التحرش الالكتروني بادلب…كابوس الفتيات

التحرش الالكتروني بادلب…كابوس الفتيات

رسائل تهديد على الإنترنت، كانت كفيلة بجعل حياة الشابة مرام (26 عاماً) أشبه بجحيم لا يطاق، ذلك بعد اختراق هاتفها الجوال بما فيه من صور شخصية، لتمر بعد ذلك بأصعب مرحلة في حياتها على الإطلاق. تقول مرام لـ” صالون سوريا” : “بشهر آغسطس من عام 2021 وصلني تهديد عبر تطبيق “واتساب” من رقم شخص مجهول، حيث قام بتصميم صورة فوتوشوب لجسدي لأبدو بملابس غير لائقة، وتم تهديدي بدفع مبلغ مالي مقابل حذف الصورة، وعدم نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي”. وتتابع بحزن: “مررت بفترة صعبة وقاسية، لكني التزمت الصمت خوفاً من اتهام أسرتي والمجتمع”.
وتشير مرام أنها اضطرت لحذف جميع مواقع التواصل من هاتفها لتتخلص من التهديد والابتزاز والهاجس النفسي، لكنها لاتزال خائفة من إمكانية نشر الصورة، وخاصة أن المجتمع “مجحف وغير منصف، ويعتبر المرأة مذنبة حتى لو كانت ضحية”، مؤكدة أنها لم تتمكن من البوح لأمها أو أختها لأن الجميع سيعتبرها مذنبة، ويتهمها بإرسال صورتها بمحض إرادتها .
ولم يعد العنف ضد النساء يأتي من الوسط المحيط بهن، بل تعداه للإساءة لهن عبر الإنترنت من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وتتنوع الجرائم الإلكترونية التي تتعرّض لها الفتيات والنساء بين التحرش الجنسي، والمطاردة، والابتزاز المادي، وصولًا إلى التهديد بالقتل أو الاغتصاب.
سامية(21 عاماً) من مدينة سرمدا، رفضت الكشف عن اسمها الكامل، عانت سابقاً من مكالمات هاتفية ورسائل مزعجة من حسابات وهمية، كما وقعت ضحية في فخ روابط التصيّد على الأنترنت وأصبحت عرضة للابتزاز. وتقول: “بعد الضغط على رابط وصلني من حساب وهمي على فيسبوك، استولى المهاجم على معلوماتي الشخصية، وبدأ يفاوضني بنشر صوري ومعلوماتي الشخصية أو دفع المال”. وتؤكد أنها حين رفضت طلبه أرسل صورتها إلى والدها الذي قام بضربها وتعنيفها، كما حرمها من الذهاب إلى الجامعة واستخدام الهاتف .
كما تقع قاصرات ضحية الجرائم الإلكترونية الخطيرة، يتم استغلال براءتهن وجهلهنَّ في التعامل مع منصات التواصل الاجتماعي. سلمى الأحمد (16 عاماً)، وهو اسم مستعار لنازحة من مدينة معرة النعمان إلى بلدة كللي بريف إدلب الشمالي، تعرضت للتحرش الالكتروني من قبل شاب حاول اصطيادها عاطفياً وتهيئتها نفسياً لتلبية طلباته الجنسية. وعن ذلك تقول: “تعرفت على شاب عبر الأنترنت، وبدأ يرسل لي رسائل غرامية، فغرتني الكلمات والعبارات المنمّقة، كما وعدني بالزواج، وبعد فترة وجيزة بدأ يرسل لي مقاطع إباحية وعبارات خادشة للحياء، ويطلب مني إرسال صوري وأنا عارية أو إرسال المحادثات إلى أهلي، وعندما قمت بحظره بدأ يتواصل من أرقام وحسابات أخرى”.
وتؤكد سلمى أن الخوف والرعب سيطرا على حياتها، حتى فكرت بالانتحار، ولكن أختها التي تكبرها بتسع سنوات تدخلت بالأمر، حيث قامت بالتواصل مع المتحرش وتهديده بتقديم شكوى ضده إن استمر في تصرفاته، كما قامت بحظره وحذف جميع المحادثات.

