«كتب: ليزا ودين، «استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا

«كتب: ليزا ودين، «استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا

كتب: «ليزا ودين، استيعابات سلطويةالإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا» الناشرجامعة شيكاغو ٢٠١٩

ما الذي دفعك إلى تأليف هذا الكتاب؟

عدتُ إلى سوريا بعد غيابٍ طويل، وأدهشتني رؤية كم تغير الكثير، وكم بقي الكثير مألوفاً. فنويت تأليف كتاب يتناول بالتحليل البزوغ الجلي لنسخة ألطف وأرق من الأوتوقراطية في ظل حكم بشار الأسد (2000-). ومن المسائل التي فكرتُ باستقصائها التغيرات الحاصلة في السوق والتغير الجيلي، ومخيالات حياة يومية جمالية جديدة رافقت التنامي الملحوظ للاستهلاك، والدعم الذي يبدو أن بشار الأسد حصل عليه من جهات غير متوقعة، شملت منشقين سابقين وفنانين ومهنيين مدينيين ورجال دين. ثم اندلعت الانتفاضة في تونس وألهمت مظاهرات ضخمة في اليمن وليبيا والبحرين وسوريا. كنت ما أزال في دمشق حين بدأت الانتفاضة في آذار 2011، وغادرتُها في نهاية أيار، وفي ذلك الوقت صارت المؤشرات على تصلب النظام والمشاكل التي تهدد المعارضات المختلفة واضحة جداً بحيث لا يمكن تجاهلها.  (قمتُ لاحقاً بأبحاث ميدانية في لبنان وتركيا وأجزاء من أوربا وفي الولايات المتحدة، وكذلك عن بعد مع الأصدقاء الذين بقوا في الداخل).

كان كتاب ”استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا“ ثمرة كل هذا. وبقي مرتبطاً باهتماماتي الأولى بالمرونة السلطوية والتغير السياسي، الموضوعين اللذين يهتم بهما علماء السياسة باستمرار، وقمت كذلك بالبحث في مسائل مهمة هي حالياً قيد الجدل في النظرية السياسية والأنثروبولوجيا، وركزتُ منذ البداية على تعقيدات التوظيف الإيديولوجي وسيرورات التجنيد في ما قررت أن أدعوه (قبل الانتفاضة) ”الأتوقراطية النيوليبرالية“ لسوريا، وفيما بعد تأثر الكتاب بتسارع الأحداث الفائق للعادة: الابتهاج الثوري للأيام الأولى، ثم العنف المدمّر الذي بدد الآمال بأي إنهاء سريع للدكتاتورية.

أي نوع من الموضوعات والمسائل والأدبيات يعالج الكتاب؟

يطرح كتاب ”استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا“ السؤال التالي: كيف تمكّن النظام من تحمّل عبء التحديات التي واجهتْهُ؟ وما الذي يقوله لنا النموذج السوري عن إغواءات السياسة الاستبدادية بشكل أكثر عموماً؟

تعرّف مقاربتي لهذا اللغز المحير نماذج جديدة من الاستنطاق الإيديولوجي، إذا ما استخدمنا مصطلح لوي ألتوسير، وتعرّف طرقاً جديدة ل ”استدراج“ المواطنين لدعم النظام الأوتوقراطي. ويستقصي الكتاب الأشكال المعقدة والمتنوعة وغالباً غير المتماسكة  للخطاب التي ضمنت قبول المواطن الذي احتاجه النظام من أجل بقائه. وحين يقوم النظام باستدراجك فهذا يعني أنه يقوم بإغوائك، وهنا تعمل الإيديولوجيا من خلال إثارة أخيلة ليس من الضروري إشباعها كي ينجح الاستنطاق. وفي الحقيقة، حين يُثار محتوى الأخيلة فإنه يتم تلطيفها في الوقت نفسه، وتُخفَّف التناقضات التي يشير إليها. وتساعد الإيديولوجيا في التعامل مع حالات القلق الجماعية وتعارضات اجتماعية-سياسية من خلال تقديم آليات تسمح باحتواء التنافرات أو إزاحتها أو التنصل منها.

ك ”احتواء: تجعل الإيديولوجيا ما هو جوهرياً حالات قلق اجتماعية وتاريخية يبدو طبيعياً ولا مفر منه. نشاهد هذا أيضاً في أنماط التماهي المفرط: تخيُّل سحر الشخصية المشهورة (أو رشاقتها أو اتزانها العقلي) دون الإيمان بالضرورة أن تحولاً كهذا سيحدث.

كإزاحة: يُعاد نقل المخاوف غير القابلة للتحمل إلى موضوع جديد وحالات قلق حول مواصفات غير مقبولة  مسقطة على آخر متخيل. إن لوم ”الإرهابيين“ على أزمة وطنية أو إسقاط العنف داخل المجموعة على الخارج هما سيرورتا إزاحة، ساعدتا في تنظيم الحياة الجماعية في ظروف سوريا الاستبدادية.

تعمل الإيديولوجيا أيضاً ك“تنصّل“. فقد أشار المفكّر أوكتاف مانوني إلى أن الناس يعقلنون حيواتهم مُقرّين ومتنصّلين في الوقت نفسه. وتجسّد عبارة ”أعرف جيداً ولكن …“ هذه المناورة، وللنأي بالنفس عن المسؤولية المتضمنة  تأثيرات في السياسة، وفي حالة سوريا،  يعمل التنصل عادة كالتالي: ”أعرف جيداً أن النظام فاسد بشكل لا سبيل إلى تقويمه، ولكننا نستطيع تشكيل منظمات مجتمع مدني ترعاها الحكومة وهي في الحقيقة تمكّن المواطنين“، ”أعرف جيداً أنه لا عودة إلى الوراء“ إلى الطريقة التي كانت عليها الأشياء قبل الحرب، لكن كل شيء سيُحل بسهولة ك ”عضة كوساية“.  أو بين الناشطين العلمانيين في العامين الأولين من الانتفاضة:“أعرف جيداً أن في المعارضة إسلاميين متشددين لكن يجب أن أتصرف وكأنهم لا يوجدون فيها“. يتجاوز التنصل الإنكار في أن المشكلة التي تستدعي الحكم مطروحة على الأقل. وفي التنصل، تدعو الإيديولوجيا الرعايا إلى موقف حيث يمكن رفض الوقائع التي لم يعد بالوسع التنصل منها. بهذا المعنى، يعبّر التنصل عن التناقض الذي يرفضه في آن.

أستخدم مصطلح إيديولوجيا لا كي أشير إلى منبرٍ حزبيّ أو عقيدة مميزة، على الرغم من أنه يمكن أن تُجعل واضحة في وثائق منفصلة. بدلاً من ذلك، وباتباع تقليد ثقافي ماركسي، تشير الإيديولوجيا إلى خطابات مجسدة ومحملة عاطفياً يتم إيصالها إلى حد ما أفقياً من خلال ممارسات الحياة اليومية. وحين تُفهم الإيديولوجيا ليس فقط كمحتوى بل أيضاً كشكل، فإنها تمتلك تأثيرات هيكلة قابلة للتحديد، طبيعتها ووظيفتها، كما اقترحتُ أعلاه، هي أن تحتوي الصراع الاجتماعي- السياسي وتخفف من التناقضات التي يمكن، بخلاف ذلك، أن تجعل الحياة غير قابلة لأن تُعاش. مدعّمةً بالأوهام والتخيلات التي تتواصل حتى في وجه معرفة أفضل، تبني الإيديولوجيا سياسة ”كما لو“ التي تتجاوز التمويه العام المفروض الذي تحدثتُ عنه في كتابي الأول غموض السيطرة. إن ما يمتلك أهمية أكبر في هذا الموقف الحالي  من الإيمان المتظاهر به أو تجليات الطاعة الخارجية هو الطرق المشتركة التي تنعكس بها الإيديولوجيا في لحظات تنصل عادية وتتولّد منها من جديد، أي التسويغات التي تمكّن من المشاركة في الولاء لأنظمة موجودة. ومن خلال محتوى معين، تعري الإيديولوجيا إغواءات تقليدية الوضع القائم في وجه التحديات القائمة له (الفصل الأول)، الأفعال المتنوعة التي تقوم به الكوميديا (الفصل الثاني)، والدور الذي تلعبه ”الأخبار المزيفة“ في إخراج الأحكام السياسية من أطرها المرجعية (الفصل الثالث)، احتمالات استيعاب التوترات العاطفية حول الحداد (الفصل الرابع) واستمرار النظرة الطائفية إلى الآخر (الفصل الخامس).

كيف يتصل هذا الكتاب أو ينفصل عن أعمالك السابقة؟

يتعامل كتابا السيطرة الغامضة واستيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا مع ثلاثة أشكال مختلفة من الحث على الامتثال وثلاثة نماذج مختلفة من سوريا. عبّر كتاب غموض السيطرة عن أوضاع أوتوقراطية متينة تعتمد على حكم الحزب الواحد، وجهاز أمن كلي الحضور، ومزاعم وهمية بشكل فاضح إلا إن المراقبين والمشاركين  توقفوا عن تبني وجهة النظر هذه واعتبروها عتيقة الطراز وضعيفة.  أما كتاب استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا فيدرس نمطين إضافيين من الحث على الامتثال. بشّر العقد الأول من حكم الرئيس بشار الأسد بالدخول في مرحلة استبداد تفاؤلية وحديثة وتتسم بالذكاء واستخدام الإنترنت. وقلَّ اعتماد مؤسسات الحكم وبلاغته على الآليات الحزبية للسيطرة الاجتماعية وازداد اعتمادها على حشد من المنتجين الثقافيين الذين برزوا مؤخراً، وما يُدعى ب“منظمات مجتمع مدني“ متأثرة بالسوق، شكلها النظام، مستفيداً من روح التطوع لدى الشباب. إلا أن هذا كله تغيّر في العقد الثاني مع بزوغ أتوقراطية الحرب الأهلية، والتي لم تعد وسائل وآليات التوسط فيها موجهة نحو الاستمرارية، بل إلى إعادة الاستقرار بعد أن تم تحديه جذرياً التزامٌ عاطفي من قبل قسم من السوريين بوجود سياسي ”يمكن أن يكون مختلفاً“. إن هذه العبارة التي تذكر بتيودور أدورنو توضح انخراط هذا الكتاب في احتمالات وعوائق التحول الاجتماعي، وليس كثيراً في ”المقاومة في حد ذاتها كما في البدائل المتخيلة التي يكشف عنها التحليل الارتجاعي للاحتمال السياسي في الحاضر. يهتم كتاب استيعابات سلطوية: الإيديولوجيا والحُكم والحِداد في سوريا أكثر بالديموغرافيات المتنوعة، الفهم غير المتساوي، وأهمية التنظير حول وسطيين متناقضين (العالقون بين الارتباط بالنظام والرغبة بالإصلاح) في فهم المرونة الاستبدادية. بهذا المعنى، إن الكتاب مدين بالفضل لنظرية ماركسية وعاطفية أكثر من غموض السيطرة وكتابي عن اليمن رؤى من الأطراف.  إنه، كما عبّرت إليزابيث آنكر عن ذلك بشكل لطيف، تحليل ل ”أنواع من الأوضاع التي لا تُحتمل“.

