الميليشيات المحلية الموالية للنظام في سوريا

الميليشيات المحلية الموالية للنظام في سوريا

رغم الضغوطات غير المسبوقة التي تعرض لها الجيش السوري خلال الحرب السورية، على الأقل حتى التدخل الروسي في سبتمبر أيلول عام ٢٠١٥، لم يحدث أن حصل عصيان أو تمرد جماعي داخل صفوفه، ولم تتأثر سلسلة الرتب والقيادات فيه، لكن قابله تطور ظاهرة “التهرب” من أداء الخدمة العسكرية، وبدرجة أقل ظاهرة “الانشقاق” عنه. وتختلف ظاهرة “الانشقاق” التي تنطوي على قضية سياسية ترتبط بتخلّي المرء عن وحدته العسكرية ليقاتل في صفوف المعارضة (دوروثي اوهل، مركز كارينغي، 2015) عن ظاهرة “التهرب” التي تعني فقط عدم الالتحاق بخدمة العلم المفروضة وفق القانون السوري.

وقد قامت المؤسسة العسكرية السورية بتحفيزات اقتصادية في محاولة منها لضبط حالات التهرب من الخدمة، كزيادة رواتب العسكريين خمس مرات خلال سنوات الحرب السبع، لكن هذا الإجراء لم ينجح بسب تجاوز التضخم قيمة الزيادة. فعلى سبيل المثال حتى عام ٢٠١٨ تضاعف راتب المجند السوري أربع أو خمس مرات، في حين انخفضت قيمة الليرة السورية إلى عُشر قيمتها في نفس الفترة مقارنة بعام ٢٠١٠. سعت أيضاً المؤسسة العسكرية مُمثلة بإدارة التوجيه المعنوي في الجيش ردع حالات التهرب عبر خلق رأي عام طائفي يروج لفكرة مصير الأقليات، عززتها ممارسات فعلية للفصائل الإسلامية المعارضة على الأرض.

ساهم هذا الرأي الطائفي جزئياً في ظاهرة “التهرب” والتوجه الى ميليشيات أكثر تعبيراً عن الاصطفاف الطائفي المتزايد خلال الحرب. إن ظاهرة “التهرب” مؤشر لحقيقة جوهرية، وهي أن الشباب السوري ضمن البيئات الموالية) ورغم عدم قناعته بـالثورة (ضد النظام السوري) يحمل في فكره عدم إيمان عميق بالنظام السياسي القائم.

في الحقيقة هذه النقطة هي التي ستسقط النظام السوري مستقبلاً وليست القوة العسكرية التي لم ولن تسقطه. نُشير هنا إلى أن العناصر المتهربة من الخدمة الإلزامية هي متنوعة للغاية من حيث الجغرافيا والطائفة والوضع المادي والاجتماعي والأكاديمي. أما قول إن معظمهم من طائفة “السنّة” فهذا لأن النسبة الأكبر من سكان سوريا هي من هذه الطائفة، بالتالي تنتفي حصرية الصفة الطائفية كسبب للتهرب من الخدمة العسكرية.

بينت الأحداث اللاحقة لانطلاق الأزمة السورية أن آليات اتخاذ القرار كانت بشكل أو بآخر غير دقيقة في تقدير خطط انتشار الجيش السوري وأولويات تنفيذ عمله، وصوابية عدد من مهماته من منظور المصلحة الاستراتيجية العليا. في الواقع كان لدى النظام السوري قناعة شبه مطلقة بأن الوضع في سوريا لن يصل إلى ماوصلت إليه الدول العربية التي أصابها “الربيع العربي”.

وفقاً لهذه القناعة لم تحصل أية مراجعة حقيقية لمكامن الخطأ في بنية ومفاصل الدولة السورية، خاصة الفضاء الاقتصادي ومنظومة البنية المدنية التي تعرضت لأكبر ضرر يمكن أن يتصوره أحد. ورغم أن جنودها أُهمِلوا، ورُمي بهم في بعض الأحيان لقمةً سائغة إلى الموت بقيت المؤسسة العسكرية السورية على مستوى عالي من التماسك. لكن مع نهاية العام الأول من الحرب فُرِض واقع جديد؛ بدأ الشباب السوري يعزف عن الالتحاق بالجيش السوري، قسم منه التحق بـ”الثورة السورية”، وقسم هرب خارج سوريا كلاجئ أو مهاجر، والقسم المتبقي ممن كانوا تحديداً من المناطق الجغرافية التي يسيطر عليها النظام تهربوا بشكل شبه مطلق عن الالتحاق بالخدمة العسكرية. هذا الوضع أدى إلى انخفاض عدد الجيش السوري إلى نحو مئة وعشرين ألف عنصر عام ٢٠١٤، بعدما كان إجمالي عدده يقارب ٣٠٠  ألف قبل الحرب (تشارلز ليستر، مركز بروكينغ الدوحة، 2014). من الناحية النظرية، يمكن القول أنه كان بإمكان الدولة السورية وقتها استدعاء مايقارب ١.٧ مليون مقاتل (جوزف هوليداي، معهد الحرب الاميركي، 2013). لقد احتاج النظام نتيجة نقص العدد في قواته إلى وسائل جديدة لحث الشباب أو من يقدر على حمل السلاح للتطوع، وبما أن الساحل السوري مثل الخزان البشري للنظام بحكم الطائفة وهواجس الأقلية، ابتكر النظام طريقة لحث المتطوعين للانضمام إليه، وهي سحق الاقتصاد الزراعي في ريف هذا الساحل، وتجويع القاعدة الشعبية الريفية الداعمة له، لدفع الشباب الى التطوع في الميليشيات المحلية أو الالتحاق بالخدمة العسكرية مقابل عائد مادي يسد رمق أسرهم. ومن نتائج هذه السياسة أنه قد تم تدمير الدورة الاقتصادية لإنتاج الحمضيات في محافظتي اللاذقية وطرطوس.

