رحيل صباح فخري… غنى دون استراحة

رحيل صباح فخري… غنى دون استراحة

رحل امس “عمود الطرب العربي الاصيل”، صباح فخري، عمر ناهز 88 سنة، امضاها في الغناء والابداع الاسطوري… الى حد انه ذات مرة غنى في شكل متواصل لعشر ساعات.
ولد صباح الدين أبو قوس، وهم الاسم الحقيقي لصباح فخري، في العام 1933 في حلب القديمة حيث كان محاطا بشيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية، حيث اعتاد والده اصطحابه صغيرا إلى جامع الأطروش في الحارة القريبة حيث تقام حلقات الذكر والانشاد.
وفي باب النيرب كانت له أول حلقة إنشاد، وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره، وغنى أولى القصائد أمام الملأ والتي تقول: “مقلتي قد نلت كل الأرب، هذه أنوار طه العربي، هذه الأنوار ظهرت، وبدت من خلف تلك الحُجب”. وكان تمكن من ختم القرآن وتلاوة سوره في جوامع حلب وحلقات النقشبندية مفتتحا أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي أحد أبرز مشايخ الموسيقى. وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد من خلال مجالسته كبار منشدي الطرب الأصيل واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي “السمّيعة” الذين يتمتعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينيات القرن الماضي.
التحق بالمدرسة الحكومية الحمدانية في حلب وهناك برز تفوقه كتلميذ يشارك في المهرجانات السنوية للمدرسة. ويروي كتاب “صباح فخري سيرة وتراث” للكاتبة السورية شدا نصار أبرز مراحل حياة فخري على مدى عقود حيث تقول إن الفنان سامي الشوا تعهده بالرعاية وغير اسم الفنان الناشئ إلى “محمد صباح” واصطحبه معه في جولات غنائية بالمحافظات. ولم يكد محمد صباح يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي خلال زيارته إلى حلب عام 1946 ما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب، حسب تقرير لوكالة الصحافة الالمانية، كتبته ليلى بسام.
بمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش، وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يتجاوز 14 عاما وكانت أنشودة: “يا رايحين لبيت الله / مع السلامة وألف سلام / مبروك عليك يا عبدالله / يا قاصد كعبة الإسلام).
انتقال حنجرة فخري من الصبا إلى الشباب تسبب في حشرجة فاجأت صاحبها وصعقت خبراء الغناء، إذ يقول الكتاب إن هرمونات الرجولة غيرت من طبيعة صوته وتكوين حنجرته الذي بدا كالمبحوح. وتقول نصار: “لعبت الحالة النفسية لصباح دورها السلبي. كلما حاول أن يرفع عقيرته للغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته. إنه ليس صوتي.. لست أنا ما الذي حصل؟ كلها تساؤلات كان يضج بها رأس الشاب الذي بدأ يشعر بفقدان أغلى ما وهبه إياه الخالق”.
