هجرة الموسيقيين السوريين  ٢ من ٢

هجرة الموسيقيين السوريين ٢ من ٢

*تم نشر الجزء الأول من هذه المقالة تحت عنوان “هجرة الموسيقيين السوريين ١ من ٢ موسيقيون هاجروا وفرق اختفت وأصوات لجأت إلى الصمت

 مبدعون في بلاد الاغتراب

الموسيقيون السوريون الذين  أبعدتهم الحرب عن البلاد، والذين ما زالت المسارح السورية تنزف غيابهم وترزح تحت وطأة الفراغ الذين خلفوه، نقلوا خبراتهم الفنية وموسيقاهم إلى بلدان إقامتهم الجديدة، شكلوا فرقاً موسيقية عديدة، متنوعة الأنماط والألوان والخبرات، وصدحت حناجرهم وآلاتهم في المسارح العالمية، فعرّفوا العالم بثقافة سورية الموسيقية وإرثها الفني، وأبرزوا وجهها الحضاري الناصع والمشرق، في وقتٍ كان العالم لا يرى فيها سوى صور الموت والدمار.

فرق موسيقية أوركسترالية

كثيرة هي الفرق الموسيقية السورية الأكاديمية التي ولدت في أوروبا وضمَّت خيرة العازفين المحترفين، من بينها الفرقتين الأضخم: أوركسترا المغتربين السوريين وأوركسترا أورنينا.

أوركسترا المغتربين السوريين“، تأسست في ألمانيا على يد الموسيقي رائد جذبة في عام 2015، وقدمت أولى حفلاتها في العام ذاته. تضم الأوركسترا 60 عازفاً سورياً ، يقيمون في مختلف دول أوروبا، معظمهم ممن غادروا سورية خلال الحرب، من بينهم: جهاد جذبة وهيفرون ميرخان (كمان)، ثائر عيد ورامي الفيصل (فيولا)، صلاح نامق (تشيلو)، رائد جذبة (كونترباص)، ماهر محمود (عود)، لوبانة القنطار (غناء سوبرانو)، بسمة جبر (غناء آلتو) وغيرهم. وتعنى الأوركسترا التي يقودها المايسترو غسان العبود بتقديم الموسيقى السيمفونية والكلاسيكية، كما تمزج بين الأعمال الشرقية والغربية، وتُقدم الموسيقى العربية بقالب أوركسترالي، وقد قدمت العديد من الحفلات في مسارح دول أوربية مختلفة كألمانيا، بلجيكا، السويد، سويسرا، اليونان، فرنسا وغيرها.

وفي مدينة لوكسمبورغ الألمانية تشكلت “أوركسترا أورنينا السورية“، بقيادة المايسترو شفيع بدر الدين، وهو عازف عود ومؤلف موسيقي له عدة مؤلفات موسيقية من بينها “كونشيرتو الناي“. تضم أورنينا عدداً من المغنيين والعازفين السوريين المقيمين في ألمانيا وأمريكا وبعض دول أوروبا، من بينهم: لبانا القنطار، رشا رزق، شادي علي، علي أسعد وأبو غابي (غناء)، وليد خطبا (كمان)، كفاح بدر الدين (تشيلو)، توفيق ميرخان (قانون)، محمد فتيان (ناي)، شام سلوم (عود)، سلمان مبارك (كونترباص) فراس حسن وأمجد سكر (إيقاع) وغيرهم، هذا بالإضافة لمجموعةٍ من مغنيي  الكورال، وعددٍ من الموسيقيين الأوروبيين، كعازفة الكلارينيت سوزان كريتون.

 قدمت الأوركسترا العديد من الأعمال الموسيقية الغنائية والآلية، السورية والعربية، إلى جانب الموشحات والقدود والأعمال التراثية، وذلك عبر كثيرٍ من الحفلات التي أقيمت على مسارح مختلفة، كمسرح برلين  ولوكسمبورغ، والتي حققت حضوراً جماهيرياً مميزاً ولاقت نجاحاً لافتاً، بالإضافة لحجم الانتشار الكبير الذي حققته على مواقع التواصل الاجتماعي.

فرق موسيقية متنوعة

وفي أوروبا أيضاً تشكلت فرقة “مَدّ” السورية، وتتألف من العازفين: فراس شهرستان (قانون) محمد فتيان (ناي)، هشام حمرا (عود)، فراس حسن (إيقاع) ، عبد الهادي ديب (غناء) ، يوناتان سيل (كونترباص). قدمت الفرقة الكثير من الأعمال الموسيقية العربية والسورية، خاصة أغاني التراث والموشحات والقوالب الموسيقية التقليدية كالسماعيات واللونغيات، وقد عرفت العالم بالتراث الموسيقي السوري من خلال الحفلات التي أقامتها في مسارح أوروبية مختلفة.

فرقة “وجد” وتضم مجموعة من الموسيقيين السوريين المقيمين في أوروبا وهم : خالد الحافظ (غناء وإيقاع)، طارق السيد يحيى (عود)، يوسف ناصيف (قانون)، تمام رمضان (ناي)، فواز باقر (كونترباص). تهتم الفرقة بتقديم القطع الموسيقية الآلية الكلاسيكية، إلى جانب فن الموشحات والأعمال السورية التراثية والصوفية، والقدود بشكلها الغزلي والصوفي وغيرها. قدمت الفرقة كثير من الحفلات في مسارح أوروبية مختلفة كفرنسا وبلجيكا.

كما تشكلت أيضاً فرقة “مقام” التي تعنى بتقديم الموسيقى الشرقية والعربية بأسلوب أكاديمي ومعاصر، إلى جانب تقديم القطع التراثية المعاد توزيعها بشكل يُظهر مهارات العازفين، هذا بالإضافة للأعمال الموسيقية الأصيلة التي كُتبت خصيصاً للفرقة.

قدمت الفرقة حفلاتها على كثير من المسارح العالمية من بينها: مسرح البرلمان النمساوي، قاعة موزيك هاوس، ومبنى الأمم المتحدة. وتتألف من العازفين: مياس اليماني، إسلام نور (كمان)، حسن معتز(تشيلو)، حسام حجاج (كونترباص)، جورج أورو (إيقاع).

وفي بريطانيا تشكلت فرقة “London Syrian Ensemble” من قبل مجموعة من الموسيقيين السوريين المقيمين هناك، ومن بينهم، لؤي الحناوي (ناي)، سناء وهبة (قانون)، رحاب عازر (عود)، جمال السقا (إيقاع)، أسامة كيوان وخلود محافظ (غناء)، وغيرهم. وقد قدمت الفرقة نحو عشرين حفلة في أماكن مختلفة في بريطانيا، نقلت من خلالها صوت الموسيقى والأغاني السورية التراثية إلى الجمهور الأوروبي.

ويشكل كل من رحاب عازر وجمال السقا وفجر العبدالله فرقة “تريو زمان ” التي قدمت عدداً من الأعمال الموسيقية الآلية ، العربية والشرقية، في مسارح بريطانية مختلفة.