ديناميات القوة: نحو الميليشيا المحلية الموالية

لقد أدت عوامل كـ(ضعف الاهتمام بالمقاتل السوري، والتخلي عنه في جبهات القتال، وسرقة مخصصاته الغذائية، وإعطاء ضباط الجيش إجازات له مقابل تخليه عن جزء من راتبه أو راتبه كله) إلى تهرب المجندين من الالتحاق بالجيش السوري النظامي نحو الالتحاق بالميليشيات المحلية، مثل ميليشيات “الدفاع الوطني”، “الألوية الطوعية”، “صقور الصحراء”، “لواء القدس” وغيرها من تلك المحلية، أو من تلك المدعومة من إيران كـ”لواء ذو الفقار”، “لواء أسد الله”، “سرايا الزهراء”، و”حركة حزب الله النجباء”.

نشأت هذه الميليشيات من حيث المبدأ لدعم الجهود العسكرية للجيش السوري، عبر مجموعات محلية خفيفة التسليح، تشكل نوعاً من الدعم الذاتي، مالبثت أن بدأت تتوسع وتقاتل على مساحات شاسعة من سوريا. لكن في العمق، ظهرت هذه الميليشيات بفعل ديناميات اقتصادية واجتماعية خضعت لها شريحة واسعة من المجتمع بسبب الحرب. وقد وجدت العناصر المتطوعة عبر هذه الميليشيات ملاذاً من أي ارتباطات قانونية وسبيلاً للهروب من أداء الخدمة الإلزامية في الجيش النظامي، حيث يُعاني المجند من الإهمال والجوع والاحتفاظ طويل الأمد.

لقد خَلقت هذه الميليشيات بيئة آمنة قائمة على مبدأ التخصص، بمعنى التمييز الحمائي من القانون واكتساب درجة من النفوذ السلطوي، مع العطاءات المادية التي يمكن أن تأتي، إما عن طريق وسائل مشروعة على شكل رواتب نظامية، أو عن طريق وسائل غير مشروعة أصبحت معروفة محلياً في سوريا بظاهرة “التعفيش.” ومن المعروف في الأوساط الشعبية في مناطق عديدة من سوريا أنه تمّ تحديد عشرات الآلاف من عمليات التعفيش الممنهج التي قامت بها عناصر من الميليشيات المحلية، بشكل فردي أو جماعي على خلفيات طائفية كما في حلب الشرقية وريف حماه الشمالي، أو على خلفيات قومية كما في عين العرب وتلّ أبيض وتل تمر، أو على خلفيات عشائرية كما في ريف الميادين وريف البوكمال. وشوهدت علامات فارقة على البيوت المنهوبة تُشير إلى ديانة أو قومية ساكنيها. و تمّت في حالات أخرى سرقة المحاصيل الزراعية كمحاصيل اللوزيات في ريف حمص، والقمح في الشمال السوري، بتنسيق ممنهج لمنظومة عسكرية كاملة.

وخلال الحرب السورية ولحظة سقوط أي بلدة أو قرية بيد الميليشيات المحلية تتم سرقة البيوت والمحال من كل ما يمكن حمله، ثم يتم تفكيك المواد مثل أسلاك الكهرباء، نوافذ الألمنيوم، أبواب الحديد وغيرها من المواد التي يمكن إعادة استخدامها. لاحقاً يتم تحميلها علانية بآليات قد تكون لأشخاص مدنيين لم يشاركوا بالتعفيش، وتباع علانية في أسواق خاصة دون أي محاسبة.

