القبيسيات والثروة

القبيسيات والثروة

الجزء الثاني من بحث القبيسيات في السياق المجتمعي السوري

تمهيد

تناول الجزء الأول من هذه الدراسة نشأة القبيسيات التي يرجح أنها بداية سبعينيات القرن الماضي1، كما تناول انتشار هذه الظاهرة، أو امتداداتها، في عدد من الدول العربية (السحريات في لبنان جمعية “بيادر السلام” المعروفة في الكويت و”الطباعيات” في الأردن وبنات فدوى في فلسطين، أما في مصر فيُعتقد أنهن يعملن تحت اسم “جمعية الزهروان”)، إضافة للإضاءة على بداية نشاط عدد من القبيسيات السوريات اللواتي لجأن إلى لبنان بين اللاجئات السوريات في البقاع.

كما توسع الجزء الأول من تسليط الضوء على العقيدة التي تعتنقها الدعوة القبيسية من “الصوفية النقشبندية” التي أخذتها منيرة القبيسي عن مفتي سوريا السابق الشيخ أحمد كفتارو؛ إلى المكانة الكبيرة “للخالة الكبيرة” ومن بعدها “للآنسة” نظرا إلى الدور الكبير الذي يلعبه الشيخ/ة عند الصوفيين عامة، والنقشبندية منهم خاصة، انتهاء بتساؤلات جدية عن السمة الملاصقة للصوفية وهي “الابتعاد عن السياسة” وابتعاد القبيسيات، وبالتحديد قياداتهن، عن السياسة وقد كنّ ينشطن بظل تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة في المجتمع السوري كنكسة حزيران وهيمنة مطلقة للنظام الشمولي في سوريا بعد ١٩٧٠ و”توريث” رئاسة الجمهورية عام ٢٠٠٠ وهيمنة التيار الديني الأصولي الذي كان يمثله الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وصولا إلى انتفاضة ٢٠١١ بكل إفرازاتها. نتساءل من جديد: من هن القبيسيات؟

القبيسيات والثروة

من الملفت سرعة تأقلم القبيسيات مع التطورات الاقتصادية التي كانت تحدث في سوريا، وتحت هذا العنوان يمكن دراسة السياق الاقتصادي عند نشوء الحركة واستهداف النساء الغنيات إضافة لاستخدام المال والنفوذ كعصب لحياة الحركة.

فيما يتعلق بالسياق الاقتصادي عند نشوء الحركة، ذكرنا سابقاَ أن حركة السيدة منيرة القبيسي نشأت في ظروف سياسية معقدة تفاعلت مع تغيرات اقتصادية تسببت بقلب الواقع رأسا على عقب. تمثلت هذه التغيرات بسياسات الإصلاح الزراعي والتأميم التي بدأت في عهد دولة الوحدة بين مصر وسوريا (١٩٥٨-١٩٦١)، وتعمقت أكثر بعد وصول حزب البعث للسلطة عام ١٩٦٣، خاصة بعد حركة ٢٣ شباط/فبراير ١٩٦٦ التي كانت مغرقة في “يساريتها” و شموليتها، وهي التي بدأت بتأسيس المنظمات الشعبية من أجل احتكار العمل المجتمعي وتسخيره لخدمة “أهداف الثورة” بعد أن احتكرت السياسة والاقتصاد.

المواقف المناهضة لسياسات الإصلاح الزراعي والتأميم ارتدت عدّة لبوسات سياسية واقتصادية ودينية، وكانت تختلف بحسب “الحجة” الأكثر مناسبة لـ “تجييش الرأي العام”، إلا أن الثابت بينها هو اللبوس الديني القادر- دائما- على استنهاض “الغضب والنقمة” عند شرائح المؤمنين. ينسجم هذا اللبوس مع الموقف الديني المدافع عن الملكية الخاصة، والذي يرى في الإصلاح الزراعي والتأميم “حربا حكومية شرسة، ضد الملكية الخاصة للأراضي السنية التي ورثها أصحابها عن الآباء والأجداد2. ومع أجواء “الانفراجات الاقتصادية الخجولة” التي جاءت مع استيلاء الرئيس حافظ الأسد على السلطة (١٩٧٠)، والتي عبر عنها تجار سوق الحميدية بشعار “طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد”، بدأت القبيسيات باستهداف النساء الغنيات.

استهداف النساء الغنيات

لم تكن منيرة القبيسي بعيدة عن نساء الطبقات التي خسرت جراء سياسات الإصلاح الزراعي والتأميم، كانت منهن ولا تختلف عنهن إلا بصفاتها الشخصية المتميزة التي أهلتها لتلعب دورا رائدا ومحوريا في إنشاء التجمعات النسائية الدينية لتوحيد النساء المتطلعات للتأقلم مع الأوضاع الجديدة والحفاظ على قوة مؤثرة في المجتمع، وربما لاقتناص الفرص من أجل التأثير في الاقتصاد، ولاحقا في السياسة.

