سوريا ليست بخير

سوريا ليست بخير

أتابع يومياً أخبار أحبتي في سوريا، ويُذهلني هذا التدهور الكبير في معيشة السوريين، ولم أكمل خمسة أسابيع في إقامتي في باريس لكنني أشعر أنني تركت اللاذقية منذ سنة. و كل الشعب (السوري كلون يعني كلون) يُعاني ما لا طاقة لإنسان أن يتحمله، لكنهم مجبرون على التحمل، انقطاع الكهرباء الطويل لساعات تزيد عن أربع ساعات وفي هذا الحر الشديد جعلت السوريين يطيش صوابهم  وصاروا يسخرون من قطع الكهرباء بأن يكتبوا على صفحاتهم على الفيس بوك أو صفحات التواصل الإجتماعي: (اليوم كل السوريين رح يتغدوا بازيلا وفول). دلالة عل فساد المؤونة في البرادات، ويأتي ذل قطع الماء لينافس ذل قطع الكهرباء.

ليست الحسكة وحدها عطشى بل كل سوريا، الماء يأتي بالقطارة، والغسالات تعطلت واحترقت بطاريتها، ولا يملك هؤلاء المعذبون في سوريا سوى الكتابة. إحدى السيدات كتبت (ألمي رح أنهار، ألمي أساس الحياة الخ). اعتقدت أنها تتحدث عن ألمها (أي كلمة ألمي من الألم)، لكن المسكينة تتحدث عن الماء وتكتب بالعامية (المي)، اتصلت بها هي تعيش مع إبنتها فقالت: (الماء بالقطارة، مستحيل نقدر نجلي الصحون ونغتسل وننظف البيت، كل يوم نخصصه إما للجلي أو الاستحمام أو مسح البلاط أما الغسالة فاحترق مولدها بسبب لنقطاع الماء “وسعر الغسالة اليوم في سوريا مليون ونصف المليون”.) الغلاء الفاحش لأسعار المواد الغذائية وربط هذا الغلاء باحتكار التجار، وطوال أسبوع احتل ارتفاع سعر البيض في سوريا صفحات التواصل الاجتماعي حيث وصل سعر البيضة إلى 200 ليرة سورية!!! وطالبت إحدى السيدات أن يمتنع كل السوريين عن شراء البيض لمدة شهر لمعاقبة التجار!!! يا لروعة اقتراحك يا سيدة!! الطفل يحتاج البيض كل يوم تقريباً لينمو فكيف ستحرمين أطفال سوريا من البيض!! وبالتأكيد هم محرومون منه لأنه لا قدرة لأهاليهم على شرائه خاصة إذا كانت الأسرة تتكون من عدة أطفال، وتأتي مهزلة القروض المدرسية ذلك أن وزير التربية مصر أن يلتحق التلاميذ بالمدرسة ومتوسط عدد الطلاب في المدارس السورية خاصة الحكومية بين 50 إلى 70 طالباً وتجد ثلاثة طلاب يجلسون في مقعد واحد محشورين كتفاً لصق كتف، ومراحيض المدرسة مزارع جراثيم وأوبئة والمياه فيها مقطوعة. كما أنه في العديد من المدارس تتكوم هضاب الزبالة في المداخل، وتنسجم هضاب الزبالة مع رداءة التعليم.