وفي سن الخامسة عشرة أطبق صباح فخري على صوته واعتزل الغناء مكرها فراح يبحث عن لقمة عيشه في الترحال بين قرى ريف حلب إلى أن التحق بخدمة العلم عندما أصبح شابا يافعا. ومع “اكتمال رجولته تبلورت حنجرته واكتمل تكوينها لتعيد للكنز الدفين تألقه وعاد صوت صباح فخري الرجل يشق لنفسه مكانا بين ذكريات سنين المراهقة في أحياء حلب وبيوتها”.
جاء الى دمشق للانتقال الى القاهرة سعيا لصقل موهبته. لكن السياسي المخضرم فخري البارودي غير حياته، حيث اعجب بصوته. دخل القصر الجمهوري فتىً يافعاً وفقيراً في أربعينيات القرن الماضي، يحمل تحت ابطه سجادة صلاة، بطلب من زعيم دمشق وراعي فنونها الراحل فخري البارودي، الذي تبناه فنياً وأعطاه اسمه “فخري” بدلاً من اسمه الحقيقي “صباح الدين أبو قوس”، حسب مؤرخين سوريين.
أطرب الرئيس شكري القوتلي يومها، وتكرر ظهوره في عرس احدى بناته، ثم عندما أذن أمام الرئيس القوتلي ونظيره المصري جمال عبد الناصر في حلب، خلال زيارة الزعيمين إلى جامع جمال عبد الناصر في حي الكلاسة. لم يترك عاصمة عربية إلا ومر بها منذ ذلك التاريخ، تاركاً بصمات ما زالت واضحة في مخيلة كل من حضر حفلاته.
ذات يوم، سال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عن “الأراصية” التي طالما غنى عنها صباح فخري، وعند زيارته دمشق، طلب أن يستمع اليه شخصياً بعد أن قدم له الأراصية. ثم بدأ بالغناء، فوقف عبد الوهاب حينها وطلب من الحاضرين الوقوف قائلاً: “احتراماً لهذا الصوت الرخيم، عليكم جميعاً أن تقفوا معي!” كانت أم كلثوم تطلب من أصدقائها كلما زاروا سوريا: “والنبي، عاوزة كاسيت لصباح فخري.”
عاش فخري أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق مع المطربة اللبنانية صباح. كما غنى صباح فخري “نغم الأمس” مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري حيث سجل ما يقرب من 160 لحنا ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال وقد حافظ على التراث الموسيقي العربي الذي تتفرد وتشتهر به حلب. كما تلى أسماء الله الحسنى مع الفنان السوري عبد الرحمن آل رشي والفنانة منى واصف والفنان وزيناتي قدسية.
وقف في عام 1974 أمام الفنانة وردة الجزائرية بطلا لمسلسل “الوادي الكبير” الذي تم تصويره في لبنان.
تقلد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة عام 2007 “تقديراً لفنه وجهده في الحفاظ على الفن العربي الأصيل ولرفعه راية استمرارية التراث الفني العربي الأصيل” كما جاء في منشور التكريم. وشغل مناصب عدة بينها نقيب الفنانين في سوريا لأكثر من دورة ثم نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب كما انتخب عضوا في مجلس الشعب السوري في دورته التشريعية السابعة لعام 1998.
رحل المطرب، الذي سجل رقما قياسيا من خلال غنائه على المسرح مدة تتجاوز عشر ساعات متواصلة دون استراحة في مدينة كراكاس الفنزولية عام 1968.

