مبادرة الدعم النفسي لشباب اللاذقية

مبادرة الدعم النفسي لشباب اللاذقية

بسبب إرتفاع نسبة انتحار الشباب في اللاذقية قامت إحدى أهم الجمعيات الخيرية في اللاذقية وهي أسرة الإخاء بإقامة دورات للاهتمام بجيل الشباب من خلال مشروع الدعم النفسي للشباب كي لا ينتحروا. أتكلم عن اللاذقية لأنني للأسف لا أعرف الأوضاع الدقيقة في مدن سورية أخرى وإن كان ثمة جمعيات أو مؤسسات في مدن سورية تقيم دورات وتنشئ عيادات نفسية من أجل جيل الشباب في سوريا لتقيهم من الانتحار، لكن ظاهرة انتحار الشباب في سوريا كلها أصبحت ظاهرة خطيرة، فقد سمعت مؤخراً عن انتحار طالب في كلية طب الأسنان في اللاذقية. قد يستغرب البعض ما الذي يدفع طالباً جامعياً يُفترض أنه يضمن مستقبله إلى الانتحار! أي يأس يعيشه شباب سوريا وللأسف الإعلام السوري لا يُشير إلى تلك الظاهرة!

ورغم احترامي وتقديري للجهود الكبيرة التي تقوم بها جمعية أسرة الإخاء وغيرها من الجمعيات الخيرية في اللاذقية فإنني أتساءل حقاً إن كانت هناك فائدة فعلية في هذه الدورات لأن أساس العلاج النفسي لأيه مشكلة هو علاج أسبابها أي الظروف التي دفعت إليها فالموظف في سوريا الذي يتقاضى راتباً بالكاد يكفي ثمن خبز لأطفاله ويُعاني من القهر والهدر الوجودي إذ يضطر للانتظار ساعات طويلة وأحيانأ عدة أيام كي يحصل على بعض الأرز والسكر والخبز والبنزين. والأهم أن معظم السوريين لم يعودوا يحلمون ببارقة أمل في حياتهم، وبأن الإنفراج لظروفهم المأساوية ليس قريباً أو غير موجود، هذا الموظف إذا هوى إلى قاع اليأس بسبب راتب الاحتقار والفقر والذل وأصابه اكتئاب قد ينتحر، وأظن الدعم الفعلي له هو بإعطائه راتباً يحفظ  كرامته وكرامة أطفال فيؤمن لهم الأكل دون أن يضطر للوقوف في طوابير الانتظار، ويؤمن لهم التعليم والطبابة وحرية التعبير، وهذا لا تستطيع مجرد برامج حوارية تأمينه، سيكون دعماً نفسياً كأنه مبني على أرض من الرمال سرعان ما سيهوى المكتئب ومن خلقت له ظروف سوريا المُروعة من شخصية اكتئابية أو إنتحارية ، ولا بد من الإشارة إلى أن معظم الأدوية النفسية ومضادات القلق مقطوعة وغير متوفرة في سوريا وإذا توفرت فهي سيئة باعتراف الأطباء النفسانيين أنفسهم. أشهد على معيشة كثير من شبان وشابات في اللاذقية، ومدى معاناتهم ويأسهم ، ومعظمهم يسعى للهجرة إن أمكنه.

أحد الطلاب الجامعيين وكان ذكياً جداً وجامعياً أصابه إكتئاب حاد فلم يعد يطيق دراسته وأدمن على المخدرات مع شلة من رفاقه الجامعيين أيضاً ولم تكن أحوالهم المادية سيئة إطلاقاً لكنهم كانوا يائسين ومُحبطين. وقال لي أحدهم وعمره 22 عاماً بأن خمسة من رفاقه ماتوا وكانوا مجندين في الجيش السوري، وبأنه يشعر بأن الموت هو ما ينتظره في سوريا ولم يعد بمقدوره تحمل آلام روحه وانعدام أمله بمستقبل وعمل يؤمن له حياة كريمة. هذا حال معظم الشباب السوريين، يجدون أنفسهم في مأزق وجودي يُفضي بهم رغماً عنهم إلى اليأس فيسقطون في هوة الإدمان هرباً من واقعهم، وللأسف انتهى هؤلاء الشبان إلى السجن إذ انكشف أمرهم كمدمنين على المخدرات ولم تهتم أية جهة رسمية بحالتهم النفسية التي قادتهم إلى الإدمان ولا توجد أساساً مستشفيات لعلاج الإدمان في سوريا، وبدل أن يُعالجوا نفسياً ويتم علاجهم من الإدمان في مستشفيات تخصصية يُلقى بهم في السجن ويتعرضون لتعذيب جسدي كبير واحتقار وتنمر من قبل السجان ومن قبل المجتمع أيضاً إذ أن معظم الناس ينظرون باحتقار ودونية للمدمن وللمنتحر.

وثمة شبان سوريون كثر عاطلون عن العمل أو ينتظرون فرصة عمل ولا يجدون وشهاداتهم الجامعية مُعلقة على الحائط. إحدى الشابات الجامعيات ظلت سنوات تُقدم على مسابقات للتوظيف، وتقوم الدولة السورية بتلك المسابقات وقدمت العديد من المسابقات ونجحت بها لكن الجهات الرسمية كانت تقول لها: حالياً لا توجد وظائف، وفي إحدى المرات قالوا لها أفضلية التوظيف للذكور لأنهم مسؤولون عن إعالة أسرة، على افتراض أن الراتب في سوريا يُعيل أسرة! وأصبحت المفارقات الاجتماعية الكبيرة في المجتمع السوري من مصاصي الدماء (أثرياء الحرب) الذين يتباهون بثروتهم وثرائهم ورغد عيشهم، وبين عامة الشعب المسحوق من الفقر والذل، تدفع الكثير من الشباب لليأس، وأحياناً للانتحار، فأن يقوم أحد الفاسدين واللصوص في اللاذقية بإقامة عيد ميلاد لزوجته في أحد المطاعم يُكلف خمسة ملايين ليرة سورية، ثم بعد بضعة أيام يحتفل بعيد ميلاد ابنته المراهقة ويدفع أيضاً خمسة ملايين على مرأى من شعب يقف في طوابير الذل ساعات وأياماً ويوماً بعد يوم وسنة بعد سنة. هذه المفارقات الاجتماعية الوقحة والتي تزيد من شعور المواطن السوري بالقهر واليأس والإحباط خاصة أن الكل يعلم أن هؤلاء الأثرياء فاسدون وأنهم ناهبو المال العام وخارجون عن المساءلة والمحاسبة.