صار سعر الحقيبة المدرسية من أرخص أنواع النايلون حوالي 40 ألف (ما يعادل راتب شخص واحد عند الحكومة السورية)، وسعر القلم ألفين أو أكثر، ولا زيادة قرش في الرواتب!! بل الدولة السورية تقدم قروضاً للأهالي كي يشتروا اللوازم المدرسية لأولادهم تحديداً من مؤسسات الدولة، وغالباً بضاعة هذه المؤسسات رديئة ومُخزنة منذ سنوات! ولا يخطر لمسؤول سوري أن يتساءل: كيف سيسدد هذا الأب المسكين القروض الطلابية من راتب الاحتقار الذي بالكاد يكفي لشراء الخبز. ويصفع وزير التربية السوري الأهالي بقرار أنهم مجبرون (رغم الارتفاع الكبير جداً في إصابات كورونا في سوريا) على إرسال أولادهم إلى المدرسة، وأن الطالب إذا تغيب أربعة أيام عن المدرسة بدون عذر يُفصل من المدرسة. هذا هو رهاب التعليم في سوريا، وتوصيف رهاب التعليم هو أدق توصيف لتهديدات وزير التربية الذي لا يبالي بصحة التلاميذ ولا برغبة الكثير من الأهالي ألا يرسلوا أولادهم إلى المدرسة في زمن جائحة كورونا. وطبعاً لا يخفى على أحد رداءة التعليم وفساده في سوريا وأن صفوف البكالوريا خاوية تماماً في كل سوريا ويعتمد الطلاب على المعاهد أو الدروس الخصوصية، وثمة العديد من الأهالي الذين أخذوا قروضاً من المصرف ليسددوا أجور الدروس الخصوصية أو باعوا أثاث منزلهم أوغيره من الاجراءات.

رغم هذه الظروف الكارثية فإن البعض يقول نحن بخير ويخونون من تركوا الوطن ويسخرون منهم في غربتهم ويقولون لهم سوف تذوبون في الغربة ولا أحد سيهتم بكم وسوف تذبل حديقة بيتكم ويتكدس غبار النسيان على أثاث بيوتكم. عجيب هذا المنطق التخويني اللاإنساني، كيف تتجاهلون العنف المروع الذي اضطر ثلث الشعب السوري لينزح ويرمي نفسه في البحر بعد أن دمرت البيوت والقرى والمدن ولم يبق لديهم سوى حياتهم عساهم يحافظون عليها إذا ساعدهم الحظ ووصلوا إلى بلاد اللجوء التي تحترم الإنسان. هؤلاء الخونة عديمو الإحساس الذين يكتبون كل يوم على صفحاتهم نحن بخير هم يدعمون نظاماً يوغل في تجويع شعبه وإهانته؛ فحين ينشرون كل يوم صوراً لبحر اللاذقية وبعض شوارعها الجميلة (ولم تعد اللاذقية جميلة على الإطلاق إذ تجد في زقاق بناء من ثلاثين طابقاً)K أو تضع إحداهن في أزمة شح الماء وعطش الحسكة وتفجير خط الغاز الذي جعل كل سوريا تغرق في الظلام في هذا التوقيت تماماً صورة لمدرسة بوقا الزراعية وتكتب ما أجملها، فهذا أشبه بطعنة الغدر، لأننا في قلب مأساة إنسانية مروعة أمام مشاهد لذل وجوع وحرمان الطفل السوري أن يأكل بيضة، الحديث عن جمال بعض الأمكنة في هكذا ظروف كارثية هو خيانة وهو غدر وهو تماهي مع المعتدي والتمثل بسلوكه كما أبدع الدكتور مصطفى حجازي في كتابيه (سيكولوجية الإنسان المقهور، وسيكولوجية الإنسان المهدور) في وصف وتحليل ظاهرة تماهي المُضطهد مع المعتدي أو من يضطهده وتقليد صفاته.

 أعرف أن بحر اللاذقية جميل وأحن إليه، لكنني كنت أصور هضاب القمامة على شواطئه، وحين يتفرج العالم كله على الشعب السوري الجائع والعطشان واليائس والذي توحده عبارات هي: “عايشين من قلة الموت”، و”خلينا ساكتين أحسن”، و”الحيط الحيط ويا رب السترة”؛ وحين يتفرج العالم كله على طابور من رجال ونساء وأطفال سوريا واقفين تحت لهيب شمس تموز وآب بإنتظار رغيف خبز سيء (لأن الأفران ينقصها المازوت حتى تخبز الخبز كفاية) ولا أحد من هذا الحشد قادر أن ينطق بكلمة احتجاج أو يقول: “آخ”، لأن قبضة الأمن تنقض عليه فهو يتذمر والوطن ضحية مؤامرة، وعلى الشعب أن يتحمل مع الدولة نتائج المؤامرة. الحديث عن الجمال ونشر صور لبعض المناطق الجميلة في سوريا هو خيانة وانعدام إحساس بآلام الشعب السوري، والحديث عن الجمال في هذه الظروف الكارثية في سوريا هو تماماً وتحديداً إعلان ولاء للنظام.