المغنية السورية همسة منيف أحيت بدورها عدداً من الحفلات في مدينة لندن، حيث تقيم، برفقة عازفين سوريين في أماكن متفرقة، من بينها متحف فيكتوريا وآلبرت، كما شاركت في مهرجان الأمل في مدينة تيمبرج ويلز البريطانية وفي أنشطة وفعاليات موسيقية أخرى.

وفي برلين شكل عازف العود السوري وسيم مقداد ، برفقة ثلاثة عازفين ألمان (كمان، كونترباص، إيقاع)  فرقة Berlin Oriental Quartet” التي مزجت ما بين الموسيقى الشرقية والغربية، كما شارك كعازف مع فرقة   “Berlin Oriental Group” التي تضم عازفين من جنسيات مختلفة وتدمج بين الأنماط والثقافات الموسيقية المختلفة، هذا إلى جانب مشاركته مع الكثير من العازفين الأوروبيين في فعاليات ومهرجانات مختلفة. وخلال إقامته في تركيا عزف وسيم مقداد مع فرقتي “خيال باند” و”صبا بردى” للـموسيقى السورية التركية  قبل انتقاله إلى ألمانيا عام 2016. وقد ضمت الفرقتان عدداً من العازفين السوريين والأتراك، الذين مزجوا بين موسيقى البلدين بطرق توزيع جديدة.

كما تأسست في تركيا مؤسسة “نَفَس للثقافة والفنون”، وتعنى بتقديم الموسيقى السورية والعربية والشرقية إلى جانب تدريسها، وتضم المؤسسة عدداً من الموسيقيين السوريين من بينهم عازف الإيقاع إبراهيم مسلماني، عازف القانون يامن جذبة، وعازف العود عبدالله الأفندي، وغيرهم. ويشكل موسيقيو “نفَس”، إلى جانب كونهم مدرسين، فرقة موسيقية، بقيادة إبراهيم مسلماني، وقد أحيت العديد من الحفلات في مدن تركية مختلفة، قَدمت  من خلالها الكثير من الأعمال التراثية والموشحات والقدود والأعمال الموسيقية الآلية كالسماعيات واللونغيات وغيرها.

كما شكل إبراهيم مسلماني وعازف العود السوري أيمن الجسري -الذي يعمل مدرساً في المعهد العالي للموسيقى في غازي عنتاب – ” ثنائي وجد“، فقدما الكثير من الحفلات في مدن تركيا مختلفة.

وفي لبنان تشكلت فرقة “الصعاليك” على يد مجموعة من الموسيقيين السوريين وهم: منى المرستاني (غناء)، نذير سلامة (غيتار)، سام عبدالله (عود)، عبدالله جطل ومحمد خياطة (إيقاع)، بالإضافة لعازفة الكمان النرويجية إنغر هانيسدال. قدمت الفرقة، بطريقة جديدة، عدداً من الأغاني التراثية القديمة من مختلف الجغرافيا السورية، إلى جانب تقديم بعض الأغاني التي أنتجتها الفرقة، والتي تتحدث عن ظروف الحرب وتحاكي الواقع السوري بطريقة كوميدية ساخرة. وقد أحيت الفرقة عدداً من الحفلات في لبنان، ونشرت معظم أعمالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فحققت مشاهدات كبيرة، ونالت شهرة واسعة.

موسيقيون سوريون عالميون  

برز صوت كثير من الموسيقيين السوريين المحترفين والمتميزين في بلدان الاغتراب فحققوا شهرة عالمية واسعة، وصُنف بعضهم كفنانين عالميين، من بينهم كنان العظمة، عصام رافع، ديمة أورشو، مسلم رحال، فراس شهرستان، خالد الجرماني وغيرهم.

المؤلف وعازف الكلارينيت الشهير كنان العظمة: يقيم في نيويورك، عزف مع أهم الفرق العالمية كأوركسترا نيويورك وأوركسترا سياتل السيمفونية، وأوركسترا الديوان الشرقي الغربي، وغيرها من الفرق. وهو مؤسس وعازف في كثير من الفرق، من بينها، “فرقة كنان العظمة”، “سيتي باند” في نيورك، “نيو ليكيسيا”، وفرقة “طريق الحرير” التي تضم عشرين عازفاً من دول عديدة ذات ثقافات مختلفة. كما عزف مع أهم الموسيقيين العالميين كعازف التشيلو الشهير yoyo ma ، وقدم أعماله في أهم المسارح العالمية من بينها: أوبرا باستيل في باريس، مكتبة الكونغرس في واشنطن، قاعة ألبيرت الملكية في لندن، تشايكوفسكي غراند هول في موسكو. ألَّف العظمة الكثير من الأعمال لآلة الكلارينيت المنفردة، وأعمال للأوركسترا وموسيقى الحجرة، وموسيقى بعض الأفلام السينمائية، وقد حصل على جائزة ” opus ” الكلاسيكية الألمانية لعام 2019 عن ألبومه “uneven sky”.

المؤلفة ومغنية الأوبرا ديما أورشو: شاركت مع أهم الفرق العالمية كفرقة “طريق الحرير” و “Orchestre Royal de Chambre de Wallonie” وفرقة “آلتا ريبا للموسيقى القديمة”. كما شاركت في تسجيل الكثير من الأعمال الموسيقية العالمية كألبوم “Awakening Beyond”، مع خمسة مغنيات عالميات من بينهم مغنية البوب الشهيرة الأمريكية تينا تيرنر، وألبوم  Sing Me Home”” مع فرقة طريق الحرير، والذي حصل على جائزة ” غرامي” كأفضل ألبوم موسيقى من العالم لعام 2017. كما أصدرت قبل نحو عامين ألبوم “هدوة: تهويدات لأحلك الأوقات” هذا إلى جانب تأليفها للكثير من الأعمال الموسيقية الآلية والغنائية.

المؤلف وعازف العود الشهير عصام رافع: أحيا الكثير من الحفلات في أمريكا حيث يقيم، كما شارك مع عازفين مميزين كعازفة الـpipa العالمية  Gao Honq وعازف البيانو العالمي Steven Hobert. كما شكل مع المغنية ديما أورشو وعازف الإيقاع عمر المصفي، المقيمان في أمريكا،  فرقة “ديو تريو” التي تعنى  بتقديم موسيقى الارتجال وقوالب الموسيقى الشرقية والعربية بالإضافة للمؤلفات الخاصة بالفرقة.

المؤلف وعازف العود خالد الجرماني: حقق شهرة واسعة في أوروبا وكرمه راديو فرنسا. عزف مع موسيقيين أوروبيين عالميين كعازف الكلارينيت كلود ميرنيه  وعازف الغيتار سيرج تيسوغي الذي شكل معه ثنائي حمل اسم “مساحة تقاطع”، وسجل معه أربعة ألبومات موسيقية، من بينها ألبوم “كان يا ما كان” . تعتمد معظم أعماله على فكرة الحوار واللقاء مع موسيقيين من جنسيات مختلفة من خلال فن التأليف والارتجال. أصدر مؤخراً ألبوم “منفى” برفقة أخيه عازف الإيقاع مهند الجرماني، وعازف الكونترباص أوليفييه موريه، وقد أنتج له معهد العالم العربي في باريس معظم ألبوماته.