 المروع في وضع اللاذقية وارتفاع نسبة الشباب المنتحرين فيها هو مدى التشوه المكاني والنفسي الذي تعرضت له المدينة، فجريمة تبليط البحر وتحويل أجمل المقاهي البحرية التي كانت رئة أهالي اللاذقية وكل سكان سوريا إلى بحر من الإسمنت تركت ندوباً في الروح لا تندمل. أحد الأصدقاء ويسكن في دمشق قال لي حين كنا طلاباً في المدرسة كان والده يعدهم أن يقضوا إجازة الصيف في اللاذقية وان يستمتعوا بمقاهيها البحرية وبحرها. وتحتفظ ذاكرة سكان اللاذقية بذكريات مريرة لشبيحتها ويحفظون كل الإنتهاكات والجرائم التي مارسها شبان ورجال مدعومون وخارجون عن أيه محاسبة قانونية. هؤلاء الفاسدون اللصوص كانوا يستعرضون نفوذهم أمام شعب اللاذقية فأحدهم كان سادياً يأمر الرجال في مقاهي الرصيف (ومعظمهم من الكهول) أن ينبطحوا أرضاً فيذعنوا وينفجر ضاحكاً ويطلق عدة رصاصات من مسدسه في الفراغ، وقد تسبب بهروب عدة عائلات من اللاذقية لأنه كان يريد بنات تلك العائلات عشيقات له، وكان يقتحم بيوت تلك العائلات ليلاً ويطلب لقاء الشابة التي يريدها عشيقة. نجحت تلك العائلات في الهرب خارج سوريا لأنهم يعلمون كما يعلم كل الشعب السوري أن هؤلاء الفاسدين المدعومين لن يُحاسبوا، وأنهم يرتكبون جرائم قتل ويتمكنون أن يهربوا من القضاء ويجدون من يحمل الجريمة التي ارتكبوها ويدخل السجن بدلاً عنهم.

وقد استوقفني كثيراً خلال السنوات التسع من الجحيم السوري هو نزوح الكثير من الحلبيين إلى اللاذقية هروباً من جحيم حلب، وكنت ألتقي أصدقائي الرائعين من مدينة حلب الشهباء في اللاذقية وكانوا جميعاً مصدومين من طريقة العيش بشكل عام في اللاذقية ومعاينتهم لممارسات شبيحتها وسماعهم من سكان اللاذقية قصصاً تذهلهم عن ممارسات الشبيحة وكان أصدقائي من حلب الشهباء يقولون لي: حلب لم تكن هكذا، لم تشهد انتعاش فئة من الفاسدين والمهربين والمجرمين (الشبيحة) والذين يبقون دون محاسبة  يظل لحلب كرامتها وألقها وعزة نفسها رغم أن الفساد كان متغلغلاً في سوريا كلها. لكن مسرحيات إذلال الناس التي كانت تُمارس في اللاذقية لم تعرفها مدينة حلب، هذا الانطباع ظل في ذاكرتي، وجعلني أتذكر ما إعتقدت أنني نسيته.

منذ ربع قرن كانت ابنتي طفلة صغيرة واصطحبتها إلى مقهى العصافيري في اللاذقية (الذي كان أجمل مقهى بحري قبل جريمة تبليط البحر) لحضور حفل مع بابا نويل، كان الأطفال كلهم ينتظرون بابا نويل ليوزع لهم الهدايا من كيسه الكبير، وفعلاً وصل بابا نويل في نهاية الحفل بزيه الأحمر وبدأ بتوزيع الهدايا على الأطفال الذين كانوا يزقزقون فرحاً، وبعد أن انتهى من توزيع الهدايا نزع قناع بابا نويل وأظهر وجهه الحقيقي للناس، وكان أحد الشبان المدعومين الذين يمارسون الانتهاكات بحق سكان المدينة علناً، وصدم الأطفال وذبل الفرح في وجوههم إذ لم يسبق لهم أن تخيلوا بابا نويل يكشف عن وجهه لتطير فرحة الحلم والفرح، هذا يحدث في اللاذقية تحديداً.

ولم تعد اللاذقية للأسف عروس الساحل الجميلة فقد انتهك جمالها بالمباني العملاقة في شوارع ضيقة وغمرت القمامة أزقة وشوارع كثيرة فيها وصار منظر طوابير الناس بانتظار رغيف الخبز في كل مكان. ويشعر من يمشي في اللاذقية كم صار البحر بعيداً وكيف أنها تتصحر بسبب التشويه العمراني. ولم يعد الحنين إلى اللاذقية كما يقول جميع من تركها سوى حنين ذاكرة إلى أماكن لم تعد موجودة إلا في الذاكرة، ولم يهتم أحد للحفاظ على اللاذقية القديمة وقد هدمت الكثير من بيوتها الأثرية وشيدوا بدلاً منها أبنية عملاقة. الانتهاك الذي تعرضت له اللاذقية روع ساكنيها وخاصة شبابها الذين مرمرهم القهر والفقر والمفارقات الأجتماعية وقادتهم كل تلك الظروف إلى اليأس والإحباط  والانتحار. أمام هذه المعطيات أتمنى أن تنجح الجمعيات الخيرية في اللاذقية في مهمتها وبرامجها للاهتمام بالشباب في اللاذقية ودعمهم نفسياً كي لا ينتحروا.

حقول الساحل رماد بعد “نكبة” الحرائق

حقول الساحل رماد بعد “نكبة” الحرائق

يطغى لون الرماد على كامل الجرود الجبلية المحيطة بالقرداحة جنوب اللاذقية بعد أسبوع من سيطرة فرق الإطفاء على أسوأ موجة حرائق تطال الساحل السوري منذ عقود. يقف عدد من القرويين أمام منازلهم المتواضعة على جرف صغير في بلدة بسوت التابعة لمدينة القرداحة. ينظرون بحسرة إلى رماد بساتين الزيتون ومئات الدونمات من أشجار الصنوبر والسرو وقد أتت النيران عليها. يُملي الموجودون، في وجود مختار القرية، على موظفين حكوميين خسائرهم بالتفاصيل: هنا بستان زيتون مساحته 6 دونمات وإلى جواره بستان أصغر. لا يدقق الموظفون كثيراً في تلك التفاصيل لتعذر معرفة ما كان فيها أصلاً وقد تحولت رماداً. يكتبون ما يسمعونه. وحدهم المزارعون يأملون بأن تجلب هذه المعلومات أي دعم مالي أو إغاثي، بعدما تحولت «نكبة الحرائق» إلى أول اهتمامات السوريين.