من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وأي نوع من التأثير تودين أن يحدثه؟

آمل أن يقرأ الكتاب ويجده مهماً الباحثون في مجال النظرية الاجتماعية والسياسية وفي الأنثروبولوجيا ودراسات الشرق الأوسط والدراسات الثقافية والأدبية والدراسات السينمائية والإعلامية والسياسة المقارنة، كما آمل أن يقرأه علماء الإثنوغرافيا السياسيون، وكل من هو مهتم بسوريا (بما فيه السوريون من خلفيات سياسية متباينة)، وأشخاص تقلقهم إغواءات الاستبداد في الزمن الحاضر. وآخرون، آمل أن جهودي ستقنعهم في إعادة توجيه مفهوم الإيديولوجيا، للتشديد على أهمية الحُكم في السياسة وعلى الاعتراف بالعمل الشاق للحداد في أزمنة الخسارة الفادحة.

ما المشاريع التي تعملين عليها حالياً؟

أنهي تحرير كتاب مع زميلي في الأنثروبولوجيا جوزف ماسكو بعنوان نظرية المؤامرة.

اطرحي سؤالاً تحبين أن نطرحه عليك ثم أجيبي عليه؟

ما علاقة الحُكم بالإيديولوجيا؟

يفهم الكتاب سياسة إعادة الإنتاج الإيديولوجية ليس كنشر لمعتقدات معينة، بل كتداول لأشكال معقدة من الارتباط السياسي، لتمكين الناس من معرفة أمرٍ ما وعدم معرفته في الوقت نفسه. ويُظهر فصلي حول الأنباء الكاذبة كيف استفاد النظام من نتائج الابتكارات التكنولوجية، مثل الإشباع المفرط بالمعلومات والسرعة الكبيرة التي تُبث وتصل بها في عصر الإنترنت. إن اللايقين الذي تمكّن النظام من إنتاجه في هذه الظروف لم يستقطب الجماعات ويحولها إلى جماهير عامة معزولة فحسب، بل قدم أيضاً عذراً لعدم الحكم. فقد صار من السهل بالنسبة للبعض، خاصة الوسطيين المتناقضين، النظر في أحداث مشوشة جداً بحيث لا يمكن الحكم عليها.  وفي ظروف كهذه، وفي سياق الانتصار الواضح للنظام السوري وعودة عالمية للحكم الاستبدادي نعثر على إمكانية تحدي جمعي للدكتاتورية لدى فنانين تحايلوا خيالياً على مشاكل مثل الأنباء الكاذبة، من خلال الأفلام الوثائقية. ومارس البعض أيضاً ما دعته حنا أرندت ”التفكير التمثيلي“، أي إعادة صقل قدرة على الحكم السياسي، ليس من خلال التماهي المفرط  مع المعانين الآخرين، بل من خلال القيام بالعمل التخيلي لكوني ”نفسي في مكان لستُ فيه نفسي“.

[تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية وترجمه من الانكليزية  أسامة أسبر]

الحرف والأرض الخراب

الحرف والأرض الخراب

حوار مع الفنان التشكيلي والخطاط السوري خالد الساعي

أسامة إسبر: كيف بدأ دخولك إلى عالم الفن وما الذي قادك إلى الحرف الذي قدته إلى اللوحة؟

خالد الساعي: قادني إلى عالم الفن محيطي العائلي وبشكل طوعي، حيث كان الجو الثقافي في العائلة دائم الحوارات والدرس المعرفي بغرض التمتع بالفن وفهمه،  كان انجذابي الأول للرسم، وقمت بأعمال بالألوان المائية والفحم، لكن الحرف أغراني لأنه تجريديا أعلى من الصورة وفيه إغراء جمالي غامض وبشكل غير تقليدي صرت أقلد حروف أخي لكن لا أعلم ماهيتها  وكنت وقتذاك في الخامسة من العمر، وتعاملي مع الحرف كان كتعاملي مع الصورة والشكل لا المعنى والدلالة، وهذا جعل منظاري للحرف مختلفاً منذ البداية على أنه كائن  وأنا من أحاوره وأضفي عليه اقتراحاتي  حيث كنت لا أرتضي بالقوالب الجاهزة، بل أحورها وفق ما أراه، في مرحلة ما كنت أمسك الريشة وأرسم الحرف ثم أمسك قصبة الخط وأرسم بها فاختلطت عليَّ الحدود بل انفتحت ما بين فني الرسم والخط ، وذلك قادني مباشرة لأن أرى الحرف في لوحة التشكيل لا في قالبها  التقليدي.

أسامة إسبر: الحرف لديك يخرج من البعد الزخرفي  التزييني ويتجسد في أفق بصري إبداعي مختلف، ما الذي قادك إلى هذه الرحلة، من الجمالية الزخرفية إلى الجمالية الإيحائية ذات الطبقات المتعددة؟ أعني هنا أن الحرف تم إنقاذه من الجمالية الباردة، ودخل في أفق تأويلي تساؤلي؟

خالد الساعي: وهذا ينطبق على الفنون جميعا، أعني قد يقع الفنان أو الكاتب أو الشاعر  إلخ في مطب التزيينية،  هي ما بين استعراض القدرات والتقنية، ومابين إيصال الرسالة بأقل وأبسط طريقة. هناك مستوى للشاعرية القصوى كبعض أشعار البحتري هي ذروة في الإبداع الخالص والتي وصلت إلى عمق اللغة والإيقاع، لكن هناك عتبة قد ينحرف بها المبدع إما عن قصد أو أن التيار يجرفهبالنسبة لي، في مرحلة ما انقدت إلى ذلك ولكن بهدف الإشباع الفني لكني شُفيت لأني صحوت وأدركت أن كثرة الكلام وكثرة العناصر قد تفضي إلى انقلاب القصد إلى ضده، صرت أميل إلى التكثيف الذي يُغني عن حشد العناصر الاستعراضي  وذلك التكثيف يأتي على عدة صعد، في التكوين أو اللون أو في غنى سطح اللوحة وكله قيم تُضاف إلى العنصر الأساسي الحرف وتقويه، ربما ولعي بفكر الفنانين التعبيريين الألمان قوّى تلك الفكرة لدي كتجربة سوتين  وغيره، وحتى المعاصرون منهم كأنسليم كيفر يتميزون بالحلول القوية التي تميل إلى التخلص من الزوائد وموازنته بتكثيف وإغناء السطح واللون، لكن الحرف يملك فضيلة أخرى وهي تعالقه مع اللغة واستحالة فكاكه عن القرائية والتأويل وبالتالي المهمة ربما تكون أصعب، فينبغي التحايل على بنية الحرف ليتطوع في التشكيل الكلي للوحة، وتحييد اللغة، أو فض التعالق بين الحرف كعنصر جمالي بصري واللغة، هنا أدخل بصلب عملية التحول الإبداعي، وهي تحويل الحرف للغة تعبيرية بصرية منفصلة عن دلالتها الأولى اللغوية لكنها مطواعة للتعبير البصري باللعب على جسد الحرف كراقص أو عنصر حي يعبر عن نفسه بالحركة.

من ناحية خصائص الحرف، هناك خطوط تزيينية بحتة  كخط الديواني الجلي وغيره لكن خط الثلث فيه قوة وجزالة  جعلتني أميل إليه أكثر، علاوة على قوته التعبيرية والإمكانيات اللامتناهية في توليد أشكال الحروف وتنوعهافي منطقة ما يلتقي العمل الإبداعي مع جوهره ومهمة الفنان إدراك ذلك بلا زيادة ولا نقصان.

أسامة إسبر: كانت الحروفية أو فن الخط مندرجاً في سياق جمالي تقليدي، وها هو الآن في أعمالك، يتبدى في جمالية جديدة، متوحداً مع حداثة اللوحة، ما المؤثرات التي قادتك إلى هذا الاكتشاف؟ خاصة أنك خرجت من لعبة الأصالة والمعاصرة، وثقافة ترسيخ الثابت والتقليدي. هل تعتبر نفسك حروفياً أم فناناً يستخدم الحرف لمآربه الإبداعية؟

خالد الساعي: أصبحت نظريات الحروفية ودوافعها معروفة من الجميع وأيضا مرجعيات من يتعامل معها و ينتج أعمالاً في هذا الحقل وخضعت لتصنيفات على صعيد استلهام الحرف مابين استنهاض القيم التقليدية للحرف ومزجها مع عناصر اللوحة وما بين مزج فلسفة الخط (الخط العربي) والخط بمفهوم الحركة، والتي قد تلتقي مع خطوط آسيا الوسطى، أي تستمد صيغة شكلية ما لكن تجعل إنتاجها مرهوناً بنبض وحالة الفنان لا مع الالتزام بصرامة الشكل  وفي الحروفية العربية ذهبت إلى القيمة الكتابية كفعل وحركة تلقائية، أو حركة تحتمل إسقاط الفكر والفلسفة كشاكر حسن لكنني أرجعت الحرف إلى لبنته الأساسية، قيمته الجمالية الأولى وأخضعتها إلى نظام آخر من إنتاج الحرف كما فكك شعر التفعيلة الميزان الأساسي ووحدات الشعر ليعيد صياغة إيقاع آخر من علاقات الكلمات وايقاعها، لكنني أعتمد كثيراً على الحرف كقيمة تعبيرية شكلية، أظنني في مرحلة ما كنت حروفيا وهذا طبيعي، لكنني ومنذ عدة سنوات أقدم لغتي التشكيلية الخاصة التي عمادها الحرف والإشارة، والتي قد تقرأ جمالياً من متلق لايعرف العربية بشكلها الفني الخالص مع فض اشتباكها مع اللغة، وبالتالي الولوج إلى عتبة أخرى. أظنني أقوم بمهمة مزدوجة  وهي الرهان على أن الحرف هو عالمي ولغتي  وطريقة تعبيري، وهو فضاء رحب لامحدود على صعيد التأويل والإنجاز والاعتماد على الحرف من الناحية التفكيكية وإعادة بنائه وتحويره، والتي ما تزال تغريني  لكن وبشكل غريب (وبعيدا عن الشعر) أصبحت أرى ما حولي وكأنه صيغ من أشكال الحروف، أو أنني اعتمد آلية تلقائية لتحويره في ذهني وهذا ما يخلق الالتباس الحميد في الرؤية لديالتعريف مشكلة أحياناً، كأنك تقولب شيئا ما، في بعض أعمالي الأخيرة تذوب الحروف وتتلخص من هيآتها لصالح المشهد الكلي، فالحروفية صهرها ضوء وفراغ العمل أو تحولت باكتظاظاتها إلى حقول بصرية.

أسامة إسبر: ثمة علاقة حميمة بين النص الأدبي والشكل الفني البصري لديك، فأنت تستخدم القصائد والنصوص الصوفية وتلعب تشكيلياً بحروفها وكلماتها، كما لو أنها ألوان الرسام الممزوجة والجاهزة للاستخدام لتوليد احتمالات عوالم أخرى، ولكن ماذا عن روحها، كيف تتجلى روح النصوص وتحرضك على الكشف الفني؟

خالد الساعي: اللغة تعرف لبوسات مختلفة  صوتها مثلاً، حركتها، أو شكلها الذي يجسده الحرف، المعنى روح والشكل جسد، و لكن التناص بينهما يتحقق إن شف الوعاء  أو إن فاض المعنى. إن اشتغالي على الشعر لايزال وإن تغيرت المعطيات والصيغ، فالحرف بوابة للمعاني، وهذه البوابة غير محددة الشكل، والمعاني التي كنت أنهل منها الشعر كمورد أساسي للاشتغال  أحيانا يغريني جرس اللغة لا المعنى وأحيانا الصور التي تولدها المعاني لكن الشغل الأساس هو على وحي شكل اللغة، أقصد صورة النص البصرية، أخذتني تلك الشعب إلى أبحاث ومسارات مختلفة، فالشعر التقليدي أخذني إلى مناح معينة لكن شعر التصوف أرجعني إلى روحانيات خالصة وراعني تأويل الحرف لدى المتصوفة وشق لي طرقاً أخرى فصارت الفضاءات أرحب وتخلصت اللغة من ثقلها وانعتقت  لكنها في الوقت ذاته أخذت حيزا كبيرا من التأويل، والأهم ما يقترحه علي النص، وعملت على شعر المتنبي ودرويش ومحمد صارم  فصارت اللوحات سجالا بين المعاني المنشودة وهيئة النص التي حاولت أن تكون صورته البصرية التي يمكن القبض على جوهره و روحه خارج اللغة  لا بل بلغة مغايرة ،هذا ما أغراني في البحث عن نصوص وتحديات أخرى كالشعر العالمي الآخر، مثلا عملت على أعلام الشعر الفرنسي كرامبو وأراغون وبودلير والكثير وأخضعت التجربة الناتجة لاختبار، وأخضعتها بأن عرضت اللوحات التي تجاوز عددها الخمسين على فرنسيين من ذواقة الشعر لكن ليست لهم علاقة بالعربية وسألتهم إن رأوا فيها  ما يماثلها من الشعر الفرنسي وكانت النتيجة مذهلة بأنه تم تحديد كل شاعر تماما حتى أنه تم الإجماع على قصائد بعينها كالمركب الثمل لرامبو، و أزهار الشر لبودلير، وحتى أنني وجدت الشاعرة الأسبانية خوليا كاستيليو  تقف أمام لوحاتي التي استلهمت من شعرها وهي عن الوقت وقالت إنك اخترقْتَ مخيلتي وقبضت على الصور التي كنت أنشد  ثم جلست على الأرض أمام اللوحات مندهشة.

