مائدة مستديرة: القانون ٣١، هل يكرس سلطة الدين في سوريا

مائدة مستديرة: القانون ٣١، هل يكرس سلطة الدين في سوريا

أثار قانوندينيوافق عليه مجلس الشعب السوري جدلاً واسعاً في الأوساط السورية ورأى فيه البعض أنه يهدف إلىأفغنةأوسعودةسوريا وذلك بسبب الصلاحيات الواسعة التي يمنحها القانون لوزارة الأوقاف. وكي نلقي الضوء على القانون والجدل الذي أثاره في الساحة السورية الافتراضية طلبنا من بعض الكتاب والصحفيين والباحثين السوريين مناقشة القانون وانعكاساته واستطلاع آراء السوريين حوله، وفيما يلي ننشر المادة الأولى التي وردتنا:

القانون٣١، وزارة أوقافٍ أم وزارات..؟
عامر فياض

السجال السوري حول القانون ٣١
عمّار ديّوب

مرسوم الأوقاف رقم ١٦: سجالات حامية بين المؤيدين والمعارضي
سامر محمد إسماعيل

صياح الديك

صياح الديك

لا أعرف من أين أتى الديك إلى هذه المدينة، يهزُّ ليلها المعتم بصياحه الفوضوي. ما مذهب هذا الديك، وإلى أيّ أرومة فلسفية ينتمي؟

فكرت وأنا في غمرة يأسي أن أكتب رسالة إلى السيدة الدولة، متمثلة بأعلى رموزها، أشكو لها الفساد الشامل، دون أن أتطرَّق ولو بإشارة إلى حقوق الإنسان، أو حقوق الأقليات، أو حقوق المرأة، فأنا أعتقد أن الدولة شديدة الحساسية من هذه الفذلكات، وربما هي على حق.

في هذه اللحظات السوداوية، اكتشفت اكتشافاً مريعاً؛ هو أن الناس في الحي الذي أقطنه يسمّون مصلح التلفزيونات ” أفلاطون” وأنا أعرف أن له اسماً آخر، وتبين لي، وهنا مكمن استنكاري أن لقب أفلاطون يطلقونه على الأغبياء ومدعي الذكاء! كيف أصبح اسم أفلاطون مرادفاً للغباء البشري؟ هل هذا نوع من البلاغة الشعبية، أن تقول الشيء وتقصد عكسه؟ لا أدري إذا ما كانت هذه بلاغة، من يستطيع أن يحل لي هذه المعضلة التي جعلتني أتفطر حزناً على الإغريق وعلى أفلاطون، وأتساءل: هل سكان حارتي اسبارطيون أم عثمانيون جدد، يكرهون الإغريق القدامى والجدد؟ لا أدري.

إن كلمة “لا أدري” هذه تصلح كديانة جديدة للعقلاء والمعتدلين، بشرط أن يقولوا عن كل شيء لا أدري أو ما يوازي هذه الكلمة أو ما يتفرع عنها، مثل: ممكن،احتمال، هذا وارد… عندما أكون في وضع مناسب سأبشر بهذا الدين الذي لا يحتاج إلى ضحايا ولا إلى مجاهدين، ولا إلى أحاديث تلفزيونية. ريثما يتم لي ذلك، اعتذرت في نفسي لليونانيين القدماء، ونويت أن أبكي، إلا أنني قلت لا شأن لي بكل هذا، فأنا أحبُّ السيد أفلاطون، وأرسطو، وسقراط، واكسماندرس، وهيرقليطس الذي يقول: ” أنت لاتستطيع أن تستحم بماء النهر مرتين” رغم أنني استحممت بماء النهر مرتين وأكثر، عندما أغلقت مجراه مع أصحابي من أبناء القرية، ولم يكن في ذلك أي تحدّ لهيرقليطس، ولم يخطر ببال أحد منا أن يطلق على هيرقليطس اسم أفلاطون. كنا في زمن غير هذا الزمن. أذكر أن أستاذ المدرسة، أراد أن يسخر من أحد التلاميذ الأغبياء وأسماه “أنشتاين”! ربما كانت هذه البادرة التهكمية من الأستاذ نوعاً من البلاغة، إذ جعلتنا في قرانا النائية المنقطعة عن العالم وعن الكهرباء، نعرف من هو أنشتاين، وفي طريقنا لمعرفته تعرفنا على “أديسون” وعلى السيد “كوخ”  مكتشف عصيات السل، وتعرفنا على مخترعين آخرين. إذن، هذه بلاغة موصوفة لم يتحدث عنها الجرجاني ولا الآمدي ولا ابن قتيبة ولا المرزباني ولا ابن رشيق. وخلاصة القول؛ كنت وما أزال أحب أفلاطون الحقيقي، أَعلم هو بذلك أم لم يعلم. حين صاح الديك للمرة الثانية، تذكرت مأساة السيد المصلوب، حين تخلى عنه تلامذته وأنكروه واحداً تلو الآخر، أنكره أحدهم مرتين أو ثلاثاً قبل صياح الديك!

