الشِّعراء السوريون في الحرب: أصوات تنمو في غابة الدم

الشِّعراء السوريون في الحرب: أصوات تنمو في غابة الدم

لا تزال الحرب تُنبئ بتداعياتٍ كثيرة على مستوى الكتابة الجديدة في سورية، فمن (هجمة الستينيات) التسمية التي أطلقها الشاعر شوقي بغدادي على جيله في تصديره لأنطولوجيا الشعر السوري المعاصر، مروراً بـ(منعطف السبعينيات) المرحلة الأكثر تمرداً على القوالب الشعرية الجاهزة كما أطلق عليها الشاعر منذر مصري والذي أصدر في الحرب كتابه اللافت (لمن العالم- دار نينوى-2016)، وصولاً إلى شعراء الحرب في عامها الثامن، والانقسام الذي أصاب النخب الأدبية بين داخل وخارج، نلاحظ ثيمات جديدة لنصوص مفخخة حملت لعنة الاقتتال الدائر، مثلما حملت وزر أحلامها المنكوبة؛ فالشعر السوري المعاصر وجد انحساراً في السنوات الأخيرة، برأي الناقد جمال شحيّد الذي يرى أن “الرواية أخذت حيزاً كبيراً ومهماً في الثقافة العربية، حيث إن الانحسار الذي تم للشعر عوضت عنه الرواية ولو كان جزئياً؛ لكن موت الشعر في بعض البلدان الأوروبية والمجتمع الاستهلاكي لا يعني موته في بلداننا، فالشعر في سورية مازال إلى حد ما بخير رغم النكسة التي حصلت لهذا الفن الأدبي العظيم، علما بأن شعوب العالم الثالث بشكل عام تهتم بالشعر فكل شاب في مرحلة حياته وخاصة مرحلة المراهقة يكتب شعراً كون القصيدة في النهاية هي تعبير عن الحياة والإنسان، وبحاجة لأن يعبّر عن مشاعره وأحاسيسه فيبدأ بالشعر ويتركه عندما ينضج إذا أراد.”

الناقد (شحيّد) يقول: “شخصياً بتُ متأكداً من أن الحرب التي تمر بها سورية أنتجت شعراً جميلاً، فالشعر يصبح نشيطاً في الأزمات.” إلا أن الشاعر شوقي بغدادي له رأي مختلف في شعراء اليوم إذ يقول: “الشاعر الحقيقي هو الذي يموت إن لم يكتب، فالشِّعر نابع أولاً وأخيراً من المعاناة الشخصية للكاتب، وهذا ما لا أراه عموماً عند شعراء اليوم الذين يتشابهون في كتاباتهم وكأنهم يحبون امرأة واحدة أو كأنهم يكتبون دون أن يعيشوا ويعايشوا ما يؤلفونه من قصائد.”

الشعر العربي قديماً كان له مكان الصدارة لكنه اليوم للأسف يجلس في الصفوف الخلفية من المشهد الثقافي السوري -يُضيف بغدادي- فكون الشعر نابعاً من إصغاء الشاعر لصوته الداخلي هذا لا يعني أن تخلص قصيدة اليوم إلى نوع من الهوامات، بل يجب تكوين المناخ النفسي والعاطفي على أساس الصدق في القول الشعري، لا من باب التزيين والاحتفاء بالأفكار الكبيرة؛ بل بالتعويل على أهمية الشكل الفني وضرورته في إبداع النص الشعري المتوازن والمؤسس لإشراقات جديدة في القصيدة العربية المعاصرة.”

لم ينج الشعر والشعراء السوريون بطبيعة الحال مما ألم بالوطن برمته من كوارث. وكما انقسم الوطن إلى شظايا انقسم الشعر وشعراؤه إلى شظايا- يقول الشاعر تمام تلاوي المقيم حالياً في السعودية ويضيف: “ثمة شعراء وقفوا إلى جانب النظام، وآخرون وقفوا إلى جانب الحراك، وآخرون اختاروا الحياد، وثمة من آثر الصمت. وتبعاً لهذه المواقف جاءت أشعارهم، على أن هنالك من صمت عن قول الشعر ليس لأنه لا موقف له مما يحدث، وإنما لأن الكارثة لجمت لسانه. ولا ملام عليه، فمن يستطيع النطق أمام كارثة كهذه، سوى أشخاص لديهم قدرات استثنائية على الكلام، فكلما اتسعت الكارثة ضاقت العبارة.”