في مكان ما عاليا يكون جوهر الأشياء ونحن ننظر من زوايا مختلفة ونلبسها فنا ما أو قراءة ما لكن المبدع قادر على تخطي ذلك، وهو قادر على التنقل بين هيئات المعنى المختلفة ولكنه يراها واحدة، والمتلقي المبدع يمكنه إدراك تلك المقاربات وتحسس الانتقال الجمالي، فكيف نقول موسيقا تصويرية أو صوراً شعرية، أليست تلك دعوة لفتح المستقبلات الحسية والفنون على بعضها البعض؟

أسامة إسبر:  أعرف أنك تأثرت بجوك العائلي، العائلة الكريمة التي كانت في الميادين، هي الآن مشردة في أصقاع الأرض، للأسف الشديد. كيف كان جو العائلة من منظور الطفل المتأثر، وكيف هو الآن؟ ما هو التأثير الجديد للعائلة، وخاصة نحن نتحدث هنا عن مآسي الحرب وتأثيراتها على الإنسان السوري؟

خالد الساعي: يمكن أنني عرجت قليلا على الجو العائلي  ودوره في تفتح مداركي على الفن باكرا جدا والنقاشات المشتعلة أبدا عن الشعر والرواية والفكر عموما وعن فني الرسم والخط والموسيقى أيضا وذلك أيضا كان له الدور المهم في إطلاق المدركات الحسية والتشويش على بعضها البعض، وكانت العلاقة بين الأخوة متميزة لا تنافس فيها وكان كل فرد له تمايزه الخاص لكن النقد كان أوفر من الإطراء مثلا لم أستطع أن انتزع إعجاب أخوتي الأكبر بأعمالي حتى ما بعد سن ال 26 ، كانت لنا جلسات  قراءة و طقوس للشعر واللغة، الآن أنظر الى ذلك بعين الدهشة لما كانت فيه الأجواء العامة من سكينة وهدوء، أقصد لم يكن لحديث السياسة والقومية من موضع، الآن أصبحت الأمور أكثر تعقيدا وتركيبا حيث تشتتنا في أصقاع العالم، ولم تعد تلك الأجواء إلا في ذكرياتنا وحل الواقع القاسي محلها، تبعات الحرب والخسارة والتشرد  فرضت نفسها، ذهنيا وعمليا، حتى تجربتي أخذت منحى مختلفاً في العمل الفني كمنظور ورؤية وصيغ فنية مغايرة. لا نريد الاستسلام لأنه لم تعد لنا بيوت بل لم تعد مدينة الميادين أصلا  فهي أنقاض فحسب، الوطن لم يعد ينتمي إلى جغرافية ولا حتى كفكرة وإيمان وهذا زعزع تركيباتنا الداخلية.

مؤخرا قال لي أخي الأكبر إنه رجع إلى الخط وربما أجواء استانبول  لها إملاءاتها أيضا، أخي الآخر (ذواقة العائلة) وهو أكثر من عانى في هذه الحرب سنوات بلا ماء ولا كهرباء، عاش كإنسان بدائي، الآن بعد أربع سنوات تكلمت معه في منفاه بالشمال قال لي إنه رجع يكتب  قصاصات خطية أدعية وأمنيات ويوزعها لبث الأمل في النفوس وقتذاك كنت أنا أكتب على الثلج و أدس القصاصات الحروفية التجريدية في شقوق لحاءات الشجر العملاقة في ضواحي بوسطن.

لعلها الأصالة جاءت من التربية الدقيقة، ومن الهاجس الكبير الذي لازمني منذ الصغر فكنت أقرأ قصص المبدعين وفرادتهم وذلك كان محرضاً كبيراً، فصرت أذهب إلى شاطىء الفرات كثيرا وأتأمل إلى أن تحولت المشاهد حولي إلى أحرف، فصارت حقول القمح الحصيدة كرزم من أحرف الخط السنبلي وهي تتمايل بعنادصار لدي نوع من توأمة الخط مع الرسم وبحثت في التقاءاتهما التشريحية ووافق كل منهما   وربما أعدت للحرف وجوده المادي وأطلقته في الطبيعة.

أسامة إسبر: ما هي المواد التي تستخدمها والتي تساعدك أكثر على التحكم الإبداعي بالحرف؟

خالد الساعي:المواد التي تليق بالحرف هي الحبر والورق وكان اشتغالي الأولي عليهما لكنني رويدا رويدا دخلت قماش الرسم وبقيت أكتب بالقصب عليه لكنني طورت أدواتي كثيرا وخضت تجارب في تحضير الألوان من الطبيعة وفق وصفات متفق عليها تقليدية وتجارب أخرى استخلصتها بنفسي، في ولاية ميشيغان كانت لي تجربة مع السناجب، تجربة شراكة فكانت تأتي حديقة بيتي تأكل الجوز وتترك لي قشرته التي كنت أستخلص منها اللون البني. القماش بحر من التجريب وأيضا الألوان وحواملها من أصماغ لها دور كبير في بحثي لكن بالتجربة والخبرة صرت أرى ما يلائم كل سطح و تقنية لكن التقنية نفسها تقود إلى آفاق قد لا تقع في بال الفنان لذا التجريب والعبث  مهمان بنفس المستوى لاجتراح أماكن و ملامح جديدة للتقنية.الأحبار والألوان المائية والإكرليك هم الأكثر استخداما عندي إن كان على الورق أم القماش وحتى في الاعمال الجدارية

أسامة إسبر: قلت مرة إن الفنان يجب أن يمر في مرحلة طويلة من التدريب حتى ينفتح له الخط، وكأنه يُشرق من داخله، هندسة روحانية، وقد يفشل ولا يُوفَّق أحياناً، لعدم جلاء أفق الخط له، وهذا له علاقة بحالة الصفاء الداخلية، كما لو أن رحلتك مع الخط رحلة متصوف، هل يمكن أن تحدثنا عن مرحلة التدريب التي مررت فيها، عن حالات فشل معينة ساعدت على إعادة النظر والنجاح، ثم كيف تحققت لحظة الإشراق في التجلي الحروفي؟

خالد الساعي: الحرف هو شكل وممارسة، هذه الممارسة تتجلى في التمرينات وهذه التمارين بمثابة رياضة روحية، الخط هندسة روحانية، نعم كنت كثيرا ما أفشل في الدخول لحضرة الحرف، وكانت لحظات كبيرة من الإحباط الذي يشرف بي على الشك، وهذه مرحلة معقدة لها علاقة بالشخصية والإيمان والقدرة على الرؤية بمنظار مختلف، وجود المعلم ضروري لالتماس مواضع الخلل لكنه سيضع يده على الخلل التقني ولكن انفتاح أفق الحرف له علاقة بضبط الإيقاع الداخلي وجعله يتساير مع إيقاع الحرف، بهكذا سلوك يمكن كتابة الحرف بعيون مغمضة لأن الإيقاع صار في دم الخطاط، إن لم نشعر بالموسيقى لايمكننا محاكاة الحركات فحسب لأننا سنكون مقلدين. الإيقاع ينبع من الداخل، كما يقال الحرف حافة  والحرف حجاب   لكنه حجاب لعالم رحب ومهيب، ويجب أن نعبر الحرف لأن أصحاب الحضور يعبرون ولايقفون بالحرف بل يلجون لإيقاعه الداخلي، جوهره. لسنوات كنت أستمتع بالتمرين أكثر من إنجاز العمل لأن متعته دون حسابات بل متعة خالصة، التمرين رياضة روحية، نوع من العلاج والطقس الذي به تزول الشحنات السالبة والغضب تجاه السلام الداخلي.

أسامة إسبر: المتأمل لأعمالك يلاحظ بأن الخط تحرر من سياقه وخلفيته، صار واسع الدلالة، حداثياً وقابلاً للتلقي والتذوق في كل الثقافات، بمعنى أنك تحاوزت المحلية بالخط، هل لأنك حولته من شكل لغوي عادي إلى شكل بصري إيحائي في عالم فني صار فيه إشارة ورمزاً أو دلالة سياقية؟ كيف تصف إضافتك في هذا المجال؟ ما الإضافة التي هي خالد الساعي وليست غيره؟

خالد الساعي: دعمني كثيرا اشتغالي على الأصول واشتغالي الطويل على النص والنص الشعري بشكل أكبر، وبالتالي محاورة المعنى، ولا شك أن هناك عنصرين كان لهما كلمة السر في توجه بحثي تجاه فتح الخط على التعبير أكثر من اعتماده على اللغة القاموسية، أولهما  الإمكانية اللانهائية في صيغ وأشكال الحروف وإعادة التركيب والبناء، هذه المطواعية الشكلية هي الركيزة الأهم، والثانية هي الأفق التأويلي للفن والحرف على وجه الخصوص، فالقراءات العرفانية فتحت آفاق واسعة لي كتأويلات النفري وابن عربي وغيرهم لدلالات الحروف، إن كان على صعيد شكل الحرف أو على مستوى التأويل، والأهم إملاءات شكل كل حرف على حدة  فحرف الجيم  جنة أو جهنم  تبعا لشكل ونوع الخط، جيم الديواني الجلي  جنة وموسيقى وليونة، جيم الكوفي القيرواني كالغضب والعدوانية، جيم خط الثلث تمثل القوة والجمال معا ولونه أسود أو أحمر. هناك إملاءات لأشكال الحروف التي تراكمت عبر تجارب الفنانين الخطاطين لأكثر من ألف سنة. إذا الحروف هي منظاري لرؤية العالم ووسيلة تعبيري الرحبة والتي ما خذلتني.

المحاورة مع المعاني تتجاوز اللغة، وهذا ما دفعني لإيجاد لغة داخل اللغة، لغة بصرية داخل لغة المعجم، لغة يشتغل فيها الخيال ولا تشغلنا الصورة بل ما وراءهاأظن لم يشتغل حروفي من قبل على هذه المعطيات ولا على صعيد الحرف الذي ينبع من قيمته الجمالية الكلاسيكية لكنه يتجاوزها بتوليد صيغ متجددة.

