراء ولا موظفوها ولا الذي كان رامياً بسهام غيره، ولا من قرر أن يتبعه، ولا من اختار الحل الأمني الدموي ولم يُصْغ لنصائح العقلاء في نظامه، أن يفعلوا شيئاً. ربما سيسكنون في فيلات محاطة بالحراس والدشم والرشاشات الثقيلة، ويحلق فوقهم طيران الحليف الروسي، ولكن إلى متى؟
يختزل الخطاب الإعلامي المشكلة السورية إلى صراع مالي داخل المجموعة الحاكمة، ويجيّش “خبراء” النظام والطائفة العلوية وخبراء الداخل ورجال الأعمال السابقين الذين بدأ بعضهم يوزع شهادات الذكاء والغباء من مختبراتهم الإعلامية الطائفية كي يطرحوا مقارباتهم القائمة على التكهنات وتصفية الحسابات، لكن وفي سط كل هذا الضباب الإعلامي تبزغ حقيقة جلية، وهي أن من يضع يده على المال، سواء كان أسماء أم غيرها، قد لا يكون طرفاً في الحل، وإذا ما حالفه الحظ وصار طرفاً فيه فإنه سيرضخ لشروط مفروضة عليه ويلعب دوره المطلوب، ألا وهو ترتيب المصالح الأميركية في نفط شمال شرقي سورية، والمصالح الروسية في طرطوس وتدمر والبادية وكافة البقاع السورية الأخرى، وترتيب المصالح الإسرائيلية تحت مظلة روسية، ناهيك عن المصالح الإيرانية والتركية، ويبقى الخاسر الأكبر في المعادلة هو الشعب السوري.
قذفت الحرب السورية أحجارها على أحد القصور البلورية للنيوليبرالية وهشمته فخرجت منه أسماء الأسد في قناعها النيوليبرالي الجديد ورامي في قناعه الديني كما لو أنه سيعتكف في قبة في قرية بستان الباشا على الساحل السوري، أو سيتم تسفيره إلى بلد آخر كي يسلم المفاتيح، ذلك أن الظلم الذي تعرض له قد فاق طاقته كما يقول في تصريحه الفيسبوكي، وبما أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً حيال ذلك ربما كان الانصراف إلى العبادة حلاً إلى حين. ويبدو أن أسماء الأسد ارتدت ثياب عمل جديدة، ثياب الموظفة المصرفية السابقة وخبيرة الحسابات في جي بي مورغان وشرعت في ترتيب بيت مال الدكتاتورية من جديد كي يرثه أبناؤها وكي تبني قصراً جديداً، تتمظهر فيه النيوليبرالية في أشكال مختلفة إذا ما حالفها الحظ، ويتشكّل أداؤها الآن في دور جديد من أجل فرض ”الكونترول“ على هذا المال (إذا استعرنا الكلمة التي استخدمها فراس طلاس في مقابلته مع الحرة)، وهي تلعب بالنار مع أصابع كثيرة متشابكة مع أصابعها أو منافسة لها، ولا نعرف أية أصابع منها ستحترق، كما لا نعرف في ضوء السرية والغموض اللذين يكتنفان الدكتاتوريات العسكرية ما الذي ستتمخض عنه الأمور.

مراجع معتمدة

1- Wedeen, Lisa. Authoritarian Apprehensions: Ideology, Judgement and Mourning in Syria. Chicago: Chicago University Press, 2019.

2- Haddad, Bassam. Business Networks in Syria: The Political Economy of Authoritarian

Resilience. Stanford: Stanford University Press, 2012.

 

3- https://www.youtube.com/watch?v=5asF-rCK44s

 

4-https://www.youtube.com/watch?v=rCI0hZxSkGw

 

5-https://www.salonsyria.com/راميمخلوفالقصةالكاملةغيرمكتملة/#.XrjJEy-ZPdc.

 

6-https://www.salonsyria.com/تطوراتقضيةراميمخلوف/#.XrjJLS-ZPdc

 

7-https://www.facebook.com/watch/?v=1374894359200246

 

8-https://www.jesrpress.com/2020/04/17/بشارالأسديشتريلزوجتهلوحةبقيمة٣%D9%A0-م/