إننا نحتاج زمناً طويلاً حتى نستوعب هول الصدمة، نحتاج زمناً حتى نستطيع أن ننظر بعين شاعرية إلى هذا الخراب العميم وهذا الموت المجاني وهذا التشرد المليوني عبر الحدود والبحار، يستطرد الشاعر تلاوي الحائز على جائزة الشعراء الشباب في (دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008): “على المستوى الشخصي كان موقفي واضحاً منذ البداية مع التغيير السلمي ولاحقاً ضد السلاح وضد الأسلمة، لأنني أعتقد أن الموقف الأخلاقي والثقافي والوطني يجب ألا يكون منحازاً إلا لما يخدم مصلحة الوطن والتغيير نحو الأفضل بالوسائل الوطنية والسلمية، والتي لا تؤدي إلى مزيد من القتل والخراب، فكتبتُ قصائد عدة تتناول في الأساس البعد الإنساني لما آل إليه حال الإنسان السوري منذ آذار 2011، كما كتبتُ عن الموت وعن الهدم وعن التشرد وعن الشرخ الإنساني الذي جاء نتيجة للشرخ على المستوى الوطني.”

ثمة شعراء كثر تهجّروا في المنافي وكانوا في معظمهم مؤيدين للحراك، فكتبوا له وغنوا… ومنهم من التحق بالعمل الإعلامي أو الميداني، وهم شعراء مبدعون ومعروفون على نطاق واسع، بينما ظل معظم الشعراء المحايدين أو المؤيدين داخل سوريا- يضيف صاحب ديوان (تفسير جسمكِ في المعاجم): “ثمة شعراء استشهدوا بالقصف كالشاعر محمد وليد المصري، أو استشهدوا بسكين داعش كالشاعر بشير العاني، وشعراء آخرون اعتقلوا كالشاعر وائل سعد الدين الذي أفرج عنه بعد فترة طويلة من اعتقاله، وثمة شعراء هُجّروا من بيوتهم ومدنهم أو هربوا، وهؤلاء أسماؤهم لا حصر لها. الشعر السوري برأيي الشخصي حالياً يشبه مصائر هؤلاء الشعراء، فهو إما شاعرٌ مقتول أو أسير أو مهجّر أوهارب.”

الشِّعر يقود المرحلة

الشاعر زيد قطريب الذي أدار وأشرف في سنوات الحرب على ملتقى (ثلاثاء شّعر) في العاصمة السورية منتجاً عنها أنطولوجيا بعنوان: (شعراء تحت القصف) باللغتين العربية والألمانية له رأيٌ أقل تشاؤماً في هذا السياق إذ يقول: “نحن أمام انعطافة كبيرة على صعيد النص الشعري، سوف تتبلور لاحقاً لكن متى لا أحد يعرف بالضبط! هذا الأمر تؤكده الكثير من النصوص المكتوبة من قبل أجيال شعرية مختلفة، فالمسألة لا تتعلق بالشعراء الشباب كما يتخيل البعض. هذه الانعطافة لا يُقصد بها حضور ألفاظ الحرب وأسماء السلاح ومفردات الانفجارات وأصوات الرصاص، لأن حضور هذا المعجم أمر طبيعي ولا يمكن أن يعتبر انعطافة أو تجديداً. إنما هناك انعطافة كبيرة على صعيد المعنى والشكل في آن معاً، فهذه الحرب كانت مناسبة لاستيقاظ كل الأسئلة الفكرية والفلسفية المؤجلة منذ أمد بعيد، وهو ما أدى عملياً إلى استيقاظ أسئلة الشكل المتعلقة بأسلوب الكتابة الشعرية، ولنقل إن هناك علاقة جدلية بين الطرفين؛ بحيث لا خلاف على أسبقية المضمون على الشكل أو بالعكس، فكل واحد منهما يتسبب في إيقاظ الآخر. قريباً، ستودّع الكثير من الكتابات الشعرية معجمها المعروف والمستخدم حالياً وأقصد به اللغة العربية بشكلها الحالي في إشارة إلى تشكّل معجم جديد يفكُّ عقد التحالف الذي نشأ تاريخياً بين النص الغيبي الديني والنص السياسي الاستبدادي، وكل ذلك بفضل الحرب التي أعادت أسئلة الانتماء والهوية والثقافة والذائقة الجمالية إلى الواجهة.”