لا يُخفي القرويون فجيعتهم من خسارة مصدر رزقهم الوحيد. يقول غدير، وقد عاد من دمشق إلى قريته للمشاركة في إطفاء النيران إنها «فاجعة حقيقية. أنا موظف استدنت ثمن نقلي إلى ضيعتي للمشاركة في إطفاء النيران. خسرنا بستاناً كاملاً للزيتون. كل الناس في هذه الضيعة نُكبوا بالحريق».

وقدرت حصيلة شبه نهائية لمديرية زراعة اللاذقية حجم الأضرار بنحو 7190 هكتاراً ضمّت 1.3 مليون شجرة مثمرة احترقت بالكامل ومنها 1.1 مليون شجرة زيتون و200 ألف شجرة حمضيات و3 آلاف شجرة تفاح و44 ألف شجرة متنوعة…

وبدأت المعونات الأهلية بالوصول إلى قرى القرداحة. جمعيات أهلية نظمت بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية شاحنات لنقل مواد غذائية مثل السكر والأرز، وتخصيص مبالغ مالية لأهالي المناطق المتضررة مباشرة من النيران، فيما تعهدت الحكومة بتقديم 1.53 مليار ليرة لنحو 150 قرية وبلدة متضررة من الحرائق في اللاذقية، أي ما يعادل 10 ملايين ليرة (4 آلاف دولار أميركي) لكل قرية. عليه، بدت تلك المعونات معنوية أكثر منها تعويضاً عن الخسائر. في قريتي بلوران وأم الطيور، شمال اللاذقية، أتت النيران على مساحات واسعة من الأراضي. يعيش كثير من الفلاحين صدمة خسارة كل شيء يمتلكونه. ولا شك أن وجهة مصايف السوريين التقليدية في تلك المناطق تحولت سواداً جراء النيران. يقول محمود، العامل في أحد المطاعم الشعبية: «كل الناس خسرت في هذه المنطقة. عشرات آلاف الأشجار احترقت خلال يومين فقط. بذلنا جهداً كبيراً بما نملك من إمكانيات من جرارات ومعاول وفؤوس دون جدوى». ويضيف: «قضت النيران على أشجار عمرها 20 و30 سنة خصوصاً من الزيتون والحمضيات». ولا يعوّل الشاب، ككثيرين غيره، على الوعود بالتعويض. يقول: «هذه مبالغ لا تعمل شيئاً. خسارة موسم واحد تتجاوز ما ستحصل عليه كل عائلة من الدعم المنتظر. المهم أن تعود هذه الحقول إلى الاخضرار وأشك أن يتم ذلك قبل سنوات». وشاركت أكثر من مائة سيارة إطفاء وآلية ثقيلة ومروحيات للجيش السوري في محاولة السيطرة على الحرائق التي اندلعت يوم الجمعة 9 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري في 65 موقعاً تضاف إلى 30 موقعاً آخر، ما شتَّت جهود فرق الإطفاء وأخّر من السيطرة على النيران.

يضاف إلى الأجواء المتشائمة في شوارع القرى المقفرة، راكبو الدراجات النارية في ظل أزمة خانقة بالمشتقات النفطية. طوابير تكاد لا تنتهي تنتظر دورها للحصول على 40 لتر بنزين. هذا قد يفسر غياب حركة السيارات على تلك الطرق.

مئات الأعمدة وكيلومترات من أسلاك الكهرباء احترقت وقطعت معها التيار الكهربائي قليل الحضور أساساً خلال سنوات الحرب، وكذلك مياه الشرب. معظم القرويين يشكون العطش في منطقة يصل معدل هطول الأمطار سنوياً فيها إلى 1.2 ألف ملم. نقص المياه صعّب عمليات الإطفاء. يقول محمود: «كنا نقوم بالإطفاء عبر أغصان الشجر لأنه ببساطة لا توجد مياه لدينا للاستخدام الشخصي فكيف لإطفاء النيران!».

*نشرت نسخة من هذا التقرير في الشرق الأوسط هنا.

سوريا ليست بخير

سوريا ليست بخير

أتابع يومياً أخبار أحبتي في سوريا، ويُذهلني هذا التدهور الكبير في معيشة السوريين، ولم أكمل خمسة أسابيع في إقامتي في باريس لكنني أشعر أنني تركت اللاذقية منذ سنة. و كل الشعب (السوري كلون يعني كلون) يُعاني ما لا طاقة لإنسان أن يتحمله، لكنهم مجبرون على التحمل، انقطاع الكهرباء الطويل لساعات تزيد عن أربع ساعات وفي هذا الحر الشديد جعلت السوريين يطيش صوابهم  وصاروا يسخرون من قطع الكهرباء بأن يكتبوا على صفحاتهم على الفيس بوك أو صفحات التواصل الإجتماعي: (اليوم كل السوريين رح يتغدوا بازيلا وفول). دلالة عل فساد المؤونة في البرادات، ويأتي ذل قطع الماء لينافس ذل قطع الكهرباء.