عازف الناي مسلم رحال: يقيم في برشلونا، وهو موسيقي شهير أضاف الكثير لآلة الناي وابتكر أساليب وطرق جديدة في العزف. شارك مع فرق عالمية هامة كـأوركسترا ميتروبولو أمستردام، أوركسترا الفلهارموني في هامبورغ ، morgenland Chamber Orchestra وOrquesta Ciudad de Almeria، كما شارك في كثير من المهرجانات كمهرجان الموسيقى الروحية في فرنسا، وأحيا عدة حفلات مع أهم الفنانين كعازف الكمان العالمي والمايسترو جوردي سافال، والفنان العربي مارسيل خليفة، بالإضافة لمشاركته مع عددٍ من الفنانين السوريين كالفنان كنان العظمة.

عازف القانون فراس شهرستان: وهو موسيقي أظهر مهارات احترافية كبيرة وأبرز قدرات جديدة للآلة. شارك مع كثير من الفرق العالمية كأوركسترا Gulbenkian البرتغالية، وقدم عروضاً للعزف المنفرد بمصاحبة فرق عديدة، كما شارك موسيقاه مع الكثير من العازفين العالميين كعازف الإيقاع الشهير Andrea Piccioni  وعازفة الـ pipa المميزة Wa man، بالإضافة لعازف الإيقاع مارتن هيلبوم، هذا إلى جانب مشاركته مع كثير من الفرق السورية والعربية في أوروبا.

بالرغم من حجم النجاح العالمي والتمييز الكبير اللذين حققهما الموسيقيون السوريون في بلدان الاغتراب، إلا أن ذلك كله جاء على حساب ما خسرته سورية، التي تحتاج اليوم لوجودهم  لكي تتعافى وتستعيد ثراءها وألقها. فهل سيعودون إليها يوماً ما ؟ أم ستبقى عودتهم مجرد حلمٍ تحلمه  المسارح السورية التي طال اشتياقها لصوت موسيقاهم؟

مشاريع موسيقي سوري في المنفى

مشاريع موسيقي سوري في المنفى

أجرت رغد المخلوف لمجلة “الوضع” هذا الحوار مع أبو غابي عن مشاريعه كفنان فلسطيني من مواليد سوريا يعيش في المنفى.

درس الصحافة في سوريا ولكن الظروف في سوريا أجبرته على المغادرة سنة 2013 متجها إلى لبنان، ليبدأ هناك طريق مغاير لما اختاره في سوريا إذ بدأ يخطو في بيروت أولى خطواته باتجاه حلمه بأن يصبح مغنيا محترفا.  تمكن أبو غابي، رغم كل الظروف الصعبة، من إصدار ألبومه الأول ”حجاز حرب“. وكان قد سجل قبلها  أغنية “لولاك” ،مع مجموعة من الموسيقيين المحترفين وتم توزيعها من قبل مغني الراب الفلسطني “أسلوب”. كما سجل مجموعة من الاغاني مع عدة موسيقيين منهم الموزع المصري أحمد عمران. وله تجارب موسيقية  مختلفة إلى أن تمكن مؤخرا من إصدار ألبومه ”حجاز حرب“

Lubana Quntar: The Story of a Syrian Opera Singer in Exile

Lubana Quntar: The Story of a Syrian Opera Singer in Exile

Status host Raghad Al Makhlouf speaks with Lubana Al Quntar, a Syrian opera singer from Suwayda (a Druze stronghold south of Damascus), who had to flee the country because of her political opinions. Al Quntar has lived in the United States since 2011 and describes the difficulties and challenges she faced both personally and professionally in this transition.

 

 

الموسيقى السورية في الحرب…لا بيئة حاضنة ولا حضن وطن

الموسيقى السورية في الحرب…لا بيئة حاضنة ولا حضن وطن

هجرة كبيرة شهدتها سوريا لفرق “الموسيقى الجديدة” التي عرفت فورتها في تنوع اتجاهاتها؛ واختلاف تيارات ملحنيها، والشكل أو القالب الموسيقي الذي عملت عليه كل من هذه الفرق؛ فمنذ عام 1998 كان العديد من المجموعات الموسيقية لشباب وشابات قد درسوا كل أنماط الغناء والعزف على آلات شرقية وغربية في المعهد العالي للموسيقى بدمشق؛ لتظهر فرقة  “كلنا سوا” كأولى هذه التجمعات وأكثرها حضورا؛ وكموسيقى اشتغل أصحابها على فلكلور البلاد؛ من حيث بناء قوالبه اللحنية، واستعاراتها لأنماط الروك والجاز والبوب، والفنك؛ وسواها من الاتجاهات الموسيقية الغربية.

“نوطة، توكسيدو؛ شام إم سيز؛ زودياك؛ إطار شمع، جين، فتت لعبت، أنس أند فريندز، ماظوط، حرارة عالية، مرمر، طويس، حوار” أسماء لفرق سورية تشتت شملها اليوم في ظل حرب دخلت عامها الثامن؛ تاركةً ذكريات تلك الأيام التي كانت تغص بها حدائق دمشق وساحاتها العامة بحفلات ما عرف وقتها  بـ”موسيقى على الطريق” التظاهرة الأضخم التي كانت ترعاها محافظة دمشق.

من حديقة “القشلة” بباب توما، وصولاً إلى ساحة “المسكية” قبالة الجامع الأموي الكبير، ومسرح قلعة دمشق؛ وصولاً إلى حديقة “النعناع” في قلب العاصمة السورية، كان برنامج هذه الفرق يزدهر عاماً بعد عام؛ عاكساً رخاءً ثقافياً وفنياً واجتماعياً؛ وصعوداً مطرداً لنخب موسيقية شابة، أرادت التعبير عن نفسها؛ وبكل حرية؛ ليشتهر عبر هذا الحضور الكثيف العديد من الأصوات من مثل الثنائي ” لينا شاماميان، وباسل رجوب” اللذين أصدرا مبكراً ألبومات مشتركة كان أولها “خمير” و”شآميات” وسواها من الأسطوانات التي راجت بين أوساط الشباب؛ محققةً حضوراً لموسيقى دمجت بين فلكلور المنطقة من أغانٍ ومقطوعات أرمنية وسورية بتوزيع جديد أفاد من قالب الجاز التجريبي؛ أو ما يسمى “الجاز أورينتال”.

وقتها تقدمت أيضاً إلى الواجهة فرقة “نوتة” التي تكونت من عروة صالح- عود، مصعب تركماني- نزار عمران ترومبيت، باسل رجوب – ساكسفون؛ يزن هزيم درامز وعلى الغيتار قصي الدقر الذي يروي عن هذه الفرقة وغيرها من فرق الموسيقى الجديدة في بلاده فيقول لـ(صالون سوريا): “ليست (نوتة) هي الفرقة الوحيدة التي قمنا بتشكيلها فهناك فرقة  (فتت لعبت) التي عزفتُ معها برفقة مؤسسها هانيبال سعد؛ حيث كانت مشروعاً غير ربحياً، وقتها لم نصدر ألبوماً.”