اليوم- كما يخبرنا الشاعر قطريب: “سيتولى الشِّعر قيادة المرحلة الجمالية والثقافية القادمة ليعيد صياغة الذهنية والمخيلة السورية التي رزحت طويلاً تحت الاحتلال العربي الإسلامي، والآن نحن أمام حركة تحرر كبيرة يقودها النص الشعري وهي تأتي تتمة لما فعله شعراء سوريون عظماء في التاريخ بدءاً من المتنبي والمعري وصولاً إلى السيّاب والملائكة والماغوط وأدونيس. تلك الحركات التي أسست بعامل التراكم الكثير من انتفاضة النص الشعري السوري وعودته إلى رشده إن صح التعبير، سوف تستكمل اليوم بما يكتبه الشعراء السوريون عبر نسف الشكل والمضمون المألوف والمستكين، إنها انتفاضة لا يمكن أن تحدث بنص واحد أو عبر شاعر واحد، بل قد نستطيع تسميتها بالحركة الشعرية التي تشبه ما فعلته مجلة شِّعر في ستينيات القرن الماضي، لكن الأسئلة اليوم أخطر والمعركة أشد مصيرية من ذي قبل، لكن ما هو مؤكد أن الشعر هو من سيقود مجد المرحلة المقبلة.”

صدرت مجموعات شعرية كثيرة في سنوات الحرب لكن أكثر الآراء النقدية التي تم تداولها بعد فورة الشعر السوري في الحرب الدائرة الآن بأنه لا أبوّة له أو أنه قتل آباءه وكأننا أمام رأي طه حسين بالشعر الجاهلي معتمداً على مقولة أبي عمرو بن العلاء “ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا” وبناء على هذه الجملة تم التشكيك بشعر امرئ القيس زعماً بأنه موضوع ومنحول؛ أما لدينا فقد حصل الأمر بشكل معاكس. يقول الشاعر باسم سليمان الذي أصدر خلال الحرب أكثر من كتاب شعري وروائي كان أهمها (تماماً قبلة): “الشعر ليس الهدف منه فنياً البتة بل سياسي، فالربيع العربي الذي أراد القطع مع الخطاب الثقافي السائد والمتماهي مع السلطة المثار عليها، ذهب مغترباً في وصف الجيل الشعري الذي نضج وأثمر خلال سنوات الصراع المستمرة، فوصفه بأنه جزيرة تنمو في وسط المحيط لها جملها واستعاراتها ومجازاتها الخاصة وكأن اللغة ولدت الآن لكن المدقق والمتابع بشكل فني بلا تأثر بتجاذبات الجهويات السياسية المتبناة، يستطيع أن يرى التأثير الواضح للأسماء الكبيرة في الشعر السوري على هذا الجيل واستنساخ تجربته وتطويرها، وهذا ليس عيباً، فأمير الشعراء وقف وبكى، وبالتمعّن أكثر يكتشف كيف تشتغل الآلة الثقافية السياسية في تعويم الأسماء وتوجيه الخطاب الشعري نحو سوق العرض للاستهلاك التطهيري وفق رؤية أرسطو، فالمنابر الثقافية ودور النشر والجوائز استقطبت خطاباً شعرياً جهوياً من الناحية السياسية دون غيره حتى لو كان أرفع فنياً وشعرياً، وخاصة بعدما حسمت الجهات الثقافية في المنطقة العربية خياراتها السياسية والتمويلية، هذا الأمر جعل الشِّعر السوري أعور مصاباً بالحول والضلالة الإبداعية.”

ليس ما سبق بهدف التقليل من المنجز الشعري السوري في سنوات الموت بل دفاعاً عن الجمال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التلوث الذي أصاب جوانب الحياة السورية كافة- يُعقب الشاعر باسم سليمان مضيفاً: “إن كان من ثورة نقدية مضادة تعيد الشعر السوري إلى ريادته لابد لها من أن تعترف بأن الشعرية السورية قبل الحرب وخلالها، سواء لناحية الإيجابيات أو السلبيات، كررت إنتاج ذات المناحي السيئة والترويج لها على أنها الخير الوفير في الشعر السوري الآن، فالقطيعة التي أُمل منها أن تحرِّر الشعر من تجاذبات الجهويات السياسية كي ينتصر لقيم الحق والجمال والخير، أكملت بنفس النسق الذي ثارت عليه، فالابن الشعري ارتدى جلباب الأب الشعري بل أصبح بطريركياً أكثر من الأب نفسه.”