 سوريا ليست بخير والسوري في سوريا ليس بخير، كفوا عن النفاق والخيانه بأن تمطرونا كل يوم بصور اللاذقية الجميلة، كسب الجميلة، صلنفه الجميلة (التي سرق الشبيحة كل بيوتها) ولصقها قرية سلمى التي سوتها البراميل المتفجرة بالأرض وهج سكانها ومات تفاحها الأطيب في العالم. توقفوا عن الحديث عن الجمال فهو خيانة في زمن الموت والحداد. وأحب أن أختم بهذه القصة؛ فمنذ أسبوعين قصدت السفارة البريطانية من أجل الحصول على فيزا لزيارة إبنتي وزوجها وفوجئت أن السفارة البريطانية في باريس تغص بمواطنين من غينيا لدرجة اعتقدت أنني أخطأت في العنوان وبأنني في سفارة غينيا وحكيت مع ابنتي فقالت لي: “أمي أتمنى أن يتم قبول كل الناس من غينيا يعني نسيت كم عانت إفريقيا من الإستعمار”، وتابعت متسائلة: “يعني أنت تعتقدين حال السوري أفضل من حال مواطن من غينيا.” فعلاً خجلت وأحسست بطعنة ألم في قلبي. وضع السوري اليوم هو الأسوأ في العالم. سوريا ليست بخير والسوريين ليسوا بخير. لا تزوروا الحقيقة ولا تخونوا شعب سوريا بالحديث عن الجمال.

يوميات سورية: رمضان كريم

يوميات سورية: رمضان كريم

دمشق

في الطريق من صحنايا إلى دمشق أذّن المؤذن معلناً وقت الإفطار، المسافة طويلة رغم خلو الطريق من السيارات والحافلات والعابرين، مشهد اعتيادي أن تقفر الطرقات وقت الإفطار! ما الذي يدفع البشر للانكفاء في بيوتهم وخاصة غير الصائمين؟ أهو انصراف السائقين إلى منازلهم للراحة وتناول الإفطار فحسب؟ أم هو اختلال بالوقت واتساق مع عادات صارت عرفاً قائماً ونافذاً؟ في الحافلة  الوحيدة المهترئة والممتلئة بالركاب العائدين لبيوتهم بعد نهار عمل طويل صائمون أنهكهم العطش والجوع، يمسحون وجوههم ببرَكة الصوم، يصمتون وعيونهم ترنو إلى مطابخ بيوتهم ووجبة اليوم. كان بيدي عبوة ماء فمنحتها لأحدهم، يشرب بضعة قطرات ويسأل (مين صايم يا أخوان؟) وتدور العبوة على أربعة رجال، يد أخرى تمنحهم عبوة أخرى، وتدور المياه في الحلوق اليابسة.

نستفيق على صوت المسحراتي، طبلته غير شجية، تشز عن الإيقاع المختزن في الذاكرة شاب حديث العهد وطارئ على العمل، كمسحراتي  بسروال جينز وقميص نصف كم، تغيب الملابس التقليدية والإيقاع والصوت الرخيم، يغيب الوجه المعروف من أهل الحي. يستفيق الصائمون على رنين جوالاتهم ويصبح حضور المسحراتي مجرد بروتوكول شكلاني لا يضفي على السحور أية قيمة مضافة سوى ارتزاقه من البيوت التي تدفع له ما تجود به جيوبها للحفاظ على نكهة ومظهر من مظاهر شهر رمضان التقليدية، ومنهم من يصل الليل من ما بعد الإفطار حتى السحور لينام بعد الإمساك حتى وقت متأخر من نهار الغد تحايلاً على مشقة الصوم في ظروف الحر في جو صيفي خانق. ومن يصل الإفطار بالسحور هو حتماً خالٍ من العمل ويمتلك رفاهية البقاء في فراشه والاستسلام للنوم العميق والمريح. وهنا يبرز التناقض الحاد بين بشر مجبورين على مباشرة أعمالهم بعد السحور بساعات قليلة، فيستيقظون منهكين ومتعبين للذهاب إلى أعمالهم المضنية لتحصيل الرزق.