أسامة إسبر: قالت الباحثة الألمانية كارين أدريان فون روكس في كتابها عنك، والذي يحمل عنوان خالد الساعي، إن الفنان الساعي لا يكتب حروفه وكلماته بخط مستقيم، وهو لا يجمّعها في خط أفقي، كما هو سائد، بل يخطها كما لو أنه في فضاء تخيلي، هذا الفضاء التخيلي، ألا يمكننا اعتباره تجاوزاً للحروفية السائدة، أي أن نقلة نوعية حدثت هنا، وأعتقد أن أهمية كثير من أعمالك تنبع من هذا التحويل للفن الحروفي بأكمله. هل كان هناك نقد لتجربتك في هذا السياق، أعني من أشخاص اعتبروا ما فعلته خروجاً على المقدس الحروفي؟

خالد الساعي: أظنه عتبة أخرى للحروفية، لأن الحروفية لايمكن أن تبقى دون تجديد دماء، تجربتي هي إعطاء دفع وفضاء مغاير لمدرسة الحروفية، قد لا أتفق مع التسمية، وقد تكون مجرد اصطلاح، لكن المهم هو القيام بتجديد المدرسة من الداخل، في مرحلة ما اعتبر السرياليون أن سلفادور دالي لم يعد سرياليا لكنه من ساهم بنقلها لمستوى أعلى، الخروج من عباءة الموضوعات الدينية ساهم في تحرر فن الرسم الأوربي من ذهنية معينة، إنه صيرورة في الزمن، ساهمت بالتحرر من الفكر الذي فرضته الموضوعات لكن الأفق الجديد ساهم بصياغة أسس مختلفة لفن الرسم، وبعد ذلك لم يعد الموضوع يهيمن على طبيعة الرسم وأصبحت مسألة إعادة الموضوعات الدينية تأخذ منحى مختلفاً، لكن الأهم هو حرية الفكر وتطوير نظريات الفنالخروج  يساعد في رؤية الأشياء أفضل أو على الأقل كسر الروتين، والقوالب وإتاحة المجال للنقد والتفكر.

أسامة إسبر: ما علاقة الحروف العربية بالأشياء برأيك؟ هل كونها معبرة عن أشياء، يخرجها حتى في شكلها العادي من تجريديتها ويقودها إلى تجسد بصري، هل تقرأ الأشياء في الحروف، ماضيها، أصلها الغامض، ومن ثم توحِّده مع اكتشاف غموض النفس البشرية؟

خالد الساعي: سؤال يتطلب الكثير للإجابة عنه، في قناعتي إن الحروف هي الكون الموازي أو العالم الموازي لعالمنا، فمقولة ( إن الحروف أمة من الأمم ) ليس بتعبير مجازي بقدر ما هو واقعي، يقول التوحيدي  كنا حروفاً عاليات لم تقرأ، يساهم في تكثيف هذه الجدلية وغموضها، أعني أن الكلام  أو الحروف هي الأصل  وهي المآل،  إذ كل شيء سيزول ويبقى الذكر.

اللغة : ألم تكن الهيروغليفية مزيجاً من الصورة والحركة  للتعبير، ثم إن نظام الإعجام بالعربية ألم يكن له بعد صوتي زمني  يراعي مخارج الأصوات وأماكنها وزمنها، أعني تحويل الصوت والحركة إلى شكل؟ لاشك أن هناك كثيراً من الأشكال والصور تسربت إلى أشكال الحروف هي ليست مقاربة جمالية لكنها حقيقة، فحرف العين وإشكالية انتمائه الشكلي إلى العين البشرية، وحرف السين بتعدد أشكاله وهو مأخوذ من السيف تارة أو من الأسنان تارة إلى آخر صيغه، الناظر إلى تسميات هيآت الحروف وتموضعاتها لن يساوره أي شك بأن الحروف كانت أشكالاً والخطاط الفنان حولها وحورها لتكون برزخا بين التشخيص والتجريد  وهذا ما أدعوه بالصورة المضمرة في فن الخط العربي. تحدث أبو عمر الداني في كتابه المحكم عن الحروف، وما حرك أول فضول لدي في الصورة المضمرة هو حديثه عن حرف الألف المدعم بالرسم  فقد حدد سبعة أعضاء لهذا الحرف،رأسها، و صدرها وبطنها وخصرها الخ كأنه يصف جسد إنسان بمنظر جانبي، وهذا من وجهة نظر علم الجمال التقليدي يقع بما يسمى بالنسبة الذهبية وهي القيمة المثالية والناظمة لعلم الجمال، فكل الحروف في خطي الثلث والنسخ تقع ضمن تلك الهندسة، لكن هناك سمات كثيرة ينفرد بها الحرف العربي عن باقي الأبجديات، غير أشكاله وأنواعه اللامحدودة، ألا وهو النظام البنائي لتجاورات الحروف والذي هو بنية تشكيلية غاية في الإدهاش فالحرف يتغير حسب ما قبله وما بعده، إضافة لنظام النقط  والنبرات وهذا ما يعطي مجالاً للمناورة التشكيلية الكبيرة.

لكل حرف سبعة أبعاد أولها البعد الشكلي ثم التشكيلي ثم الموسيقي ثم العددي ثم الرمزي ثم الدلالي ثم العرفاني أو الصوفيالوضوح والغموض أجمل تجليات الفن تقع بين نواسيهما، والغموض السحري للحرف العربي يجعله لغة ساحرة تصل إلى الإطراب الجمالي دون اللجوء لتفسيرات، كأن تذوّب العسل في الشراب.

لا توجد نظرية جازمة عن أصل الحروف العربية تماما، لكن تعالقها مع أخواتها ساهم في مقاربتها، هناك من يقول إن الأبجدية العربية لغة سماوية تحكي قصة أبي جاد (آدمونظرية أخرى بل أسطورة تقول إن نوح حمل الألواح التي كُتبت بها أبجديات العالم وألقاها في الماء إبان الطوفان ثم عادت كل أمة لتجد حروفها لديهاالتوحيدي والنفري ربطا الحروف بحركة الشمس والكواكب ومنازل القمر تلك التي تقارب الحروف الشمسية والقمرية فصارت الحروف شيفرات معبأة  بالمعاني، لكن الرومي يقول الحرف وعاء والمعنى ماء وبحر المعاني من عند الله.

أسامة إسبر: ما الذي يجذبك في الخط الثلث والديواني الجلي؟

خالد الساعي: لعله أبسط وأجمل سؤال. الأشكال إما لينة وإما قاسية  لكن في الليونة قساوة باطنة وفي القساوة ليونة خفية. الخط الثلث أقوى الخطوط وأكثرها توليداً لأشكال الحروف، والديواني الجلي أكثر الخطوط ليونة وانسيابية. إنهما طرفا النقيض،  بل التكامل وأشكال الخطوط الأخرى قد تكون تنويعات لهما.  خط الثلث يمثل الرجل والقوة و التحكم، خط الديواني الجلي يمثل المرأة والرقة والموسيقى. إنهما لغة الشدة واللين،  الشراسة واللطف، الحب والقوة. الثلث لغة السيافين والفرسان، والديواني لغة الطرب والغنج ، ربما لأن برجي  الجوزاء كبرج المتنبي سأبقى حبيسهما.

أسامة إسبر:  في الآونة الأخيرة كرّسْتَ وقتاً لا بأس به للعمل على الجداريات الكبيرة، مثل العملين اللذين نفذتهما في مدينة ولفسبرغ الألمانية، إحدى الجداريات مستوحاة من شعر الشنفرى (لامية العرب) واشتغلت على جداريات وأعمال كبيرة عن إيقاف القتل والتشريد وآلام الهجرة واللجوء كان آخرها بألمانيا في متحف الفن ببون.

سافرت إلى أكثر من 16 مدينة ألمانية وعشتَ و فهمت صعوبات اللجوء والاندماج في المجتمعات الجديدة، هل يمكن أن تحدثنا عن عملك على هذه الجداريات، ما الذي يميزها فنياً، وكيف تفاعل الجمهور معها، وكيف استطعت أن تنقل فيها الحروف من بعدها التجريدي المنفصل إلى لغة تعبر عن معاناة حقيقية على أرض الواقع وهي المأساة السورية بكل تفاصيلها؟

خالد الساعي: ذلك العمل الجداري في متحف الفن في نوينهاوس من أكثر أعمالي قوة  لكن ارتباطه بوطني  وجراحات السوريين والمأساة المستمرة جعله أكثرها تأثيرا. كان الهدف منه إلقاء الضوء على مآسي السوريين في الغربة وتحديات بلدان اللجوء على كل صعيد  لكنه ورطني بسفر طويل جلت فيه معظم بلدان اللجوء وخصوصا ألمانيا ووقفت على آلاف القصص المريعة، رافقتها إحباطات وهواجس على المستوى الشخصي أيضا. أردت أن أحول هذه المعاناة إلى عمل صادم جارح،  العمل بمثابة توثيق بصري لكل المدن التي طالها التدمير والتهجير وتوثيق لكل المجازر التي ارتُكبت. مفتاحا العمل هم القتل والدم القتل ممثلا بالبرميل المتفجر، والدم ذلك السهم الذي يفر للسماء من وسط اللوحة، العمل فيه تدوين بصري كتابي لكل ما جرى على مر ستة سنوات، وأيضا فيه إشارات سابقة للواقع  منها التغيير الديموغرافي  فترى الميادين قرب جسر الشغور وهذا ما حصل من أشهر، في العمل إشارة واضحة للأطفال  فهم أكثر من دفع من فاتورة الحرب الدموية وأيضا هم رمز للاستمرار والنصر لكن اللوحة أيضا هي ذات صبغة إنسانية أكثر من أي شيء. الألوان المهيمنة هي ألوان ما بعد الدمار الرمادي الثقيل والبني المغبر واختلاطهما. أهم شي في اللوحة هو إعادة صياغة شكل اسم كل مدينة حسب حجم تأثرها فمدينة البيضاء قطعت وأعيد توصيلها بشكل يخالف التشريح المعتاد للكلمة ورافق مع صور من المجازر التي تعرضت لها ومضايا أصبحت نحيلة كشبح حالها كحال أهلها الجوعى. الرمزية كانت طاغية على العمل واستعمال أحرف وكلمات غير عربية إنكليزية في الغالب والمانية  ك (من هم المسلمونو(قوة) و (لماذا) والكثير وأيضا إشارة لأن الغرب ليس بريئاً من استحداث الإرهاب فوضعت مقالة عن الإرهاب الغربي لروجيه غارودي. اللوحة فيها مستويات كثيرة ورسائل مختلفة  لكن بالنسبة لي تحقق شيء كبير في تجربتي  وهو أن الحرف صعد لمستوى التعبير عن الحدث ونزل إلى أرض الخراب والقتل وصرت ترى الأشلاء مع الحروف كأن الحروف تخلت عن رواسبها وصارت تشاطر الإنسان نصيبها من القتل والتفظيع فصرت ترى ميما دامية برأسين و دالاً مقلوبة وعيناً مدماة ، أوصال البشر والحروف.

ما نفع الفن إن بقي في الصالونات و بقي يعبر عن ترفنا وخيالاتنا؟ رجل يتمسك بقارب على شكل باء، الحرف قد يساهم بالإنقاذ  كما أن حرباً قد تقع على حرف، الحرف وسيلة تعبيري  ونبضي وأحد أشكال وجودي.

نعم عملت عدداً كبيراً من الجداريات وكانت جداريتيْ مدينة ولفسبرغ من أكثرها طرافة في الموضوع  حيث العملان متقابلان في فضاء عام يتيح لآلاف الأشخاص رؤيته يوميا وهو مكان يدعى محطة الفن وهو ضمن محطة القطار الرئيسية، اللوحة الأولى منه من وحي المدينة وهو قصر الذئب وما فيه من تداخل أسطوري عن الذئب  لكن القصر في غابة مخيفة  لذا عملت اللوحة كمتاهات لونية وتكوينية يتيه فيها الناظر  وتعكس الجمال والوحشة والخوف بألوانها الغنية المتداخلة على أن الذئب مصدر الخوف.