أين الشعر؟ تتساءل الشاعرة السورية سوزان علي مردفةً: “عناوين  كثيرة طُبِعت وتطبع منذ بداية المأساة السورية في الداخل والخارج، ومع إيماني العميق بأن الحرب بفوضاها وموتاها تجعلنا لا نرى، إلا أن النتاجات الشعرية فاقت أي إنتاج أدبي آخر، مع كل الغرق، مع كل الضبابية التي تحيط بالمشهد، هذا بلا شك ما تدل عليه أغلب النصوص الشعرية التي خلصت إليها السنوات السبع الأخيرة في سورية.”

الانطباعية تتجلى تعقب (علي)، وتضيف: “للحظة تشعر فيها أن الشاعر يرقب ما يجري في الشارع، ثم يبدأ بتدوين أحداثه داخل ورقة في جيبه. تأخذ رحى الحرب مفردات الشعر وتطحنها، لتجرّدها من كل ما ألفناه من الشِّعر السوري.

أين الكتاب؟ تتساءل الشاعرة سوزان علي مرةً أخرى وتقول: “وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحتفي باليومي، بـ(صباح الخير، بمقطع أعجبك، بأغنية اشتقتَ إليها)، هناك سؤال صغير فقط عليك أن تجيب عليه كل يوم: (بماذا تفكر الآن)؟

أو (ما هي حالتك الآن)؟ هل يستوعب هذا السؤال قصيدة جاءت بأكثر من عشرين سطراً؟ وهل يستوعب كتاب ذو صفحات بيضاء، نسخ حالتك الآنية تلك، وما الاستمرارية في نص صُممّ بنيانه بعيداً عن طبيعته؟ وإلى متى سيعيش هكذا نص؟

مجموعات كثيرة اطلعتُ عليها، وأعرف صفحات أصحابها مسبّقاً في العالم الافتراضي، كانت قد اقتطعت نصوصاً كثيرة لها من الفيس بوك لترميها بدون أدنى مسؤولية، ولتتنازع فوق روح البياض الورقي.”

أين الجمهور؟ سؤال ثالث توجهه الشاعرة سوزان علي وتجيب: “سبق أن استمعت إلى أحدهم في إحدى الأمسيات، لم تخن قصائده فقط جوهرها في كتاب، بل أيضاً في نطق وصوت الحروف من حنجرة الشاعر. مرة أخرى صفحات (الفيس بوك) تعرّي الشاعر فوق المنابر، فزرّ (أعجبني) غير موجود هنا للجمهور، وزر التعديل أيضاً لم يعد بالممكن استخدامه بالنسبة لشاعر الافتراضيات!”

الكارثة حدثت لنا في الموت، ولم يكن هناك من عمل يوازي هذا القتل- تشرح (علي) التي صدر لها كتاب شعري عن دار المتوسط بعنوان (المرأة التي فوق فمي) وتضيف: “لأننا في إثرهِ نمشي، نحن لم ننشف بعد، وإن نظرنا خلفنا لن نرى سوى ظلالاً تتكسر، وكما نضع كفاً فوق جبهتنا أثناء ظهيرة حادة لنرى بصعوبة، الشعر اليوم يكاد لا يُرى؛ بالمقابل هناك عناوين تمسك خيط الألم من بدايته قبل حتى أن تفتح الكتاب لتقرأ فهاهي (رصاصة فارغة-قبر مزدحم) مجموعة الشاعر السوري (وفائي ليلى- صادرة عن دار المتوسط عام 2015)، وهناك كتاب (بانوراما الموت والوحشة) للشاعرة رشا عمران الصادر عن دار نون في عام 2014 وهو نص مفتوح على عزلة ووحدة الشاعرة، تركت صفحاتها بلا عناوين، كأنها جرح لا يتوقف عن السؤال والضياع، جرح تفاصيلها اليومية، التي باتت تتكلم أيضاً مع الشاعرة عن تلك الفوضى.”

