محاولات لتعميم الإسلام المعتدل في سوريا

محاولات لتعميم الإسلام المعتدل في سوريا

في دروس اللغة العربية البسيطة، للمبتدئين في اللغة، وفي السياسة عندما تصبح عمليات سرية وألعاباً خفية، ما يسمّى بالضمير المستتر، وهو فاعل رأى أنّ من الأسلم لمراميه التلطي خلف مقتطفات اللغة، فيفعل من خلف الستار ما لا يرغب بإظهاره للعلن. على سبيل المثال، بالقول أنّ “الحكومة ضيّعت البلاد” أو “إنّ الاتفاقيات تجري من تحت أنوفنا”، يقضي الفاعل المستتر هنا على البقية الباقية من الأنفاس في هواء البلاد لخدمة أهداف لا نرغب بمعرفتها أصلاً. ومن هذا أيضاً ما تناولته وسائل الإعلام مؤخراً عن عقد اتفاقية بين مديرية الأوقاف وجامعة البعث في حمص، وتهدف الاتفاقية كما جاء حرفياً على الموقع الرسمي لجامعة البعث “إلى تبادل الخبرات والمعلومات في جميع المجالات المشتركة وذلك انطلاقاً من المبادئ والقيم الإنسانية السامية من أجل النهوض بالمستوى الفكري للفرد خاصةً والمجتمع عامةً نحو الأفضل في ظل الظروف الراهنة التي تتعرض لها سورية.”

وأكد الدكتور بسام إبراهيم رئيس جامعة البعث على أهمية هذه الاتفاقية المشتركة والتي سيكون لها دور مهم في عملية بناء الإنسان من خلال تعريف جيل الشباب بالقيم الدينية الصحيحة ودعوتهم إلى المحبة والتآخي والتسامح. ورغم أن لا شيء واضح في مندرجات الاتفاق، من يقف خلفه؟ وهل هو توجه عام أم تصرف فردي مثلا؟ لكن معرفتنا بطرق صنع القرار في وزاراتنا تجعلنا متيقنين أن الهدف المعلن هو نفسه الهدف المستتر، أي تخفيف حدة الخطاب الديني المتطرف وامتصاص الفكر الجهادي عبر تطويع الخطاب المعتدل وتمكينه لكن هذا الهدف وإن برئت مراميه لا يتم تحقيقه عبر دعاة / موظفين خارجين أصلاً من رحم نص مقدس لا يجوز المساس به.

نضيف إلى هذا أن الجامعات أصلاً ليست المكان المناسب لمكافحة التطرف إذ إنها ليست البيئة الحاضنة له إذا توفرت بيئة حاضنة، إنما معاهد تحفيظ القرآن والمعاهد الشرعية والجوامع وحلقات الدراسات القرآنية هي الأولى بذلك، أي من المفترض أن تتقدم الجامعة بهذا المشروع لتضع هذه المعاهد والمدارس الدعوية تحت سيطرتها لا العكس، ونستطيع التساؤل أيضا بكثير من حسن النية عن المشاريع المشتركة التي تجمع مديرية تعنى بالشؤون الدينية والدعاة والوعّاظ مع جامعة يجب أن يكون هدفها الوحيد القريب والبعيد هو البحث العلمي، إلا إذا كان الهدف هو تطويع الدراسات جميعها لصالح دراسة أثر الخالق في الاقتصاد والميكانيك والكهرباء!

لكن ما هي الخبرات والمعلومات التي تتمتع بها مديرية أوقاف في بلدٍ يتهاوى، أو في بلد يتعافى من هاوية حرب أهلية شكّل الخطاب الديني المتطرف جزءاً لا يستهان به من أسلحة خوضها، هل سيوزعون صكوك غفران جديدة؟ أم سيدرسون تأثير اللحى في الوقاية من سرطان الجلد؟