ثلاثُ قصائد

ثلاثُ قصائد

سَقْسَقَةٌ

 

من غابةٍ إلى غابةٍ، من شجرةٍ إلى شجرةٍ، من غصنٍ

إلى غصنٍ أنصِتِي جيِّـداً! — من حَنْجَرَةِ هازجةِ

الزَّيتونِ إلى حَنْجَرَةِ قُبَّرةِ الشَّواطئ، من حَنْجَرَةِ قُبَّرةِ

الشَّواطـئ إلى حَنْجَرَةِ جُشْـنَةِ الغَيْـط، مـن حَنْجَرَةِ

جُشْـنَةِ الغَيْـطِ إلى حَنْجَرَةِ عـصـفـورِ الشَّـوك، مـن

حَنْجَرَةِ عصفورِ الشَّوكِ إلى حَنْجَرَةِ أبي حنَّاءالأحراش

الأحمر، مـن حَنْجَرَةِ أبـي حنَّاء الأحراش الأحمر إلى

حَنْجَرَةِ سُمـنةِ الصُّخور الزَّرقاء، مـن حَنْجَرَةِ سُمـنةِ

الصُّخـور الزَّرقـاء إلى حَنْجَرَةِ نِمْـنِـمَـةِ الشَّـجر، مـن

حَنْجَرَةِ نِمْنِمَةِ الشَّجر إلى حَنْجَرَةِ نُقشارةِ الجبال، من

حَـنْجَـرَةِ نُـقـشـارةِ الـجبـال إلى حَـنْجَـرَةِ قُـرقُــفِ

المستنقعات، مـن حَنْجَرَةِ قُـرقُـفِ المستنقعات إلى

حَنْجَرَةِ الصُّفَير الذَّهبيِّ، من حَنْجَرَةِ الصُّفَير الذَّهبيِّ

إلى حَـنْجَـرَةِ زرزورِ سُـقَطـرى، مـن حَنْجَـرَةِ زرزورِ

سُـقَطـرى إلى حَنْجَرَةِ زُمَيرِ الثُّلوج، مـن حَنْجَرَةِ زُمَيرِ

الثُّلوج إلى حَنْجَرَةِ شَرْشُورِ الكرز، من حَنْجَرَةِ شَرْشُورِ

الكـرز إلى حَـنْجَرَةِ دُرْسَـةِ القصـب، حَـنْجَرَةِ دُرْسَـةِ

القصـب إلى حَنْجَرَةِ الحسُّـون الأخضـر أردِّدُ

بحناجر كلِّ المجنَّحات

أحبُّكِ

أحبُّكِ

أحبُّكِ.

 

*

 

قنديلٌ

 

ربَّما في سَهْلٍ بعيدٍ

حرَّكَتْ ريحٌ خفيفةٌ زهرةَ دِرْيَاسٍ ثُمانيَّةِ البتلات.

ربَّما في أجمةٍ بعيدةٍ

حرَّكَتْ ريحُ زهرةِ الدِّرياسِ رموشَ مُوظٍ حزين.

ربَّما في مستنقعٍ بعيدٍ

حرَّكَتْ ريحُ المُوظِ ريشَ لقلقٍ أصفرِ المنقار.

ربَّما في خليجٍ بعيدٍ

حرَّكَتْ ريحُ اللَّقلقِ شراعَ زورقٍ أزرق.

ربَّما في نافذةٍ بعيدةٍ

حرَّكَتْ ريحُ الزَّورقِ أهدابَ ستارةٍ بيضاء.

ربَّما في حديقةٍ بعيدةٍ

حرَّكَتْ ريحُ السِّتارةِ شَعْرَ امرأةٍ وحيدة.

ربَّما في غرفتي الآنَ

حرَّكَتْ ريحُ زهرةِ الدِّرْياسِ والمُوْظِ

واللَّقلقِ والزَّورقِ والسِّتارةِ والمرأةِ

 شعلةَ قنديلي وأطفأتْها.

 

*

 

مَلَنْخُوليا

 

القمرُ على الدَّرجات الحجريَّة المهجورة

أصيصُ حبقٍ منسيٌّ أيضاً

قطٌّ خَدِرٌ 

  حفيفُ 

   نَقْلِ

    نِعَالِ

       كآبتي

   في صعودها ونزولها.

 

 

 

 

 

 

الدُّمى

الدُّمى

” بعد أن تَسقط الفراشة، يختلج اللَّهب قليلاً ثم يشبُّ. قشعريرةُ الندمِ تمرينٌ منشِّطٌ لكلِّ قاتِل.”

مزّقتُ الصفحتين. إنّ ما أكتبه قُرب الموقد بعيدٌ عن الشِّعر بُعدَ المتنزّهِ عن الغريق.

نُسقى العتمةَ بجرعاتٍ دقيقة. تتوسع الأحداق لتلبّي وظائفَ أخرى غير الرؤية. نحوم حول النيران لا لنَدفأَ بل لنطارد الأخيلة ونراقص أنسام الذكرى. تَخْدَرُ أيدينا بين الأزرار والشاشات كي نَقْنع أنّ الجلوس ارتحالٌ والظلامَ معرفة. تكتسب أصواتنا، يوماً بعد يوم، بحّةَ الأسرى الرتيبة، مترددةً في المجال المتوسط بين غمغماتِ الناجين من الزلزال وصراخِ المجروفين بالسيل.