مجموعات أخرى صدرت في الحرب كان انشغالها بالذاتية وسجنها أيضا عنواناً لها،  موت تدور حلقاته بسرعة مع الأنا وللأنا، وكأننا لا نقرأ سوى تجربة يومية تشاهد الآني وتبعد الخيال عن ساحة شعورها، فتفضّل أن تسقي زهور الشرفة وتراقب السماء و تذهب في نزهة إلى البحر، إننا أمام حدث عائلي أو شخصي، في (رفات فراشة) المجموعة الشعرية الصادرة عن (دار التكوين) للشاعرة خلود شرف، والتي لم ينقذها الرمز أحياناً والتجريد أحياناً أخرى من الوقوع في مطبات التكرار وصياغة مفردات تتوهج كحلي فوق السطور (كلا إن الشعر لا يلفظ أنفاسه الأخيرة- تضيف سوزان علي: “إنه يعطي الانطباع بأنه متعب حقاً كما وصّف الشاعر المكسيكي (أوكتافيو باث) يوماً حال الشعر، فالبلاد متعبة أيضاً، حيث القبور مفتوحة سلفاً، والغبار غداً  سيكون سميكاً فوق الكتب، الوقت يترنح في ظلِّه، والشِّعر ينتظر طارقاً جديداً يقوده إلى العماء الأول، صافياً عذباً كما كان.”

بعض موت

بعض موت

في كلّ صباح أكتب لك رسالة

أعرف أنها لا تصل باليد

لقد كسر الجليد قلبَ ساعي البريد أيضاً

يا لدماثة الأمس!

كنت أنجذب إليك كما لو كنتَ ناراً متّقدة!

يؤلمني أنك تراني على هذه الحال

وترى بؤسي يتهاطل ويجرف ما كان حبا.ً.

*

الان لديَّ أسى وموتى

وها نحن أولاء ندور في أفلاكنا نبحث عن نهايةٍ ما

نسأل عن إمكانية أن تذرونا الرياح

فننتهي بذرة لا تعرف أمّها ولا أباها

برغم ذلك لا نجرؤ على القفز في الهوة المعتمة.

*

لا تظن أنّ رسالتي يائسة،

إنها بعضُ موتٍ يتنفّس.

الأبدية قطعة من أرضك

ثلج أخرس

وصمت لا يتوقف عن الثرثرة

هناك دائماً عصفور لا يشعر بالبرد

يخفف من جزعنا

عندما أشعر بالعوز أبحث عن فتات الخبز.

*

لم يكن حلماً:

جبل

أصدقاء يرعون تحت الشمس،

واد التقيته صدفة في قرية بعيدة

ساقية تتناوب عليها الحياة بالضفادع واليعاسيب

حب يغمر حقول الأرز.

*

إنما تلك بلاد وهذي بلاد

حياة اليقظة بلاد ثلجها أعمى

والأبدية قطعة من أرضك.

*

تدفعني الريح بهذيان وصفير لايبالي

اتمسك بالشجرة:

كلتانا تسند الحياة

حتى لا تطير في غفلة منا، غباراً

بعض خيال

أنت تراني من الداخل

قلت لي هذا ثم تركت قلبي ينهشني

أنا التي حلمت مراراً بالعذوبة تعصر كل ما أملك تحت جلدي

لم أعش من الحب سوى بعض خيال

لم يزرني الثلج هذه السنة

برغم كل شيئ،

مازلت أفرك يديّ  وأنتظر.

كهفٍ صغير

…..

من مشاكسة المطر لنا

لجأنا إلى كهفٍ صغير،

ماذا لو كنتَ معي،

أيّها البعيد،

أما كنّا وقعنا في حبّ الكهفِ معاً؟

*

الطريق تحتضن مسافرينَ غيري،

وأنا وحيدة بصحبة الأفكار

بعضها أفكارُك،

وبعضها يرفعنا معاً فوق غيمة

*

وأعرفُ كم سأُعاني بعد عودتي

فالفرحُ لا يكون أخضرَ إلّا في أوَّله.