كنا نعزف دون مقابل مادي؛ فقط كان مجرد تأمين عدة صوت ومسرح كافياً لأن نذهب ونعزف في أبعد قرية سورية؛ (فتت لعبت)- يتابع الدقر- كان تعمل على شخصية الموسيقى الفلكلورية مع تماسك للموسيقى الغربية عبر إيقاعات فردية واضحة، أستطيع القول أنها كانت بمثابة الحالة التقدمية من الموسيقى الفلكلورية ولكن بشكل ثيمة ميلودي جديدة.”

اليوم تشتت شمل فرقتنا مثلما تشتت شمل الكثير من الفرق الأخرى- يقول الدقر ويتابع: فرقة (مازوط) التي أسسها رشوان ظاظا مع داني شكري هاجر معظم أفرادها، وفرقة (توكسيدو) التي عملت على نمط (الفنك)- موسيقى الخمسينيات أيضاً لقيت المصير نفسه؛ حيث كانت أول تجمع لرباعي نفخي على كل من آلات الترومبون والترومبيت والساكسفون؛ ورافقتهم على الغيتار أيضاً؛ فيما غنت معنا نور عرقسوسي.”

مغنيات ومغنيون سوريون رافقوا هذه الفرق ولمع نجمهم معها، لكن اليوم لينا شماميان تغني في تركيا، ولبانة قنطار في أميركا؛ و ورشا رزق وأنس أبو قوس ووعد بو حسون وشادي علي في الخارج أيضاً؛ كما توقف مع الحرب فعاليات مهرجان الجاز الذي كان يقام كل صيف على مسرح قلعة دمشق؛ إضافةً لتوقف العديد من الفعاليات التي كانت تحتفي بالموسيقى وجمهورها، لاسيما يوم الموسيقى العالمي الذي كان حدثاً ثقافياً استثنائياً للفرق الجديدة.

هجرة كثيفة ومتوالية حتى لطلاب المعهد العالي للموسيقى؛ تجاوز عددهم مؤخراً الثلاثين طالباً وطالبة، منهم ثمانية في معهد (فاينر) بألمانيا كما يخبرنا مدرّس رفض ذكر اسمه؛ فالأكاديمية الأشهر في سورية والتي تأسست بعد صدور المرسوم التشريعي رقم (28) لعام 1990؛ وهو مرسوم أعطى فكرة جيدة عن اهتمام الدولة بالفن الموسيقي، حيث جاء في نص مادته الثانية “تعليم أصول الغناء الفردي والجماعي، العربي والعالمي وإعداد باحثين موسيقيين وخاصة في الموسيقا العربية.”

الهجرة لم تتوقف على العازفين والمغنيين والطلاب، بل تجاوزتها لتشمل أهم الأساتذة هناك، وأبرزهم الروسي فيكتور بابينكو الذي وافاه الأجل منذ فترة بعد سفره من دمشق؛ وعسكر علي أكبر أستاذ العود الأذربيجاني، ولبانة قنطار مديرة قسم الغناء الشرقي التي تقيم اليوم في أميركا، وأراكس شيكيجيان مدرسة أصول الغناء الأوبرالي؛ مما ترك أثره واضحاً على الحركة الموسيقية الجديدة التي عرفت أول بزوغها على المسارح السورية بتيار “الموسيقى البديلة.”

بالمقابل هناك فِرق لا زالت تصر على حضورها في عز زمن الدم والعبث؛ فالموسيقى والحرب نقيضان لا يمكن أن يعيش الأول في ظل الآخر؛ ومن يستطيع خلق موسيقى لا يقدر أن يكون شريراً . الموسيقى هي تجسيد للغة الحب – يقول الفنان سيمون مريش مؤسس فرقة “زركشة” التي آثرت تقديم حفلاتها اليوم داخل البلاد ويضيف: “المتابع اليوم لحفلات دار الأوبرا يعلم أننا باقون؛ أجل لقد هاجر الكثير من الموسيقيين السوريين ولأسباب متعددة؛ ربما بحثاً عن لقمة عيش؛ أو مكان مناسب لإطلاق مشروع فني؛ أو هرباً من الحرب واللا استقرار؛ وفي حالات أخرى لمتابعة دراستهم.”

تستمر قائمة الأسباب- يعقب الفنان مريش ويضيف: “لا شك أن العمل في حقل الموسيقى في الظرف الذي نعيشه اليوم صعب جداً؛ إن لم يكن مستحيلاً بالنسبة للبعض. لكنني أعتبر نفسي محظوظاً؛ كوني ما زلت أعمل في الموسيقى حتى في هذا الظرف الصعب. دوماً نقول إن الحياة و الأرض التي نعيش عليها أعطتنا الكثير والآن حان الوقت لنردَّ الجميل و نصنع الفرق.”

الفنان رعد خلف ما زال يعمل أيضاً على مشروعه “أوركسترا ماري” والتي قدم سيمون مريش معها مؤخراً حفلين موسيقيين بدار الأوبرا؛ و هو عمل جدير بالمتابعة كون البرنامج القادم سيكون من تحقيق مجموعة من المؤلفات الموسيقية التي استوحاها رعد من الحضارات القديمة مثل حضارة أوغاريت وإيبلا وماري ولكن مكتوبة بقالب جديد.

Coma هو اسم الفرقة التي أسسها كل من قصي الدقر وناريك عبجيان، برفقة المغني ليفون عبجيان؛ والتي استمدت اسمها من ترجمتها الحرفية إلى العربية “الغيبوبة” لكنها أيضاً كما يخبرنا قصي الدقر مدرّس قسم الصوت والتقنيات في المعهد العالي للفنون المسرحية: “Coma ليست فقط غيبوبة؛ بل هي التسمية الحرفية لربع الصوت، أو ربع البعد الذي نشتغل عليه؛ سواء كان هذا الربع بعد أرمني أو بيزنطي أو سرياني أو تركي أو مصري.”

لفرقة ” الغيبوبة” هذه إنجاز لافت على صعيد التعويض في النقص الفادح بعدد العازفين معها، وندرة الحصول على عازفين اليوم في سورية لديهم الخبرة الكافية- يحدثنا الدقر شارحاً عن طبيعة عمل فرقته وتغلبها على هذه الصعاب: “صحيح الحرب أوقفت كل مشاريعنا، طلابي يقولون لي إنهم لم يحضروا حفلاً موسيقياً واحداً منذ دخولهم إلى المعهد؛ لكننا استطعنا في (كوما) أن نعوّض عن ذلك، وذلك عبر لجوئنا إلى نظام برمجي إلكتروني نتعامل معه بشكل تفاعلي حسب الحالة التفاعلية للجمهور؛ فهذا النظام عوضنا عن أربعين دوراً لعازف أو عازفة، متجهين بذلك نحو آلة الغيتار بدون خانات ربع الصوت الشرقي، وبصحبة الفنان ناريك عبجيان على آلة الدودوك الأرمنية، وصوت شقيقه عازف القانون أيضاً الفنان ليفون عبجيان.”