من جانبها، سلمى الأحمد (29 عاماً) من مدينة إدلب، مختصة بصيانة الهواتف الخلوية للنساء لتلبية حاجات المجتمع وحماية خصوصية النساء، وعن عملها تقول لـ “صالون سوريا”: “في ظل تفشي ظاهرة الابتزاز الإلكتروني وقيام بعض أصحاب محلات الصيانة بنسخ صور ومقاطع فيديو وأرقام من هواتف معطلة لنساء وتهديدهن بنشرها، تفضل الكثير من النساء ترك الجهاز دون صيانة أو حذف البيانات قبل إرساله خوفاً من استباحة الخصوصية”. وتشير أن وجود امرأة مختصة بالصيانة تساعد النساء في الحفاظ على السرية والأمان أثناء صيانة أعطال هواتفهن، دون أن يضطررن لإتلاف الجهاز خوفاً من تسريب الصور والمعلومات الشخصية في مراكز الصيانة التي تديرها الرجال .
المرشدة الاجتماعية براءة السلوم (35عاماً) من مدينة إدلب تُعنى بدعم النساء في مواجهة العنف الممارس عليهن، تقول لـ “صالون سوريا”: “الأنترنت الذي دخل كل بيت تحول إلى وسيلة تهديد لحريات البشر، وبخاصة الفتيات والنساء، ليكن ضحايا جرائم الاستهداف الالكتروني، متنوعة الأشكال والمضامين.” وتشير السلوم إلى “تنوع الاستخدامات غير الأخلاقية للإنترنت، والتحرش الإلكتروني والابتزاز، حيث يكون تحرشاً جنسياً، أو ابتزازاً مالياً، يحدث بين مجهولين، أو أقارب أو حتى أزواج”
وتضيف أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت مصدر قلق وإزعاج لبعض النساء في ظل غياب القوانين الرادعة وقلة التدريبات المتعلقة بالأمان الإلكتروني، الأمر الذي تسبّب في الكثير من حالات الطلاق والمشكلات الأسريّة، ووصل بالنساء حد الاكتئاب والعزلة عن المجتمع ومحاولات الانتحار. وتشير أن الكثير من النساء يفضلن كبت العنف والانتهاكات وعدم الإفصاح بما تعرضن له، لأن المجتمع يتعمَّدُ إلقاء اللوم على المرأةِ، وتعنيفها، وتقييد حُرِّيتها، حتى إنْ كان لديها كل الأدلة والبراهين التي تُـثْبتُ براءتها، فضلاً عن صعوبة الكشف عن هوية المتحرش الذي يستخدم أسماء وهمية، لذا تنصح النساء بحماية الخصوصية والتعامل مع وسائل التواصل الإجتماعي بحذر، للحد من أي إنتهاك مفترض قد يقع عليهن، إضافة إلى عدم الضغط على الروابط المشبوهة والمجهولة، مع ضرورة بوح الضحية لمن حولها من أصدقاء وأهل، لأن الصمت يعني تمادي المتحرش في أفعاله، ويسمح له بالانتقال من الفضاء الإفتراضي إلى الواقع، فضلاً عن توعية المجتمع أن التعرّض للاعتداء هو ذنب المتحرّشين وليس ذنب النساء، مع التأكيدعلى حقهن في الوصول إلى الإنترنت واستخدامه بحرية وأمان، من دون التعرّض للعنف الإلكتروني .
لا تقتصر التحديات التي تواجه النساء في إدلب على البحث عن السكن والأمان وسبل العيش، بل تحول الفضاء الإلكتروني بما يعنيه من هاتف ذكي، أو كمبيوتر من مصدر فائدة وتسلية ومعرفة للأخبار إلى عنف من نوع آخر وواقع مؤلم، وكابوس يدمر حياة الكثيرات ويزرع الرعب في قلوبهن .