تمنيت ألا يكون هذا قد حدث بالفعل، ويبدو أنه قد حدث، ولا أدري. رغم أنني أدري بعض الأشياء، وهذا نوع من المكر أو سوء النية الفلسفي. الحقيقة لا أدري لماذا قررت بشكل مفاجئ أن أعبر الشارع نحو الحديقة العامة، منذ زمن طويل لم أدخل حديقة عامة، اكتشفت في منتصف الشارع، أنني جازفت وعرقلت حركة سير السيارات، التي تباطأت وشكلت اختناقاً مرورياً، ولا أدري إذا ما شتمني أحد السفهاء من السائقين، جرى ذلك للحظات، وأنا أتردد في العبور، استيقظ في ذاكرتي حمار جدي، كان يحرن كلما تحسس خطراً، أأمضي الآن إلى الأمام أم إلى الخلف؟ دفعني الارتباك إلى رفع يدي مستسلماً لقدري وموحياً بلا اعتذار لجميع السائقين العموميين وغير العموميين. لكن، ما لم يكن بالحسبان أن بيتاً من الشعر للمتنبي داهمني في هذا المأزق الحرج، وجعلني أندفع إلى الأمام وأنا أردده متحدياً كل هذه العربات المتحفزة:

      إذا اعتاد الفتى خوض المنايا             فأهون ما تمرُّ به الوحول

حين اجتزت الشارع شعرت بسعادة لا توصف، قلت بانتشاء، كمن خلص من مهلكة: ما أروعك يا أبا الطيب! كانت الحديقة تعج بالعشاق، رغم الحرب الدائرة في محيط المدينة، دائماً يخرج الإيروس متحدياً الموت، ألم يقل شاعرنا الحديث: “إذا ضحك الموت في شفتيك/ بكت من حنين إليك الحياة.”

على كل مقعد في الحديقة، يجلس عاشق ومعشوقته. لم أعثر على مقعد فارغ لأجلس وأرنو إلى البط في البحيرة، والحقيقة لم يكن ثمة بط ولا بحيرة، كان هذا موجوداً في ماضي هذه الحديقة ، قبل الحرب على الأرجح! لا أدري كيف مضت الأمور إلى زوال، وبأمر من؟ رحت أرنو إلى العشاق، هذه هواية قديمة لا زمتني منذ صباي، لا أستطيع حتى الآن مقاومة غريزة التلصص على العشاق. كنت أحياناً أتوارى خلف جذع شجرة وأراقب، فعلت ذلك مرة في بيروت، وكانت بيروت في زمن حرب أيضاَ. في هذه الحديقة، واحدة من الفتيات تجاوزت كل مألوف، وأظهرت اندفاعاً ثورياً يفوق التصور، أمسكت صاحبها وأدارته نحوها، ثم مدت يدها إلى ذقنه وجذبته نحوها وانقضت عليه، استمرت زمناً أطول من أي مشهد سينمائي مصري، ولم يصفر لها أحد، بل سرت العدوى منها إلى الأخريات. قلت في نفسي؛ عليَّ أن أكون سعيداً لهذا التحول في مجتمع محافظ، فالعالم يتغير دون أن يكون لديَّ يقين، إذا ما كان يتغير نحو الأمام أم نحو الوراء! كأنني أنتمي إلى العالم القديم. لا مكان لي في هذه الحديقة، لأذهب حالاً إلى المقهى الذي لم أدخله منذ سنوات بسبب غلاء الأسعار، أنا الآن أقتر على نفسي، وما كنت مقتراً. في شارع البرلمان، تحلق الناس حول امرأة، ورجل كهل يتشاجران، أغمض الرجل عينيه وراح يلكم الهواء مثل أعمى فقد صوابه، لم تُصب أي من لكماته المرأة التي اندفعت نحوه وهي تصرخ بهستريا. اجتمع خلق كثير وراحوا ينظرون بحياد، كأنهم يشاهدون مسرحية في الهواء الطلق. انقضت المرأة مثل خفاش على وجه الرجل الذي راح يترنح، أنشبت أظفارها في لحم خده، انبجس دم، وراح هو الآخر يصرخ كأن أفعى لدغته، وهو يشتم بأقذع المفردات التي يحذفها  موظفو الرقابة عادة بعد ان يستمتعوا بقرائتها. خمدت المعركة بعد أن تعب الطرفان. هدأت المرأة ومسدت فستانها، وتأكدت أنها لم تخسر أي شيء في هذه المعركة، بل كسبت الكثير من الصفات التي تجعلها أشد اعتزازاً بذاتها. لكن سرعان ماتبين أنها لم تكتف بما فعلته بوجه الرجل، بل ختمت فصلها الأخير بأن بصقت في وجهه، وهي تغادر مرفوعة الرأس، ولم تبال بالتعليقات الجنسية التي انطلقت من أفواه بعض الزعران! مالذي يجري في هذه المدينة، التي عرفت عبر تاريخها باللين والدماثة، كأن العالم السفلي قد خرج وطرد العوالم الوديعة!