في اللوحة الجدارية المقابلة استلهمت فكرة قصيدة الشنفرى لامية العرب مع تضمينات كثيرة من النص والتي تحكي عن قيم الإنسان الحر المتوحد مع الطبيعة والحيوانات وأهمها استئناس الذئب ومصاحبته والنوم مع الوعول الخ، آخر الصور الوصفية المدهشة لمناخات الصحراء، وكانت اللوحة باللونين الأسود والأبيض المغبرين كاستعارة عن الصحراء وأيضا أصبحت اللوحة على النقيض من مقابلتها لكن اللوحتين نُفذتا بخط الثلث الذي أوصل رسالتين عكس بعضيهما.

إن فترة إنجاز الجداريتين كانت غنية بالحوارات العفوية وفهم عقلية الألمان المتحفظة والطموحة فقد جرت لي نقاشات هائلة معهم وكانت تجربة لاتنسى.

*خالد الساعي khaled Alsaai فنان وحروفي سوري مجدد في مجال فن الخط، وهو من مواليد مدينة الميادين السورية، 1970. تخرج من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1998 وحصل خلال مسيرته الفنية على عدد من الجوائز العربية والعالمية، أبرزها جائزة البركة الدولية للخطاطين المحترفين في الدورة الأولى لفن الخط العربي من اسطنبول وجائزة الحداثة في الخط في الدورة الثالثة من بينالي الشارقة والجائزة الأولى بالخط التقليدي في مهرجان الخط العالمي الأول بطهرانكما أن أعماله مقتناة من قبل العديد من المتاحف كالمتحف البريطاني ومتحف دنفر في كولورادو بالولايات المتحدة الأميركية ومتحف سان بيدرو بالمكسيك ومتحف الفن الحديث بالمغرب ومتحف الشارقة لفن الخط. شارك الساعي في كثير من المعارض العربية والدولية، وشارك مؤخراً في معرض في ألمانيا عرض فيه جدارياته عن الحرب السورية.
وزير خارجية اليابان: الحل السوري بتفاهم اميركي-روسي

وزير خارجية اليابان: الحل السوري بتفاهم اميركي-روسي

حض وزير الخارجية الياباني تارو كونو في حديث إلى «الشرق الأوسط» جميع الأطراف إلى «التحلي بأكبر قدر من ضبط النفس، وإلى وقف فوري وغير مشروط للنار»، مشدداً على وجوب أن «تحترم جميع الأطراف سيادة ووحدة أراضيه، وأن تدعم العمليات السياسية في جنيف، وتبذل جهوداً لإيجاد حل شامل» لتحقيق السلام والاستقرار.

وقال كونو، إن الأزمة السورية «لن تُحل بوسيلة عسكرية، بل يجب علينا أن نسعى إلى حل سياسي… ولا بد من وقف الإجراءات العسكرية»، لافتاً إلى أن «إعادة إعمار سوريا بشكل فعلي تحتاج إلى تقدم عملية جنيف والمصالحة الوطنية والاستقرار الأمني في كل أنحاء سوريا».
وأكد وزير الخارجية الياباني، أهمية «التعاون الأميركي – الروسي من أجل تحقيق وقف النار في سوريا وتحقيق تقدم في العملية السياسية» في سوريا.
وهنا نص الحديث الذي أجرته «الشرق الأوسط» خطياً عبر البريد الإلكتروني:

– كيف ترى التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جرت في السعودية السنة الماضية؟ وما رؤيتك لمستقبل العلاقات مع السعودية؟

– زرت السعودية في سبتمبر (أيلول) الماضي بعد تولي منصب وزير الخارجية في أغسطس (آب) الماضي. وخلال الزيارة، أتيحت لي فرصة لقاء خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد محمد بن سلمان، لتكون زيارة مثمرة جداً.
وفي الحقيقة، قمت قبل تولي منصب وزير الخارجية بزيارات عدة إلى الشرق الأوسط بصفتي نائباً برلمانياً ولي أصدقاء كثيرون، حيث حاولت تعزيز علاقات اليابان بالشرق الأوسط. وبالنسبة إلى السعودية، لم أزر العاصمة الرياض مراراً فحسب، بل زرت مدينة جدة مرات عدة أيضاً؛ مما جعل السعودية بلداً مألوفاً بالنسبة لي.

وأشير إلى أن الشرق الأوسط منطقة تقع في مركز التطورات العالمية السياسية والاقتصادية، وإن السعودية مفتاح استقرار الشرق الأوسط وازدهاره. وبصفتي وزير الخارجية هذه المرة، سأستمر في بذل قصارى جهودي لتطوير العلاقات اليابانية – السعودية. والسعودية شريك مهم جداً تتعاون معه اليابان في مختلف المجالات، منها التجارة والاستثمار والسياحة، والتعليم، والبنى التحتية، والتكنولوجيا، والتبادل الثقافي.

– وما دور اليابان في «رؤية 2030»؟

– يتابع العالم باهتمام شديد مبادرة السعودية الهادفة إلى الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية من خلال «رؤية السعودية 2030» بقيادة الملك سلمان، وولي العهد الأمير محمد، التي تؤيد اليابان اتجاهاتها وستساهم في تحقيقها. وعلى أرض الواقع، أكدت اليابان والسعودية على الارتقاء بالعلاقات الثنائية إلى مستوى «الشراكة الاستراتيجية» فأعدتا «الرؤية اليابانية – السعودية 2030» بوصلةً توجهِ التعاون الثنائي نحو أفق جديد، وتسعى إلى إحداث تآزر بين اتجاهات البلدين الإصلاحية الرامية إلى الخروج من الاعتماد على النفط وتوفير الوظائف وغيرها و«الاستراتيجية التنموية» اليابانية؛ ما سيمكننا من القيام بالإصلاح والتنمية معاً.

انهيار «داعش» والحل السياسي

– بعد انهيار «داعش» في العراق وسوريا، هل تعتقد أن حكومتي هاتين البلدين تتخذان إجراءات كافية لمنع إعادة ظهور قوى متطرفة مثل «الدواعش»؟

– في الجانب العسكري، تكاد مواجهة «داعش» في سوريا والعراق تصل إلى المرحلة النهائية. ومن الضروري أن نمنع إعادة انتشار التطرف العنيف من خلال معالجة آثاره وبناء مجتمعات متسامحة تحترم التعددية. وأعلنتُ في مؤتمر الحوار العربي – الياباني السياسي الذي عقد في القاهرة سبتمبر الماضي، عن «مبادئ كونو الأربعة»، وهي المساهمة الفكرية والإنسانية أولاً، والاستثمار في الكوادر البشرية ثانياً، واستمرارية الأعمال ثالثاً، وتعزيز الجهود السياسية رابعاً. وتعتبر هذه المبادئ اتجاهاً أساسياً لسياسات اليابان تجاه الشرق الأوسط، وستقوم اليابان من خلاله باتخاذ إجراءات تدعم التعايش في مجتمعات الشرق الأوسط من أجل إحلال الاستقرار في المنطقة.

– ما الوسيلة المناسبة لمواجهة الإرهاب على المدى الطويل؟

– هناك بعض الإجراءات التي قد تمنع إعادة انتشار التطرف. ومنها تعاون اليابان في خلق نظام استعادة السلاح الذي ستعمل عليه حكومة العراق، من خلال التدريب المهني، وتسهيل البحث عن الوظائف. وستقدم اليابان كذلك برنامجاً لدعوة رجال دين وموظفي حكومات، ممن يعملون على مواجهة التطرف العنيف، إلى اليابان حيث سيتعلمون موضعات، منها كيفية تمكن اليابان من إعادة الإعمار بعد دمار الحرب العالمية الثانية. ونحن نود استخدام تجارب اليابان وخبراتها من أجل الاستقرار في الشرق الأوسط.

– وسوريا؟

– سوريا وضعها أصعب. فرغم تراجع قوة «داعش»، لم تنته الأزمة السورية بعد. ومن الضروري أن نشجع تقدم العمليات السياسية والمصالحة الوطنية؛ ما سيؤدي أيضاً إلى بناء مجتمع لا يولّد التطرف. إن اليابان تعرب عن قلقها إزاء كل التأثيرات السلبية التي خلفتها الأزمة السورية، وتدعو الأطراف كافة إلى التحلي بأكبر قدر من ضبط النفس، وإلى وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، وإلى السماح بالوصول الإنساني الآمن والمستمر من دون عوائق لكل المحتاجين إلى المساعدات. والهدف من ذلك إنساني يهدف إلى منع وقوع المزيد من الضحايا والجرحى من المدنيين الأبرياء.

«سوتشي» ومفاوضات جنيف

– كان هناك مساران للحل السياسي: «مؤتمر الحوار الوطني السوري» الذي عقدته روسيا في سوتشي وعملية جنيف. وفي اعتقادكم، ما الشروط المناسبة لحل سياسي للأزمة السورية؟

– صحيح أن القوى الرئيسية للمعارضة لم تشارك في مؤتمر سوتشي، لكني أعتقد أن هناك نقاطاً عدة تستحق التقدير، منها مشاركة قوى سورية لم تشارك في المفاوضات في الفترات الأخيرة. وفي ذلك المؤتمر، تم الاتفاق على إقامة لجنة دستورية. وأتمنى أن تؤدي هذه الأمور إلى تقدم العمليات السياسية.
وفي الوقت نفسه، يجب عليها أن تتقدم من خلال عملية جنيف التي تقودها الأمم المتحدة؛ لذلك نحن نترقب كيف سيتم وضع نتائج المؤتمر في إطار عملية جنيف؛ ما قد يؤدي إلى تشكيل لجنة دستورية. وإن اليابان مصممة على الاستمرار في تأييد ودعم جهود المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا.
علاوة على ذلك، تأمل اليابان بشدة أن تحترم الأطراف كافة أمان الشعب السوري، وسيادة ووحدة أراضيه، وأن تدعم العمليات السياسية في جنيف وتبذل جهوداً لإيجاد حل شامل من أجل إحلال السلام والاستقرار في سوريا برمتها بناء على قرار مجلس الأمن الدولي 2254.

– وما دور اليابان؟

– قررت اليابان مؤخراً تقديم مساعدات جديدة إلى سوريا والعراق والدول المجاورة بقيمة 220 مليون دولار أميركي؛ إذ وصلت قيمة المساعدات اليابانية المقدمة إلى تلك البلدان منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011 إلى 2.2 مليار دولار العام 2018. واليابان عازمة على تقديم مساعدة مناسبة، متمنية أن تبذل الأطراف كافة في سوريا قصارى جهدها من أجل تحقيق السلام والاستقرار في سوريا.

– لكن التصعيد قائم في سوريا. حصلت مواجهة بين إيران وإسرائيل، وهجوم أميركا على جزء من القوات الروسية وعملية تركية في عفرين… ما الإجراءات الضرورية لاستعادة عملية السلام وتشكيل اتفاق سياسي من أجل السوريين؟

– تعرب اليابان عن قلقها إزاء أوضاع سوريا الحالية المتوترة عسكرياً، كما تعرب عن قلق عميق إزاء ما يجري في الغوطة الشرقية لدمشق التي تتعرض للضربات الجوية والقصف؛ ما يؤدي إلى سقوط كثير من الضحايا والجرحى المدنيين. إننا لا نرى أي مؤشر لهدوء الأوضاع رغم اتخاذ مجلس الأمن الدولي القرار 2401. ويشهد الشمال السوري في إدلب وعفرين تصعيداً عسكرياً، حيث ينتشر الجيش التركي مع الفصائل المعارضة ويقوم بشن عمليات عسكرية، وازدادت مؤخراً حدة ذلك التصعيد في عفرين. وفي الوقت عينه، يشهد جنوب سوريا تصعيد التوتر بين الجانب الإسرائيلي والجانب السوري الإيراني، حيث تم إسقاط المقاتلة الإسرائيلية.