في الساحات وعند مواقف الحافلات وعلى قواعد معدنية عملاقة  توضعت عبوات كبيرة تعج بالعصائر المشكلة والملونة، إنها العاشرة صباحاً وثمة من يشتري ويبيع، وثمة من يشرب العصير والماء ويأكل الفطائر والبسكويت والعلكة علناً وفي كل الأوقات ومن كل الأعمار.

رخاوة ظاهرة فيما كان يسمى مراعاة الصائمين وحرمة الشهر الفضيل! لم يعد التعرض لأحد المفطرين باللوم أمراً بسيطاً ومقبولاً ومباركاً، ما معنى مفطر هنا؟ هل هو من لا يصوم عن قناعة ويعلن عدم صيامه؟ أم من يصوم جهاراً ويفطر سراً في محاولة لتجنب التشكيك في إيمانه أو احترامه لدينه وبيئته الاجتماعية؟ أو أن المفطر المدان هو غير مسلم أصلاً؟

غيّرت الحرب في توصيف المؤمن والصادق والجاحد والكافر والمهمل للواجبات الدينية والاجتماعية، باتت الأحكام تدور داخل غرف مغلقة عبر همسات أو انتقادات بصوت خفيض. التصنيفات الظاهرية لم تعد تشغل بال أولي الأمر ورجال الدين لأنها خارج مهمتهم الآن، هم يهللون للأقوى فقط، والصيام من عدمه عملة غير مربحة في زمن الشدة النارية وتآكل المدن ونزوح ولجوء السكان والتهجير الواسع.

يتوحد الخطاب الجمعي في شهر رمضان؟ يقول سائق السرفيس للراكب (عامل حالك صايم وماسك مسبحة وما دفعت الأجرة) وتقول سيدة للفرّان (يعني إذا صايم لازم تشلف الخبزات بوجهنا!). ثمة ترميز عام للأداء البشري، وهن عام وتعب، شفاه متيبسة من العطش، عزوف عن الكلام وردود أفعال عصبية حيال أي تصرف غير مقصود أو حيال أي خلاف ولو على طريقة شراء كيلو من الخضار.

على محطات الإذاعة أغان تقليدية محّورة بكلمات دينية على لحن غير متسق مع الإيقاع الديني، خطب دينية سطحية، حكم فلسفية باهتة عن العطاء والمحبة والوهب وسماحة النفس وسخاء اليد والشيم، وحلقات حوارية تكرر أقوالاً لا تزيد من عدد الصائمين ولا تردع المفطرين، بروتوكول موسمي مكرر، وأكثر ما يزعج المتفرجين هو الدعايات والإعلانات السخية جداً بمناقب أنواع السمن والزيوت والأجبان، إعلانات لترويج أسماء خيم رمضانية ودعوات للتآخي والتكاتف.

تقول أم ياسر: (أهم شي صحن السلطة، فجأة صار سعر ربطة البقلة مية ليرة!)،

ارتفاع شره بأسعار الخضار والفاكهة تصل حدود الضعفين، مواد غير معروفة تواريخ إنتاجها تباع على الأرصفة وفي الأسواق بأوزان قليلة وأسعار تناسب الفقراء، لكن الجودة والسلامة في مهب الريح وعبث المراقبين وطمع التجار.