انتعاش المسرح في ادلب… دون ممثلات

انتعاش المسرح في ادلب… دون ممثلات

“تخيلت ولدي المعتقل مكان الممثل الذي يتعرض للضرب، فبكيت. لكن رغم ذلك كنت أشعر بالسرور لإنه ما زال هناك أشخاص يتذكرون قضية المعتقلين ويحاولون تذكير العالم بها”.
كانت دموع سهيلة تسابق كلماتها بعد انتهائها من مشاهدة مسرحية “تحت الصفر” التي أقيمت على مسرح المركز الثقافي في مدينة ادلب من قبل “فرقة حلم المسرحية”.
وكانت “حلم ” قد توقفت على العمل عام 2011 بسبب “القبضة الأمنية”، بحسب إبراهيم سرميني مدير الفرقة، الذي اشار الى مشاركة اعضاء الفرقة بالمظاهرات السلمية. غادر ابراهيم ورفاقه المدينة ليعودوا إليها عام 2015 بعد سيطرة فصائل مقاتلة عليها.
يقول إبراهيم، انهم فكروا منذ عام 2016 بعودة النشاط المسرحي للمدينة، لكن ذلك تعثر حتـى العام 2018 حيث “بدأنا بإعادة تفعيل المسرح بعد استقر الوضع الأمني جزئياً وتوقف القصف بسبب اتفاق خفض التصعيد” بين انقرة وموسكو، لتطلق الفرقة مع “منظمة بنفسج” تدريب إعداد ممثلين حيث خضع 25 شابا للتدريب. كما قام الطلاب بإعداد عرض مسرحي، لكن لم يعرض.
وأضاف إبراهيم، إنه وزملاءه فكروا بعودة المسرح ليكونوا منبرا يقدرون من خلاله إيصال القضايا التي تخص مجتمعهم وليكونوا “ضمن وجدان” شعبهم ودائرة اهتمام الموجودين. كما أكدوا ان لديهم تصورا عن المسرح كفن و “منبر مهم جدا”، بإمكانهم من خلاله مناصرة قضيتهم وإيصال صوتهم لأماكن بعيدة.

قبل عام 2011، كان في إدلب خمس فرق مسرحية استطاعت إثبات حضورها على الساحة الفنية السورية بعد ان شارك في المهرجات المسرحية على المستوى المحلي والإقليمي، إذ قدمت عشرات العروض المسرحية إلا أن “المسرح الإدلبي” لم يكن ذائع الشهرة والصيت كون الفرق المسرحية في ادلب، رفضت تقديم عروض تجارية منذ دخولها للعمل المسرحي.
لكن تلك الفرق توقفت مع بداية اندلاع الاحتجاجات لتعود إرهاصات العمل المسرحي بعد اتفاق خفض التصعيد عام 2017، الذي شمل مدينة إدلب ليجتمع من بقي من مسرحيي ادلب في “فرقة بيدق” ويخرج العمل المسرحي الأول في ادلب تحت اسم “سرداب الموت”، لكن المسرح بقي تحت رحمة الأوضاع العسكرية والسياسية في شمال غربي سوريا، فالمسرح يحتاج لهدوء ليستطيع العمل والهدوء محكوم بتلك الأوضاع،
المسرحي مجد هامو وهو ممثل في مدينة إدلب، قال لـ “صالون سوريا”: “حصلنا على تجاوب كبير من الجمهور وحتى من المجتمع بشكل عام من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فالمسرح دوره تذكير الناس بالقضايا المهمة باعتبار الفنان هوي ابن قضيته ومجتمعه أولاً وأخيراً”. وزاد: “المسرح هو منبر للناس ليحكوا وجعهم والتذكير وخاصة ان العروض تناقش مشاكل الواقع السوري لإننا نؤمن ان الفنان ابن مجتمعه، فالقصص المسرحية يجب ان تتكلم من قضايا المجتمع والا فلا قيمة لها حتى أن توافد النزوح نحو إدلب شارك عدد من المهجرين من مختلف المحافظات بالمسرح فلقد كان لشبان من دمشق وحلب والرقة ودرعا ودير الزور دور في العمل المسرحي في ادلب”.
وعن المصاعب التي تواجههم كمسرحيين، أضاف هامو، ان “الدعم المادي وغياب أي تمويل للعمل المسرحي في شمال غرب سوريا إذ تعتمد معظم الفرق على جهود شخصية من الممثلين او دعم متواضع مع بعض المنظمات لا يتجاوز موضوع اللوجستيات، بالإضافة إلى غياب دور النساء بالعمل المسرحي فالعروض المسرحية غالباً ما تحتاج لممثلات نساء وهذا غير متوفر اضافة إلى نقص مراكز التدريب والدورات الخاصة بإعداد الممثلين والمخرجين والفنيين”.