تخجلنا الفرحة حين يعود التيّار، نكاد من شدة التقوّس أن نسجد لوليِّ نعمة الكهرباء. نكتشف أن أيامنا مقسومة بين شوطين: التزاحم على الخروج من الكهف كي نلعن وحشتَه، والتباري على العودة إليه لإكمالِ زخرفتِه.

ثم نتناسى. لدينا غرائز لا تلبَّى إلا في النور، وأخرى لا بدَّ من تأجيلها كي تستعر وتُسْكِر حين يعمُّ الظلام.

إننا مصفوفون على الحبال، مدهونون بكل ألوان الطيف. فلْيَعرِضْ محرِّكُ الدمى ما يشاء.

لكنْ. هناك، في الشارع، تحت المصابيح تصطخب الحقائق.

تَطمر الجبّالةُ آخِرَ بستانٍ، لينهضَ البرج مسوَّراً بالنباح، متباهياً بما جنتْهُ السياط.

يومئ الصائغ للسيدة الواقفة خلف الميزان أن تخلع إسوارةً أخرى، وهو يهاتف الشبحَ الممسك بخناقِ ابنِها.

تنهال الملامات على عامل الفرن لأنه انشغل عن تقليب الفطائر باستقبال من جاؤوا يهنئونه بماجستير الهندسة.

ستقول يا صديقي: ( إن هذا بعيدٌ أيضاً عن الشِّعر، إن الشعر كشفٌ للغامض وصبوةٌ إلى البعيد وارتقاءٌ للمطلَق.)

أزِحْ هذا السقفَ المطبق عن أضلاعي، واسرحْ ما شئتَ في براري الصوَر.

اغمرني بالنور، وهنيئاً لك اللَّهوُ بشبّابات الظلام.

جِدْ لي ينبوعاً أرتمي فيه، ومبارَكةٌ عليك مواويلُ الظمأ.

أربع قصائد

أربع قصائد

أربع قصائد


زجاجة

مومسٌ أنا
أصعد بيتي
بأنفاس مركب يغرق
اللسعات النيئة
الليل المغرم بالضحايا.
أيها الشمع الحر في موتك
هل أنرت لي هذه السلالم؟
في قلبي رجل ميت
وفي عيني أهلي
وها هو المهرّب العجوز
بسن منخور وشعر أحمر
يريد رقم جواز سفري كي أعبر
وأنا أريد أن أشرب
أريد أن ألبس
أريد أن أكتب.
أيتها الظلال المغشوشة
علميني كيف أصل النبع
وفي دمي ألف جثة
وألف إناء مكسور
علميني أيتها الأعماق
كيف أموت دون فقاعات.
أحبك أيها الليل المضني
وأحب رائحتي تحت إبطك
لكنني أريد ان أحبو
أن ألمس البهجة من جذورها
كيف تتسلق الضوء
ثم تتنشر دخانا رماديا بين الصخور….

الدمع البني

الخريف يقبلني
وفمكَ الإفريقي يقطع قرطي الأزرق.
كان للرصاصة مأوى في قلبي
ان للوسادة تفاح بين نهديَّ
وكان للجدران أم وأب يدقان صورهما مع لحمي
فأنا يتيمة ووحيدة وبلهاء
أفتح نافذتي لأعدائي، للمجانين
ثم أمرض من وجع الحنين.
الآن وأنا ألعق أصابع قدميكَ
وأنا أمارس الجنس مع دمعكَ البني
لم يعد في قفصي الصدري أثر للسنونو
والمناديل في ظهري ذابت مع صفير القطارات.
لقد تركتُ بيتي
وهجرتُ سيرتي قبل أن تصير قفلا
ودّعْتُ أصدقائي قبل أن يقتلوني
ورسمتُ سكينا في الهواء
وها هو المساء يا جسدي
طاولة خشبية تطل على الفناء
الفناء الذي أرغب أن يمحو ضالتي
بيوت وشجرة صنوبر
ورجل يحب أن يرى عيني بالأبيض والأسود.