– كيف يمكن استعادة مبادرة البحث عن حل سياسي؟

– كما ذكرت قبل وقت مضى، فإن الأزمة السورية ليست مشكلة يمكن أن تحل بوسيلة عسكرية، بل يجب علينا أن نسعى إلى حل سياسي. ومن المهم أن تلعب الدول المعنية كافة دوراً بنّاءً، ونتمنى أن تؤدي جهود هذه الدول إلى وقف أعمال العنف في سوريا وتحسين الوضع الإنساني الفظيع. ودعت اليابان وما زالت تدعو جميع الأطراف إلى وقف الإجراءات العسكرية من أجل إيصال المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى بذل جهود من أجل تقدم العمليات السياسية التي تقودها الأمم المتحدة. وستستمر اليابان في التعاون مع المجتمع الدولي من أجل وقف جميع أعمال العنف في سوريا.

إعادة الأعمار

– اليابان مرت بتجربة إعادة الأعمار بعد الحرب. هل من دروس إلى السوريين؟ أفضل طريق لإعادة إعمار سوريا؟

– استمرت اليابان في تقديم أكبر ما تستطيع تقديمه من المساعدات من أجل تحسين الأوضاع الإنسانية في سوريا، وهي قلقة قلقاً عميقاً من تدهور الوضع الإنساني الناتج من الأزمة السورية. واليابان مصممة، كما ذكرت سابقاً، على تقديم المساعدات الإنسانية لكل السوريين المحتاجين إليها.
في الوقت نفسه، فإن إعادة إعمار سوريا في شكل فعلي تحتاج إلى تقدم عملية جنيف، والمصالحة الوطنية، والاستقرار الأمني في كل أنحاء سوريا. وستشجع اليابان الحوار بين السوريين أنفسهم.

– ودور اليابان؟

– لليابان خبرات في إعادة الإعمار؛ إذ بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، ورغم أن البنى التحتية كانت مدمرة تماماً، حققت إعادة إعمار نفسها بشكل سريع لتصبح ثالث أكبر القوى الاقتصادية العالمية حالياً. وساهمت اليابان في إعادة إعمار العراق وأفغانستان. وفي حال توجه سوريا إلى مرحلة إعادة الإعمار الفعلي، ستكون اليابان مستعدة لمساعدتها مستغلة المعارف والخبرات والدروس التي اكتسبتها في الماضي.

– ماذا عن دور موسكو وواشنطن. لليابان علاقات خاصة مع أميركا، كيف تتعامل مع دور روسيا المتصاعد في الشرق الأوسط؟

– نرى أن روسيا تلعب دوراً مهماً تجاه حل الأزمة السورية. وأشير إلى أن إقامة مناطق خفض التصعيد التي ساهمت في تقليص أعمال العنف حصلت بفضل ما تم الاتفاق عليه في عملية آستانة التي تقودها روسيا وتركيا وإيران، إضافة إلى أن روسيا استضافت مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي. وستستمر اليابان في العمل على تنشيط الجانب الإيجابي لدور روسيا.

وفي السياق نفسه، أؤكد أن دور الولايات المتحدة أيضاً لايستغنى عنه. وباعتقادنا لا بد من التعاون الأميركي – الروسي من أجل تحقيق وقف اطلاق النار في سوريا، وتحقيق تقدم في العملية السياسية. وخلال زيارتي روسيا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قمت بإبلاغ وزير الخارجية الروسي السيد سيرغي لافروف بتطلعاتنا إلى حسن التعاون بين أميركا وروسيا من أجل تقدم عملية جنيف.

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

الجغرافي الفرنسي رومان فوا: نهاية مشروع التحديث البعثي أنذر بزعزعة النظام

الجغرافي الفرنسي رومان فوا: نهاية مشروع التحديث البعثي أنذر بزعزعة النظام

رومان فوا جغرافي خبير بدراسات المياه، أنجز رسالته الجامعية عن “منشأة الأسد” أو مشروع الفرات كما عرف في سوريا، وما رافقه من تشييد لقرى نموذجية، وجر لمياه الفرات لتأمين حاجات السكن والزراعة، وذلك بإدارة مركزية ممسكة بإحكام من قبل نظام البعث في السلطة. امتدت دراسة الجغرافي فوا على مدى سنتين، بين عامي 2008 و 2010. قابلناه في باريس فشرح لنا أهم ما توصل إليه في هذه الدراسة. كما أتاحت لنا المقابلة الإطلالة على الوضع في سوريا عشية بدء الأحداث، من موقع متميز لمراقب خارجي أقام طوال تلك الفترة في شرق البلاد.

بولا الخوري :ما الذي أثار اهتمامك بدراسة مزارع الدولة في سوريا؟

رومان فوا: كنت أعمل على مشاريع المياه في مالي بأفريقيا، فطرح علي المشروع في العام 2007 أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه في الجغرافية البيئية في السوربون بباريس. الاقتراح أتى من باحث سوري في الاقتصاد الزراعي في جامعة حلب سليم بدليسي، وهو حائز على دكتوراه من السوربون أيضاً. وكانت الفكرة تحقيق مشروع بحث مشترك مع جامعة حلب حول إيجابيات وسلبيات منشأة الأسد كنموذج للتنمية في منطقة شبه قاحلة.  وإن كانت مساهمتي في المشروع تتعلق بالمرحلة الراهنة أي بعد نهاية تجربة مزارع الدولة، فسرعان ما اكتشفت أنه لفهم هذه المرحلة علي العودة إلى البداية. وهكذا قررت دراسة المزارع منذ نشأتها في الستينات، لا بل عدت مئة عام إلى الوراء، إلى بداية التحديث في سوريا في ظل عبد الحميد الثاني.

أي أنك لم تكن تعرف سوريا يوماً، لم تزرها من قبل؟

لم أكن أعرف سوريا أبداً ولهذا قررت البدء بدراسة اللغة العربية في باريس قبل ذهابي بشهرين، لأنني كنت مقتنعاً أن دراسة أي منطقة بدون معرفة لغتها أمر غير سليم لي وللدراسة وللناس الذين سأدرس تجربتهم. ومع ذلك كان من المتوقع أن يحصل أحد الشبان السوريين على منحة من أجل مساعدتي بالتواصل مع السكان، لكنه لم يحصل عليها، فاضطررت آنذاك للذهاب وحيداً.  كان لا بد أن أسرع في تعلمي اللغة خاصة أنني لم أكتسب الكثير منها في فرنسا، فكنت أصرف ساعتين كل يوم قبل النوم في حفظ ٥٠ كلمة على مدى أيام الأسبوع ودون انقطاع، على أن أعيد تردادها في الصباح كاملة. لم أنجح دائماً في حفظها كلها لكن ذلك ساعدني كثيراً خاصة أنني كنت مضطراً لاستخدام العربية مع الذين لا يتقنون غيرها. وفيما ما بعد علمني السكان اللغة وخاصة المحكية.

 صحيح لديك لهجة سورية عندما تتكلم بالعربية، هل تتقنها فعلاً؟

حتى أنني أستطيع الآن أن أقرأ وأفهم ما أقرأه وبإمكاني أن أكتب قليلأ. أنا مولود لأب كاثوليكي وأم يهودية عائلتها عربية “سافارديم”. حين التقيت جدتي والدة أمي بعد عودتي من سوريا فوجئت بأنها بعد خمسين عاماً من إقامتها في فرنسا ما زالت تتكلم العربية بطلاقة ورحنا نتكلمها سوية. كنا سعيدين جداً بذلك! وما زلت أتكلم العربية مع سوريين أتوا الى فرنسا بعد الحرب، وأنا أساهم في تسهيل أمورهم هنا، لأسباب لا تتعلق بابحاثي فقط بل من خلال الجمعيات التي تساعد من يأتون من هناك. هؤلاء الناس كانوا مضيافين معي. ومع العلم أنه كان لدي مسكن في جامعة حلب فإنهم رفضوا إلاّ استضافتي في منازلهم.

في دراستك تستشهد بتجارب قديمة في المنطقة وصولاً إلى مصر الفرعونية، هل تعتبر أن نظام البعث انطلق من حاجات ترشيد استثمار المياه وإلى مركزة المشاريع وإمساكها من خلال فهم تلك التجارب القديمة؟

يبرر النظام سلطته بخطاب عقلاني على الدوام، فحتى في مصر الفرعونية في ظل الإدارة المركزية لتوزيع المياه لم يكن الأمر نابعاً من الحاجة لترشيد المياه أو حسن استثمارها وتوزيعها، بل اندرج في سياق تبريرات لتأمين استمرارية السلطة، بحيث يجبر المواطن اقتصادياً وسياسياً على الامتثال لها. ففضلاً عن القمع السياسي يشكل هذا التبرير قاعدة أساسية لأي لسلطة.  مع ذلك فإن مشروع مزارع الفرات في شرق سوريا، أي المنطقة الواقعة شرق حلب، يحتمل تبريرات ترشيدية كالتي قدمها النظام آنذاك: فإذا رسمنا خطاً وهمياً من الشام حتى حلب فإن كل ما يقع شرق هذا الخط، وهو يتضمن فيما يتضمن الرقة، دير الزور وتدمر كان نوعاً  من المساحات الصحراوية التي لا يقطنها إلا البدو.

إذا كانت هذه المناطق قاحلة، ألم يكن المشروع مشابها لمشروع القذافي التبذيري لري الصحراء إذن؟

أولاً ليست المنطقة صحراوية قاحلة كلياً ، فكما في كل صحراء هناك واحات. مع ذلك هناك شيء مما تقولين. وهذا ما ينطبق على كل مشاريع التحديث في المنطقة. فأي سلطة جديدة تقضي على كل ما تحقق قبلها وتعلن أنها بصدد بناء “الإنسان الجديد” في محيط جديد، لتثبت بأنها أفضل من سابقاتها. وهذا ما عبر عنه خطاب السلطة البعثية آنذاك، تحت شعارات من نوع: “إنسان جديد فوق أرض جديدة” . وهو شبيه بالخطاب التحديثي الغربي بشكل عام. فالمشروع الأمثل للبعثيين في سوريا كما في مصر الناصرية وكذلك في إسرائيل هو تحقيق مزارع بإشراف الدولة، ففي إسرائيل مثلاً تم إنشاء  الـ”كيبوتز”. ورغم ادعاء إسرائيل أنها تتميز عن الحكومات القومية العربية، فإن كل هذه التجارب ترتكز على أيديولوجية قومية اشتراكية، تتطور فيما بعد إلى ليبرالية، فتعزز حركة التمدين التي تبعدها عن الأرياف، مما يقضي على مشروعها التحضيري الأصلي ويزعزع سلطتها.

ولماذا كان عليك العودة مئة عام الى الوراء إذن؟

لم تكن هذه أول مرة تحاول فيها السلطة السياسية انجاز مشروع تحضيري في هذه المنطقة في العصر الحديث. ففي بدء حقبة التحديث العثمانية، مع بداية أفول الإمبراطورية وفي ظل حكم عبد الحميد الثاني بدءاً من 1880 كان يجب تحويل السكان من بدو إلى حضر، ولما كانت إحدى الغايات الأساسية لأي سياسة تحديث مركزية هي جبي الضرائب فكان على السلطة أن تحصي السكان وتعين أماكن سكنهم. هذا ما باشره عبد الحميد وكان ذلك بدايات مشاريع التحديث في سوريا، التي توجت في ظل الانتداب الفرنسي بإجراء أول مسح شامل للأراضي.