من جهته، شرح الكاتب نور الدين إسماعيل لـ “صالون سوريا” رؤيته للواقع المسرحي في إدلب بقوله: “بعد قيام الاحتجاجات اعتمد بعض الناشطين على المسرح لإيصال معاناة الداخل إلى العالم. فبعض الأعمال المسرحية رغم أنها كانت أعمالاً بسيطة، حملت رمزية كبيرة، كونها كانت تعبر عن قضايا المجتمع، وتخرج عن الخط الذي رسمته السلطة في سوريا للمسرح منذ عشرات السنوات. فقبل عام 2011 كان المسرح القومي هو المسيطر على القطاع المسرحي، حيث كان المسرح السوري وقتها في واد والمجتمع السوري في واد آخر، وهذا ما تم إصلاحه بالتجارب المسرحية في شمال غربي سوريا. حيث كان النص المسرحي نابعاً من الواقع وظروف الناس”. وأضاف: “المسرح بكل تأكيد هو أداة حشد ومناصرة لقضايا السوريين، لأنه رغم كل المصاعب والآلام التي نمر فيها فوجود حركة مسرحية تعكس الواقع الذي نعيشه، هو أمر ممتاز لما للمسرح من رمزية في ذاكرة الشعوب”.

يوم في حياة عائلة نازحة في ادلب

يوم في حياة عائلة نازحة في ادلب

كثيراً ما نسمع عن قصص وحكايات وأوجاع لعائلات نازحة، تعيش في المخيمات ومراكز الإيواء، تفتقر لأبسط مقومات الحياة وأشكال الرفاهية في شمال غربي سوريا، معظمها قريبة من الحدود التركية، بعضها يقع في مناطق جبلية وعرة، ولكل عائلة نازحة في هذه المخيمات حكايتها وظروف معيشتها اليومية التي يطغى عليها مشهد الفقر والتقشف والبساطة.
“صالون سوريا” امضى يوماً مع احدى هذه العائلات في مخيم الأمل بالقرب من مدينة الدانا شمال إدلب، وضمن خيمة لا تتجاوز مساحتها الداخلية الكلية 10 أمتار مربعة. هنا يعيش أبو محمد (42 عاما) وزوجته وأولاده الستة الصغار، (نازحون من ريف حلب الجنوبي قبل نحو 5 سنوات)، حياةً بسيطة رغم مرارة العيش، لايملكون فيها أي شيء من تكنولوجيا العصر سوى بطارية صغيرة وسلك كهربائي معلق بلمبة صغيرة بقياس 12 فولتا، مربوطة بلوحة شمسية صغيرة مركونة على جدار الخيمة وموجهة بإتجاه الشمس لتحصل البطارية على الطاقة من أشعة الشمس يومياً.

خيمة… منزل
عملت الزوجة أم محمد ذات الثلاثين عاماً، على تحويل الخيمة إلى أشبه بمنزل صغير متواضع، فوضعت الغاز عند باب الخيمة من الداخل، وإلى جانبه بعضاً من أواني الطبخ البسيطة ضمن صندوق بلاستيكي (سحارة). وفي الجهة الثانية، وضعت قطعة خشبية مخصصة لوضع الأغطية والفرش بعد أن تستفيق أسرتها صباحاً، بينما فرشت أرض الخيمة بقطعة سجاد متهالكة وبعض الاسفنجات والوسائد، ومع كل صباح تبدأ الحكاية
أبو محمد، نزح من قريته بريف حلب الجنوبي قبل نحو 5 أعوام، عقب هجوم بري شنته قوات دمشق وإنتهت بالسيطرة على المنطقة حينئذ، ولجأ مع أقاربه إلى هذا المخيم، بالقرب من مدينة الدانا شمال إدلب، وحصل على فرصة عمل في أحد معامل الطوب (البلوك) في المنطقة.
مع ساعات الصباح الأولى من كل يوم (صيفاً وشتاءً)، يسيتيقظ وزوجته و أولاده (محمد 14 عاماً وحسن 13 عاما). فأبو محمد وأولاده يذهبون إلى وعاء مملوء بالماء عند باب الخيمة الخارجي، ويغسلون وجوههم. أما أم محمد، تُعد وجبة الإفطار مما توفر (صحن من الزيت النباتي وإلى جانبه صحن من الزعتر وبعض الأرغفة من الخبز وإبريق الشاي)، وأثناء تناول وجبة الإفطار يتمازحون ويضحكون ويتحدثون عن ما ينوون القيام به من أعمال خلال اليوم.
ومع إنتهاء تناول الطعام، كل منهم يذهب لإرتداء ملابس العمل والإستعداد للذهاب إلى العمل وسط أجواء من المزاح والضحك. فأبو محمد يسلك طريقه مشياً على الأقدام بإتجاه معمل الطوب. أما محمد وحسن يذهبان سوياً إلى واحدة من المدن القريبة (الدانا وسرمدا) بحثاً بين أكوام القمامة في شوارع المدن عن ما يستحق البيع من (مواد بلاستيكية ونايلون أو نحاس)، طيلة ساعات اليوم وحتى المساء، بينما أم محمد تبقى في الخيمة بإنتظار طفليها الصغيرين أن يستفيقوا من النوم لتعد لهم وجبة الإفطار ذاتها التي تناول منها زوجها وأبنيها، قبل الذهاب للعمل.