في المحال التجارية أكوام من أكياس معبأة بإهمال ومن جودة وسط أو ما دونه لتوزع على الفقراء والمحتاجين، يبدو الفقر جلياً في الشهر الكريم، وجبات شحيحة قد لا تتعدى خبزاً وشاياً للسحور، وسكبات مدللة لطبخات مطبوخة بسخاء وعناية من بعض البيوت. ينتظر الكثيرون دعوات الإفطار في رمضان لتعويض النقص الحاد في حصصهم الغذائية من اللحوم والفاكهة والحلويات، دعوات من الأهل والأصدقاء وأرباب العمل أو من الجمعيات الخيرية التي درجت على مد موائد  وقت الإفطار في بضعة أماكن أشهرها الجامع الأموي بدمشق، موائد ممتدة وواسعة للفقراء والمشردين والساكنين في الحدائق العامة والعمال الوحيدين والنساء المهجورات وأطفال الشوارع والمتسولين.

العصائر والتمر الهندي والعرقسوس محضرة مسبقاً ومعبأة في أكياس من النايلون، تروي ظمأ العطاش لكنها غير صحية ولا تخلو من أسباب ممرضة في ظل ارتفاع أثمان العصائر الطبيعية واستسهال تحضير الصناعي ورخص أثمانه.

تعاني الأسواق من تخمة باذخة في المعروض من البضائع وخاصة الطعام، استعراض مُنفر لأكوام  من المنتجات الغذائية يستحيل على الكثيرين شراء حاجتهم الأساسية منها. مع الإشارة إلى أن إحصائيات دقيقة أكدت أنه وخلال شهر رمضان  يزيد الاستهلاك الغذائي ثلاثة أضعاف الحصص المعهودة باقي أيام السنة، مع أن الجائع يحافظ على معدته خاوية ومرهقة من شدة النقص في الاحتياجات الأساسية والمتخمين يرمون الفائض في حاويات القمامة دون التفكير بغيرهم، مجرد توضيبها ومنحها للمحتاجين، مجرد الاقتصاد في شراء وجبات لا تفتح أكياسها ،لاشيء يبدو قابلا للتوزيع في ظل غياب الإرادة ولو بعدالة مؤقتة!

تقول الحكاية أن امرأة أصرت على دعوة صديقة قديمة لها على الإفطار في مصادفة غريبة حيث التقيتا صدفة في عيادة طبيب في الحي الذي تسكنه الداعية، ولما اقترب موعد الإفطار وافقت الصديقة على الدعوة لكن لشرب كأس من الماء وفنجان قهوة فقط، لكن بؤس حال البيت ورائحة المجدرة المقلاة بزيت نباتي رخيص دفعت بالسيدة للاعتذار حتى عن شرب القهوة، والمضحك المبكي أنه لا وجود للقهوة أساساً في ذاك البيت الممتلئ جوعاً وعوزاً.

يقضي أبو عماد جل نهاره وليله في الجامع طيلة شهر رمضان، فالبيت المستأجر خانق في الصيف وعائلته الكبيرة بما فيها أحفاده لا تترك له أية فرصة للاسترخاء والنوم كي يحصل على قسط من الراحة من تعب خلفه الصيام على جسده المريض والنحيل. يقول الجامع مكيف وواسع، يفطرغالباً في الوجبة الجماعية التي توزع أحياناً للزاهدين والمتقربين المتضرعين بإيمان والتزام شديدين، أو على المائدة المفروشة قريباً من وسط دمشق، يزيد من قراءة القرآن ويضاعف الركعات ولا يقطع صلوات التراويح. يقول إنه يشعر بأنه يكاد أن يطير من وداعة الإيمان والتحسب والاتكال على رب العالمين، رمضان بالنسبة له مساحة للاستسلام لسكينة مفقودة ولسلام داخلي مستلب وممزق خارج أوقات الشهر الفضيل كما يسميه.

أعوّل على عبوة الماء التي منحها غير صائم لصائم في بلد أراد الجميع أن يصف الحرب الدائرة فيها بأنها مجرد تنافر طائفي أو مذهبي، أعوّل على شبع مؤقت وجلسة طبيعية أمام مائدة طبيعية برفقة بشر يجمعهم الجوع في بلد خمسة وثمانون بالمئة من أهلها على حدود خط الفقر أو دونه بدرجات، أعوّل على احترام رمضان كشهر للسكينة والتعمق بتقبل الآخر وبث روحية التسامح و المشاركة، أعوّل على أن تبقى طقوس رمضان الإنسانية طقوساً ثقافية أصيلة في مجتمع متنوع ومتعدد.