وهل كان السكان متحمسين منذ البدء لإنشاء هذه المزارع؟

في الغالب يقول الأشخاص الذين قابلتهم “لم يكن لدينا الخيار”. لم يكن ذلك إجبارياً وحسب بل عنيفاً وقد قال لي أحدهم: “كانت هذه الأرض لي وبين ليلة وضحاها اصبحت أرضاً للدولة”. تم إبلاغهم بالإخلاء عبر رسائل ودون أي إمهال أو مجال للاعتراض. ومع ذلك فقد كان موقفهم ملتبساً إذ أنهم يعبرون في الوقت نفسه عن تمتعهم بمنافع التنمية التي حملها المشروع، وقد قال لدي أحدهم: “في السابق كانت كل هذه الأرض عبارة عن صحراء، إنها جنة الآن، جنةّ!”

في أي عام حصل ذلك؟

بدأ ذلك عام 1966، والحقيقة أن بداية التفكير في المشروع تعود إلى عام 1960 في بدايات البعث، من ثم عاد حافظ الأسد وتبناه. المشروع ضخم وهو عبارة عن استصلاح مائي-زراعي لمئات آلاف الهكتارات التي جرى استغلالها من قبل القطاع العام فيما موّل كل ذلك الاتحاد السوفياتي. وقد شكل المشروع واجهة لتفاخر نظام البعث بسياسته التنموية بدءاً من الستينات في القرن الماضي.

إذن كانت أراضي المشروع شاسعة؟

عشرون الف هكتار وذلك فقط في مزرعة الدولة الذي قمت بدراستها. كان هدف المشروع في البدء استثمار 640000 هكتار، لكنه لم يتحقق في النهاية،  فمجمل الأراضي التي تم ريّها من نهر الفرات بلغت 200000 الى 300000 هكتار. وهذه مساحات ضخمة. لم تستخدم كل الأراضي في المنطقة ضمن مزارع الدولة، لكن جرى بناء وحدات سكنية مع أراض زراعية على مساحات تتراوح بين 8 و 16 هكتار وزعت كل منها على قاعدة كل وحدة لعائلة واحدة. من ثم في العام  2000 تم نزع التأميم عن هذه المزارع وجرى توزيعها على العائلات الصغرى أو النواتية من خلال وحدات تمتد كل منها على ثلاثة هكتارات.

هل بإمكاننا القول بأنه أحد أهم مشاريع الدولة البعثية آنذاك؟

نظام البعث لدى وصوله إلى السلطة أمم جميع مرافق الاقتصاد، أي أن الإقتصاد كان مداراَ كلياً من قبل الدولة، وكان مشروع الفرات يمثل 20 بالمئة من استثمارات الدولة بين السبعينيات والثمانينيات، أي أنه مشروع ضخم بلا شك. شخصياً أعتبره من أكبر مشاريع الدولة السورية في ذلك الحين، ومن قابلتهم كما أصدقائي السوريين يؤكدون ذلك ويخبرونني أن مشروع الفرات كان مدرجاً في برامج التدريس.

أي أنه كان مشروعاً ذات وظيفة ايديولوجية رئيسية للنظام؟

بالتأكيد، ولأيديولوجية التحديث على وجه الخصوص. وكما ذكرت لك في ما سبق هذا ينطبق على مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية واستراليا وفرنسا، ألخ.. هناك دراسات علمية عن تخضير الصحراء في استراليا، وهناك مشروع في أريزونا، وفي أسبانيا حصل ذلك خلال حقبة فرانكو لكن قبل ذلك أيضاً. ولماذا؟ أعتقد أن فكرة الحداثة مرتبطة بالتقنية، ومن هم أرباب التقنية؟  المهندسون، وعلى ما يعمل المهندسين؟ على الرياضيات. وأفضل مجال لتطوير الرياضيات هو الحسابات المتعلقة بالمياه وهي نوع من الألعاب الفكرية الأكثر إثارة للتسلية لدى خبراء الرياضيات.

إذا نظرنا الى سياسات المياه نفهم الكثير عن سياسات التنمية في هذه الدول. ويقول محمـد فايز الباحث العربي المتخصص بالدراسات المائية في العالم العربي،  والذي يعود بدراسته الى مرحلة حمورابي، إنه في الحقبة العباسية كان هناك مهندسون يعملون على شيء من دراسات التمدين ولكن بشكل رئيسي على الدراسات المائية والزراعية. إذن هذا تقليد لدى العرب منذ القدم. أما الصلة ما بين الهندسة والحداثة فهي بنظري أمر لا جدال فيه، فالتكنوقراطية هي أسلوب فرض السلطة السياسية عبر التقنيات.

صحيح فإن الدولة الحديثة تحيط نفسها بمهندسين، وكأنها بذلك توظف “جيوشها الفكرية”. في فرنسا مثلاً يلفت نظري استخدام تعبير المهندسين في جميع قطاعات الدولة المعرفية والعلمية، كالعاملين في المركز الوطني للبحوث العلمية، ما رأيك بذلك ؟

بالتأكيد حتى في الجامعة، فالمعهد الوطني للإدارة يخرج كبار موظفي الدولة، أي الخبراء الذين يهندسون الدولة ومنهم رؤساء الدولة. لكن عالمي الاجتماع العربيين ساري حنفي الذي أجرى دراسة عن المهندسين في سوريا واليزابيت لونغنيس الفرنسية المستعربة يقيمان تمييزاً بين  الهندسة في فرنسا ومثيلتها في سوريا أو في ما يسمى ببلدان الجنوب بشكل عام. وتعتبر لونغنيس مثلاً أنه في فرنسا لا تعلو السياسة على التقنية أو التكنولوجيا، من هنا نجد نوعاً من العقلانية لدى السلطة في التعامل مع المعرفة التي ينتجها أرباب التكنولوجيا، مع العلم أن السياسة تخضع في الحالتين لموازين القوى. لكن في بلدان الجنوب سرعان ما يسيطر السياسي على التقني، الذي يصبح مادة لتبرير خطاب الدولة،  وتستقيم الدولة كحكم بين مراكز القوى والمصالح المختلفة في الاقتصاد والمجتمع، فتتعطل بذلك عملية إنتاج المعرفة التقنية.

ألم يواجه هذا المشروع التحديثي الذي أحدث انقلاباً كاملاً في بنية المجتمع أي مقاومة من السكان الذين ينتمون إلى علاقات عائلية وقبلية تقليدية مثلاً؟

حظي حزب البعث السوري في بدايته على تأييد واسع من السكان، حتى من فئات الشباب البورجوازية التي وجدت فيه مشروعاً لتغيير المجتمع بناء لعلاقات اجتماعية حديثة، أما البعد الاجتماعي للحزب الذي عمل على توزيع عادل لخيرات البلاد أو نادى بذلك على الأقل فأمن له تأييداً لدى الفئات الشعبية.

من ناحية ثانية إذا نظرنا إلى انتماءات سكان هذه المنطقة فإنهم في غالبيتهم من القبائل أو العشائر، وهكذا حتى لو قيل إن حزب البعث السوري هو حزب طائفي ذو قاعدة  علوية فهذا غير صحيح إلّا نسبياً، فهناك شبكة علاقات مبنية على قاعدة طائفية، لكن هذه المنطقة ذات الغالبية السنية كانت منطقة ذات حظوة خاصة لدى السلطة، لأنها اغتنت بفعل استثمارات الفرات الكبرى وباتت تشكل قاعدة زبائنية هامة لها. مثلاً أحد نواب هذه المنطقة، وهو النائب الذي كان صاحب أطول ولاية برلمانية في العالم، دياب الماشي، هو من هذه المنطقة وكان دائم التباهي بتأييده لعائلة الأسد وحافظ الأسد بوجه خاص. كانت هذه القبائل موالية لنظام الأسد بسبب المنافع التي كانت تحصلها وبفعل تنامي العلاقات الزبائنية في الاقتصاد والسياسة.

هل لأن النظام أو حزب البعث كان يمر عبر هذه القبائل لفرض سلطته على السكان وبالتالي كان عليه الحفاظ على سلطتها؟

صحيح. على سبيل المثال، هناك أحد مشايخ القبائل الذي قابلت، كان متزوجاً ومطلقاً ومتعدد الزوجات لخمس عشرة مرة، مما يعبر عن امتلاكه لثروة كبيرة. كان ابنه مهندساً وأحد كوادر مشروع الفرات فضلاً عن كونه نائباً، فيما تمتلك عائلته غالبية المحال التجارية في المدينة، أي كل الصيدليات والمطاعم وأغلب المساكن المعروضة للإيجار.

أميز في دراستي بين ثلاثة مصادر للسلطة حول مشروع الفرات متمايزة ومتراصفة في آن: المصدر القبلي للسلطة من خلال السلالة العائلية، مصدر سلطة الدولة من خلال الموقع الاجتماعي والعلمي، مهندسون وإداريون، والمصدر الأخير هو رأس المال من خلال الملكية، وهذا المصدر تعزز بوجه خاص  بعد عام 2000 إثر تصفية مزارع الدولة وتخصيص الأراضي والعديد من النشاطات الاقتصادية. منهم من يمتلك مصدراً واحداً كمحام ومهندس فيما آخر يراكم المصادر الثلاثة للسلطة. أما الأجور فقد لعبت أيضاً دوراً في التمايزات الاجتماعية وفي علاقات البنية الاجتماعية بالسلطة. حددت الأجور حسب التراتبية في إدارة المنشأة ومن الأعلى الى الأسفل: المدير وسبعة أقسام لكل مشروع: قسم الري، قسم الآلات، قسم آلة الضخ، وقسم التخطيط، وغيرها، وتقسيم مناطقي، مدير المزرعة ومسؤولو القطاعات والموظفون والعمال. وبذلك تشبه منشأة الأسد أي مؤسسة رأسمالية حديثة.

هل كان مشروعاً عقلانياً للدولة لاستيعاب اليد العاملة المتعلمة ومكافحة البطالة المحتملة؟

بالتأكيد، وذلك من داخل المنطقة ومن خارجها، فهناك أشخاص أتوا من إدلب وهي منطقة جبلية تنقسم بين أراض قاحلة من جهة ومستنقعات من جهة أخرى وحيث أغلب السكان بلا عمل. في نهاية المشروع وتوقف الدولة عن تمويله، عاد الأشخاص الكبار في السن إلى إدلب، أما أولادهم الذين ولدوا هناك فلم يريدوا مغادرة المزارع، فإدلب لا تعني لهم شيئاً.

جرى جمع السكان من المناطق المجاورة لملء القرى النموذجية بالسكان إذن؟

الكثير ممن تم إسكناهم في المزارع هم أشخاص هامشيون. منهم من أتى من إدلب مثلاً التي كان الخارجون على القانون يلجأون إليها في السابق لوعورتها. ومن هناك أتى الكثيرون للعمل في المشروع وللإقامة فيما بعد. لقد أتى سكان المناطق المجاورة من تلقاء أنفسهم. لكي أن تتخيلي أن هؤلاء الناس الفقراء والعاطلين عن العمل يجري في صبيحة أحد الأيام توزيع مناشير عليهم تدعوهم للمشاركة في مشروع تنموي وإنتاجي في الجوار. ولإعطائك فكرة عن سرعة تطور المشروع وديناميته: كان عدد السكان ستة الآف عام 1970 فبلغ  ستين ألفاً عام 2004، ففضلاً عن التكاثر السكاني الطبيعي هناك غالبية سكانية قدمت من الخارج وبينهم عدد من الأكراد أيضاً.