انتظار

تعال إليَّ
أنا شهيةٌ هذا المساء
وأشعر بأن القمر بين فخذي
يضيء دون دموع.
إنها الحواس المؤجلة لبناء الكوخ
لزرع سنديانة
لقبلة على حافة النهر
أتدري في أي حانة تعيش أعشابي الضارة؟
هل تعلم عن دقات عظامي في العتبات؟
عن لسان رطب ملّ تخيلاتي؟
أرجوك تعال إليّ هذا المساء.
لن نتزوج
لن نشعل شمعة
لن أقلب ألبوم صوري فوق قدميك.
أريد فقط
أن أفتح لك هذا الباب
وأراك تعبر العتبة
تعبرني
وتدخل بيتي.                                                                                

البيانو

شجرة الميلاد في بيت عازف البيانو تضيء الشرفة
والشرفة تضيء نفسها.
عازف البيانو نائم الآن
وأضواء الشجرة تحتفل وحيدة
بتكرار وحيد
بمرور سنة جديدة
فتات نجمة ومطر وعيني
هيه أيتها الشرفة كم عمرك
هل لديك أطفال
من أين مدينة أتيت
ما اسم أمك
هل يؤلمك هذا الشارع كما يؤلمني الحنين؟
أيتها الشرفة
هل نام عازف البيانو قبل أن يضاجعك؟
أيتها الشرفة
أزيلي هذه الثياب المعلقة على حبل الغسيل
وأنا سأتعرى أمام النافذة الآن.
تعالي كي أمص حزنك إلى أن تنهاري وتسقطي
حتى أعود وألملم حطامك في حطامي وأصير شرفة
وتصيري امرأة تهوى تصوير حمالة نهديها على حبل الغسيل.
يا شرفة عازف البيانو
تعالي وصيري امرأة
وأكون أنا حطامك العالي
حافة لسجائر عازف البيانو وكلبه المسن
وزهرة الصابر الميتة تلك.

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.

نسْرُ لحظةٍ عابرة

نسْرُ لحظةٍ عابرة

نهايات

 استيقظْ.

أَتَسْمَعُ صفيرَ القطارات في حلمكَ؟

استيقظْ

ثمة سفينةٌ في المرفأ

طائرةٌ في المطار

سيارةٌ أمام الباب.

استيقظْ.

حقيبتكَ قرب الفراش

حين تُمْسك بها يدكَ وترفعها

لن تمتلك الوقت

كي تتذكّر حياتك السابقة.

هكذا كانت الأصواتُ تتحدث في داخله

بلغاتها الكثيرة

في مدينةٍ يمرُّ فيها الآلافُ كلّ يوم

تُروى قصصُ الآلاف كل يوم

تصبح اللغة فيها بحراً

تندفع أمواج كلماته كل يوم

إلى نهاياتها في الزبد.

صوت الريح

ثمة شيءٌ في الحجر

يذكّرني بنفسي.

أحياناً يتحدّثُ معي

وحين أصغي

لا أسمع إلا صوتَ الريح.

حجر

حجرٌ رماه المدُّ فوق الرمال

وغسله الضوء بمائه.

لم يومئ لي

لم يفتح حديثاً معي.

كان غارقاً في صلابته

منشغلاً بهموم من نوع آخر.

تمنيتُ أن أريحه منها

أن أمنحه لحظة اعتراف

وأصبح كاهن لحظته

لكن الحجر لم يكترث

كنت أنا الذي شعر به

حميمياً، قريباً مني

كما لو أنني أعانقه وأصغي إليه

وهو يقول لي:

تمسّكْ

تمسك بما بين ذراعيكَ

طالما أنت تسير على هذه الشاطئ.