جسارة أولى

ريح هذا الصباح شريدة على آخرها

حمّالة أرواح الأولين

أحياناً تربك اللغة بصفعاتها

وأحياناً تئن مثل عذراوات المعابد

طفل طري الملامح

مذهول الحواس

يدور حول نفسه في الحي   

لا بأس فالريح تعدي

ولابد من جسارة أولى

الشجر ينفخ في خفة وريقاته دونما اتجاه

والصغير

يلاحق هياج قطعانها

محاولاً احتضانها بين ذراعيه

لكنه لا يدرك أنها من روحه ولو بعد حين

وأنه منذ صرخته الأولى، فصل من فصول الخريف.

محاذاة النهر

يصدح النهر بأجمل موسيقاه كلما حاولت الصخور كسره.

*

إن حملت في إحدى يديك رغيفاً ترفق باليد الثانية، ربما تكون باردة.

*

بينما يتهادى نهرٌ ويتباهى فوقه جسرٌ عتيق

أنحني على صفحة الماء،

فأراك.

*

التشبث،

يالها من كلمة مؤلمة.

رائحة البرتقال

رائحة البرتقال

رائحةُ البرتقال مع البرد تذكّرني بالحقل

الذي يمتدُّ خلفَ بيتنا

فقط في فصل الشتاء

رائحةُ البرتقال مع البرد جرحٌ

كلُّ رائحة يمكنُ أنْ نتذكّرها هي جرحٌ في الزمن

أولئك الذين يمشونَ من دون أنْ يتوقفوا عند الروائح يمضُون نحو الغد

عمياناً.
الجرحُ عينٌ

وأنا محاطةٌ بكلّ أصنافِ العميان

أحياناً أشعرُ بأني وحدي مجروحةٌ

ولا أعرفُ كيف أنقلُ صوتي من تلك البُحّة العميقة إلى البُحّة التي يتكلّمون بها

بلا خلفيةٍ

وبلا سماءٍ

بلا ذلك الجرح الذي يحدثُه البردُ في البرتقال

أو تلك اللذة.

* * *

قـش

لي أختٌ محبوسةٌ خلف قضبانٍ من حديد

تنمو فوق المجازر

تبقرُ بطنَها بيديها ثم تملؤهُ بالقشّ

انقطعَ حليبُها

وامتلأ صدرُها بالدم

تنامُ قربي الآن

أنا أغفو

وهي تحفرُ الحلمَ بأسنانها

* * *

النساءُ الأوروبيّات

النساءُ الأوروبيّات

على الفِراشِ الرقيق أتمدّدُ بحزنٍ

أديرُ وجهي نحو الحائط

أبتسمُ

أرسمُ اسمكَ بإصبعي على الجدار

أُغمضُ عينيَّ مع صوتِ انفجارٍ بعيدٍ،

أستطيعُ الآن النوم دون أنْ أحلم بشيء

دون أنْ أنتظر شيئاً.

أعلمُ أنّ كثيرينَ مثلكَ

رحلوا إلى أوروبا

رحلوا لأجل الذلّ والموت،

لكن بعد سنين

حين سيسألُ أطفالهم عن سببِ قدومهم

سيقولون:

لأنَّ أجسادَ الأوروبياتِ أكثرُ دفئاً من نسائنا،

نسائنا اللواتي مُـتْـنَ وحيداتٍ هناك.

* * *

حين يأتي الموت

حين يأتي الموتُ

سيسحبُ كلَّ الرجال

الواحدَ تلو الآخر من أصواتنا

لننكسرَ كغصنٍ طريٍّ تحت قدميّ عصفور،

حين يأتي الموتُ

لن تكونَ لهُ عيناكَ

ولن يتلمّس أجسادنا

بحثاً عن شهوة مخبّأةٍ في البطن،

سنكون نساء قبيحاتٍ

بأصواتٍ مشوّهة

تُخرِجُ طيوراً مُختنقة

وأوجاعاً باردة.

كلُّ الرجال الذين عرفناهم

وخبّأناهُم في خلايا صوتِنا

ليرمّمُوا جُملَنا الناقصة في الوحدة

سيسحبونَ ما تبقّى من الكلام داخلنا.

حين يأتي الموتُ كاملاً

أو ربما بلا ثقلٍ

حين يأتي في وقته أو بعده

أو متأخراً جداً..

سيكون حنوناً

أكثر من كلِّ الرجال في أصواتنا

سيضمُّنا ويزجرهم بعيداً..