دخلتُ المقهى دخولاً مظفراً، مدفوعاً بامتياز الرواد القدامى. هنا كان لي صولات في سنوات مضت. صفق لي النادل مرحباً وكأنني أعود إلى بيتي الذي هجرته، وراح يعاتبني على انقطاعي. اشرأبت أعناق أصدقائي لظهوري غير المتوقع، كما هي العادة، من الصعب أن يجتمع هذا العدد على طاولة واحدة، مع أخذ الخصومات والصراعات الكلامية بالحسبان، وقد ارتفع منسوب الصراعات في هذا الزمن الدامي، زمن الشقاق، التشتت التفكك. كان علي أن أوزع نفسي في جسوم عديدة. اخترت طاولة الصديق الأقرب إلى الباب. سألني أحدهم عن رأيي بما يجري، إلا أنني تريثت بالإجابة، تصدى للإجابة عني شخص لم أكن أعرفه، وقال: لينين انتقد عفوية الجماهير. قلت مازحاً: وأنا أيضاً ضد تقديس عفوية الجماهير. ابتسم الرجل وشعر بالنصر، وزاد من اعتداده أن دخلت فتاة أو امرأة، لا أدري، إذا ما كان هذا مهماً، كانت مثيرة في الحدود الدنيا من الأناقة، اتجهت صوبنا وتعانقت مع الرجل اللينيني، تهامسا بجانبنا، ثم ذهبا وجلسا في عمق المقهى. سألت صديقي: من هذه؟ معتقداً أنها من الكاتبات الجديدات. قال صديقي ببذاءته المعهودة: إنها قحبة ثورية. قحبة ثورية إذن؟ هذا فائض قوة جديدة للثورات الملونة أو المزركشة أو الدموية. لو أن الخال العزيز أبا داؤود موجود، لديه غرام شديد بمثل هذا النوع من الثوريات بشكل خاص! أما أنا فلست إلى هذا الحد. بل أستطيع القول إن ميلي يتجهة عكس ذلك، ولا رغبة عندي في كشف ميولي، لكن الشيء بالشيء يُذكر. حضر أبو داؤود معظم مؤتمراتي السوريالية، ومؤتمرات الأممية السادسة، وكان حاضراً بقوة في آخر مؤتمر عقدته في غرفة القابون، تسعينيات القرن المنصرم، أعلنت فيه حل الأممية السادسة. كان حماس أبي داؤود عالياً دائماً. اسكندر وكريستين وكريم، سحرتهم شخصية أبي داؤود، يعتقدون أنه إرهابي قديم، من رجالات الثورة الفلسطينية، يستحق التبجيل، راح الشعراء الجدد يقرأون له أشعارهم النثرية منتظرين منه اعترافاً.

خرجت من المقهى، دون أن أشغل نفسي بالتفكير في جسد تلك الثورية، لدى الإنسان كثير من المشاغل والهموم تشغله عن التفكير باللحظات العابرة مهما كانت دلالاتها وإيحاءاتها. كنت أفكر بالحرب، والمآسي التي تنتج عن الحرب. وجدت نفسي في دوامة من الكآبة التي لا شفاء منها. في الطريق صادفت أحد معارفي القدامى، قال لي إنه يعد نفسه للهجرة، وقال: هذا الشرق لعنة قدرية، فنحن كل عشر سنوات أو عشرين سنة أمام حرب من هذا النوع القذر. كان الرجل في غاية السوداوية، ناقماً على كل الناس، وكل الجهات بالمقدار نفسه. لم ينتظر مني تأييداً أو تعاطفاً، ودعني متمنياً لي ولأسرتي السلامة، ثم بكى. شعرت بالحاجة الماسة للعودة السريعة إلى البيت، لم أعد أحتمل أن أرى أكثر مما رأيت في هذا اليوم. يوم طويل في حياة مواطن عايش الحرب بكل حواسه، وانفعل مع آلامها منذ اللحظة الأولى. بدا لي أن الطريق إلى البيت أطول مما هو عليه في الواقع، لا أدري كيف أشرح ذلك، ولم يخطر ببالي أن أقحم مدة برغسون في الموضوع، سأترك الأمر للتخمينات. في الطرق قفزت في رؤاي صورة ذلك الرجل الذي بكى وهو يودعني، وتذكرت ذلك البيت من الشعر، أعتقد أنه للمهلهل بن ربيعة، يقول:

” ونبكي حين نذكركم عليكم          ونقتلكم كأنا لا نبالي”

لكن رجلاً له ماض لا تهزه دموع رجل خائب ممخرق قرر السفر عند أول مشهد للخراب، تمنيت أن أستوقفه وأقول له: إلى أين تمضي؟ فإذا كانت حياتك هنا خراباً في خراب، فستكون خراباً في خراب أينما توجهت، وهذا اقتباس مشوه من قصيدة اليوناني الاسكندراني كفافيس. في شبابي كنت ألوح لنفسي بهذا المقطع الشعري كلما لاحت لي فرصة للسفر أو للهجرة. ويَصلح هذا الشعر كأنشودة للمتقاعسين عن السفر والكسالى الذين لا يحبون أن يغادروا أماكنهم.

في الحي الذي أسكنه، بدأ الليل قبل أوانه، كما في كل يوم، إذ يأبى النهار أن يأتينا كاملاً. تسقط العتمة وتحل علينا كضيف ثقيل الظل بل كمستبد أرعن. الإرهابيون جعلوا التيار الكهربائي هدفاً يومياً، لماذا يفعلون ذلك، أليسوا ثواراً، ويتوجب عليهم أن يكرهوا الظلام؟ قلت هذا لأحد المتعاطفين معهم عن بعد. قال لي: هذه مقولات بائدة عن النور والأنوار، على العكس، نحن الثوار الجدد علينا أن نحب الظلام والأنفاق، نحن ثوار ما بعد الثورات لنا قاموسنا الجديد. استفاض الرجل في حذلقة فلسفية، لا أدري، ربما ووفق الوضع المابعد الحداثوي، نكون نحن كائنات عصر الأنوار قد أصبحنا حقاً من عالم الأمس.