تقول سلام إسماعيل في هذا الخصوص “ازدادت القوة الاقتصادية لجماعة القبيسيات أثناء الحصار الاقتصادي على سوريا في ثمانينات القرن الماضي، حيث قامت الحكومة خلال تلك الفترة باعتقال وتصفية جميع مكتنزي الأموال المشهورين من الرجال بحجج أمنية، فبقيت نساء تلك الجماعة مع ثروة هائلة غير معلنة تحت تصرفهن، وظَّفنَها لدعم انتشار الجماعة عن طريق المشاريع والنوادي الاجتماعية والأعمال الخيرية في سوريا والخليج العربي3.”

وتشير السيدة ك إلى أن القبيسيات يجتهدن في الاحتفاظ بعلاقات جيدة وتواصل دائم مع المريدات الغنيات حتى ولو سافرن خارج البلاد، “وتقول رغم أنني تركتهن إلا أن التواصل بيني وبين آنستي لم ينقطع، وهذا ما شدني إليهن ثانية عندما واجهت مصاعب في حياتي الزوجية؛ كما استطاعت القبيسيات أيضا المحافظة على تواصل ممتاز مع الشيخة منيرة زوجة الأمير مشعل بن عبد العزيز4.” وعلى الرغم من أن هذا التنظيم بات يستقطب جميع الفئات الاقتصادية، ولم يعد محصوراً ضمن الطبقة الغنية كما كان سابقاً، غير أنه ما زال مرتبطاً بعلاقات قوية مع التجار وأصحاب رؤوس الأموال في دمشق، كما تؤكد السيدة ك. كما أن المكانة البارزة للنساء الغنيات بين القبيسيات لم تمنع بعض السيدات غير الغنيات من الوصول إلى مراتب متقدمة في الحركة، وكانت أولئك السيدات يستندن إلى مريداتهن الغنيات للتقرب من النساء الجديدات. تروي ك “في مرة من المرات طلبت آنستي مني شراء هدية ولادة لنقدمها لسيدة بدأت بالمشاركة في حلقاتنا5. وتنوه السيدة ك أيضا لوجود تمييز طبقي داخل حركة القبيسيات كأن تجلس “الغنية على الكنبة بينما تجلس الفقيرة على الأرض6.

المال والنفوذ، عصب الحياة

قد يبدو أن هناك تعارضاً صارخاً بين عقيدة القبيسيات (الصوفية) التي تتسم بالزهد والترفع عن مباهج الحياة، وبين إقبال القبيسيات على استهداف النساء الغنيات اللواتي يتبارين فيما بينهن بالبذخ على ما يظهر من لباسهن، وتحديدا الحقائب والأحذية7؛ إلا أن الحقيقة تشير إلى أمور ثلاثة لا بد من أخذها بعين الاعتبار. أولها أن صورة المتصوفين في المشرق العربي باتت تختلف كثيراً عن الصورة النمطية للمتصوفين الزاهدين، وإذا استثنينا الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي8 فمن الصعوبة بمكان حصر الثروات التي يملكها أبرز المشايخ المنتمين لهذه الطائفة؛ وثاني هذه الأمور هو المنبت الطبقي للسيدة القبيسية؛ أما ثالثها فيتلخص في أن الحصول على المال ليس غاية بحد ذاتها عند الحركة القبيسية، بل هو أداة فاعلة في استقطاب المزيد من النساء وفي توسيع نشاطات هذه الحركة.

في بلد مثل سوريا المال وحده لم يكن كافياً للحركة، فالحصول عليه  يحتاج لشراكات مع المتنفذين في مواقع صنع القرار، كما أن الانفتاح الجديد باتجاه نساء المتنفذين في الدولة والحزب من أجل الجمع بين قوى الهيمنة المختلفة كان يتطلب المال أيضا، بل المزيد من المال، من أجل تقديم هدايا باهظة الثمن لنساء المتنفذين أو للمتنفذات أنفسهن9 مقابل المنافع التي قد تبدو بسيطة كتأمين الموافقة على تأسيس مدرسة خاصة أو تيسير الترخيص لجمعية غير حكومية، إلا أن تراكم هذه “المنافع البسيطة” كان قادرا على توفير أرضية مؤسساتية شرعية، ولدت فضاءات جديدة للقبيسيات للعمل بشكل رسمي ودون خوف من أية ملاحقات أمنية.

كما أن المال شكل وسيلة فعالة في العمل المجتمعي لكسب ود الفقراء بعد أن ازداد عديدهم وتعمّق فقرهم، خاصة بعد الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي واجهتها سوريا في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، والتي أعقبتها سياسات الانفتاح الاقتصادي التي بدأت في ١٩٩١ وبدأت بالانهيار بعد عام ٢٠٠٠ مع بداية تحول الاقتصاد السوري إلى اقتصاد احتكاري. وبهذا أصبحت المساعدات المادية والغذائية التي تقدمها الجمعيات الخيرية- التي تسيطر عليها القبيسيات- سندا كافيا لسد احتياجات ملحة عجزت الحكومات المتلاحقة عن تلبيتها، بل فاقمتها أكثر وأكثر، ولم تسمح بوجود أي آلية من آليات الضمان الاجتماعي الوطنية، وأصبحت مساعدات هذه الجمعيات هي الملاذ الوحيد لأولئك الفقراء، وبالمقابل يحصل مقدمو/مقدمات، هذه المساعدات على ولاء كبير.