لنبتسمَ بخبثِ النساء

حين يطردنَ رجُلاً ويستبدلنَ آخرَ به.

* * *

الرجال وحسب

في المساء تتمدّدُ النساءُ على ظهورهنّ،

الظهورُ أحواضُ وردٍ

وعشبٌ تحت أقدامِ الرجال،

في المساء تتمدّدُ النساءُ على ظهورهنّ

ينظرنَ إلى فوق

الطائرةُ تستعدُّ لقصفِ مدينة

السماءُ تشدُّ أطرافها

كفتاةٍ تستحييْ من عُريٍ أسودَ كهذا،

يتابعنَ النظرَ إلى ما فوقهنّ

الرجالُ يمرّون

والطائراتُ

والألمُ الذي يزحفُ

كدبابةٍ تجعلُ الأرضَ تحتَها أكثرَ قسوةً

هكذا أدركتُ أنّ كلَّ الرجال

يتحوّلونَ فجأةً

إلى آلةٍ ضخمةٍ

بعضُهم يُسمّيها دبابةً

وآخرونَ طائرةً

وقليلونَ مثلي

يعرفون أنهم الرجالُ وحسب.

* * *

فيلُولوجيا الأزهار

فيلُولوجيا الأزهار

من نصٍّ طويلٍ بعنوان (فيلُولوجيا الأزهار)

لماذا لا نؤقِّتُ أعمالَنا على السَّاعةِ البسيطةِ في زهرةِ السَّاعة؟

ماذا تتعبَّدُ في اللَّيلِ زهرةُ عبَّاد الشَّمس؟

ألَمْ يَفِضْ حليبُ المجرَّةِ مِن زهرةِ أفيون؟

لأجلِ أيِّ قدَّاسٍ مسائيٍّ ترنُّ زنابق الوادي؟

أليست النَّيلوفراتُ هي المآوي البيضاء التي تهبطُ فيها جفونُ اللَّيل؟

هل قشَّرَ أحدٌ السَّماءَ والقشرُ المنفوضُ على الأرض هو أزهارُ الونكة؟

أليست أزهارُ البنفسج وثائق شعريَّة؟

أثمَّة في الأرض موقدٌ أبسطُ من زهرةِ خشخاش؟

كم غسقاً حُوصِرَ في زهرةِ زعفران؟

أليست في آنٍ واحدٍ قنديلاً ودَلْواً زهرةُ التَّوليب؟

هل انتبهَ أحدٌ إلى الزَّورقِ في كلمةِ خُزامى؟

كيف لا نرى أنَّ هناك وحدةً بين تثاؤب طفلٍ وتَفَتُّحِ زُهيرة آستر؟

من أين تفقسُ النُّجومُ إن لم يكن من زهرة فاوانية مُنتفخة؟

كم ضعفاً تُكبِّرُ أزهارُ الختميَّةِ الصَّيفَ؟

كيف تحوَّلَتْ أزهارُ البهشيَّةِ من حبَّاتِ زَبَدٍ إلى قطراتِ دم؟

أتريدُ أن تغترفَ من الأبديَّةِ، زهرةُ القبَّار، بكلِّ هذه الأذرع الممدودة؟

أرأيتُم كيف يعانقُ الجرحُ أجنحتَه في زهرةِ بخور مريم؟

إذا أمسكتُ أقحوانةً بيضاءَ بيميني وأقحوانةً صفراء بشِمالي، هل سأدورُ كَكَوكب؟

أيتهادى العاشقان في أزهار الدَّهليَّةِ نجومَ الشَّيطان؟

أيُّ مفاتيحَ أفضَلُ لأقفالِ الشِّتاء من أزهارِ السُّورنجان؟

ماذا تريدُ أن تمحوَ أزهارُ الصَّاصَلِ البيضاءُ في حديقةِ المقبرةِ المظلمة؟

أهناك حقَّاً وحدةُ دمٍ بين القرنفل الأحمر وشِفاه العاشقين؟

كيف استطاعت الوستارية هكذا، أن تصنعَ مِن نفسِها كاتدرائيَّةَ نفسِها؟

أيُّ نهارٍ في خاصرةٍ في قبَّةٍ في سحابةٍ محضونٌ بلا حدٍّ في الأرطاسيا؟

*  * *

إلى أطفالِ سوريا

ثمَّةَ، بينما تموتون، طائرُ حُمَيراء

يضعُ مُنتشياً، في جوفِ حورةٍ سوداء،

بيضتَه الزَّرقاء الأولى.