ام ومديرة
تقول أم محمد: “أعيش وأسرتي في المخيم منذ خمس سنوات إلى الآن نمطاً واحداً من الحياة لا غير، (إعداد الطعام والغسيل والجلي)، وغالباً ما أعده من طعام، يكون من المخصصات الإغاثية التي نحصل عليها شهرياً، (إما برغلاً أو عدساً أو معكرونة)، وذلك قبل الظهيرة. أما عند المساء أجلس مع جاراتي ونتبادل الأحاديث بالظروف المعيشية التي نعاني منها يومياً وأحاديث اخرى عامة، وبعدها أعود إلى خيمتي، وأعمل على تسخين الماء، ومع وصول زوجي وأولادي، أنهمك بتحضير الألبسة النظيفة لهم وإستحمامهم، وبعد ذلك نجلس جميعاً ونتاول العشاء، وبذلك يكون الظلام ملئ المكان، ونمضي ساعة أو أكثر نتبادل فيها الأحاديث، عن ما جرى معهم من أحداث أثناء العمل، وبعدها يذهب كل منا إلى النوم”.
وتفخر “أم محمد” بنفسها وترى أنها هي المسؤول الوحيد عن إدارة شؤون أسرتها في المأكل والمشرب والملبس والأشياء الأخرى التي تخص الأسرة، في الوقت الذي يمضي فيه زوجها بالعمل طيلة النهار وعلى مدار العام. وتقول: “عندما يعود زوجي من العمل يقوم بإعطائي ما جمعه من نقود خلال العمل بنقل الطوب في اليوم، وعادة يكون المبلغ بين 30 إلى 40 ليرة تركية، وكذلك أبنائي أيضاً فهم يقومون بشكل يومي بإعطائي ما تم جنيه من مال خلال عملهم في اليوم، بعد بيع ما تمكنوا من جمعه من أشياء (بلاستيكية ونايلون وخردة)، وأكون بذلك المسؤولة عن تدبير وإدارة شؤون الأسرة”.
وتضيف، “المرأة السورية وتحديداً النازحة مع أسرتها، تجد نفسها مسؤولة مباشرة عن أسرتها، فغالباً أرباب الأسر يذهبون للعمل منذ الصباح حتى المساء ليتمكنوا من جني النقود لإعالة أسرهم، وبذلك تلقى كامل المسؤولية في تدبير الأسرة من تربية وخدمات على عاتق المرأة، بينما سابقاً (قبل النزوح) كانت الحياة بالنسبة للمرأة أسهل بكثير، فالرجال يعملون في الزراعة والصناعة والتجارة في القرية التي نعيش فيها، وتكون ساعات العمل أقل بكثير من الآن، وهذا يخفف على المرأة أو ربة الأسرة الكثير من الأعباء في تربية الأطفال وتلبية متطلبات الأسرة اليومية، فمثلاً عندما يشكو أحد الأطفال من عوارض مرضية أو يصاب بضيق تنفس أو أي أذى، أذهب به إلى الطبيب ومن ثم إلى الصيدلية وجلب الأدوية، وأعود إلى الخيمة وأتابع العناية بحالته الصحية، فضلاً عن أنني المسؤولة عن شراء إسطوانة الغاز والأشياء الأخرى كالطعام والملابس، ومع ذلك لا أشعر زوجي بأي ضيق أو ملل، بل على العكس تماماً”.