هذا الاشتغال قادنا إلى العمل على رباعيات الخيام – يتابع الدقر ويضيف: ” عملنا أقرب إلى التصويري منه إلى الموسيقي التقليدي، حيث نعتمد على إدخال المستمع أو من يحضر حفلاتنا في عالم من التأمل الخالص، دون أن يكون هناك في عملنا صدمة تجعل هذا الجمهور يستيقظ من حالة التكرار التي نعمل عليها ونطورها طوال فترة الأداء؛ مقتربين من أسلوب الحضرة الصوفية، والتطريب وحلقات الذكر، جنباً إلى جنب مع عرض بصري لأعمال (الفيديو آرت) التي ترافق أدائنا نحن الثلاثة على شاشات عرض حية؛ بينما نغيب على المسرح كحضور؛ أسلوبنا أقرب إلى مدرسة ( سايكا ديليك) إنه يا صديقي السفر عبر الموسيقى، أو قل الطيران دون توقف.”

“الموسيقى في وجه المجزرة” عبارة أطلقها موسيقيون سوريون في سنوات الحرب على مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث بزغت في بعض المدن السورية تجمعات فنية أقامت العديد من الحفلات. المغنية والشاعرة علا حسامو تسرد قصتها هنا بعد إطلاقها لألبوم (صرخة إنسان) احتجاجاً على القتل العبثي؛ والذي وضعت كلماته ولحنتها وغنتها. تقول حسامو: “نعم ربّما توقف الموسيقى المجزرة…أو ربّما على الأقلّ توقف الحقد المتدفّق في العروق؛ ليمرّ بدلاً عنه نهرُ الحبّ ولو للحظات. أو ربّما توقف الموسيقى الرّغبةَ في القتل أمامَ اشتعال الرّغبةِ في الرّقص وفي البكاءِ ومعانقةِ من نحبّ.” وتضيف حسامو: “فكرة ألبوم (صرخة إنسان)  ولدت من هنا تماماً، من قلب الوجع الّذي في أعلى إنسانيّتنا؛ حين نزلت به السياسة وملحقاتها إلى أدنى مستوياته؛ وذلك إثر تجربةٍ عِشتُها ضمن عملي مع شبكة (مبادرون) ومن صلب احتياجٍ عاينتهُ مع زملاءٍ لي في العمل الأهلي، إذ كنت أشارك في ورشة (بناء جسور السلام والتعايش السلمي)، وهي أحد ورشات شبكة (مبادرون التّنموية) الّتي يلتقي فيها ناشطون من مختلف الأطياف والانتماءات السياسية ،الدينية والفكرية؛ يتبادلون قصصهم وجهات نظرهم خلافاتهم واختلافاتهم، يتجادلون ويتبادلون الاتهامات فيظهر الشّرخ الكبير؛ في هذه اللحظة أذكر أنّ مَن كان يتهم الآخر صار يمسح دمعه وبلحظةٍ من الوجع المشترك والإحباط، أمسكنا بأيدي بعضنا وغنّينا وكأن الأغنية لفّتنا بذراع من حبّ وأمل، تحوّلت الاتهامات المتبادلة إلى رقصٍ وودّ، أذكر أننّا صرنا نبحث عن أغنيةٍ تمسّنا وترفع معنوياتنا دون أن تمجّد اسماً أو حزباً أو ديناً. ولم نجد سوى اثنين أو ثلاثة. حينها ارتجلتُ مقطعاً وغنّيته ومذ تلك اللحظة انطلقت بألبوم (صرخة إنسان)، وبتشجيع ودعم (مبادرون) ومنتدى التنمية والثقافة والحوار بدأتُ العمل كتابةً وتلحيناً.”

لكن هل حققت المغنية (حسامو) رغبتها في أن تجعل موسيقاها صرخة في مواجهة الحرب؟ تجيب  المغنية السورية: “لم تصل مبادرتي هذه إلى هدفها الكبير بعد، لكنّها حقّقت أحد أهدافها بأن تتردّد الأغاني على ألسنةِ المؤّيد والمعارض من الشباب السوري… سواء انتمى إلى موالاة أو معارضة، وأن يحسّ كلّ منهما بأنّ أغنياتي تخصّه وتعنيه وتعبّر عنه، وأن يشعر ولو جزئيّاً أنّ على عاتقه مسؤوليّة وقف المجزرة”.

حاجز موسيقي   

الفرق الموسيقية تراجع نشاطها في ظل الحرب، إذ شهدت السنوات السبع الماضية هجرة كبيرة للموسيقيين والمغنيين السوريين، لكنها وبعد مضي الحرب لإتمام دورتها الدموية الكبرى عادت الموسيقى لتقف في وجه الخراب. فرقة (حاجز موسيقي) كانت أبرز هذه الفرق التي أسسها شباب وشابات قدموا حفلاتهم على العديد من مسارح العاصمة، كان آخرها حفلتهم التي قدموها في (دارة الفنون بحي القنوات الدمشقي)  تحت شعار “نحن أحياء وباقون” حيث اشتهرت (حاجز موسيقي) باسمها المشتق من الحواجز العسكرية والأمنية المنتشرة على طول الجغرافيا لطرفي النزاع السوري. الفرقة التي حملت على عاتقها إعادة صياغة التراث وفق تركيبة ما يسمى بموسيقى “الأورينتال جاز” لتقدم أغنيات من قبيل: “هالأسمر اللون” فوق النخل “وين على رام الله” ووفق الاشتغال على مفردات الحرب السورية سواء في الكلمات أو القالب اللحني. مدير الفرقة مجد الزغير قال: “إن (حاجز موسيقي) تهتم بتجديد الأغاني والإضافة عليها؛ فضلاً عن التلحين والتأليف؛ فالفرقة كانت تكتفي بتقديم الحفلات الموسيقية؛ لكنها مؤخراً أضافت فقرات غناء السولو بناء على طلب الجمهور الذي تفاعل مع فريقنا حفلةً بعد حفلة؛ واستمرار (حاجز موسيقي) خاصة في هذه الظروف يؤكد أن الحرب لا بد لها  أن تنتهي و الموسيقى والحياة ستستمر رغم أنف الموت.”

