عرسٌ سوريٌّ: كتابٌ وفيلمٌ لِلاوْرا تانْغِرْلِيني

عرسٌ سوريٌّ: كتابٌ وفيلمٌ لِلاوْرا تانْغِرْلِيني

ليس مجرَّدَ عرسٍ؛ إنَّه سِفرُ رؤيا إنسانيَّةٍ مليئةٍ بالعديد من القصص الصَّغيرة والرَّهيبة التي جمعَتْها لاوْرا تانْغِرْليني بكثيرٍ من الحبِّ والحنان.

هو قصَّة شهر عسلٍ خيريٍّ قامتْ به لاوْرا مع زوجها، المؤلِّف الموسيقيِّ والمغنِّي الرُّومانيِّ ماركو رو، للاستماع إلى أصوات وشهادات اللَّاجئين السُّوريِّين في مخيَّمات لبنان وتركيا.

هو قصَّةُ حُبِّ المؤلِّفة الجارف نحو زوجها من جهةٍ، ونحو سوريا وشعبها من جهةٍ أخرى؛ حُبٍّ مزدوجٍ ترويه لنا بكثيرٍ من النَّشوةِ والعذوبة، وأحياناً بسخريةٍ خفيفةٍ، ولكن في الوقت نفسه، وبطبيعة الحال بسبب الحرب الدَّائرة هناك منذ سنة 2011، بصرامةٍ وإصرارٍ يبغيان رفعَ الحجاب للقارئ عن العواقب الفائقة القسوة التي نجمَتْ عن خراب أرضٍ كانت ذات يومٍ أشبه بفردوسٍ مفقود، عواقبٍ يتظاهر العالَم، الذي هو متواطئٌ في بعض الأحيان ولامُبالٍ في أحيانٍ كثيرةٍ، بعدم رؤيتها.

هذا الرِّبورتاج الذي أعدَّته لاوْرا عن المأساة السُّوريَّة (وهو يوميَّاتُ رحلةٍ، وقبل كلِّ شيءٍ، أضمومةٌ من أقوال وشهادات لاجئين التقَتْ بهم) إنَّما يمثِّل “نافذةً متفرِّدةً وهامَّةً، مفتوحةً على عالَمٍ لطالما عتَّمَتْ عليه وسائل إعلامنا هنا” على حدِّ قول الصَّحفيَّة آنَّا كافِسْتري في معرض حديثها عن هذا العمل.

وكانت لاوْرا، في الأسابيع التي سبقت الزِّفاف، قد حلَّتْ في لبنان لتوثيق حالةِ بلدٍ يرزح تحت مدٍّ مديدٍ من موجاتِ اليائسين السُّوريِّين والفلسطينيِّين الهاربين من الحروب والعنف والدَّمار، فإذا بالعروس المستقبليَّة تتحوَّل إلى شاهدٍ على الظُّروف القاسية والوحشيَّة التي يعيشها اللَّاجئون داخل مخيَّماتٍ أقيمَتْ في بلدٍ يبدو، بموارده المحدودة وبناه التَّحتيَّة غير الكافية، أكثر ترحيباً بالأثرياء والأصحَّاء منه بأولئك البؤساء.

يضمُّ الكتاب الصَّادر بالإيطاليَّة عن منشورات إينفينيتو، والذي يقع في 189 صفحة، توطئةً بقلم جان أنطونيو إسْتِلَّا ومقدِّمةً بقلم كورَّادينو مينْيُو.

وقد قام بإنجاز التَّسجيل الصَّوتيِّ للفيلم الذي حملَ العنوانَ نفسَه “عرسٌ سوريٌّ”، وتضمَّنَ أربع أغانٍ غير منشورةٍ سابقاً، كلٌّ من لاوْرا تانْغِرْليني وزوجها ماركو رو الذي وضعَ بدورِهِ موسيقى جميع أغاني الفيلم وكتب كلماتها (باستثناء اثنتين منها شاركتْه في كتابة كلماتهما زوجته الصَّحفيَّة).