حياة دون توقف
من جهته، قال أبو محمد: “منذ 5 أعوام وحتى الآن لا أذكر أنني تعطلت عن العمل يوماً واحداً، سوى أيام الأعياد، وبت أشعر مؤخراً بآلام وأوجاع في الظهر والمفاصل، نتيجة عملي المجهد، ولكن بالرغم من ذلك، لا أسمح للرغبة في التعطل عن العمل أن تنال مني، فذلك يعني أنني عرضت أسرتي للجوع والفقر أكثر، فعطلتي ليوم واحد قد يؤدي إلى فقدان إسطوانة الغاز في خيمتنا لأيام، أو لا تجد أسرتي ثمن ربطة الخبز أو ثمن الدواء فيما لو أصاب أحد أبنائي مرضاً، عدا عن متطلبات فصل الشتاء من وسائل تدفئة وغيرها، ومع ذلك أشعر في بعض الأوقات بحزن عميق، كوني لا أرى أولادي وزوجتي سوى ساعة أو ساعتين كل يوم قبل النوم، وفي اليوم التالي أذهب باكراً في الوقت الذي يكون فيها طفلين من أسرتي نائمين”.
ويضيف، “قبل النزوح كنت أملك حوالي 20 دونماً من الأرض الزراعية في بلدي، وأعمل في زراعية القمح والشعير والخضار سنوياً وأحصل في نهاية العام على مبلغ أستطيع من خلاله العيش وأسرتي بحال ميسورة جداً، بينما اليوم وفي ظل النزوح والمعاناة والمصاعب التي نواجهها يومياً من غلاء وغيره، يتطلب منا العمل يومياً دون كلل أو ملل لنؤمن قوت أسرنا ومتطلباتها”.
وأشار” تعرضت منذ عدة أشهر إلى كسور بأصابع قدمي نتيجة سقوط قطعة طوب عليها أثناء العمل، وبالرغم من الألم الشديد الذي أصابني حينها، إلا أنني تابعت العمل حتى نهاية اليوم، وأثناء عودتي إلى أسرتي عملت زوجتي على تضميدها بعد تدليكها بالماء الساخن والصابون، وفي اليوم الثاني عدت إلى العمل، وتحملت الألم لأيام”.
وختم “أحمد الله وأشكره أنه رزقني زوجة صالحة، حملت معي جزءً كبيراً من أعباء الحياة وتربية الأولاد في النزوح”.

خردة ونايلون
أما محمد وحسن، فتحدثا قائلين: ” فضلنا العمل على التعليم، فأحياناً لا يتمكن والدنا من جني نقود كافية لسد حاجتنا وتأمين ما يلزمنا في العيش، وكنا نعيش ظروفاً صعبة للغاية، ولذلك قررنا العمل بجمع الخردة والنايلون والبلاستيك المستعمل من كل مكان في المدن والقرى المجاورة للمخيم، وبيعها للإستفادة من ثمنها ومساعدة والدنا على كفاية الأسرة وتلبية إحتياجاتها اليومية”.
وأضاف محمد، “نذهب كل يوم صباحاً ونتجول في شوارع المدن بين الحاويات وأكوام القمامة بحثاً عن أشياء لها ثمن كـالنايلون والبلاستيك والنحاس والحديد، وفي نهاية اليوم نذهب بالأشياء التي قمنا بجمعها إلى أحد المراكز لشراء الخردة ونبيعها، ونحصل بالمقابل على ثمنها الزهيد الذي لا يتجاوز 20 ليرة تركية، ونعود بعد ذلك إلى المخيم”.
وزاد “هناك كثير من العائلات في المدن والقرى القريبة، لا تقوم برمي الأشياء غير اللازمة أو غير الضرورية في منازلهم بالحاويات إلا في المساء، ولذلك غالباً ما نتأخر بالعمل بحثاً عن تلك الأشياء، ونعود إلى المخيم بعد حلول الظلام”، لافتاً، “كثيراً ما نتعرض للإهانة والتهكم من بعض الأشخاص في الشوارع والأسواق، وآخرون ينظرون لنا بعين الاشمئزاز لمظهرنا وثيابنا المتسخة، فضلاً عن تعرضنا أيضاً لحوادث سير بسيطة، تنتهي بخدش في اليد أو القدم، وكلها تدعو إلى الإحباط والحزن والجلوس إلى جانب الرصيف لبرهة من الزمن ونحن ننظر إلى الناس والمارة، وسرعان ما نتجاوز تلك الحالة ونعود للعمل مجدداً بإصرار”. وأضاف، “أتمنى أنا وأخي أن يتوفر لوالدنا عمل أفضل من عمله الحالي، بأجور أكبر، قادرة على تأمين متطلبات عائلتنا، ونترك هذا العمل ونعود لمقاعد الدراسة في المدارس من جديد”.