رغم عدم إنكار أن العديد ممن تطوعوا في هذه الميليشيات هم من الشرفاء ومنهم من قدم حياته في المعركة إلا أن هذه  الميليشيات ساهمت إلى حد كبير في تضرر الصورة المعنوية للجيش السوري، وأصبح بعض قيادييها أقوى من سلطة الدولة نفسها، وحصلت بعض الحوادث التي ظهر فيها قادة هذه الميليشيات أكثر نفوذاً من قادة الجيش السوري أنفسهم، مُعززةً بذلك التمايز وردود الفعل بين مجندي الجيش النظامي وبين مجندي هذه الميليشيات من حيث العائد المادي والنفوذ السلطوي. كما أدت هذه الميليشيات الى ارتفاع نسبة الجريمة والفوضى في البلاد. باختصار إن السرديات المافيوية لهذه الميليشيات في محافظتي اللاذقية وحلب يندى لها الجبين، لكن من المهم الإشارة إلى أن هذه الميليشيات ممولة من رجال أعمال وشخصيات اعتبارية عشائرية أو حزبية سورية ومرتبطة بشكل او بآخر بالأجهزة الأمنية.

أفول المليشيات المحلية الموالية

بدأت في مايو\أيار ٢٠١٨ ملامح تغييرات تحصل على الأرض فيما يتعلق بالميليشيات المحلية، إذ توقف صرف رواتب عناصر ميليشيا “الدفاع الوطني” في أغلب قطاعات الغوطة الغربية من دمشق، ورافق ذلك حملة تنقلات وإعفاءات لقادة بعض هذه القطاعات. وتمت أيضاً إزالة حواجز تابعة للجان الشعبية والميليشيات الأخرى غير الرسمية في كل من دمشق وحمص وبقية المدن الرئيسية الأخرى. كما صدر قرار بحلّ بعض هذه الميليشيات وأهمها: ميليشيا أحمد الدرويش وعلي الشلّة في حماه، وسيمون الوكيل وأيمن صيادي في ريف حلب الجنوبي، وسُحبت البطاقات الأمنية من عناصرهم، كذلك ميليشيا “صقور الصحراء” التي كان يتزعمها أيمن جابر الذي سُحبِت منه رخص استيراد وتوزيع الدخان المستورد، وتسود حالياً حالة من القلق عند عناصر هذه الميليشيات حول مصيرهم مستقبلاً.

بالتأكيد حلّ هذه الميليشيات جاء نتيجة جملة من المتغيرات السياسية والعسكرية. فبعد سقوط الغوطة الشرقية تمكن النظام من استلام زمام الأمور ميدانياً، وأصبح له عدد عسكري متوافر، بالتالي لم يعد بحاجة ماسة إلى هذه الميليشيات في ضبط بعض الجغرافيات، أو ضبط الأمن في قطاعات سكنية ومدنية معينة. سياسياً، يبدو أن روسيا قد ضغطت أيضاً على النظام في إطار جملة من الشروط الدولية التي تدعو إلى حل ومحاربة جميع الكيانات العسكرية غير المعترف بها والتي تشمل أيضاً وفق المنظور الغربي الميليشيات المحلية وتلك “الإيرانية” الخارجية الداعمة للنظام.

وترى موسكو وحتى واشنطن أن تحييد الجيش السوري على حساب الميليشيات لن يحقق أي حل سياسي دولي للأزمة السورية، لأن أي قوات دولية سواء كانت بقيادة روسية أم لا، لن تجد جيشاً وطنياً تعتمد عليه لحفظ النظام واستتباب الأمن في أي عملية تهدف لحل سلمي مستقبلاً لسوريا، بل ستجد أمامها كيانات عسكرية غير منضبطة في حالة مشابهة للحالة الليبية.

إن حل الميليشيات يحمل بُعداً اقتصادياً أيضاً يرتبط بإعادة الإعمار، فمن سيمول سيفرض شروطه في أي استثمار، وأهم هذه الشروط حماية هذا التمويل وإلزام الدولة السورية على إصلاح إداري وقانوني شامل يحمي الاستثمارات الخارجية من تعديات محتملة لكيانات عسكرية أو أمنية غير قانونية، في مقدمتها الميليشيات المحلية والمقربة من عائلة النظام السوري المعروفة تاريخياً بوسائلها غير الشرعية في نهب الاقتصاد السوري والتعدي على القوانين، ونفوذها التسلطي على مؤسسات الدولة السورية. وفي بلد تُوصف دولته بالفساد الممنهج والأسطوري، لا عجب أن يلعب قادة الميليشيات العسكرية دوراً مافيوياً رئيسياً في اقتصاد ما بعد الحرب. وتتخوف القيادة الروسية من سيناريو شبيه بنموذج “الحشد الشعبي” في العراق الذي نشأ لأسباب أمنية-عسكرية وتحول لاحقاً الى مؤثر في العملية السياسية. إن سير عملية الإصلاح سيكون مسؤولية الطرف الذي سيتولى قيادة إعادة إعمار سوريا وهو غالباً روسيا لأنها دفعت الكثير لضمان مصالحها في سوريا، ولا تستطيع الميليشيات المحلية الموالية للنظام أن تقف في طريق هذه المصالح الروسية ولاحتى النظام نفسه.