استمر انقطاع الكهرباء كل الليل، مما جعلنا نسمع دويَّ انفجارات من بعيد ومن قريب. النوم في مثل هذه الظروف شبه مستحيل إذ تهاجمك عصابات من ميلشيات الناموس، بعضها يطنُّ وبعضها يتسلل دون طنين. إنه توزيع أدوار حربية، إذ يمكن للإنسان أن يتعلم فن الحرب من خبرات هذه الحشرات الجوية التي تتمتع بطاقات كبيرة على المناورة وتختبئ في النهار تحت السرير أو خلف الستائر أو في خزانة الملابس، تخرج عندما ترى الوقت مناسباً، حتى أن الذباب يبدو متخلفاً عن هذا الفصيل البرغشي المتمرس، وأعتقد ليس أمام الذباب من خيار إلا أن يتجدد أو يتحول إلى ناموس حتى يضمن لجنسه الاستمرار. خطر لي أن التفكير في هذه الأشياء هو جزء من تفاهة زمن الحرب، وعلى الإنسان الحصيف الجدي ألا ينجر إلى مثل هذه السخافات اليومية، الحياة الضاغطة لا تحتمل كثيراً من هذه التأويلات.

قبل بزوغ الفجر عاد الديك الغريب ليصيح، ردَّ عليه ديك آخر من مكان آخر، كأنه يحتج على الخطأ في التوقيت، أو أن الدنيا كلها باتت في حالة خصام، فعل ورد فعل، ربما هو فائض الحيوية، فائض العدوانية، فائض المكبوتات، كل شيء يعبر عن نفسه بالحدود القصوى.

في زمن الحرب والموت، لا قيمة لشيء له قيمة، القيمة الكبرى تغدو لكل ما ليس له قيمة حقيقية. زمن يتمنى فيه المرء أنه لم يولد ولم يلد، زمن الفتنة الكبرى وما بعد بعد الفتنة الكبرى. في زمن الحرب والموت ننسى جمال ما حولنا، ننسى كل النعم والهبات التي منحتنا إياها الطبيعة، في زمن الحرب والموت تطل من كل الكوى والنوافذ والآفاق ألسنة البذاءة والخداع، لنردد إذن مع حصان المتنبي بفجائعية وهجائية للجنس الآدمي:

   ” أبوكم آدم سنَّ المعاصي                وعلمكم مفارقة الجنان”

صباح هذا اليوم سقطت ثلاث قذائف هاون على الحي، من حسن الحظ لا توجد إصابات في الأرواح البشرية، اقتصرت الأضرار على الماديات، أخشى أن يكون الديك الصائح قد تعرض للضرر، وفي حال كان الأمر كذلك، أرجو أن يحل ديك بديل يقوم بالدور، فأنا لم أعد أستطيع العيش في هذا الحي دون سماع صياح الديك.

*****

هل هي لعبة، كما يقول المحللون التلفزيونيون، لا أدري. لكن من المؤكد أن الأمر أخطر، تعالوا انظروا الدماء في الشوارع، أستعير هذه الجملة من الشاعر بابلو نيرودا وهو يتحدث عن الحرب الأهلية في إسبانيا. إذن، ليس الأمر مجرد لعبة  يلعبها اللاعبون الدوليون، لكن ربما تكون في أحد جوانبها لعبة قذرة يلعبها مجرمون، أنا لا أغفل دور اللعب في التاريخ. ويالها من لعبة قتل متدحرجة لاتريد أن تنتهي. قالت امرأة ثكلى، وهي تنتظر جثمان ابنها الشهيد: ياخوفي أن تذهب دماء الشهداء هدراً.

انتابني في غمرة الليل شوق عارم للبحر، ولم أكن يوماً مغرماً بالبحر ولا بالبحيرات، بل مغرم بالأنهار والينابيع والغدران الرقراقة. منذ سنوات لم أجلس على شاطئ، ولم أحدق بالأفق المفتوح كما كنت أفعل في سنوات الصبا والشباب، ذاكرتي تحتفظ بانطباع جيد عن الأفق، بصرف النظر عن هذا الأزرق الصلف ورائحته التي لا أحبها في الصيف. ظلت مشاعري الفوضوية تتحكم بي، لا تزال تستهويني فوضى المشاعر. قد يداهمني بعد لحظات التفكير في صحراء تدمر، أو جبال البتراء، أو في تخيل مدينة تيماء الصحراوية، ولا أعرف أين تقع تيماء هذه. قد أفكر بمدينة الرقة أو بمسقط رأسي في ديرالزور. أنا الآن تحت وطأة صياح الديك المرتقب، وتحت وطأة انقطاع التيار الكهربائي، لا أعرف لماذا داهمتني رغبة في سماع نصري شمس الدين، وكنت على استعداد بأن أدفع كل ما في جيبي من نقود مقابل سماع نصري، وكأن نصري في هذه اللحظات إكسير مضاد للسأم والكآبة والحرب، وتذكرت المشهد المؤلم لرحيل هذا الفنان، كان تابوته محملاً فوق سيارة أجرة تنقله من دمشق إلى بيروت. هكذا يموت العظماء الحقيقيون يا نصري، غرباء بلا مشيعين وبلا جنازات هادرة. أحمد الله أن الدولة لا تزال موجودة، وهي تؤكد لنا ذلك عبر النبضات المتقطعة للتيار الكهربائي، وكأنها تقول: أنا هنا. أحد رجالات الدولة من قريتي، هو من أبناء جيلي، مرح ويحب المقالب، رغم أنه فاسد من الطراز الأول، زرته منذ أيام في مكتبه للتضامن التهكمي مع رجالات الدولة، قال لي باختصار: سننتصر على الإرهاب. كانت أسنانه جديدة، غير تلك التي عهدناها في فمه، وفعل بها الزمن بعض الأفاعيل، قلت له مازحاً: أسنانك هذه عثرت عليها قبل الأزمة أم بعدها؟ قال: لم يمض عليها سوى أيام، ولكن إياك أن تظن أنها مسروقة. قلت: لم يخطر ببالي ذلك. قال هذا يجعلني أفتح معك صفحة جديدة، لكن هل تعتقد أن تركيب أسنان جديدة في هذه الظروف يثير الشبهات؟ قلت: لا تقلق، يبدو أن كل شيء مباح الآن. قال: العرصات أمراء الإرهاب، يحظون بكل شيء؛ البترول والنساء وتجارة الأعضاء وكل شيء على الأرض السورية والعراقية والليبية. قلت: ويريدون أن يحجزوا لهم السماء أيضاً.