شعبيبات أريحا… الأكثر شعبية

شعبيبات أريحا… الأكثر شعبية

تنافست المدن السورية على صناعة العديد من أصناف الحلويات، على مر عقود طويلة. لكل مدينة أو منطقة سورية، قصة نجاح وإتقان بصناعة نوعاً محدداً من الحلويات الشعبية. لكن شهرة مدينة أريحا في ادلب احتلت مركزاً نافس الجميع، بصناعتها وإتقانها لـ “الشعيبيات” ذات الطعم والمذاق المميز، منذ أكثر من مئتي عام، حتى أصبحت موروثاً شعبياً ميز هذه المدينة وأكسبها شهرة على إمتداد سوريا حتى أطلق عليها “شعيبيات أريحا”.
زار “صالون سوريا” مدينة أريحا 15 كيلو متر جنوب إدلب، بين مساحات من أشجار الكرز والمحلب، على سفوح جبل الأربعين ( 900 متر عن سطح البحر) وعلى الطريق الدولي الواصل بين حلب واللاذقية، وكان أكثر ما لفت الإنتباه، كثرة محالها التجارية لصناعة وبيع “الشعيبيات” في مدخلها وشوارعها الرئيسية، وتوافد الزبائن من أبناء المنطقة، وآخرون من مناطق بعيدة صادف مرورهم في مدينة أريحا دفعهم شهرة مذاق شعيبياتها لتناولها، وحملها لأسرهم وأقاربهم وأصدقائهم.
في محل لبيع وصناعة الشعيبات يقف ثلاثة من أبناء “العم أبو أحمد” إلى جانب طاولة مسطحة مصنوعة من الرخام، يعملون بجد ونشاط في صناعة الشعيبيات. عبر عدة مراحل تبدأ بالمكونات الأساسية، اي العجن والتمسيد والتوريق وحشوها بمنتجات من مشتقات حليب الأغنام والأبقار، ووضعها بعد ذلك داخل الفرن مدة 25 دقيقة، وإخراجها وإضافة القطر لتصبح بذلك شعيبية ذات مذاق ونكهة خاصة تفدرت بصناعتها مدينة أريحا عن باقي المناطق السورية.

اسباب تميزها
وعن سر نجاح وشهرة شعيبيات أريحا، قال “أبو أحمد” : “لقد ورثنا هذه المهنة وإتقانها عن آبائنا وأجدادنا منذ عشرات السنين، وإن ما أكسب شهرة مدينة أريحا وسر نجاحها في صناعة هذا النوع من الحلويات (الشعيبيات)، يأتي من الإهتمام والإتقان بطريقة صناعتها، بدءاً من طريقة التحضير مروراً بالمكونات والإضافات الطبيعية، وصولاً إلى وضعها داخل الفرن وشواؤها وإخراجها بعد 25 دقيقة تقريباً وسكب (القطر) عليها، لتكون بعد ذلك جاهزة للأكل”.
ويضيف، “تمر صناعة الشعيبية بعدة مراحل، وأولها العجين المكون من الدقيق من القمح القاسي الجيد والماء وقليلاً من الملح، ثم عجنه داخل عجانة آلية صغيرة، ثم تقطيعه لقطع وزن الواحدة منها كيلو غرام تقريباً، ثم بعدها تأتي مرحلة التقطيع إلى قطع صغيرة والرق اليدوي وبعد ذلك مرحلة التوريق وهي أهم مرحلة في هذه الصناعة حيث نقوم بشد قطعة العجين ولفها على شكل طبقات ودهنها بالسمنة، ثم لفها مجدداً على شكل قطع دائرية صغيرة بشكل طولاني وحشوها بحشوة غالباً ما تكون من منتج حيواني (اللباء أو القشطة أو القريشة)، أو حشوها بمنتج نباتي (ثمار الجوز أو الفستق الحلبي)، في صينية بعدد 40 قطعة تقريباً، وإدخالها الفرن بين 25 إلى 30 دقيقة، ليتم شواؤها وإخراجها، وسكب القطر المصنوع من السكر والماء عليها، لتصبح بعدها (شعيبية ريحاوية) جاهزة للبيع والأكل”. وتابع: “بالرغم من قلة المكونات التي تكسب الشعيبية الريحاوية مذاقها الفريد كالسمن العربي والمشتقات الحيوانية الاخرى، وغلاء أسعارها، إلا أننا ما زلنا نحافظ على صناعة الشعيبيات بذات المواصفات التي اعتاد عليها الزبون منذ عشرات السنين، ونبيع يومياً ما بين 250 إلى 300 شعيبية لزبائننا غير مهتمين لأسعارها التي وصلت فيها سعر الشعيبية 8 ليرات تركية أو ما يعادل نصف دولار أميركي”.