ظاهرة موسيقية لافتة قدمتها الحرب في شوارع دمشق؛ تجلت في (مشروع ومضة) وهو عبارة عن تجمع من الموسيقيين والمسرحيين والمغنين الذين بادروا إلى أسلوب “المسرح الخفي” ودون أي دعم يذكر لهذا المشروع. أعضاء فرقة (ومضة) التقوا على هدف انتشال السوريين من حالة الحرب والموت ولو لدقائق قليلة، حيث قررت الفرقة بمبادرة ذاتية أن تواجه حالة الحرب التي تعيشها بلادهم بالموسيقى والرقص والمسرح والتمثيل، فما تقدمه هذه الفرقة هو شكل من أشكال المسرح التفاعلي، والذي يعتمد نجاحه على المؤدّين والمتلقين في آن معاً، واتكأ مشروع “ومضة” على التجمع الخاطف الذي يقوم على ظهور مجموعة موسيقيين بشكل مفاجئ في مكان عام من مدينة دمشق لتقديم عرض يكون غالباً غير اعتيادي. هنا كان يظهر أعضاء الفريق فجأة في أحد الشوارع أو في مكان ما غير متوقع، في ساعات الذروة ليفاجِئ السوريين ويرسم الأمل على وجوههم، في ظل التفجيرات وقذائف الموت وحصار المدن. اعتمد  فريق (ومضة) على أنواع متعددة من آلات الموسيقى كالقانون والإيقاع، الترومبيت، والغناء. تقول نغم ناعسة وهي من مؤسسي (مشروع ومضة) وأبرز أعضائه: “لطالما كانت القنبلة ومضة، والمدفع ومضة، والتفجير ومضة، والقتل والموت يحدث في ومضة؛ ولطالما كانت هذه الومضات مجتمعة تشكل أبرز مشاهد حياتنا نحن السوريين اليوم، لذا قررنا أن نصنع ونقدّم ومضة إيجابية تجابه وتواجه ما سبق من ومضات شريرة؛ فقررنا أن نصنع ومضة حب، أو ومضة حلم وأمل، أو ومضة فن وموسيقى، وسمينا مشروعنا ومضة؛ ومضة دون بطاقات دعوة، دون مواعيد، نظهر في شوارع المدينة، نغني، نعزف، نرقص، وأحياناً نبكي…” وتضيف ناعسة: “استمر مشروع ومضة في سنوات الحرب الأولى دون داعم مالي أو حتى راع إعلامي، لقد تلقينا وعوداً من كثيرين بتقديم الدعم قبل انطلاق المشروع؛ لكن أحداً لم يفِ بما وعدنا به فتوقفنا اليوم، عندما تحين ساعة العمل والشروع بالتنفيذ ينفض من حولك مَن كانوا يقدمون أنفسهم كرعاة أو ممولين، لكن مشروعنا اعتمد فقط على جهود وخبرات المشاركين فيه وإيمانهم بأهمية ونُبل ما يقدمونه للسوريين كافة.”

إبادة جماعية موسيقية

مقطوعات موسيقية وغنائية كان قد قدمها أيضاً المغني معتز عويتي وفرقته مع نخبة من الموسيقيين السوريين الذين واظبوا على تقديم روائع من أغنيات موسيقى الجاز؛ حيث ساند الفنان عويتي في أمسياته هذه  كل من رفاقه الموسيقيين: “طارق سكيكر؛ مهند السمان ، بلال حمور ، دلامة شهاب، سيمون مريش.” يقول عويتي عن حفلاته: “نحب أنا وفريقي أن نقدم في هذه الظروف نوعاً غنائياً و موسيقياً جديداً و لأول مرة للجمهور؛ إنها مجموعة أغانٍ كان أغلبها لمغني عالمي و جديد اسمه Gregory Porter والمميز بموسيقاه وأغانيه هي المزج بين موسيقى الجاز و البلوز والغاسبل بنفس الوقت؛ وبطريقة جميلة لاقت رواجاً كبيراً في الساحة العالمية؛ إذ أردنا نقل هذا النمط الجديد للجمهور السوري من محبي هذه الموسيقى بدلاً من تقديم موسيقى جاز تقليدية معروفة بالنسبة له.” وأضاف عويتي: “استمرارنا اليوم هو استمرار للحياة التي لا نريد لها أن ترحل عن مسارحنا وشوارعنا؛ فالفرقة الموسيقية التي أعمل معها هم من أفضل الموسيقيين المحترفين ومن القلة القادرين على عزف نمط الجاز الموسيقي المعتمد على أسلوب الارتجال في العزف حيث يتضمن برنامج أمسياتنا عادةً العديد من الفقرات أبرزها أغنية قمت بأدائها وكانت بعنوان: “إبادة جماعية موسيقية.”

فرق كثيرة ما زالت تزاول موسيقاها على الأرض السورية أبرزها اليوم هي فرقة “التخت  الشرقي النسائي” والتي قدمت حفلاتها على مسرح الحمراء، معيدةً الاشتغال على الفلكلور والطرب الشعبي؛ إضافةً لموشحات سيد درويش وصباح فخري وآخرين؛ حيث تتألف هذه الفرقة من خريجات المعهد العالي للموسيقى في الغناء والعزف، واللاتي عملن منذ عام 2003 على تأصيل الغناء والعزف النسائيين؛ معتمداتٍ اليوم على حساسية المرأة إزاء ما يحدث من قتل عبثي وتهجير لآلاف العائلات المشردة؛ حيث تعتبر أعضاء هذه الفرقة الموسيقى بمثابة رحم لحماية ما تبقى من العائلة السورية الهائمة على وجهها في مشرق الأرض ومغربها.

في الحرب أيضاً تتالت الأمسيات الموسيقية والغنائية الشعرية التي تحتفي بمدينة حلب على مسارح دار الأوبرا السورية؛ فاستعادة التراث الحلبي عبر أمسيات الأوبرا، جاء في وقتٍ شهدت فيه عاصمة البلاد الاقتصادية مهرجانات مطوّلة من الدم والاقتتال المتواصل؛ وسقوط يومي لضحايا من المدنيين جراء إمطار القوى المتشددة لمدينة الموشحات بعشرات قذائف الهاون والصواريخ ومدافع جهنم؛ مخلفةً وراءها عشرات الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال؛ في وقتٍ بات الغناء كبيرة الكبائر في عُرف قوى تكفيرية سيطرت في سنوات الحرب المنصرمة على أجزاء كبيرة من أحياء المدينة.

الحفلات التي أحيتها كل من فرق صفوان العابد و  ميادة بسيليس و سمير كويفاتي و(دهب) لعمر سرميني” إضافةً لفرقة (شادي جميل) كانت استثنائية من جهة شمولها لمعجم الطرب الحلبي الأصيل؛ حيث استعاد فيها الجمهور روائع “السماعي من مقام النهاوند” لـ علي الدرويش وصبري المدلل وعمر البطش وصباح فخري أبرز شيوخ الطرب في المدينة.

مهرجان (قوس قزح سوريا) احتفى بدوره بالموسيقى الإثنية والعرقية مقدّماً فرق كردية وآشورية وعربية وأرمنية وشركسية وسريانية على مسرح دار الأوبرا، كان أبرزها فرقة (بارمايا) التي احتفت بأعياد الميلاد ومراسيم الزواج السريانية القديمة، بمصاحبة آلاتها الضاربة في القدم من (زُرنة وطبل وعود) إذ تعتمد على المراسم المؤداة فيها أو الأغنية التي تقوم الرقصة عليها، والتي تأتي هنا كوريث لفنون الميثيولوجيا المتعاقبة من سومرية وفينيقية وأكادية وكلدانية وبابلية وآشورية وآرامية، تمتد بجذورها التاريخية إلى أكثر من خمسة آلاف عام.