الجيش الحر والتبعية الإقليمية والدولية

الجيش الحر والتبعية الإقليمية والدولية

عمّت المظاهرات مدن وبلدات سوريا، وبدا كأن أفقاً جديداً ينفتح أمام المجتمع بعد عقود طويلة من الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي. الدفقة الأولى التي ترافقت مع هتافات المتظاهرين أعادت الحياة لمعنى الحرية والكرامة في وجدان الناس ولقيم التضامن الجماعية وكانت الأشهر الأولى من عمر الثورة بمثابة زمن جديد يحاول القطع مع المستنقع الآسن الذي أَغرق المجتمع في الفساد، والذي عممته الدولة الأمنية  في سياسة ممنهجة للإفساد ليشمل الجميع حسب قول الدكتور طيب تيزيني. الإفساد العام هذا، تعمّم في مجتمعات تحكمها العلاقات الاجتماعية الريفية العائلية والقبلية والمناطقية، وترافق ذلك مع قيم الفردية والفهلوية والشطارة. الانهيار العام للمجتمع السوري شمل كل المجالات وطال كل المستويات. شكّل هذا الوضع الأرضية التي أثرت في تكوين البنية والشكل التنظيمي للحراك للثوري في طوريه السلمي والعسكري. إن محاولة توصيف هذا التكون تفترض التركيز على العوامل الداخلية التي سمحت للعامل الخارجي فيما بعد أن يأخذ هذا الدور من حيث الحجم والتأثير قبل أن يصير صراعاً  إقليمياً ودولياً.

نشوء المجموعة المسلحة

جوبهت المظاهرات بالعنف الشديد، حيث تصاعد القتل وحملات الاعتقال والإذلال وذلك لهزيمة الحراك الاجتماعي ودفعه لحمل السلاح، وليكون الميدان العسكري هو ساحة الصراع والتي تسمح بانتصارالنظام أو إطالة أمد بقائه، فبنية هذا النظام الأمني غير قادرة على خوض صراع سلمي مع الحراك المجتمعي بل هي غير مجهزة ولا تملك الأدوات باعتراف رأس النظام نفسه.

أوّل هدفٍ لحمل السلاح هو حماية المظاهرات السلمية من عنف أجهزة الأمن، وقد بدأ من مجموعات أهلية تحمل السلاح الفردي وأسلحة الصيد، وبدا وكأن النظام وجد ضالته. عمل مهربو السلاح تحت نظر النظام وفُتحت لهم طرق التهريب كاملة بينما حوصرت بلدات وقرى ومنع عنها حتى الخبز وحليب الأطفال! رغم استشعار الناس بخطر السلاح، ورغم رغبة الناس في المحافظة على سلمية الحراك والوعي المبكر لأهمية السلمية التي رُفعت كشعارات وهتافات في مظاهراتهم، فإن حمل السلاح لم يكن خياراً بل طريقاً لا مفر منه لمواجهة العنف المنفلت للنظام.

تشكلت المجموعة المسلحة من الشباب المهمش في نطاق أهلي مناطقي حيث التراتبية في المكانة الاجتماعية حسب مستوى التعليم والعمل. الفئة الأكثر تعليماً كانت منخرطة في العمل  الإعلامي والسياسي والتنظيمي في التنسيقيات، والفئة الأقل تعليماً شكلت المجموعة المسلحة وضمت ما يُعرف بـ”القبضايات” أو بـ”الزعران” والشباب المتدين البسيط.

لم يكن هناك إطار فكري أيديولوجي سياسي تنظيمي للجماعة المسلحة في بداية تشكلها بل كان الحامل الوحيد هو الرابط الأهلي المناطقي ومهمتها حماية المظاهرات. ومع ازدياد حجم العنف والدم وبفعل وجود السلاح تعدت مهمة الحماية وعمليات الانتقام من أجهزة الأمن وأدواتها من مخبرين وتابعين إلى /تحرير/مناطق والسيطرة عليها (لا يعدم النظام حجة للعنف الذي مارسه لكن  مجرد وجود السلاح سمح للنظام باستخدام أدوات أشد، لم يكن من المتخيل أن تقصف مظاهرة لتشييع شهداء المظاهرات بالطيران الحربي –حدث في السيدة زينب17 /8/ 2012).

تزامن ظهور الجماعة المسلحة مع ازدياد ظاهرة انشقاق الضباط والجنود عن جيش النظام وظهر اسم جامع لكل من يقوم بعمل مسلح ضد النظام هو الجيش الحر. الجيش الحر هو مجموعات منفصلة لا رابط يجمعها سوى الإسم والهدف، وتعتمد المجموعة على بيئتها المحلية للحصول على التمويل من خلال التبرعات وأحياناً على شكل أتاواتٍ فرضت على الميسورين، وحدث كثيراً أن نهبت أملاك عامة وخاصة بحجة تابعيتها للنظام، وضرورة توفير الدعم متجاوزة الصورة الأولى لتشكيل الجماعة المسلحة حيث أفرادها الأوائل قدموا ممتلكاتهم الشخصية لشراء السلاح!