حينها سيجود رمضان بخيراته ويصبح كريماً كما هو مكرس في الوجدان العميق للسوريين البسطاء والأنقياء، الصادقين والمؤمنين، عندها يليق بنا أن يكون رمضان شهر للاحتفال…

يوميات سورية: تغيراتٌ بنيوية، أم مجرّد تكيّف؟

يوميات سورية: تغيراتٌ بنيوية، أم مجرّد تكيّف؟

خلال الأزمات الكبرى تبدو التغيرات الطارئة على سوق العمل معياراً حقيقياً وذات مغزى وتترافق مع مؤشراتٍ دلالية تُحوّل التغيرات من مجرد حالات طارئة إلى تاريخ للعمل والعمال والإنتاج والسوق والميزان الاقتصادي لتبلغ درجة التأريخ لدورة اقتصادية مؤثرة تبدأ بالسبب أو الفعل وتنتهي برد الفعل وهو جملة المتغيرات الظاهرة والخفية، ومن يرسم ملامح الدورة الاقتصادية ويؤرخ  لآلية عجلة الإنتاج إنما يؤرخ أحوال المجتمع وحيويته الفعلية ،المعطّل منها والفعّال.

في حي المزة العريق والمزدحم بسكانه وبالوافدين الجدد الطارئين على المكان نزوحاً من مناطق أصبحت خارج دائرة الحياة، يُرتب أبو أحمد مستحضرات التجميل والأمشاط والعطور وملاقط الشعر وعدة الحلاقة وإزالة الشعر بعناية بالغة. يحمل بيده اليمنى نفاضة غبارٍ من الريش الأسود ليحافظ على لمعان بضاعته، وعيناه تراقبان السيدات خوفا من السرقة أو من أن تجرّب سيدة قلم حمرة شفاه وتعيده فتعطّل بهذه الحركة بيعه بعد أن تركت شفاهها علامةً بارزة عليه.

بعد خروج المنطقة التي كان يسكنها أبو أحمد من دائرة الحياة والتي فقد على إثرها منزله ودكانه الصغير المحتوي على بضاعة بالملايين، لم يعد له القدرة على استئجار دكان ٍبديل بعد أن أصبح بدل الإيجار الشهري يفوق قدرة الأغلبية على دفعه، حيث تتراوح الأجرة (حسب المساحة والموقع) الشهرية وسطياً بين ١٠٠-٢٠٠ ألف ليرة سورية، مع دفعة لمدة ستة أشهر سلفاً.

باع أبو أحمد حلي زوجته حتى خاتم الزواج  واشترى شاحنة صغيرة من نوع السوزوكي وجعل لها باباً حديدياً وجدراناً مغلقة، يفتحها خلال النهار ويغلقها ليلاً ويبقى هو في الشارع ملاصقاً لرزقه في حرّ الصيف وبرودة الشتاء، يردّد أبو أحمد عبارة “الحمد لله مستورة” لكنه يئنّ من وجع قدميه ومن غلاء أجار بيته ومن صعوبة الحياة القاهرة المستجدة.

***

كان أبو أيمن مالكا لأحد مخازن الخشب الكبيرة في ريف دمشق. خرج من بلدته وخسر المخزن والخشب وغلّة عمره وسنين شقائه، واضطر لأن يعمل كنادلٍ في أحد المقاهي الشعبية وتراه يحدث نفسه كمن فقد عقله. فالخشب يحتاج لمبالغ طائلة لتعويضه ولا يمكن تخزينه في شاحنة سوزوكي صغيرة، وتبديل التجارة صعب لأن المهنة تصير وطناً خاصاً لصيقاً بالروح والجسد.