قبور الأبناء

نتدافعُ في نفقٍ.

الضوءُ كان هنا

أو هكذا ظننا

وحين لم نتبيّن طريقنا

شعرنا أن الظلام يخرجُ من أعيننا.

ويتغذّى بأنفاسنا.

أمامنا لم تبنْ منعطفاتٌ

كان الطريقُ مستقيماً كرمحٍ

أو كسبطانة بندقية

في نهايته

لا يلوح ضوء في الأفق

لا شيء ينتظر أو يغوي

وإذا كان هناك شيء

فهو هناك

لأنه هناك.

كنا نضع أيدينا في جيوبنا

كما لو أنا نتحسّس

ذكرى معدن

أودعنا فيه أرواحنا

وبقيت سبائكه في الخزائن.

وفي الأمكنة الخالية

حيث سبق أن تعالت أصواتُنا أو ضحكاتنا

كان الهواء مسكوناً بما صنعناه بأيدينا

ونحن نحفر قبور أبنائنا

الذين لم يولدوا بعد.


نسْر
 لحظة عابرة

-1-

حين يفردُ النَسْرُ جناحيه

يأوي إليهما الضوءُ

كأنهما وطنٌ.

-2-

لم أرَ النسور إلا حين

غادرتُ مَسْقط رأسي.

تمنيت لو أن عينيْ طفولتي

سافرتا في أفق أجنحتها.

-3-

أحياناً تضيقُ السماء

على جناحيْ النسر.

-4-

في سماوات صدْره

يحلّقُ قلبُ العاشق كنسرٍ.

-5-

الذين لا يفرحون لمن يمتلك جناحين

يعيشون في الأقفاص.

-6-

كنْ نسراً في فضاء حياتكَ

لا تتوقَّفْ عن التحليق

نحو الذروات التي في داخلك.

-7-

أحبُّ الذين يحلقون بأجنحة الكلمات

الألحان

الألوان

لأنهم يشحنون الفضاء

بضوء الأجنحة.

-8-

نَسْرَ لحظةٍ عابرة

أسمّي نفسي وأنا أحلّقُ إليكِ

في بدايات الحب.

-9-

في بدايات الحب

تكون السماوات بلا نهاية

وَعْداً بضوءٍ يُسْكر الجناحين.

شجرة النار

-1-

لا تفكّر الوردةُ لمن تمنح عطرها

لا تبيعُ ولا تشتري.

كذلك الأشجارُ والينابيع.

-2-

القلبُ المليء بالحب

لا يعيش في الصدر فقط

بل يخفقُ في الأشياء كلها.

-3-

لا يأتي الحب من الشرق أو الغرب

من الشمال أو الجنوب

من الأعلى أو الأسفل

يشرقُ من الأعماق

ويوزّع ضوءه على الجهات.

-4-

الشجرةُ التي صارت حطباً في الموقد

تولد أغصانُها وأوراقُها وتموتُ في ألسنة اللهب

التي تصنع شجرة النار.

أغصانُ شجرة النار لا تعرف أنها ستنطفئ

لا تعرفُ شيئاً عن الرماد

تعيش حياتها إلى النهاية فحسب.


لغة
 الأشياء

-1-

المصباحُ المطفأ

المتدلي من السقف

يضيء الظلمة.

-2-

الشمعة تذوبُ على طاولتي

تصنع أشكالاً.

ذوبانُها نحّات.

-3-

كلبٌ يعوي

يخرج صوت العواء من فمه

كما يخرج صوت الكلام

من فم خطيبٍ على المنبر.

-4-

اللوحة المعلقة على الجدار

بابٌ دخل منه الرسام إلى نفسه

اللوحة المعلقة على الجدار

باب غادرتُ منه نفسي.

بدايةُ طريق المنفى.

-5-

العناقيد المتدليةُ من الدالية سماءٌ سوداء

حين يأتيكَ جوهرُها في كأسٍ

يُوسِّع السماء الزرقاء.