التحق المنشقون عن جيش النظام بالمجموعة المسلحة، وكانت ظاهرة الانشقاق ذات أثر كبير في جوانب عدة فضلاً عن إضعاف جيش النظام وكشف زيف روايته للأحداث. كانت لتمد العمل المسلح بالمحترفين وترفعه لسوية عمل منظم لكن الواقع كان غير ذاك، حيث رفضت المجموعة المسلحة العمل تحت قيادة الضابط المنشق والتخلي عن قائدها الثوري، فظهر شكل مزدوج للقيادة عسكري وثوري، و صراع مستمر على آلية العمل والتنظيم. لم يقبل أفراد المجموعة أن يتحولوا إلى عسكريين تحت إمرة الضابط المنشق في نظام شبه عسكري، يعيد إلى ذاكرتهم مساوىء وذل الخدمة العسكرية في جيش النظام، ولم يقبل القائد الثوري الذي يملك الأسبقية في العمل الثوري من الوافد الجديد المنشق أن ينتزع منه القيادة، وفي بعض الأحيان اتُهم المنشقون بعد الحفاوة التي استقبلوا بها أنهم مدسوسون من قبل النظام لاختراق الثورة.

وعكس ذلك لم يقبل الضابط المنشق العمل المسلح تحت إمرة مدني غير محترف، وبدون نظام وتراتبيه واضحة بين أفراد المجموعة، وبالتالي تحولت المجموعة المسلحة إلى مكانٍ نابذ للمنشق، فهو لا يستطيع البقاء فيه والتعايش معه. ضباط الرتب الدنيا والأصغر عمراً، كانوا أكثر قدرة على التأقلم مع المجموعة، ورغم بروز أسماء لكثير من الضباط المنشقين الذين خاضوا مواجهات بطولية إلا أن دور الجماعة المسلحة تحول من دمج الضباط بصفوفها إلى تأمين عملية الانشقاق وإيصال المنشق إلى مخيمات اللجوء في دول الجوار.

خصصت كل من تركيا والأردن مخيمات خاصة للضباط المنشقين، وهي أشبه بمراكز للاحتجاز، وبحراسة مشددة وشبه قطيعة عن الداخل السوري، وقد ضمت هذه المخيمات آلاف الضباط المنشقين؛ ففي مخيم الراجحي في الأردن وحده كان هناك 2163 ضابطا من رتبة رائد فأعلى، ولا توجد إحصائيات موثوقة للأعداد الحقيقية للضباط المنشقين. كانت هذه سياسة الدول الاقليمية التي تدعي دعم الثورة، وذلك لعدة أسباب، ومنها، وهو رئيسي، ويتحدد بقطع الطريق أمام إنشاء جيش وطني محترف ثوري ويقود العمل  المسلح ويصعب استثماره في ظل صراعات النفوذ بين الدول الإقليمية. يمكننا الاستنتاج هنا أن قرار تدمير الثورة السورية، كان هدفاً متفقاً عليه، وهذا حديث آخر.

أسلمة المجموعة المسلحة

قامت المجموعة المسلحة بإمكانات أفرادها والدعم المحلي المتوفر إلى أن فُتح باب التمويل الخارجي الخليجي أساساً وذلك عبر أفراد ومؤسسات إسلامية، وشكل المغتربون السوريون صلة الوصل بينها قبل أن تتحول لسياسة دعم منظم من هذه الدول، وسرعان ما طالت اللحى في المجموعة المسلحة وأتخذت أسماء لها تُعبرعن توجه إسلامي، وتحول القائد الثوري في المجموعة إلى أمير طلباً للدعم. يشمل ذلك  المجموعات التي يقودها الضباط المنشقون، ورغم ضآلة عددها لم تسلم من هذا التوجه. إضافة لكل ذلك ظهرت جماعات إسلامية بقيادة إسلاميين إيدلوجيين أطلقهم النظام من سجونه وظهر تنظيم تابع للقاعدة باسم جبهة النصرة؛ كل ذلك شكّل عوامل ضاغطة لتتجه الجماعة المسلحة المتنوعة والكثيرة نحو الأسلمة، والانتقال من الشكل الشعبي “الإسلامي” إلى شكل أكثر راديكالية وتشدداً، فأصبح لكل مجموعة هيئتها الشرعية ونطاق جغرافي تطبق فيه شريعتها، وتتنازع فيما بينها على حدود تلك السيطرة.

إن زمن الانحدار الاجتماعي هو زمن تشكّل المجموعة المسلحة؛ فغربة المجتمع عن العمل السياسي وغياب الإيديولوجيات كإطار فكري عام، وغلبة الشعاراتية في عقود الاستبداد هو الذي دفع المجموعة المسلحة إلى أن تستجيب لمتطلبات الداعم الخارجي الإسلامي التوجه من جهة ومن جهة أخرى أن تقلد وتستعير أدوات المجموعة الإسلامية في التنظيم والعمل، ولا يغفل هنا الدور الكبير للإعلام في تعزيز هذا التوجه.