ليست الحسكة وحدها عطشى بل كل سوريا، الماء يأتي بالقطارة، والغسالات تعطلت واحترقت بطاريتها، ولا يملك هؤلاء المعذبون في سوريا سوى الكتابة. إحدى السيدات كتبت (ألمي رح أنهار، ألمي أساس الحياة الخ). اعتقدت أنها تتحدث عن ألمها (أي كلمة ألمي من الألم)، لكن المسكينة تتحدث عن الماء وتكتب بالعامية (المي)، اتصلت بها هي تعيش مع إبنتها فقالت: (الماء بالقطارة، مستحيل نقدر نجلي الصحون ونغتسل وننظف البيت، كل يوم نخصصه إما للجلي أو الاستحمام أو مسح البلاط أما الغسالة فاحترق مولدها بسبب لنقطاع الماء “وسعر الغسالة اليوم في سوريا مليون ونصف المليون”.) الغلاء الفاحش لأسعار المواد الغذائية وربط هذا الغلاء باحتكار التجار، وطوال أسبوع احتل ارتفاع سعر البيض في سوريا صفحات التواصل الاجتماعي حيث وصل سعر البيضة إلى 200 ليرة سورية!!! وطالبت إحدى السيدات أن يمتنع كل السوريين عن شراء البيض لمدة شهر لمعاقبة التجار!!! يا لروعة اقتراحك يا سيدة!! الطفل يحتاج البيض كل يوم تقريباً لينمو فكيف ستحرمين أطفال سوريا من البيض!! وبالتأكيد هم محرومون منه لأنه لا قدرة لأهاليهم على شرائه خاصة إذا كانت الأسرة تتكون من عدة أطفال، وتأتي مهزلة القروض المدرسية ذلك أن وزير التربية مصر أن يلتحق التلاميذ بالمدرسة ومتوسط عدد الطلاب في المدارس السورية خاصة الحكومية بين 50 إلى 70 طالباً وتجد ثلاثة طلاب يجلسون في مقعد واحد محشورين كتفاً لصق كتف، ومراحيض المدرسة مزارع جراثيم وأوبئة والمياه فيها مقطوعة. كما أنه في العديد من المدارس تتكوم هضاب الزبالة في المداخل، وتنسجم هضاب الزبالة مع رداءة التعليم.

صار سعر الحقيبة المدرسية من أرخص أنواع النايلون حوالي 40 ألف (ما يعادل راتب شخص واحد عند الحكومة السورية)، وسعر القلم ألفين أو أكثر، ولا زيادة قرش في الرواتب!! بل الدولة السورية تقدم قروضاً للأهالي كي يشتروا اللوازم المدرسية لأولادهم تحديداً من مؤسسات الدولة، وغالباً بضاعة هذه المؤسسات رديئة ومُخزنة منذ سنوات! ولا يخطر لمسؤول سوري أن يتساءل: كيف سيسدد هذا الأب المسكين القروض الطلابية من راتب الاحتقار الذي بالكاد يكفي لشراء الخبز. ويصفع وزير التربية السوري الأهالي بقرار أنهم مجبرون (رغم الارتفاع الكبير جداً في إصابات كورونا في سوريا) على إرسال أولادهم إلى المدرسة، وأن الطالب إذا تغيب أربعة أيام عن المدرسة بدون عذر يُفصل من المدرسة. هذا هو رهاب التعليم في سوريا، وتوصيف رهاب التعليم هو أدق توصيف لتهديدات وزير التربية الذي لا يبالي بصحة التلاميذ ولا برغبة الكثير من الأهالي ألا يرسلوا أولادهم إلى المدرسة في زمن جائحة كورونا. وطبعاً لا يخفى على أحد رداءة التعليم وفساده في سوريا وأن صفوف البكالوريا خاوية تماماً في كل سوريا ويعتمد الطلاب على المعاهد أو الدروس الخصوصية، وثمة العديد من الأهالي الذين أخذوا قروضاً من المصرف ليسددوا أجور الدروس الخصوصية أو باعوا أثاث منزلهم أوغيره من الاجراءات.

رغم هذه الظروف الكارثية فإن البعض يقول نحن بخير ويخونون من تركوا الوطن ويسخرون منهم في غربتهم ويقولون لهم سوف تذوبون في الغربة ولا أحد سيهتم بكم وسوف تذبل حديقة بيتكم ويتكدس غبار النسيان على أثاث بيوتكم. عجيب هذا المنطق التخويني اللاإنساني، كيف تتجاهلون العنف المروع الذي اضطر ثلث الشعب السوري لينزح ويرمي نفسه في البحر بعد أن دمرت البيوت والقرى والمدن ولم يبق لديهم سوى حياتهم عساهم يحافظون عليها إذا ساعدهم الحظ ووصلوا إلى بلاد اللجوء التي تحترم الإنسان. هؤلاء الخونة عديمو الإحساس الذين يكتبون كل يوم على صفحاتهم نحن بخير هم يدعمون نظاماً يوغل في تجويع شعبه وإهانته؛ فحين ينشرون كل يوم صوراً لبحر اللاذقية وبعض شوارعها الجميلة (ولم تعد اللاذقية جميلة على الإطلاق إذ تجد في زقاق بناء من ثلاثين طابقاً)K أو تضع إحداهن في أزمة شح الماء وعطش الحسكة وتفجير خط الغاز الذي جعل كل سوريا تغرق في الظلام في هذا التوقيت تماماً صورة لمدرسة بوقا الزراعية وتكتب ما أجملها، فهذا أشبه بطعنة الغدر، لأننا في قلب مأساة إنسانية مروعة أمام مشاهد لذل وجوع وحرمان الطفل السوري أن يأكل بيضة، الحديث عن جمال بعض الأمكنة في هكذا ظروف كارثية هو خيانة وهو غدر وهو تماهي مع المعتدي والتمثل بسلوكه كما أبدع الدكتور مصطفى حجازي في كتابيه (سيكولوجية الإنسان المقهور، وسيكولوجية الإنسان المهدور) في وصف وتحليل ظاهرة تماهي المُضطهد مع المعتدي أو من يضطهده وتقليد صفاته.

 أعرف أن بحر اللاذقية جميل وأحن إليه، لكنني كنت أصور هضاب القمامة على شواطئه، وحين يتفرج العالم كله على الشعب السوري الجائع والعطشان واليائس والذي توحده عبارات هي: “عايشين من قلة الموت”، و”خلينا ساكتين أحسن”، و”الحيط الحيط ويا رب السترة”؛ وحين يتفرج العالم كله على طابور من رجال ونساء وأطفال سوريا واقفين تحت لهيب شمس تموز وآب بإنتظار رغيف خبز سيء (لأن الأفران ينقصها المازوت حتى تخبز الخبز كفاية) ولا أحد من هذا الحشد قادر أن ينطق بكلمة احتجاج أو يقول: “آخ”، لأن قبضة الأمن تنقض عليه فهو يتذمر والوطن ضحية مؤامرة، وعلى الشعب أن يتحمل مع الدولة نتائج المؤامرة. الحديث عن الجمال ونشر صور لبعض المناطق الجميلة في سوريا هو خيانة وانعدام إحساس بآلام الشعب السوري، والحديث عن الجمال في هذه الظروف الكارثية في سوريا هو تماماً وتحديداً إعلان ولاء للنظام.