لكل الاوقات
من جهته، قال أبو أحمد وتد أحد أبناء مدينة أريحا، إن “الشعيبيات بالنسبة لأهالي مدينة أريحا والمناطق المجاورة لها، تعتبر بمثابة أكلة مناسبة لجميع الأوقات والمناسبات وليست كغيرها من الحلويات المقترنة بالمناسبات، ويأكلها الكبير والصغير والعامل أثناء توجهه صباحاً إلى العمل بدلاً من الإفطار في المنزل، وأيضاً تعتبر أكلة مميزة لدى زوار المدينة والمسافرين، إضافة إلى حضورها في الأفراح والمناسبات الجميلة”.
ويضيف، “إن كل من آل حلوم وآل البيك وعوائل آخرى كانت هي الأشهر في مدينة أريحا بصناعة الشعيبات ذات المذاق اللذيذ والطيب، ووصل الحال بأبنائها إلى نقل هذه الصناعة إلى مدن ومناطق أخرى في محافظة إدلب كمدينة الدانا وسرمدا ومعرة مصرين وبنش وجسر الشغور، وآخرون افتتحوا محال لصناعة هذا النوع من الحلويات في دول اللجوء مثل تركيا ولبنان والأردن، ضمن محال تجارية كتب على أبوابها (شعيبيات أريحا)، لتصبح بذلك شهرة شعيبيات أريحا على نطاق دولي وليس محلي فقط”.
“أبو حسن” سائق شاحنة لنقل البضائع من ريف حلب، قال : “تجولت وتنقلت بين مختلف المحافظات السورية لطبيعة عملي كسائق سيارة شحن بضائع لسنوات طويلة، وتناولت من مختلف أنواع الحلويات في كثير من المناطق والمحافظات السورية، إلا أنني لم أتذوق أو أجد ألذ من (شعيبيات أريحا)، وفي كل مرة يصادف مروري بمدينة أريحا، أقف وأتناول الشعيبيات وأشتري عدداً منها لأسرتي وأقربائي وأصدقائي، حرصاً عليهم من خيبة أمل قد تطالهم حين يعلمون أنني مررت بمدينة أريحا ولم أجلب لهم الشعيبيات التي تعودوا عليها ومذاقها اللذيذ”.
وعن تاريخها، قال أبو مصطفى صاحب محل لصناعة الشعيبيات في مدينة أريحا: “هناك من يقول أن إنطلاق صناعة الشعيبيات في مدينة أريحا بدء قبل نحو 200 عام تقريباً، وكانت تصنع في البيوت وعلى التنور أو الموقدة والفحم الطبيعي، وكانت تسمى حينها بحسب الأجداد بالأكلة (الشعبية) ولم تكن الشعيبية على هذا الشكل، بل كانت تصنع من دقيق قمح سادة، وتعجن بالزبدة البلدية وكانت حشوتها قشطة عربية أو لباء ويجري تحليتها أنذاك بالعسل الطبيعي لعدم توفر السكر وإنتاج القطر حينها”.
ويضيف، أنه ” مع مرور الوقت والزمن تطورت صناعة الشعيبيات مع توفر المكونات وأفران الغاز، وباتت صناعة تعتبر مورداً إقتصادياً لعدد كبير من أبناء مدينة أريحا، فمنهم صاحب العمل والعمال ومنتجي المكونات الأساسية (إنتاج السمنة العربية والقشطة واللباء والقريشة)، التي تدخل في صناعة الشعيبية”.