وهذا الاتفاق بحد ذاته لا يشكل فرقاً جوهرياً في الحقيقة إذ طالما تشابهت المؤسسات التعليمية في سوريا من حيث آلية التعليم أو قل التلقين فيها مع المعاهد الدينية، لكنه يبقى مؤشراً يدعو للقلق طالماً يتزامن مع انتصارٍ حقيقي أو شبه حقيقي للقوى الوطنية كما تصنّف هذه القوى نفسها في حرب وجود ضد الفكر الإقصائي؟ سبق هذا الاتفاق بلاغاً آخر  مثيرٌ للجدل وسبق تعميمه على المدينة الجامعية في جامعة حلب حذّر فيه أحد المسؤولين الطلابَ من مغبة الإجهار بالإفطار في رمضان ووجوب الالتزام باللباس المحتشم ومنع الخلوات غير الشرعية، وكأن الوزارات بأكملها أنجزت المهام الموكلة لها بحفظ أمن المواطن وضمان معيشته ولم يتبق إلا الأخلاق الحميدة لتوزعها عليه في أكياس صغيرة لتنقذه من العطب اليومي، أو كأنّ الحكومة رأت أن الفساد الأخلاقي والجهر بالإفطار في رمضان هو سبب الدماء الجارية في الشوارع فرأت أن تقضي على المشكلة من جذرها بالقضاء على الأخوة الطلاب.

لكن هناك خطباً ما ألا وهو أنّ هذا الاتفاق الغريب يأتي بعد أقل من سنة من إغلاق المدارس الدعوية التي تتبع مجمّع الرسول الأعظم (ثلاث مدارس) والذي كان يتلقى تمويله من هيئات دينية إيرانية، إضافة لهدوء غير مفهوم على الجبهات التي تشكل القوات التركية جزءاً منها، الأمر الذي يقود إلى التفكير بالهدف الآخر غير المعلن.

المستتر

ربّت أغلب الحكومات، ديمقراطية أم ديكتاتورية، متطرفين في الباحة الخلفية ليتم استخدامهم في مهمات مريبة لا تسمح لها ديمقراطيتها المعلنة أو خطابها العام إعلان مسؤوليتها عنها، وأحياناً قامت بهذا حكومات بوليسية الهوى لوضع المقارنة موضع الالتباس عند من يرغب بصنع تغيير ما، عبر المفاضلة بين السيئ والأسوأ، وهذا ما شهدناه بأم العين وأخت البصيرة في بلدان الشرق المسكينة. ذلك أن الدول أيضا اكتشفت التكلفة الكبيرة لاستيراد متطرفين عقائديين تواجه بهم متطرفين عقائديين آخرين، فآثرت والحال كذلك استيلادهم محلياً بتكلفة صنع أرخص، فعل ذلك الجميع بطرق متعددة، عبر اصطناع مشاكل كبيرة لا حل لها إلا باستقدام الوكيل الخاص بنا، حتى استقرّت المناقصة الكبرى على الإسلامي المتطرّف الذي يرغب بتدمير العالم بأكمله وعلى الحكم الوطني الذي لن يسمح له بفعل ذلك ولو كانت التكلفة تدمير الوطن على رؤوس سكّانه، فلماذا نشذّ نحن عن قواعد أرست مراسيها دول كبرى وحكومات برلمانية الواجهة وتعاطت بها بنفس الطريقة؟

لماذا نكون أكثر عدالة أو نصرة للحق الإنساني طالما أن سبل السياسة انحفرت بهذا المعول وعلى هدي هذه المطارق، والتغيرات الجديدة في الصفقات الكبرى تحفر مجاريها أيضاً، على فيضٍ من اتفاقياتٍ سريةٍ تجري جري السلاحف في الأكمات، اتفاقيات يُمنح بموجبها تيار الإسلاميين “المعتدلين” حصّة ما في أجهزة الحكم المدنية مقابل تخفيض لهجته الجهادية وتنزيل الأزمة إلى مستوى السيطرة العامة على دوائر صغيرة في الحكومة، الأمر الذي قد لمحنا براعمه في تمكين هذا التيار الموصوف بالمعتدل من وسائل إعلام جديدة وتجمعات شبابية دينية، على نية أن تأخذ الحكومات هذا المد إلى أمكنة يُعتقد أنها تحت السيطرة وهذا ما لن يحصل.