 سوريا ليست بخير والسوري في سوريا ليس بخير، كفوا عن النفاق والخيانه بأن تمطرونا كل يوم بصور اللاذقية الجميلة، كسب الجميلة، صلنفه الجميلة (التي سرق الشبيحة كل بيوتها) ولصقها قرية سلمى التي سوتها البراميل المتفجرة بالأرض وهج سكانها ومات تفاحها الأطيب في العالم. توقفوا عن الحديث عن الجمال فهو خيانة في زمن الموت والحداد. وأحب أن أختم بهذه القصة؛ فمنذ أسبوعين قصدت السفارة البريطانية من أجل الحصول على فيزا لزيارة إبنتي وزوجها وفوجئت أن السفارة البريطانية في باريس تغص بمواطنين من غينيا لدرجة اعتقدت أنني أخطأت في العنوان وبأنني في سفارة غينيا وحكيت مع ابنتي فقالت لي: “أمي أتمنى أن يتم قبول كل الناس من غينيا يعني نسيت كم عانت إفريقيا من الإستعمار”، وتابعت متسائلة: “يعني أنت تعتقدين حال السوري أفضل من حال مواطن من غينيا.” فعلاً خجلت وأحسست بطعنة ألم في قلبي. وضع السوري اليوم هو الأسوأ في العالم. سوريا ليست بخير والسوريين ليسوا بخير. لا تزوروا الحقيقة ولا تخونوا شعب سوريا بالحديث عن الجمال.

الطب النفسي في اللاذقية: فالج لا تعالج

الطب النفسي في اللاذقية: فالج لا تعالج

ليس وعي الشعب السوري بأهمية الطب النفسي هو ما جعل الكثير من السوريين يراجعون عيادات الأطباء النفسانيين، بل وحشية وقسوة الظروف التي يعيشونها وانسداد الأفق أمامهم جعلهم يبحثون عن قشة أمل يتعلقون بها لأنهم غارقون في آلام نفسية ويأس وخيبات قد تدفع الكثير منهم إلى الانتحار، وبالفعل حوادث الانتحار في سوريا كثيرة لكن لا يُعلن عنها في الإعلام الرسمي. وبما أنني عشت في اللاذقية وعاينت عن كثب أزمات الناس خاصة الجيل الشاب فقد هالني فعلاً الإقبال الشديد على عيادات الطب النفسي عساها تقدم لهؤلاء المعذبين في سوريا نوعاً من الحل أو العزاء.

بداية أحب أن أنوه بتعريف الصحة النفسية في الطب النفسي: لا يجب أن نقول عن إنسان أنه بصحة نفسية جيدة وطبيعية إن لم يخضع لإختبارات في الطب النفسي. وعليه لا يجوز أن نعتبر أنفسنا وغيرنا أصحاء نفسياً إن لم نخضع لإختبارات في الطب النفسي. ولأنني مهتمة جداً بالحالة النفسية للشعب السوري وكوني طبيبة عيون لي أصدقاء أطباء اختصاصيون في الطب النفسي. وكنت أزورهم في عياداتهم وأحياناً يكون لي دور في الإصغاء للآلام النفسية للمرضى.

1-معاينة الطبيب الإختصاصي في الطب النفسي تتراوح بين 4000 ليرة سورية و6000 ليرة سورية، وهو مبلغ كبير جداً بالنسبة لمواطن سوري موظف (معدل الراتب في الدولة السورية 30 دولاراً) أو محدود الدخل وثمة الكثير من معدومي الدخل تقوم الجمعيات الخيرية بمساعدتهم. ومنظرهم وهم محتشدون في قاعة انتظار الطبيب النفساني يُشبه تماماً الاحتشاد على الأفران أو مراكز توزيع المعونات الغذائية، معذبون سوريون طاش صوابهم من القهر والفقر والظلم ورداءة الحياة وموت أولادهم يبحثون عن أي مُسكن لآلام أرواحهم، لا أنسى عبارة قالها لي أب سوري: لولا العار لانتحرت، لكن سيُوصم أولادي كل عمرهم بوصمة انتحار والدهم .

2- لعظيم الأسف فإن معظم الأطباء النفسانيين في اللاذقية (المدينة التي عشت فيها كل عمري) لا يُعطون المريض النفساني حقه، لأن ضغط العمل والمراجعين كبير جداً عليهم، لهذا لا يتجاوز اللقاء بين المريض النفساني والطبيب خمس دقائق، يتخللها قطع الحديث باتصالات هاتفية دائمة للطبيب، ونفاذ صبر الأطباء فما أن يبدأ المريض النفسي بالكلام ومن العبارة الأولى حتى يعلو صوت الطبيب النفساني مُشخصاً حالته: عندك اكتئاب أو شخصيتك اكتئابية أو عندك وسواس قهري أو عندك ميول انتحارية أو فصام في الشخصية الخ! يا للسهولة والخفة وانعدام الوجدان التي تُشخص فيها الأمراض النفسية في سوريا، ولماذا يكون لدينا طب نفسي هام ويحترم المريض وكل ما في حياة السوري رديء؟ وأظن الأطباء النفسانيين يجدون عزاء كبيراً لضميرهم لأنه لا يوجد سوى دواء نفساني واحد وحيد يُعطى لكل حالات الأزمات النفسية، وهو دواء سيئ بإعتراف العديد من الأطباء النفسانيين ومصدره إيران أو الهند، وثمة أدوية أخرى مهدئة تساعد في دعم تأثير الدواء الرئيسي. الحوار معدوم بين الطبيب النفساني والمريض، أي لا يتمكن المريض من الفضفضة بآلام روحه، ويشعر المريض أنه دفع مبلغاً كبيراً على أمل أن يصغي إليه الطبيب النفساني ويخرج من العيادة بخيبة أمل يحمل وصفة طبية مُوحدة لكل المرضى عامة.

3- الكارثة الأشنع هي الانقطاع المفاجئ للأدوية النفسية والمهدئة والمنومة، كذلك انقطاع العديد من الأدوية المهمة الأخرى كأدوية الغدة والقلب والضغط وغيرها، إضافة لارتفاع سعر الأدوية دفعة واحدة في سوريا 300 بالمئة دون أن يزيد الراتب قرشاً!