ولم تكن هذه المساعدات تقدم بدون مقابل، بل كانت مشروطة بطلبات الواجبات الدينية من قدوم إلى الجامع والمواظبة على الدروس والالتزام باللباس الديني (الحجاب والمانطو)، وتتعداها أحياناً إلى اشتراطات بعدم العمل أو عدم الزواج بعد ترمل المرأة. ففي حادثة تلخص ما سبق ذكره اشترطت السيدة “أم د” (من جمعية حفظ النعمة) على السيدة التي توفي زوجها وترك لها ستة أطفال صغار ألا تعمل ولا تتزوج مرة ثانية مقابل شراء بيت لها في عين ترما وأخذ ثلاثة من أولادها للميتم وتأمين معاش شهري حتى تتمكن من إعالة الأطفال الثلاثة الباقين10!

وربما، توضح هذه الشروط واحدا من أسباب انخفاض نسب مشاركة النساء في قوة العمل في سوريا، والتي كانت تتناقص على الرغم من ارتفاع نسبة النساء المتعلمات، ووصلت إلى أقل من ١٤% عام ٢٠١٠ في الوقت الذي كانت تخطط الحكومة في خطتها الخمسية العاشرة (٢٠٠٥-٢٠١٠) لرفع النسبة إلى ٢٤%.

وتضاف هنا تساؤلات جديدة عن هذه الحركة التي “لا تعمل بالسياسة” ولكنها تملك مفاتيح أبواب عصية على الفتح  في وجه الكثير ممن يُفترض أنهم متنفذون أو قريبون من المتنفذين، ولكنهم يختلفون عن أولئك القبيسيات بتوجهاتهم العلمانية. ولو افترضنا أن هناك انتخابات حقيقية ستقوم في البلاد، ودون التدخلات الأمنية، فعلى الأرجح، إن لم يكن من المؤكد، ستذهب أصوات معظم الناخبين والناخبات، خاصة الفقراء، إلى مرشحي ومرشحات من يقدّم المساعدات السخية والعديدات منهم من الحركة.

كذلك توظف حركة القبيسيات المال والنفوذ في مجال لا يمكن للاستثمار فيه أن يخيب، وهو التعليم، مما يضيف لعمل ونشاط القبيسيات بعدا استراتيجيا هاما ومؤثرا في تشكيل الهوية الفردية، وربما الهوية الجمعية عندما يتضافر هذا البعد مع نشاطاتهن الأخرى.

ولهذا سيكون التعليم موضوع الحلقة الثالثة من هذا البحث الذي يتكون من أربع حلقات، فيما ستتطرق الحلقة الرابعة لأهم الانتقادات التي توجه إلى القبيسيات من الحلفاء والخصوم، ومجموعة الاستخلاصات التي سيخرج بها البحث.

الهوامش:

1 أشار الباحث د. نبيل مرزوق، بعد قراءته للجزء الأول من هذا البحث، إلى أنه التقى بالسيدة منيرة القبيسي عام 1970 خلال عمله على جمع بيانات إحصاء عام 1970 في دمشق، وجاء لقاؤه بها في زيارته الثانية لمسكنها بعد زيارته الأولى التي فتحت له الباب وقتها شابة محجبة وقالت له: “الآنسة مو موجودة بالبيت هلق ولازم ترجع مرة تانية حتى تجاوبك”. وتؤشر هذه الشهادة إلى أن عمل السيدة منيرة القبيسي قد بدأ قبل سبعينيات القرن الماضي، ولكننا لم نصل بعد إلى التاريخ الدقيق لبدء الدعوة القبيسية.
2- ahmadjoma.blogspot.com/2013/07/blog-post
3- سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي ي والإسلمي
4- المرجع السابق، مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح
5- لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧
6- المرجع السابق، مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح.
7- قالت لي سيدة حضرت عدة لقاءات للقبيسيات إن “الآنسة صرخت مستنكرة غلاء الأحذية التي تنتعلها المشاركات في هذه الحلقة، وقالت: الكندرة مو ضروري تكون ب 500 أو 700 دولار أو أكثر، من شو بتشكي أم الميتين دولار؟! صار لي سنة ونص لابستها وعم خفق فيها من بيت لبيت ولساها جديدة.”
8- كثيرا ما يتردد في الأوساط الاجتماعية والدينية الحديث عن حالة الزهد التي كان يعيشها الشيخ البوطي وتعففه عن الحصول على الهدايا الثمينة والأموال.
9- جرت محادثة عام 2006 ضمت عضوة مجلس شعب (أ.خ) ورئيسة جمعية الندى، جمعية تديرها سيدة قبيسية (م.ر) وكاتبة البحث وجرى الحديث فيها عن تقديم هدايا ثمينة (ألماس) في مناسبات عديدة من رئيسة جمعية الندى لوزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل وقتها من أجل “تمشاية الشغل” بحسب قول رئيسة الجمعية.
10- مقابلة مع سيدة حصلت أختها على معونة من جمعية “حفظ النعمة”.