 كيف يمكننا النظر في هذه الإشكالية من ناحية التحولات الاجتماعية والجيلية على امتداد المرحلة الطويلة من مشروع الفرات؟

لقد تم الانتقال من مجتمع قبلي قائم على السلالة إلى مجتمع حديث قائم على الموقع الاجتماعي- المهني: المهندس، المدير التقني، العامل المتخصص، العامل غير المتخصص، وهؤلاء الأخيرون كثرت بينهم نسبة النساء. كان هناك تمييز جنسي فعلي حتى أنه لم توجد مهندسات في المشروع. هذا الأمر لا ينطبق على عموم سوريا بل خاص بهذه المنطقة. لكن لا شك أن مزارع الفرات غيًرت المجتمع بشكل جذري أيضاً، فالنساء الآن يعملن كمعلمات ومحاسبات وموظفات دولة، والفتيات يذهبن إلى المدارس وإلى الجامعة في حلب التي تبعد مسافة ثمانين كيلومتراً، وهذا ما يعبّر عن مسار طويل بالتأكيد. وأحد مؤشرات التغيير الهامة هو نسبة محو الأمية في سوريا التي باتت الأعلى بين البلدان العربية على امتداد هذه المرحلة.

ومع ذلك لم تستفد النساء بشكل جذري من هذه التحولات؟

بقي هناك نوع من التقسيم الجنسي للعمل، ومواقع النساء المهنية بقيت بين الأقل أجراً. الرجل يقود آلات الحراثة ويقوم بأعمال النقل والري، أما المرأة فتقوم بالقطاف والتنظيف والتوضيب. أي أن هناك تمييزاً بين العمل وقوفاً أو انحناءً وهذا الأخير أجره أقل، وهذا التمييز ليس من عندي بل يستخدمه الأشخاص الذين قابلتهم. لكن من المهم الإشارة إلى أنه بالرغم من كل من قيل وكتب دولياً بأن هذه المنطقة المحيطة بحلب تؤيد تنظيم الدولة الاسلامية وأنهم اصوليون لأن أكثرية السكان من السنة، فهذا غير صحيح. وشخصياً يحزنني هذا الكلام. في إحدى المرات كنت مع بعض الشبان في ساحة القرية، فمرت سيدة محجبة من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، فوجئوا بها وقالوا هذه السيدة ليست من هنا، وأنا أيضاً فوجئت لأنني لم أر يوماً نساء يرتدين الحجاب الكامل هناك. دخلت بيوتاً فيها نساء وإن كنت أنا محترماً لتقاليدهم، فهم أصلاً لم يحملوا أي أفكار مسبقة عني كرجل غريب وكانوا سعيدين بوجودي.أثناء إقامتي كانت النساء ترتدي الحجاب بحرية واجمالاً للحشمة أو لحاجات العمل، ولدى العائلة التي استضافتني كانت بعض النساء تخلع أحياناً حجابها لكي أخذ لهن صوراً مع العلم أنهن كن يطلبن مني حفظها لديهن، ولم يثر ذلك يوماً حفيظة الرجال.

وهل أنشئت مدارس تعليم تقني وإعداد مهني احترافي لمواكبة حاجات المشروع من اليد العاملة المتخصصة على جميع المستويات؟

أنشئ معهد للزراعة مع برامج دراسية متخصصة، ومع ذلك كان السيرورة تدريجية فأوائل المهندسين قدموا من المناطق الأخرى كالشام وحلب، أي من الفئات الطبقية العليا في المجتمع التي كانت متحمسة للمشروع كما أشرت أعلاه. وقد تحمس هؤلاء جداً لمشروع الفرات وتبنوه على عكس سكان المنطقة الذين رفضوه في البداية لا بل تخوفوا منه، والحال أنه تمت مصادرة أراضيهم وأتى من يقول لهم من الخارج إن نمط حياتكم متخلف ويجب أن تتغيروا على هذه الشاكلة أو تلك، وكان ذلك عنيفاً بالفعل. فالدستور السوري في ظل البعث الموجود في السلطة منذ عام 1963 يقوم على اعتبار البنى القبلية كنوع من الإقطاعية التي يجب استئصالها من أجل ان يسود بين الشعب الشعور بالاتنماء إلى القومية العربية لا غير. لقد لقي هذا الخطاب بالمقابل تأييداً من الشباب البرجوازي المؤيد للحداثة.

لكن حصلت مع ذلك مساومات مع وجهاء القبائل؟

في البداية لم يتم ذلك في مزارع الدولة، لكن شيئاً فشيئاً وبسبب المنطق الجامد لمقاربة المشروع، أي العمل على تطبيق المشروع بحرفية ما خطط له، وبمقاربة عقلانية جامدة يستحيل تطبيقها في الواقع، بدأت المساومات. هذا ما فهمته من بعض الذين قابلتهم، والذين أقروا بأنه تم توظيفهم لأنهم ينتمون لقبيلة أو أخرى.

وماذا عن التحولات الاجتماعية الأخرى التي لاحظتها؟

هناك تحولات ثقافية اجتماعية مهمة، فالسكان ينظرون عموماً إلى حياتهم بأنها أفضل بكثير من السابق، على الأقل بسبب التسهيلات الحياتية اليومية كإقتنائهم للتكنولوجيا المنزلية. لقد أجريت مئة مقابلة مع السكان، بينهم الكبار في السن الذين كانوا بين الخامسة عشرة والعشرين من عمرهم في بداية المشروع، كلهم يتفقون على الترحيب بهذه التحولات. والأصغر سناً قالوا لي: “قبل الري لم يكن هناك شيء هنا، كانت المنطقة عبارة عن صحراء”، حتى أن أحد الشباب قال لي مرة إنه قبل المشروع لم يكن أحد يسكن هنا، وتطلب مني الأمر وقتاً لإقناعه بأنه كان يوجد سكان في هذه المنطقة من قبل، فمزرعة مسكنة التي عملت عليها مثلاً أنشئت على أنقاض قرية. أي أنهم استبطنوا فكرة الحداثة إلى حد الاقتناع بأن كل شيء هناك قام من عدم.

وهل أدى توزيع المساكن على قاعدة لكل عائلة مسكن مستقل إلى تغيرات أجتماعية؛ ربما على تعزيز نمط العائلة النواتية داخل البنية القبلية التي تعتمد العائلة الممتدة؟

في الواقع يتعايش النمطان حتى يومنا هذا، ففي القرى القديمة التي تم إدراجها في المزارع يبقى نمط العائلة الممتدة قائماً أي سكن الأجداد والأبوان والأحفاد في منزل واحد. أما في المساكن المستحدثة أو القرى النموذجية كما جرت تسميتها، فنجد عائلات نواتية صغرى ومختلطة الأصول أي أن العديد منها أتى من قرى مجاورة مختلفة. وهنا تبدو مظاهر التحول الثقافي الذي أتحدث عنه، فأكثر هؤلاء قالوا لي “أفضل العيش هنا وليس في قريتي الأصلية حيث لي أقارب، لأنني حر أو حرة هنا”. فهم ليسوا ملزمين بالواجبات الاجتماعية والزيارات العائلية، كما أن لا أحد يراقب أو ينتقد سلوكهم ونمط حياتهم. إذن هناك رغبة بإقامة مجتمع جديد والانتماء اليه، وهذا أحد الطموحات الأساسية للمشروع التي نجحت جزئياً.

وبرغم ذلك وصل مشروع التحديث البعثي بأكمله الى مأزق، كيف تفسر ذلك؟

في أي مشروع تحديثي يجري استثمار الكثير من الموارد المالية والايدلوجية والطبيعية ضمن سياسة لإضفاء الشرعية على الدولة، وشيئاً فشيئاً تنضب الموارد وتنمو ظواهر الزبائنية، اي أن هناك من يستفيدون من إنجازات المشروع الحداثي على حساب الآخرين ويعتاشون على الموارد المحققة. يضاف إلى ذلك نهاية الاتحاد السوفياتي الذي موّل هذه المشاريع  في سوريا. ومن ثم هناك تراجع للزراعة بشكل جذري، وإذ كان الرئيس حافظ الأسد يقوم بكل زيارته الرسمية الخارجية في الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي برفقة وزير الزراعة، فقد توقف عن اصطحابه بعد هذا التاريخ كدليل على هذا التحول. في هذا النمط من الاقتصاد يجري تنظيم القلة لصالح بعض النافذين في السلطة وعبر ذلك ينمو الفساد كالسرطان فيقتل الاقتصاد.

فكان لا بد ان تحدث الانتفاضات في سوريا إذن عام 2011؟

استطيع التحدث فقط عن المنطقة التي أعرفها، ففي حين امتدت حركة احتجاجات واسعة على نطاق واسع من سوريا بدءاً من آذار/ مارس 2011 فإن الاحتجاجات في المناطق الواقعة في نطاق منشأة الأسد كانت قليلة، وربما أمكن تفسير ذلك ولو بصورة جزئية بالسياسات الزراعية خلال الأربعين سنة الماضية. وقد بلغت الاستثمارات أحجاماً خيالية في هذه المنطقة مما جعلها أقل فقراً من المناطق الأخرى وساهم في عدم عدائها الشديد للنظام.

بالاعتماد على مركز الخرائط السوري الذي نشاً أثناء الحرب، الذي يضم إحصائيين واختصاصيين في أنظمة المعلوماتية الجغرافية ويقدم نفسه على أنه مستقل عن أي طرف سياسي، استطعت وضع خرائط للتحركات المناهضة للنظام في السنوات الأولى للانتفاضة السورية بالتقاطع مع الانتماء الجغرافي، وبخاصة في مناطق مزارع الدولة فتبين لي أن سكان هذه المناطق، وهم من الطائفة السنية، كانوا حياديين ما لم يكونوا متعاطفين علناً مع النظام، فضلاً عن شهادات حصلت عليها من سوريين لجأوا إلى فرنسا وأكدوا لي أن هؤلاء السكان كانوا أيضاً شديدي العداء لتنظيم الدولة الاسلامية.

أنا أعتبر أنه إذا لم ينجح طموح التحديث التحريري والعقلاني في ظل البعث بخلق أفراد خاضعين كلياً للدولة، فإنه بالمقابل لم يولّد مواطنين في قطيعة تامة مع النظام على مستوى البلد ككل. لكنني أعتبر أيضاً أنه لو اندلعت التحركات بعد خمس سنوات من تاريخ وقوعها لكان هؤلاء السكان قد شاركوا بها أيضاً، لأن كل المنافع التي حققوها من النظام تكون قد استنفدت آنذاك. وهنا يكمن مأزق هذه السياسات وانسداد أفقها التاريخي.

باريس، كانون الأول/ديسمبر 2017

ملاحظة: أجريت  بولا الخوري المقابلة مع الجغرافي فوا بالفرنسية وترجمتها إلى العربية.

للمزيد حول الدراسة والخرائط، بإمكانكم زيارة الموقعين التاليين، بالفرنسية والإنكليزية:

http://bit.ly/2CUeOf6

http://bit.ly/2BooSIG

نشر هذا المقال بنائا على شراكة مع جدلية.

A Memoir of Syria with Alia Malek

A Memoir of Syria with Alia Malek

Malihe Razazan speaks with Alia Malek about her new book The Home that was Our Country: A Memoir of Syria.

Alia Malek
Alia Malek is a journalist, civil rights lawyer, and author of A Country Called Amreeka: Roots, American Stories. She is currently a Puffin Foundation writing fellow at the Nation Institute and at work on a book about Syria.

[This article is published jointly in partnership with STATUS.]