4- معروف أن الأدوية النفسية حتى ترفع مستوى السيروتونين في الدماغ (والذي يُسمى هورمون السعادة) حيث ينقص هذا الهورمون كثيراً لدى مرضى الإكتئاب وأمراض نفسية أخرى، تحتاج لأشهر من تناولها تترواح في الحد الأدنى ستة أشهر وقد يستمر المريض في تناولها ثلاث سنوات وأكثر. وفي بعض الأمراض النفسية كالفصام يتناول المريض الدواء النفسي مدى الحياة، ويجب أن يتم قطعه بالتدريج على الأقل طوال أسبوعين أو ثلاثة، لكن فجأة انقطعت الأدوية النفسية في سوريا وفي حالة كهذه يُصاب المرضى بنوب من الصرع وقد ينتحر البعض، وحتى الدواء الآمن (الليكزوميل أو الليكزوتان) وهو مضاد قلق مقطوع وبرأيي يجب أن توزعه الدولة السورية مجاناً أو على البطاقة الذكية، لأن كل سوري يحتاج لدواء مضاد للقلق عساه يساعده أو يوهمه أنه يساعده في قلقه الكبير. وأدى الانقطاع المفاجىء للأدوية النفسية في سوريا لحالات انتحار كثيرة خاصة عند الشباب الذين لا يجدون أملاً بالمستقبل وينتظرون فرصة للهجرة إلى بلد أوروبي.

5- استعاض الكثير من السوريين وخاصة الجيل الشاب المُحبط وبعضهم جامعيون (أخبرني العديد منهم أنهم توقفوا عن الدوام في الجامعة لأنهم لا يملكون مالاً لتصوير المحاضرات، لأن سعر الورق ازداد وإجرة التصوير ازدادت)، هؤلاء الشبان يلجؤون إلى المخدرات كحبوب الكابتاغون والحشيش وأنواع أخرى من المخدرات تشوش وعيهم وتخدر آلام روحهم ولو لفترة زمنية معينة، ويتعاملون مع مهربين معروفين في اللاذقية يؤمنون لهؤلاء الشباب اليائسين المخدرات الرخيصة ومن أسوأ الأنواع. وتمت مداهمة مجموعات من الشبان (معظمهم جامعيون) في شاليه على البحر أو في بيت أحدهم من قبل الشرطة، وتم سجنهم لأكثر من ثلاثة أشهر وطبعاً بعد تعرضهم لضرب مبرح، بدل أن يُعالجوا في مراكز لعلاج الإدمان، ولست واثقة أن في سوريا كلها مركزاً مؤهلاً لعلاج الإدمان.

هذا هو واقع الطب النفسي في سوريا، طب نفسي وهمي، دواء سيء ثم مقطوع، نسبة انتحار عالية خاصة لدى الجيل الشاب، إدمان على المخدرات الرديئة للهروب من واقع ليس فيه بصيص أمل، الفقر والذل والجوع والهدر الوجودي بانتظار رغيف خبز مُعجن أو كيس أرز ينغل فيه الدود، إضافة لرداءة التعليم وانقطاع الكهرباء شبه الدائم وشح المياه وتلوثها. كل شيء مأساوي وموجع في سوريا، ومن الطبيعي أن يكون الطب النفسي انعكاساً لهذا الواقع. ولو أردت أن أشبه ممارسة الطب النفسي في اللاذقية (وسوريا كلها)، فهي أشبه بتلك اللقطة من مسرحية حيث يقوم المُوجه في المدرسة بفحص القدرة البصرية لكل طلاب الصف (كلون يعني كلون) في نفس اللحظة أكثر من 40 طالب يجيبون على سؤال الموجه الذي يفحص الطلاب على لوحة القدرة البصرية ليعرف صحة الرؤية عند الطلاب. الطب النفسي في اللاذقية وسوريا مهزلة، لا تحليل نفسي ولا حوار بين المريض والطبيب. ثمة دواء وحيد يرفع المزاج أو هكذا يقولون، سرعان ما انقطع. وأظن انقطاعه ليس مشكلة كبيرة، لأن من يقبض راتباً من 30 دولاراً في الشهر ليعيل أسرته لا يوجد دواء في العالم قادر على رفع مزاجه؛ ومن دفنت شهيداً أو أكثر من فلذات أكبادها سحقها الحزن والقهر ولن يفيدها دواء؛ ومن مات ابنه تحت التعذيب في السجون السورية أو اختفى ولا يعلم عنه أحد شيئاً لن يفيده أي دواء. العبارة الأدق للطب النفسي السوري: فالج لا تعالج.

بين عيادة الطبيب وفرع الأمن

بين عيادة الطبيب وفرع الأمن

بداية لا بد من ذكر أنني أملك بطاقة إقامة في فرنسا وأتقن الفرنسية وبأنني طبيبة اختصاصية في طب العيون وكاتبة، وبأن كل أسرتي (أخي وأختي وأمي يقيمون في باريس)، وابنتي الوحيدة وزوجها الإيطالي يقيمان في بريطانيا. ولكن لأنني مسكونة بعشق سوريا فقد قررت ترك أسرتي وحريتي في باريس وأصدقائي والعودة إلى اللاذقية، عدت إلى اللاذقية في 8 كانون الثاني 2019 متغاضية عن البرد الشديد وانقطاع الكهرباء وغلاء الأسعار والأهم الصمت. فكل شيء مجلل بالصمت، وظيفة اللسان في سوريا تدوير الطعام إن وجد وليس تدوير كلمات الحق. طوابير الناس المنتظرة لساعات جرة الغاز (وأحياناً تنتظر أيام) مجللة بالصمت، طوابير الناس أكثر من 400 شخص ينتظرون رغيف الخبز الرديء (لأن الأفران لا تخبزه جيداً بسبب نقص مادة المازوت) مجلله بالصمت، طوابير الناس المنتظرة الرز الرديء مجلله بالصمت، وكذلك طوابير الناس المنتظرة أرخص وأردأ أنواع الدخان في العالم مجللة بالصمت، وثمة من يشتمها لأنها لا تنتبه لصحتها ولا تبالي بانتشار وباء كورونا! وراتب كل شخص من هؤلاء المنتظرين يعادل ثمن كيلو ونصف الكيلو من اللحم! وطبعاً أساس غذائهم الخبز الرديء والشاي والتسول. لكن يسمح البعض المترف لنفسه أن يشتم هؤلاء السوريين ويصفهم بالقطيع والحمير لأنهم يدخنون ويتقاربون غير مبالين بصحتهم ووباء كورونا.