بينما تموتون، يَدخلُ قلبي معكم

في الغيمةِ الأخيرةِ لِعالَمٍ بدأ مُنتهياً،- أدخلُ معكم

في الخشخاشِ الأبيضِ، في البحر المتباطئ.

بينما تموتون، الله والقاتلُ،

على شرفةٍ واحدةٍ، يشربان النِّسكافيه ويضحكان.

فقط؛ يشربان النِّسكافيه ويضحكان.

 * * *

في هذه البلاد

في هذه البلاد، اللَّيلُ      

لا يهبطُ على نهارٍ،   

النَّهارُ لا  يطلعُ مِن ليلٍ،

اللَّيلُ لا يُولَجُ في النَّهارِ،

النَّهارُ لا يُولَجُ في اللَّيلِ،

في هذه البلاد، اللَّيلُ

يهبطُ على ليلٍ آخر،

اللَّيلُ الآخرُ يطلعُ مِن ليلٍ قبلَه،

اللَّيلُ يُولَجُ في ليلٍ

داخلَ ليلٍ

داخلَ ليلٍ

داخلَ ليل.

* * *

نصوصٌ متفرِّقة

ما اسمُ اليَنبوعِ       

قبلَ أن يُباشِرَ انبجاسَه؟  

طائرُ الصُّفَيرِ الذَّهبيِّ، ما اسمُهُ

وهو بَعْدُ فرخٌ أخضر؟

ماذا كان يُسَمَّى اللونُ البنفسجيُّ  

قبلَ أوَّلِ زهرةِ بنفسَج؟

ومِن دون الخريفِ ما اسمُها

شجرةُ القيقبِ الأحمر؟

*

هل الزَّنابقُ السَّوداءُ في الشَّمس       

دُفعاتٌ صغيرةٌ من الليل؟  

وهل أزهارُ الجِربارةِ الصَّفراءُ في الليل

لمساتٌ مُخَفَّفَةٌ من الشَّمس؟  

*

مَن يئنُّ في الوادي؟      

شجرةُ الحورِ التي تنهشُها الرِّياح

أمِ الرِّياحُ التي عَلِقَتْ

شجرةُ حَورٍ  بأسنانها البيضاء؟

*

لا أعلمُ أبندقيَّتان أم كستنائيَّتان      

عيناكِ: أعلمُ

أنَّ قلبي أمامَهما يقفزُ كَسِنجاب.

*

تتدحرجُ مع الليلِ وتعذِّبُني  

فكرةُ الضَّوءِ

في المصابيحِ المُطْفَأة.

*

هل تنظرُ السَّماءُ في الليل    

إلى بآبئ عيونِ القِطَط  

كما ننظرُ نحنُ إلى النُّجوم؟   

*

لا أتخلَّصُ أبداً

مِن حُزنِ بكرةِ التَّحبير المعطَّلة

في آلةٍ كاتبةٍ قديمةٍ ومُهمَلَة.

*

لكي أصنعَ ليلي      

أرمي قلبي كلَّ غروبٍ في الزَّبَدِ الأحمر    

وأنتظرُ فَحْمَتَهُ  

أنْ تأتي إليَّ

بالغابةِ الخرِبَةِ المدلهمَّة.   

*

لا أفعلُ في الرَّبيع       

سوى أنَّني أَخرُجُ

لأساعدَ الاحتقانَ الورديَّ  

في كلِّ الأكمامِ الزَّهريَّةِ  

على التَّشقُّق.    

*

اللَّيلُ كاتدرائيَّتي الكبيرة        

حيثُ كلُّ الآلهةِ

تدخلُ بِظِلالٍ مُرتعشةٍ لِتَعبُدَني   

وأنا البسيطُ   

أتثاءبُ مُشيحاً بوجهي عنها

نحوَ نجمةٍ مُحتارةٍ

بين ثوبٍ بنفسجيٍّ وآخرَ أحمر.

*

لماذا أيَّتُها اللغةُ

كلُّ بابٍ أحرِّرُكِ منهُ  

تحبِسينني خلفَه؟