العلاقة بين المسلح والمدني

سيطرت الجماعات المسلحة على مساحات شاسعة من البلاد، وأضعفت النظام رغم غياب أي تنظيم يجمعها ورغم صبغتها المناطقية كانت امتداداً لبعد وطني برز في المظاهرات السلمية حيث المدن والبلدات تناصر بعضها. ربما كانت معركة مدينة القصير أواخر 2012، آخر مواجهة تحمل بعداً وطنياً شاملاً، حيث وصلت فصائل من حلب ومن دير الزور قاطعة مئات الكيلو مترات للتضامن مع المدينة التي يتحضر النظام وميلشيات حزب الله للهجوم عليها. تغير الأمر لاحقاً، وذلك بعد التحاق المجموعة المسلحة مرغمةً بمجموعاتٍ أخرى نتيجة تركيز الدعم عند مجموعات معينة أو بتهديد السلاح والسيطرة المسلحة المباشرة والإفناء، ولتظهر مكانها الألوية والفيالق والجيوش الإسلامية التابعة بشكل تام للداعم الإقليمي.

كانت خارطة سيطرة هذه الفصائل هي خارطة تقاسم النفوذ بين الدول الإقليمية، ولا يجمعها إلا التداخل والتشابك بين مصالح تلك الدول، وليغدو مكان هذه السيطرة منطقة عمليات مستقلة فعلياً وغير مرتبطة أو معنية بالمناطق الأخرى إلا إعلامياً، كذلك سيصبح مكان سيطرة هذه الفصائل أشبه بإمارة إسلامية تختلف درجة تشددها الديني بين فصيل وآخر، وتدخل في حالة عداءٍ مع مجتمعها المحلي بعد تشكيلها سلطة مستبدة تسيطر على الحياة العامة ومشغولة بمراقبة سلوكيات الناس ونمط عيشهم. لم يشفع للناس أنهم تحت وطأة قصف النظام وحصاره، وزاد الأمر سوءاً عمليات الاغتيال والخطف والاعتقال لكل مخالف للفصيل المسيطر، وأبعد عدد كبير من الناشطين الهاربين من النظام،  ليتحولوا إلى لاجئين ولا ملاذ لهم في مناطق سيطرة الفصائل، ومن حاول منهم البقاء كان مصيره الاغتيال او الخطف، (لعل قضية اختطاف أعضاء مركز توثيق الانتهاكات في دوما هي الأشهر). هؤلاء الناشطون الذين لعبوا دوراً كبيراً في تأمين الدعم الطبي والإغاثي، وفي مجالات الإعلام والتوثيق الحقوقي الإنساني والمساعدة في بناء الهيئات المدنية (تجربة المجالس المحلية مثلاً).

بقيت علاقتهم مع المجموعة المسلحة تفاعلية، إذ يقدمون للمجموعة المساعدات والخدمات، وتستجيب المجموعة لاقتراحاتهم وآرائهم حول دور العمل  المسلح في الثورة وفي الحفاظ على صورة مشرفة للعمل المسلح بعيداً عن ممارسات بعض هذه المجموعات مثل قيامها بعمليات الخطف على أساس طائفي.

لقد ساهمت المجموعة المسلحة “الشعبية” بانشقاق ضباط وجنود من كل الطوائف الدينية، إذ كانت المجموعة المسلحة رغم الإسم والشكل الديني الذي يوحي بأنها راديكالية متطرفة تتبنى فعلياً مفهوم مجتمعها الشعبي عن الدين، وبقيت جزءاً من مجتمعها الأهلي المحلي، ولم تشكل سلطة منفصلة فيه فكانت مرحلتها هي مرحلة تفاعل وجهود مجتمع الثورة بكامله.

تجارب فاشلة

أمام هذه التحولات حاول بعض الوطنيين الديمقراطيين إنشاء مجموعات مسلحة للحفاظ على هوية الثورة باسم كتائب الوحدة الوطنية، وظلت محدودة التأثير حتى تلاشت بسبب قلة الدعم، ولم تنفع بطولات أفردها أو أسماء كتائبها الوطنية /يوسف العظمة، ابراهيم هنانو/ من تغيير مصيرها المحتوم.

وتبقى تجربة إنشاء هيئة أركان للجيش الحر شكلاً آخر للسيطرة والتبعية الإقليمية والدولية إذا انضمت إليه فصائل ومجموعات متنازعة فيما بينها ولا يجمعها إلا الحصول على التمويل، وبدأت كذلك الخلافات بين الضباط على القيادة وكل منها محسوب على طرف إقليمي إلى أن أصبحت غرفتي الدعم في تركيا والأردن- الموم  والموك – هي مقرات القيادة الفعلية لتلك الفصائل ولهذا حديث آخر. وبذلك انتهت الجماعة المسلحة الثورية الأهلية المناطقية، لينتهي معها العمل المسلح ذو الصبغة الوطنية (لعل من المفارقة أن يكون المناطقي دلالة للوطني) وليصير الصراع بعدها إقليمياً دولياً بأدواتٍ محلية.

في قاعِ النهر

في قاعِ النهر

لم يتوقف المطر منذُ منتصف الليل، منذ اللحظة التي قرر فيها الذهابَ ومواجهةَ كلّ ماضيه المائي، ومساءلةَ النهرِ عن الغرق الذي لم تنجُ منه سوى الكلمات التي تصطدم ببعضها البعض كخرز السبحات القديمة في أيدي رجال ونساء يتذكرون مساقطَ رؤوسهم كجنات مفقودة. أحسَّ بالماء في عمق جلدهِ، وشعر بالغرق.

كان مركز انطلاق الشمال في حرستا، يضج بالمسافرين الصباحيين وأدلاءِ مكاتب السفر، تقدم رجلٌ يحمل مصبَّ قهوة مرّة.