في هذه الظروف عدت إلى سوريا تسندني بطارية الكهرباء الثامنة في إضاءة الصالون والتلفاز لكنها لا تفيد أبداً في التدفئة ولا في تشغيل أية أداة كهربائية أخرى. كل شيء حولنا يثير الرعب فتداول مجرد كلمة دولار يستحق العقوبة فصار اسم الدولار (الشو اسمو). بعد أيام من عودتي إلى سوريا أصرت جمعية الحوار السوري السوري (وأنا في الواقع لم أكن قد سمعت بها مسبقاً ولا أملك أية فكرة عنها أن تقيم لي تكريماً)؛ فرفضت لأنني أعرف أن سوريا لا تكرم إلا الموالين للنظام، وهم عادة رؤساء اتحاد الكتاب العرب أو شخصيات مماثلة، لكن إلحاح بعض الأصدقاء بأن جمعية الحوار السوري السوري تضم سجناء رأي كثيرين مثل السيد عادل نعيسة مثلاً –الذي سُجن 20 عاماً–وغيره أكثر من ثمانية أشخاص كانوا سجناء رأي وانضموا إلى الحوار السوري السوري كي تبدأ مرحلة الحوار البناء القائم على المحبة وحب الوطن ومحاولة التقارب في وجهات النظر من أجل بناء علاقات محبة بين السوريين ليتمكنوا من بناء وطن مُعافى. قبلت وكانت الجلسة تضم حوالي أربعين شخصية أغلبها موالون وبعض سجناء الرأي السابقين، وكانت اللغة خشبية وميته وخطابية، وكان أحد الحاضرين (لم ألتق به أبداً ولا أعرفه) يدعي أنه فنان تشكيلي وينتمي للحزب الشيوعي، لم ينطق بكلمة ولم يكف ثانية عن التدخين حتى كدنا نختنق. بعد هذا التكريم الهزلي الشكلي اللامعنى له سوى إيهام الناس أن سجناء الرأي السابقين أصبحوا أصدقاء مع الموالين للنظام، فوجئت بمنعي من السفر وباستدعائي لمراجعة فرع الأمن العسكري في اللاذقية! ولم أعرف السبب فأنا عادة لا أنشر مقالاتي على صفحتي على الفيس بوك وأعترف أنني لست كاتبة سياسية بل أتقن التعبير عن آلام الناس وأوجاعهم وصمتهم المُهين وأكتفي أن يوقفني أحدهم أو إحداهن في الطريق ويقولان لي: نحسك تحكين عن وجعنا تماماً لكننا لا نجرؤ على البوح. لم تكن المرة الأولى التي أمنع فيها من السفر بل المرة الرابعة والمرات السابقة كانت على حدود العريضة (الحدود السورية اللبنانية، فكنت أعود أدراجي مذلة مهانة إلى اللاذقية). ولم تكن المرة الأولى التي استدعيت فيها إلى فروع أمنية متعددة بل مرات عديدة حتى أنني وبسبب نفس المقال استدعيت إلى فرعين أمنين وحين سألت: “لماذا هذا الإجراء!” قالوا لي أنهم استحدثوا إجراء اسمه التطابق وطبعاً لم أفهم ما هذا التطابق. هذه المرة (بعد تكريمي الهزلي في اللاذقية) مُنعت من السفر وأستدعيت إلى الأمن العسكري بسبب تقرير كيدي كتبه بي السيد الشبيح المؤذي الفاشل ( إن الناجح لا يؤذي ولا يحقد) الذي يدعي أنه فنان تشكيلي وينتمي للحزب الشيوعي وكلف نفسه آلاف الليرات السورية كي يطبع مقالات كنت كتبتها منذ سنوات خاصة مقالي عن الخوذ البيض الذي نشرته منذ خمس سنوات وكتبت فيه بأنهم منظمة إنسانية إغاثية، من أين أتى هذا المخلوق الكرم حتى يطبع مقالاتي وكي يكتب بصراحة فاقعة على صفحته على الفيس بأنني خائنة وماسونية والتقيت طبقة الروتاري عندما قدمت محاضرات في هولندا (واضح أنه لا يعرف معنى الروتري) لم يترك بذاءة أو شتيمة إلا وشتمني بها وكان بإمكاني أن أقدم شكوى ضده لكن حالة من القرف الشديد أصابتني فحظرته وقام أصدقاء ومعارف كثيرون بحظره، لكن الأمن العسكري قبل مقالاتي التي قدمها ومنعني من السفر واستدعاني. ولا أنكر أن فرائصي تقصفت رعباً وأن دقات قلبي تسارعت فوق المئة، وبأنني سارعت لشراء دواء الليكزوتان المهدىء عيار 3 ولم يؤثر بي، وأنني كنت أنظر كل ثانية إلى ساعتي معتقدة أنها معطلة لأن الخوف يجمد الزمن، وعرفت الأرق بأحقر أشكاله وعرفت التخلي والنبذ بأقسى تجلياته لأن من تعتقدهم أصدقاءك يتخلون عنك ويهربون منك حين تقع في مشكلة أمنية، حتى أن أحد أصدقائي يستعمل تعبير بأنه يتغوط تحته إذا سمع أن أحد عناصر الأمن يسأل عنه.