المهرجان الذي أنتجته (وزارة الثقافة) وثب خطاه في الحرب بعد ضغط ميزانيته التي بلغت (ثلاثة ملايين وستمائة ألف ليرة سورية- ما يعادل سبعة آلاف دولار$) معظمها ذهب كأجور لإقامة الفرق والإطعام والتنقلات الداخلية لأكثر من مائتين وخمسة وعشرين مشاركاً ومشاركة، حيث استطاعت هذه التظاهرة أن تبلور حضوراً متجدداً لفرق موسيقية شعبية، جاءت إلى عاصمة بلادها من عفرين وحلب والقامشلي والسويداء واللاذقية متحديةً صعوبات ومخاطر تشهدها طرق السفر الداخلية بين المدن السورية.

في ظروف الحرب تراجعت أجور الموسيقيين السوريين مما أثر في قرار مغادرتهم للبلاد واحداً تلو الآخر، فالعازفون داخل سوريا يعيشون من أجورهم لقاء الساعات التدريسية في المعاهد الموسيقية أو العزف مع الفرق المحترفة، فالعازف الواحد يتقاضى على المشاركة في حفل واحد مبلغ وقدره: (25 ألف ليرة سورية- ما يعادل خمسين دولاراً) أما أجور التدريس، فهي ليست أفضل حالاً، ففي المعهد العالي للموسيقى يتقاضى أستاذ الآلة الموسيقية على الساعة الواحدة مبلغاً وقدره: ( 450 ليرة سورية- ما يعادل دولاراً واحداً) و( 120 ليرة- ما يعادل ربع دولار) للساعة في معهد صلحي الوادي. ولغير الخريج ( 80 ليرة- أقل من ربع دولار). المطالبات بزيادة الأجور كانت دائماً تعود لمدراء المعاهد بترشيد الإنفاق وهذا ما عرقل أي أمل أمام موسيقيين يبحثون عن عيش كريم وإنساني.

الموسيقيون السّوريون في نفق الحرب

الموسيقيون السّوريون في نفق الحرب

لم يَكُن صوت آلاتنا يخبو، بل كان يَصدحُ دائماً بالفرحِ والشغف، برفقة أصدقائنا الموسيقيين الكثر. نتنقّل ضمن فرقٍ موسيقية عدة في دمشق ومدنٍ أخرى، تتآلف ألحاننا على خشبات المسارح المختلفة، في الأروقة والمقاهي، في الغاليريهات الفنية والصالونات الثقافية، في الحدائق وعلى أرصفة الطرقات. كان هاتفي لا يهدأ، اتصالات من كلِّ حدبٍ وصوب تدعوني لإحياءِ حفلاتٍ هنا وأمسيات هناك، كانت الموسيقى بالنسبة لنا هي الحياة.

أما اليوم، بعد الحرب، فلم يبقَ في البلاد من عازفي تلك الفرق سوى أنا واثنين من الأصدقاء، وآخر حفلةٍ خجولةٍ أقمناها كانت منذ ستة أشهر، في مقهى صغيرٍ موحشٍ وغريبٍ عنا.

اليوم نجلسُ في حِصارنا، ونتابع أخبار الحفلات التي يقيمها أولئك الرّفاق في لبنان وتركيا وأوروبا وما يحصدونه من نجاح وتطور وانتشار؛ نتابع ذلك بينما نحن الذين آثرنا البقاء في دمشق مازلنا نراوح في مكاننا، وتقتصرُ موسيقانا على بعض السهرات التي نقيمها مع من تبقى من أصدقاءٍ نُدامى، وكلّما زاد الفارقُ بين من في الداخل وبينَ من غادر، يعود السؤال الوجودي اليومي إلى الإلحاح: هل ارتكبنا خطأً في البقاء؟   

لم ينجُ الفن في سوريا من أذى الحرب ولعنتها، فهي تتجلى في كل خطوةٍ لتعرقل المسير نحو أي هدف، لم تكتفِ بقتل معالم الفن وآثاره، بل راحت تحاصر كل من يحاول أن يصنع الفن ويرتقي به، لتشّل حركته، لتقتله أو تلفظه خارج البلاد.

السفر طوق نجاةٍ للموسيقي

في السنوات الماضية أُفرِغت دمشق من أهم فنانيها لتخسر ثروةً فنية كبيرة ستدفع مقابلها فيما بعد أثماناً باهظة. فبينما كانت البلاد تقذف بموسيقييها، كانت دول الخارج تتلقفهم وتحتضنهم ليشكلوا فِرقاً متميزة، من أبرزها (أوركسترا المغتربين السوريين في المانيا وأوركسترا أورنينا) وغيرهما من الفرق التي ضمَّت خيرة العازفين الذين رحلوا لينقذوا فنهم وأنفسهم من الدمار، فمن كان منهم سينجو من القذائف والتفجيرات لن ينجو حتماً من السَوق إلى صفوف الجيش ليحمل سلاحاً عوضاً عن آلته الموسيقية.

صار من النّادر في الآونة الأخيرة أن تجد أحداً من خريجي المعهد العالي للموسيقى يفضل البقاء هنا، باستثناء من كان وحيداً أو معفى من الخدمة العسكرية أو من المستفيدين. كثيرون ركبوا قوارب الموت وعبروا البحر، تاركين آلاتهم خلفهم وحيدة، بعضهم سافر دون أن ينهي دراسته خوفاً من رفض أوراق تأجيله عن الجيش، آخرون سافروا لإقامة الحفلات ولم يعودوا، وكان آخر سفرٍ جماعي ملفت منذ عدة أشهر، عندما سافر عدد من أعضاء أوركسترا الموسيقى العربية في جولة موسيقية إلى أوروبا وتركيا، ولم يعد منهم سوى النصف بينما بقي النصف الآخر في أوروبا طالباً للجوء، والأكثر إيلاماً أن أغلبهم كانوا مدرسين في المعهد العالي.

إذا أردتَ البقاء.. عليكَ أن تصارع القدر دفاعاً عن فنِّك

منذ قرابةَ الشهر، قدِّم لي ولبعض أصدقائي عرضٌ للعزف يوميّاً في أحد مقاهي دمشق القديمة، هذه فرصةٌ لا بأس بها للعودةِ للحياة الموسيقيّة، لكن كيفَ يمكننا قبوله وأحدنا مطلوبٌ للخدمة العسكرية الإلزامية والثاني للخدمة الاحتياطية أما الثالث فيعاني من رهاب الحواجز؟!.. رفضنا العرض كسابقيه من عروض، وأصبحت جميع محاولاتنا في تشكيل فرقةٍ موسيقية أو إحياءٍ حفلٍ ما تبوء بالفشل. رغمَ ذلك، فقد كانت رغبتنا بالقول للجميع إننا ما زلنا ننبض بالموسيقى وإننا على قيد الحياة، أقوى من أيّ ظرف، فلجأ بعضنا للعزف أمام الكاميرا وتسجيل بعض المقطوعات الموسيقية لبثها عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بديلا عن الواقع الحقيقي.