وبالنَّتيجة، فإنَّ ما ينبثق عن هذا العمل المتوقِّدِ عاطفةً وحماساً، بالإضافة إلى حبِّ الكاتبة للشَّعب السُّوريِّ وحزنها على مصيره المضطرب وغير العادل، هو سيناريو دراميٌّ يستصرخُ الضَّمائر الصَّامتة للشُّعوب الأوروبِّيَّة وبقيَّة شعوب العالَم، داعياً إيَّاها إلى الاستيقاظ والعمل لوقف، أو على الأقلِّ لتخفيف هذه المأساة الإنسانيَّة الكبرى.

“بكلماتها الصَّريحة والقاطعة”، يقولُ الصَّحفيُّ كارلو كراكُّو، “تجعلنا لاوْرا جزءاً من تلك الأحداث المشحونة بالعواطف والمشاعر الإنسانيَّة، العامَّة والخاصَّة، صفحةً تِلْوَ صفحة. وهي بذلك إنَّما تسلِّط الضَّوء، مِن أعماق صورةٍ مظلمةٍ ومأساويَّةٍ، على بذور الأمل الثَّمينة المرصودةِ لبناء جسرٍ، مجازيٍّ وملموسٍ في آنٍ واحدٍ، نحو مستقبلٍ أكثر إشراقاً من هذا الحاضر العديم الرَّحمة والقاتم.”

ويواصل: “السُّوريُّون، من لبنان وتركيا، ومن البلدان الأوروبِّيَّة التي وصلوا إليها بشقِّ الأنفس، يحلمون بالعودة إلى ديارهم، إلى سوريا جديدة يعمُّها السَّلام والهدوء والتي لم تعد موجودةً وهي اليوم تكافح من أجل استعادة حقيقتها أو العودة إلى حقيقتها.”

تشرحُ الكاتبةُ أنَّ هذا المشروع، وهو المرحلة الأخير من مسار التَّوعية الذي كانت تقومُ به لسنواتٍ حول مسألة اللَّاجئين السُّوريِّين، في البداية وحدها ككاتبةٍ وصحفيَّةٍ، ثمَّ صحبةَ زوجها كمغنٍّ ومؤلِّفٍ موسيقيٍّ، إنَّما يريدُ أن يعطي وجهاً وصوتاً للكثير من المهمَّشين الذين قابلَتْهم في رحلتيهما إلى تركيا ولبنان بُعَيدَ زفافهما، ذلك الزِّفاف الخيريِّ الذي أرادتْ من خلاله أن تقدِّمَ مساعدةً ملموسةً وسُوَيعاتٍ من التَّرفيه للعديد من اللَّاجئين السُّوريِّين، ومعظمهم من الأيتام.

فعلى وجه الخصوص، تقول، “لقد قدَّمنا قبلَ زفافنا مساعدةً ماليَّةً عن بُعدٍ لمؤمن وهو لاجئٌ سوريٌّ صغيرٌ يتيمُ الأب يعيش الآن في لبنان مع أمِّه واثنين من أخوته الخمسة، ويعاني مشاكل سلوكيَّة بسبب فقدان الأب وصدمة الحرب.

وتهدف تلك المساعدة إلى السَّماح له، ولأخوته أيضاً، بالدِّراسة. وقد التقينا به عندما سافرنا إلى لبنان لقضاء يومٍ معه”.

لاوْرا التي ما إن انتهَتْ شعائرُ زفافها في إيطاليا حتَّى ركبَتْ الطَّائرة مع زوجها، واستثمرَتْ معظمَ هدايا الزِّفاف التي حصلا عليها في شراء القرطاسية ولعب الأطفال وزجاجتَين من المشروبات الباردة مع كعكةٍ كبيرةٍ وخمسٍ وسبعين سترةً شتويَّةً من أنطاكية وحملاها شخصيَّاً إلى الرَّيحانيَّة للأطفال السُّوريِّين نزلاءِ دار الأيتام هناك، تضيفُ قائلةً: “الآن لا نريد التَّوقُّف عند هذا الحدِّ، بل نريد أن نفعل المزيد. نريد من ناحيةٍ أخرى أن نخصِّص عائدات حقوق النَّشر الخاصَّة بهذا المنتَج الأدبيِّ والسَّمعيِّ والبصريِّ لصالحِ مشاريع أخرى تدعم السُّوريِّين.”