كان علي أن أبحث عن واسطة كي لا أنتظر خمس ساعات أو ست ساعات في فرع الأمن في غرفة حقيرة منفردة عادة فيها أسرة معدنية صدئة قذرة وكنت أفقد صوابي من الإنتظار الطويل فأخرج إلى المنشى الضيق وأدخل غرفاً بائسة يعمل فيها موظفون وجوههم مكفهرة أبادرهم بالسلام فلا يردون ولا ينظرون باتجاهي، وأسألهم برجاء ولطف أن يقول لي أحد منهم كم علي أن أنتظر بعد، فلا يردون علي كأنني شبح. أصريت هذه المرة أن ألجأ لأحد معارفي كي يعفيني من الانتظار وبالفعل أعطاني هاتف ضابط عالي المرتبة وقال لي اتصلي به وهو سيؤمن لك مقابلة العميد (أو العقيد، لست متأكدة) في فرع الأمن العسكري، لكنني فوجئت بالواسطة العالية جداً يسألني ساخراً وشامتاً في الوقت نفسه: “ولماذا يزعجك الإنتظار لهذه الدرجة! البارحة ابنتي إنتظرت أربع ساعات لدى طبيب النسائية رغم أنها كانت على موعد!” وجدت نفسي وبحركة انعكاسية ألصق راحة يدي على فمي وأضغط بقوة كي لا تنفلت مني عبارة: “وهل هذه الحالة مثل تلك! هل الانتظار في عيادة طبيب مثل الانتظار في غرفة في مبنى أمن الدولة العسكري أو السياسي أو لا أعرف ماذا.” لكنه وفى بوعده ولم أنتظر، لكن حالة من الهياج اللاإرادي أصابتني قبل موعدي مع العقيد في الأمن العسكري؛ فأخذت أصابعي تتقلص بشكل غير إرادي وأصابني ضيق تنفس وحاصرتني أفكار الموت والانتحار كإعصار تلف جسدي الضئيل واتصلت بقريبي وهو محامي وأخذت أصرخ: “لن أذهب، لن أذهب، قد يعتقلونني، ودارت حول رأسي مئات وجوه لأغلى الأصدقاء كلهم اعتقلوا أكثر من عشر سنوات وهم في العشرينات بسبب جريمة رأي وبعضهم مات تحت التعذيب، وحاول قريبي تهدئتي وقال: “سأوصلك بنفسي لا تخافي مجرد بضعة أسئلة”، وتحولت إلى صراخ ولعنت الساعة التي عدت فيها إلى سوريا وآمنت أن الوطن يعني تماماً الذل، ولا أدرك صدقاً كيف أوصلني قريبي إلى فرع الأمن العسكري في اللاذقية وكنت أنظر بدهشة غريبة للناس التي تمشي وللدكاكين كما أنني أرى كابوساً، كما لو أن ثمة تساؤلاً طالعاً من أعماق روحي: “هل هؤلاء أحياء حقاً”.

ووصلت حواجز الأمن العسكري وكان الموظف أو المُجند الواقف في كوة صغيرة بالكاد تتسعه يلبس فانيلا فقط! “يا للاستهتار واحتقار المهنة ألا يفترض أن يلبس قميصاً”! ونظر إلى باحتقار وهو يطلب هويتي كما لو أنه يحكم علي أنني خائنة سلفاً ورافقني مجند نحيل وفقير لدرجة رغبت لو أعطيه مالاً ليشتري طعاماً وثياباً ومشينا طويلاً في الشمس الحارقة، وكان مبنى الأمن العسكري مؤلفاً من عدة مباني، وأشار لي إلى مبنى ودخلت فوراً غرفة الضابط متجهم الوجه وعلى يمينة أكثر من ثمانية أجهزة هاتف لا تتوقف عن الرنين وكان كالساحر يرد عليها كلها، وطلب مني الجلوس دون أدنى ترحيب وقال تفضلي تكلمي، فحكيت له باختصار قصة الحيوان الذي صور مقالاتي، وبأنه لم يؤذني وحدي فقط بل أذى كثيرين. سألني فجأة: “هل أنت مع الخوذ البيض؟”. فاجأني سؤاله فقلت له هذا المقال كتبته منذ خمس سنوات وأظن وضع وطننا الحبيب سوريا خطير جداً الآن و قاطعني بلهجة آمرة وقال: “هل أنت مع الخوذ البيض؟” قلت: “كل قنوات التلفاز عرضت ما يقوم به الخوذ البيض من أعمال إنقاذ وإسعاف ولو تسمح لي لا يوجد إعلام محايد”. سأل بإصرار: “ماذا تقصدين لا يوجد إعلام محايد؟”. قلت له “هل تسمح أن أكون صريحة معك؟”. قال: “بالطبع نحن نريد من كل مواطن أن يكون شريكنا في الكلام والقرار”. ولا أعرف أي شيطان دفعني لأقول: “هل تذكر حضرتك لما كانت حلب كرة من الجحيم والنار، يومها مذيع القناة الأخبارية السورية قال: ابتسم أنت في حلب”. وحل صمت من رصاص بيننا ولا أعرف لماذا طفا بذهني عنوان رواية ميلان كونديرا: خفة الكائن التي لا تحتمل. هكذا أحسست تماماً كنت خفيفة كريشة عصفور وشعرت بطوفان من السعادة يتفجر في داخلي كينبوع ماء يتفجر من قلب صخر. بدا العقيد أو العميد منزعجاً لدرجة لا توصف، وانشغل باتصالات عديدة ثم نادى المجند وقال له خذ الدكتورة إلى المبنى الآخر. ومشيت مع مجند آخر ينافس الآخر بؤساً وفقراً وقصدنا مبنى آخر ودخلنا غرفة قذرة فيها صوفا ومكتب، وكان موظف المكتب مكفهر الوجه لدرجة شعرت أنه يعاني من بحصة في الكلية أو المرارة لشدة تشنج عضلات وجهه، وتظاهر أنه يقرأ في أوراق ويتفحص بدقة المكتوب، ثم يقلب ورقة إثر ورقة، ولمحت أكثر من عشرين مقالاً من مقالاتي كان قد طبعها الشبيح المدعي أنه فنان تشكيلي. وأخيراً نطق الصنم وقال: “نحن نعرفك دكتورة نعرفك جيداً وهذه التقارير المقدمة بك تقارير كيدية”. وقفت وقلت له: “طالما أنها تقارير كيدية لماذا قبلتوها!، ومن يجب أن يُعاقب أنا أم السافل الذي قدم لكم التقارير الكيدية أم أنكم تتفقون معه”. فقال: “هذا الكلام غير مسموح لك على كل سوف نسمح لك بالسفر مرة واحدة”.

مشيت في الطريق كالمسرنمة أتساءل ما هو الوطن وما هو الحنين؟ وتذكرت أنني تركت كل ميزات العيش المريح في باريس لأنني كنت أحن إلى بالوعة ممتلئة قذارة، وكنت أعتبر أن الوطن هو الحنين، وغلبت قيمة الحنين على الحرية والكرامة. لا شيء في العالم يعلو على الحرية والكرامة. أوقفت تاكسي وانفجرت ضاحكة قال لي: “خير ضحكيني معك”. قلت له: “كنت أقارن بين الانتظار في عيادة طبيب وفي مكان آخر”. قال: “لم أفهم”. قلت له: “الأفضل ألا تفهم”. يا للعار!