لقد ضاقت المنابر بالعازفين وسُدت في وجوههم الآفاق فحتى العزف في الشارع صار يحتاج إلى موافقةٍ أمنية، ومن كان محظوظاً وبعيداً عن قائمة المطلوبين استطاعَ إقامةَ تجمعات موسيقية خفيفة تقتصر على بعض المقاهي والبارات. وإذا ما انتقلنا إلى المنابر المعنية بالفن كدار الأوبرا والمراكز الثقافية فسنرى أنها أضحَت حكراً على فئةٍ معينة تحكُمها الشللية والحسابات السياسية ومافيات الحروب، فإن لم تكن مؤيداً أو خاضعاً لأصحاب القرار أو مقرباً من السلطة والمتنفذين فلن تحظى أبداً بفرصة العزف هناك، لذا صرنا نجد الكثير من الهواة وغير الأكفاء يعتلون خشبات المسارح بين صفوف الأوركسترا، في حين يحارَب فنانون موهوبون وأكفاء نتيجة لمواقفهم السياسية ولرفضهم الإذعان لسطوة المتنفذين ولخروجهم من دائرة الشللية المقيتة.   

الحواجز تتربص بالموسيقيين

كثيرٌ من الموسيقيين يعانون يومياً من الإهانة والمضايقات حين يعبرون بعض الحواجز المنتشرة في كل مكان، لأسباب مختلفة يرتئيها بعض العناصر من أصحاب العقليات القمعية المتحجرةفقد تعرَّض أحد الموسيقيين للتوقيف لعدة ساعات مع كيل الإهانات والسخرية لأنّ العسكريَّ لم يستسِغ مظهره المختلف وشعره الطّويل ولباسه الخارج عن المألوف، وآخر تعرض للموقف ذاته مع الشتم والتهديد لأنه كان يرتدي قرطاً في أذنه وقد أجبر على خلعه. صديقي عازف التشيلو أوقفه أحد العناصر بلؤم شديد حين رآه يحمل آلته على ظهره وتحدث إليه بسخرية: “ما هذه الخزانة التي تحملها على ظهرك؟ثم سلبه الآلة وراح يتفحصها وهو يتحدث بتهكم واحتقار عن الموسيقيين والموسيقى. في مشهد مشابه أجبر عازف باصون على إخراج آلته من حقيبتها وتركيبها والعزف عليها أمام عناصر الحاجز ليثبت لهم أنها آلة موسيقية بعد أن ظنوها نوعاً من السلاح، بينما اضطر أحد عازفي العود إلى العزف للعناصر الساهرين ليتسلوا قليلا ريثما يقرّرونَ تركه يمضي بسلام.          

فقر في الكوادر التدريسية  

خلال عملي كمدرس موسيقى في عدة معاهد، لاحظت في السنوات الأخيرة أن معظم الإدارات تعتذر عن استقبال أعدادٍ كبيرة من الطلاب، لعدم توفر مدرسين لبعض الآلات المطلوبة، وكثيراً ما تتعرض برامج الحصص للتغيير أو الإلغاء نتيجة التغيُّب المفاجئ للمدرسين الذين يعيشون ظروفاً قلقة وغير مستقرة. فقد يحصل هذا على فرصة سفرٍ مفاجئة فيحزم حقائبه ويرحل، وقد يعتكف ذاك في بيته بعد تبليغه للالتحاق بالخدمة العسكرية. وآخر يجُزَّ به في الجيش بعد أن يقع في قبضة الحواجز. ناهيك عن مأساة الحياة اليومية القاهرة التي يعانونها، كالتنقل في ظروف الازدحام المروري الخانق والتوقف على الحواجز لفترة طويلة قد تُفَوت عليهم مواعيد الدروس.

فراغ كبير خلَّفه غياب الخبرات والكوادر الموسيقية أجبر معظم المعاهد والمراكز التعليمية على الاستعانة بالهواة والطلبة لتأمين كوادرهافأصبح الطالب المتدرّب يدرِّس زملاءه، فلا عجب أن تجد فتاةً في السادسة عشرة تعمل كمدرِّسةٍ لآلة القانون في المعهد الذي كانت تَدرُس فيه، وشاب هاوٍ في العشرين يعمل كمدرسٍ لآلة الكمان، ومدرس آلةٍ ما يدرِّس آلات أخرى لا يجيد العزف عليها، وآخرٌ يُعِّلم أصول الغناء رغم جهله بقواعده، ومن أراد تعلم الموسيقى من الجيل الصاعد فسيكون ضحية للتجارب التي ستمارس عليه.       

هل يستطيع الفنان مقاومة الحرب؟

غالباً ما لعب الفن في الحروب دور بارزاً في تضميد الجراح وكان سلاحاً وطنياً ووثيقةً تاريخية، لكن الحرب في سورية لا تشبه أي حرب، فهي نهرٌ من الحروب. لكن، رغم هول الكوارث والخسائر، مازال بعض الفنانين في سورية يقاومون بشتى السبل لينشروا رسالة الفن والجمال. فبعضهم يقاوم عبر تأليفه لأعمال موسيقية هامة تحاكي الواقع السوري وتعبِّر عن أوجاعه، وبعضهم يرفعُ صوتَ موسيقاه لتصدح متحدّيةً صوت الرصاص فيقيم الحفلات دون كللٍ أو ملل فيما تبقى من أماكن متاحةٍ للفرح، ليُدخِل التفاؤل والأمل إلى قلوب الناس المتعطشة للحياة، وهناك من يقاوم عبر نشر الموسيقى بين الناس وتعليمها لكل راغب، مضحياً بوقته وجهده دون تعبٍ أو تذمر وأحياناً بأجور رمزية أو دون مقابل حتّى. وفي مكان آخر ثمة موسيقيين دخلوا إلى عمق المعاناة فتوجه بعضهم إلى مراكز الإيواء لنشر الفن والموسيقى بين أوساط الأطفال النازحين لتمكينهم من تعلم وتذوق الموسيقى وحفظ الأغاني واختراع آلات موسيقية بسيطة من مواد متاحة وغير مكلفة، ليبقوا على تواصل مع الفن. كما قام موسيقيون آخرون بجمع الأطفال المشردين من الشوارع ليقيموا لهم ورشات تعليمية ترفيهية تنسيهم مرارة الحرب وتزرع في أرواحهم شيئاً من الجمال والفرح. ولعل المقاومة الأهم تتجلى في بقاء كثير من الموسيقيين في البلاد رغم مغريات السفر المتكررة، فيكفي أن آلاتهم ما زالت تنبض بالحياة وتقف في وجه وحشية السلاح، ويكفي أنهم مازالوا يمدّون البلاد بطاقاتٍ من الحب والسلام بعد أن تحولت إلى ساحة للقتل والدمار.        

لم تكن الموسيقى السورية في أوجها قبل الحرب، بل لطالما كانت تعاني من أزمة فقدان الهوية الواضحة والبصمة الفريدة، وكانت تتخبط في خضم البحث عن أصالتها في عصر ساده الانحلال والانحطاط الفني على كافة الأصعدة، ولكنها اليوم في ظل الحرب تواجه وستواجه صراعات وتحديات مريرة فقط لكي تتعافى ولتعود، على الأقل، إلى حيث كانت من قبل. فالفن في الحرب هو أول من يمرض وآخر من يتعافى.