من الكتاب:

… ماذا كنت تودُّ أن ترى لو كانت لك عينان ثاقبتان؟ “بودِّي لو أرى حارتي مرَّةً أخرى… فبعد أربع سنواتٍ لم أعد أتذكَّرها جيِّداً… وبودِّي لو أرى ما بقي من بيتنا” كانت عيناه تتلألآن ببريق الذِّكرى، وكذلك كانت عيناي منذ بضع دقائق وأنا أستمع إليه…

… كانت الموسيقى الانتصاريَّة قد بدأتْ بالفِعل، منطلقةً من الصَّناديق المكنونةِ بين زُحلوقةٍ وأرجوحة. الأطفالُ في ملابسهم الاحتفاليَّة يرفعون البالونات الملوَّنة وينتظرون مرور العريسَين. ها قد بدأ عرسُنا السُّوريُّ، بين السُّوريِّين، ولأجل السُّوريِّين…

“… سوريا كلُّها قد تغيَّرَت. منازلُ لا يُحصَى عديدُها قد تهدَّمَت. حتَّى أنَّ أنفاسَ النَّاس هناك قد تغيَّرَتْ، فرائحة الدَّم تبلِّلُ الهواءَ في كلِّ مكان. كلُّ شيءٍ كان جميلاً، كلُّ زاويةٍ، كلُّ شارعٍ، كلُّ زقاق… ما كنتُ لأرحلَ عنها لو أنَّني استطعتُ إلى ذلك سبيلاً…”

“… اتركونا وشأننا. هذا هو ما تحتاج إليه سوريا. إنَّنا أناسٌ طيِّبون، نحبُّ العالَم كلَّه، ولكنَّ العالَم لا يحبُّنا…”

… بعد لحظةٍ من ذلك دخلَتْ إحدى اليتيمات لتعطيني وشاحاً صوفيَّاً يضرب لونه إلى الحُمرة، واحداً من تلك الأوشحة التي كنَّ قد صنعنَها بأيديهنَّ خلال بعض الأنشطة التَّرفيهيَّة. مرَّةً أخرى، تتحرَّك مشاعري بقوَّةٍ لا قِبَلَ لي بها. إنَّها أجمل هديَّةٍ تلقَّيتُها في عرسيَ السُّوريِّ هذا…

“… أتخيَّلُ أنَّني في سوريا، ولكنَّني لا أرى أحداً هناك؛ وحيداً أسيرُ في الشَّوارع الخالية، ذلك أنَّ الجميع قد ماتوا”. مرَّةً أخرى أشعرُ بلكمةٍ عنيفةٍ على معدتي…

* * *

عن لاوْرا تانْغِرْليني: صحفيَّة بدأت مسيرتها المهنيَّة عام 1998. حاصلة على شهادة في علوم الاتِّصال من جامعة لاسابْيِينتزا في روما. وتدير منذ عام 2008 قسمَ الأخبار في قناة راي الإخباريَّة. باحثة في اللُّغة والثَّقافة العربيَّة، تناولَتْ في عملها مراراً وتكراراً الوضعَ في الشَّرق الأوسط، ولا سيَّما المأساة السُّوريَّة التي كتبت عنها ثلاثة كتبٍ هي: “سوريا الهاربة” 2013، وحصلت عنه على جائزة فيودْجي ستوريا، المرتبة الأولى؛ و”لبنان في هاوية الأزمة السُّوريَّة” 2014، وحصلت عنه في عام 2015 على جائزة تشِرُّوليو عن فئة الدِّراسات النَّقديَّة؛ و”عرسٌ سوريٌّ” 2017. كما حصدَت العديد من الجوائز لعملها الصَّحفيِّ والتزامها الأخلاقيِّ تجاه الشَّعب السُّوريِّ.