-6-

حين أسوق السيارة

وأكون وراء عجلة القيادة

أشعر أنني حيوانٌ معدني.

-7-

ما الذي يجعل العينين تتوهّجان:

إعجابهما بالشيء،

أم رغبتهما بامتلاكه؟

-4-

هل رأيتَ جثة الفرح محنطة؟

أنا رأيتُ قوماً

صنعوا إلههم من الكآبة

وقدموا فرحهم قرباناً له.

-5-

رسمتُ اليومَ لوحةً بعينيَّ،

تأملت الضوء وهو يغمر جناحيْ طائر البجع،

أو راقبت طائر البجع يغمس جناحيه في محبرة الشمس

ويكتب قصيدة الرحيل.

-6-

غادرتُ مدينتي منذ تسع سنوات.

حين أنظر إلى الخلف أقول:

كانت حياتي تزهر أحياناً

وفي كثير من الأحيان كانت

كمثل الغبار الذي يتوضع على الأشياء.

-7-

أوراقُ نَعْيٍ فوق بعضها

المدينةُ جداريةٌ للموت.

-8-

حجرٌ على الشاطئ

أحياناً يستعير لمعانه من الماء والضوء

في أحيان أخرى يستعير لحافاً من الزبد.

-9-

شمعةٌ على الطاولة

لا تملك شيئاً تقدمه للنهار.


في
 سان فرانسيسكو

في سان فرانسيسكو

لم تعد القصيدة تتجوّل في الشوارع

لم تعد تجلس في المقاهي

أو تبتسم للمشردين

الذين ينامون على أرصفة لامبالاتها.

لم تعد تمضي لياليها في البارات

أو تسير فوق الجسور

وهي تطارد بعينيها الشعاع فوق البنايات.

لم تعد تنظر في عينيْ العالم

لم تعد تكترث بقراءتهما

لم يعد يهمها انتشال الكلمات

من الآبار

حيث تسقط الأشياء سهواً أو عمداً.

في سان فرانسيسكو

يمرّ الضوء كلّ يوم

كسائق قطار على خط ثابت

ينهي نوبته جيئة وذهاباً

والبشر يخرجون من الأبواب ويدخلون

موجةً بشرية لا تكفّ عن التجمع والتلاشي

في بحر العمل.

في شقةٍ ما

أو قبْوٍ ما

تدخّن القصيدة سيجارة ماريجوانا

أو تحقن وريدها

أو تُفْرغ زجاجةً أخرى

في محاولة يائسة لسبْر وحدتها

بين دفتيْ كتاب.

توابيت

رأيت التوابيتَ مصفوفةً

في الشارع فوق الإسفلت.

الأجسادُ التي في داخلها

تنتظرُ رحلتها الأخيرة في قطار الأنفاق.

من نوافذ الشاشات

من نوافذ الصفحات

من نوافذ الأحلام

تطلُّ التوابيت

وتعوم في ماء نهر الإنترنت.

الدروب الوحيدة المشغولة

هي دروب الجنازات

الطرق الوحيدة السالكة

هي الطرق إلى المقابر.

كان الموت هو النجار الوحيد في البلاد

يجلس في منشرته الكبيرة

واضعاً ساقاً فوق أخرى

يدخن سيجاراً من الجثث

وينفث الدخان كي يصنع سماءه.


اكتشفتُ
 صوتي

اكتشفتُ صوتي على شاطئٍ

ليسَ لطفولتي آثارُ أقدامٍ على رماله.

خطفَ عينيّ

ربّاهما من جديد

وأشعرني بأنني طفلٌ

يُصْغي إلى أنفاس الأشياء

ويقرأ أحلامها.

حينَ أرى بياض أمواجه يندفع

في الفضاء ويعلو

ثم تنهار صخورهُ الزبدية

وتعود إلى أسرّتها المائية

حين أرى البياض يفتح

باباً

بابا معلقاً

لا أستطيع أن أدخل أو أخرج منه

يشعرني أنني وحيدٌ

على طرقات رياحه.