***

في الحافلة المهترئة أحاول إيقاظ سيدة غافية تبدو على أصابعها بقايا حروق صغيرة بندبات حمراء اللون. تستفيق بصعوبة، أسألها  عن سرّ غفوتها وعن أصابعها. تقول “التعب”، حيث تعمل بالشمع الساخن الحارق لإزالة الشعر الزائد، وتزور البيوت وهي التي لم تعتد قطع كل هذه المسافات لتصل إلى زبوناتها اللواتي كنّ  يتسابقن لحجز مواعيدهن لزيارتها في محلها المشهور بالقرب من دمشق.

***

أما نظيرة فقد وزعت أيام الأسبوع ما بين صاحبات بيوتٍ يرغبن  بتحضير الكبّة أو لف ورق العنب وغيرها من الوجبات المتعبة. لا تملك نظيرة ترف يوم العطلة ولا تحديداً لساعات العمل، أجرها حسب كيلو البرغل أو الرز وعدد الساعات الضائعة في وسائط النقل وشروط الانتقال الصعبة غير مدرج في قوائم الحساب، وقد تعمل في بيتين في ذات اليوم كي لا تخسر زبائنها علّها تستطيع دفع بدل الإيجار وإعاشة وإطعام أحفادها وأمهاتهم بعد غياب الرجال كلٌ في متاهة موته أو تغييبه أو هجرته.

كانت نظيرة تملك ورشة خياطة مميزة ومشهورة وخاصة خياطة فساتين السهرة وشك الفساتين بالخرز والسيلان، لكن ثمة عملٍ لا يعوّض. لا تكفي قوة العمل والرغبة بإنجازه لتحقيقه، فمهنة كهذه تحتاج لماكيناتٍ ضخمة ودقيقة وباهظة الثمن ولتوافر مكانٍ واسع وعاملاتٍ متميزاتٍ وخبيراتٍ تتفاوت أجورهن حسب الخبرة.

يبدو التساؤل الأهم هنا هو الفارق ما بين امتلاك عملٍ خاصٍ بكافة تفاصيله وما بين العمل في البيوت. كافة أشكال العمل في البيوت حتى وإن كان عالي الجودة والمستوى والاختصاص هو عمل خدمي دوني يطيح بالهرم الاجتماعي من أعاليه وحتى أدنى درجة فيه، ويتحول المنخرط فيه من صاحب عملٍ ومالكٍ إلى عامل خدمة يحدد الزبون وقت حاجته له، أجره، والحيز الجغرافي الذي سيشغله، وقد تتشعب طلبات الخدمة المطلوبة لتصل إلى حدّ الإرهاق أو الإذلال.

***

سياراتٌ معطلةٌ على الأرصفة، في أزقة فرعية، أو في ساحاتٍ باتت مواقف للسيارات المعطلة وورشاتٍ متنقلةٍ للصيانة بعدما تبخرت محال التصليح ومعداتها كالبخار إثر تضررها بفعل القذائف أو احترقها أو تهدمها، أو بعدما صارت بعيدة مع أنها مرأية، بعيدة وهي ملاصقة للروح والجسد وغير بعيدة بالجغرافيا لكنها موصدة الأبواب وعصية على الوصول إليها.

في الحرب تنكسر النفوس وتضيق رحابة المساحات الممنوحة للكرامة كي تختار بين ذل الفقر وجدلية البقاء، يقول أبو سامر: “أنا مستعد أن أعمل في تعزيل المجارير لتأمين ربطة الخبز لأبنائي. أمسى أبو سامر رقماً إضافياً في قائمة الواقفين في طوابير عمال الفاعل المياومين، الذين تآخوا مع حجارة الرصيف الذي يجلسون عليه بانتظار الفرج. تهرب منهم الأحلام وتجفّ الابتسامات والقلق هو سيد الزمان والمكان، تتبدل قيمهم وأخلاقهم، يتخاطفون أي زبون عمل، يقبلون بأي نوع من الأعمال، يكسرون سعر الخدمة المتفق على تسعيرها، يتشاجرون ويتشاتمون، يسخرون من بعض والكدمات والجروح الظاهرة على الجسد تقهرهم أكثر. يجلسون بعيداً عن بعضهم بعد أن يفقدوا جميعا فرصة العمل المؤقت لأنّ الزبون يريد منحهم الأقل دوماً. تخيّل أن تتشاجر مع أخيك من أجل ليرات ولقيمات ثم يدير الزبون لك ظهره ليأكلك الندم والحزن وشبح الجوع وخسارة الأخ والصديق والشريك.