ورقة
 صفراء

ورقةٌ صفراء

عروقُها حادّة وجافة

تتوزّع إلى اليمين وإلى اليسار.

في وسطها يسري خطٌّ

كجرحٍ في القلب.

تتقلّب وحيدةً في الريح

والخريف في أوجه.

شعرتُ بأني أنا هي

وذكّرتْ جسدي،

بخطوطه وشرايينه،

أنه هاربٌ من خريفه.

كانت قوة الريح الخفية

تحمل الورقة إلى فلواتها السوداء.

وكنت أسير في تلك اللحظة

كي أتبدد كلي بين ذراعيكِ

تقودني قوة الحب.

ورقةٌ صفراء.

وجسدٌ يتورّد وهو يفكّر بكِ

كأنه تاريخٌ من الورود المتفتحة.

جسد يرقُّ

يصيرُ لمسةً

يصير همسةً

يصير مطراً من القبل

أوراقَ رغبةٍ

في ريح الحبّ الخريفية.


العبور

لم يعد يُسْمَح للدم

بالإقامة مُدّةً أطول في الشرايين.

المدنُ عالقةٌ في رمال أحلامها المتحركة

في صحراء السياسة.

الأنهارُ التي تعبرُ الخريطة بريدٌ

يرسل عبْره الموت جثثه الكثيرة.

المحاربون يحفرون الأنفاق

في جسد المستقبل.

وغداً حين تُشْرق الشمس

ويلمع ضوءها فوق شواهد القبور

وفوق الطرق المزروعة بالألغام

لن نلمحَ إلا أنقاض الجسور

أو آثارَ خطوات مهاجرين

نجحوا في العبور.


امنح
 نفسكَ

امنحْ

امنح نفسكَ هذا الهواء

الذي ينقلُ العطر

الشعاعَ الذي يسافر

في عروق الأوراق

الوهْجَ الذي يصنعُ الشجرة.

امنحْ

امنح لخطواتكَ الطريق

الذي يقودكَ إلى دهشةٍ أخرى

بحراً يتقدّم كله

كي يفتحَ لك باب النهار.

تمشي على طرقاتك البحرية

ظاناً أنك موجة قادمة من ماضيك

غير أنك تتقدم بجبروت لحظتك

بكلّ ما أنتَ.

هل تسأل الموجةُ عن بداياتها

في سرير الزبد؟

امنحْ نفسك نافذة الأفق

وأصْغ لهدير المياه

كأنه موسيقا تعزفها لك

أراغن الزرقة.

امنحْ نفسكَ

ما تحب عيناك أن تراه

ما يخفقُ له قلبك

ما تتوثّب ذراعاك لعناقه

ولا تنظرْ وراء هذا

ولا تلتفت.


مثلك،
 أيها الجسد

لا اسمَ لكِ

لا اسم لك

ودوماً تولدين.

تتقدمين إلى الشاطئ

دون أن تحسبي المسافة

بين ولادتك وموتك.

لا تفكرين أن تكوني نبعاً

أو مصباً.

هكذا،

طفرةً
ارتجاجاً

في جسد الماء،

ولادة مفاجئة

تندفعين

كما لو أنك البحر والشاطئ

الجناح والصخرة،

السماء والأرض.

مأخوذاً بكِ أيتها الموجة

أعيش أحوالكِ في جسدي.

أقول: للعبور نكهةُ فجرٍ قادم

وهذا ما تقوله أيضاً

أزهار الربيع المسائية.

هذا ما يقوله شعاعٌ

يتفتح حولها متناثراً هنا وهناك

كأنه يريد أن يمنح نفسه في أزهار كثيرة

كأنه يقول:

أنا مثلكِ أيتها الموجة

مثلكَ أيها الجسد

لا أتوقّف عن العبور.

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.