في المقلب الآخر دكاكين ضخمة تفتح أبوابها، فروع تصل للرقم تسعة أو عشرة لمحلٍ مختص ببيع الفروج مثلاً، وهيصة وعراضة وورود ووموالد وأغاني ودبكة. مكتبة لبيع القرطاسية تحوّلت لمركز فخم لبيع التنباك والمعسل، الأراجيل تستهلك الأرصفة وباتت خدمة أركيلتك واصلة عالباب تصنف كخدمة جليلة وعظيمة يُدفع لقائها بسخاءٍ مريب. سيارات فخمة تنقل ركاباً غرباء أو مقربين تنكروا بزي رجال الأعمال وأصحاب البيزنس وباتوا أشخاصاً مفتاحيين يحلون العقد ويعرفون آلية الوصول لكل المفاصل الصلدة والمغلقة بشيفرات الوساطة والرشوة.

نساءٌ يبعن أجسادهنّ بخفة القبلة الأولى، أو يقمن بشطف الأدراج في الأبنية العالية، يأخذن كل شيء قابل للتدوير، زوج جوارب، خبز يابس، خضار زائدة وذابلة، طبخة على وشك التلف مغمورة بالحموضة والجفاف، وشبابٌ يبيعون الممنوعات أو يهددوا الصيادلة بالمديات للحصول على حبوب وعقاقير مهدئة إدمانية التأثير.

أطفال تركوا مقاعد الدراسة لتوصيل طلبات البقاليات إلى البيوت، أو للعمل عتالين على عربات معدنية برائحة  كريهة نفاذة، محنيي الظهور، بعيون ميتة وبطون جائعة. وباعة المسروقات يتاجرون بكل شيئ، بأطباقٍ مازالت حبة الأرز الأخيرة يابسة في منتصفها، عربة طفل صار في حكم الغياب، فنجان قهوة بكامل بهاء بقايا الرشفة الأخيرة لامرأةٍ كانت تتبادل الحياة والقهوة مع زوجها على شرفة بيتهما الموغل في الغياب والفقدان.

مولات ضخمة ومطاعم بديكورات حديثة وملاهي عامرة بالشابات الفتيات المهدورات في قاعاتٍ مسمومة وأثرياء جدد بلا عمل وبلا شهادة علمية أو خبرة وبلا اسم، لهم لقب واحد واسم واحد حيتان الزمن الصعب، الزمن الضائع، “تجار الحرب” وأصحاب الخطوات الواثقة الجديدة.

في الحرب تتوه التعاريف وتهرم اللغة والتوصيفات، ثمة موتٌ معلن لا من راد له، من يتكيف قد ينجو للحظات ومن يسعفه الحظ ليستبدل تعباً بآخر ووجعاً بآخر قد يشبع لمدة أطول. في الحرب يتغير كل شيء وصاحب العمل يصير عاملاً أو بلا عمل، العاطل عن العمل قد يصير رجل أعمالٍ فاقع الثراء.

في الحرب أي عملٍ مهما كان شائناً هو عملٌ ويكتسب قيمته العليا من كمية المورد المادي وليس من نوع العمل ولا من جهد العامل وتميزه.

قالوا الحرب مضيعة الأصايل، وأقول الحرب مرآة  لانقلاباتٍ عميقة لا تبقي ولا تذر، تعمم فرضية أن البقاء للأقوى وفي صراع الأقوياء نتلاشى  حتى حدود العدم.

تنقلب البنى وتتصارع، والتكيّف مجرّد وهم ٍأو حيلةٍ للبقاء، وأي بقاء؟

هنا دمشق. ونحن مازلنا هنا.