“المصب كلمةٌ أخرى لها طبعُ الماء” فكرَ.
وشعر بتواطؤ اللحظات مع غرقه الخاص. وكانت القهوة أكثر من مرّة. انتظر ثوانٍ قبل أن يرد على الشاب الذي سأله إن كان مسافراً إلى حلب، ” لا. إلى منبج”. وكانت أول رحلة تنطلق إلى منبج عند الثانية عشرة ظهراً. اقتنع بكلام الشاب ولم يكن يحمل أية أمتعة باستثناء حقيبة يده، جلس في المقعد رقم ٤ وكان الماء يسيل على الزجاج مغرقاً كل شيء كذكرى بعيدة.

أخرج الكتاب الذي خبأ فيه الصورة، وكان من الروايات التي وصلته مؤخراً. تطلع في العنوان.” السباحة إلى المنزل”. وأحس بالغرق من جديد تواطؤٌ آخر في هذا الصباح الغارق في مائه.

منذ البداية، ظنَّ أن الموضوع لن يكون أكثر من صورة  بالأبيض والأسود، وجدت صدفةً بين أوراق قديمة، صورةٌ تمثل لحظةً ضوئية متوقفة وزمناً متجمداً. ملامح توقفت عن النمو، عيونٌ مفتوحةٌ في لحظة إبهار ضوء الكاميرا. تطلع في الطفل  كمخلوق وصلَ من زمن آخر. تطلع في المرأة التي تبتسم و تُجلس الطفل في حضنها، لم يكن قد رآها من قبل. ولم تكن ضمن صور أفراد عائلته، إلا أنه عرفها.

كان يمكن للقصة أن تأخذ نهايتها الطبيعيةَ وتموت في ذاكرته ككل الذكريات، لو أنها بقيت كما أخبره والده منذ زمن بعيد:”عمتك هلالة ماتت عندما كنتَ صغيراً ” لكن حضورَ الصورة الآن، أحضر إلى ذاكرته الطفولية كلَّ الهمساتِ المتبادلة بين أمه وقريباتها: “جنوا عليها” وتنتهي حدودُ الذاكرة بأصوات خفيفةٍ حبيسةٍ وأسىً مكتوم.

وقال في نفسه:

“هلالة المفلح، عمتي، أخيراً رأيتكِ”.

لم يتوقف عن القراءة إلا في حمص، في الاستراحة على الطريق السريع وضع الصورةَ حيث انتهى. باتت تشكل دليلَه. والمطر صار أكثرَ كثافةً.
عند الساعة الواحدة ظهراً وصل إلى حلب و لم يتوقف المطر. وأصبحت السباحة في منتصفها. في مركز انطلاق هنانو لم يجد أيَّ بولمان يتجه إلى الشرق. لم يدم شعورُه بالخديعة طويلاً، وذهب باتجاه كراج الهوب هوب.

لم تكن المسافةُ تزيد عن الساعتين، هكذا تذكر منذ آخرِ زيارةٍ له إلى بيت عمه. لكنه لا يذكر متى حدث ذلك. بعد الطوفان، أم قبل أن يباشر نوح ببناء سفينته. لا يتذكر إلا أن باص سكانيا الضخم الذي احتل فيه مقعداً متقدماً، بدا له كسفينة نوح.  

والركاب بدوا له غرقى بما فيهم نوح والناجي الوحيد هو ابنه.
كان السائق يحمل نفس الاسم. “تواطؤٌ آخر”.

بعد ثلاث ساعات رسا الباص الضخم في ساحة البطة الغارقةِ في ضوء باهت ومياه خضراء. ولثلاث ساعات لم يرغب بالقراءة، بل فتح كلَّ جلده لتلقّي ذلك السيل من الكلام المختلط الممزوج بالسباب والضحك ورائحةِ المازوت ورائحة الدجاج المشوي. أحس حقيقةً أنه غريقٌ بين غرقى أحياء.

نزل نصفُ الركاب واستغرق نزولهم أكثرَ من عشرينَ دقيقة. وتابع الباص إلى مرسى آخر. وكانت زخات من المطر بدأت بشكل خفيف إلا أنها أصبحت أقوى عندما غادر الباص وكان الليل الفضي قد بدأ. وقرر عدم الذهاب إلى بيت عمه، فالوقت أصبح غيرَ ملائمٍ، خصوصاً أنه لم يخبرْ عمه أو أحد أبنائه بقدومه إلى منبج. ولأنه أصبح مبتلاً حتى العظم وهو ينتظر مرور سيارة أجرة. قاده السائق إلى فندق مدينة منبج. كان الفندق نظيفاً من كل شيء حتى من النزلاء. في البهو الذي أُنير لأجله، طلب فنجاناً من القهوة ودخن سيجارتين وصعد إلى غرفةٍ في الطابق الثالث مطلةٍ على الشارع. كانت الغرفة دافئةً، فقد تم تشغيل المكيف قبل صعوده لكن المياه لم تكن ساخنة، طلب موظفَ الاستقبال الذي أخبره بضرورة الانتظار قليلاً، وأحسّ بأنه بدا للموظف كضيفٍ طارئ. من النافذة لمس الهدوءَ الأسودَ الماطر يخيم على الشارع، ونزل إلى الصالة. سأل موظفَ الاستقبال إن كانوا يقدمون طعاماً. لم ينفِ الموظف إلا أنه نصحه بأن يذهب إلى مطعمٍ ليس بعيداً يقدم أكلاً لذيذاً. في المطعم طلب نصفَ فروجٍ مشويّاً وأحسّ بأنه مازال في سفينة نوح من طراز سكانيا.

في الغرفة بقي تحت تأثير مزاجه الرائق الذي دام من لحظة خروجه من حلب حتى الآن. وأعاد في ذهنه رؤيةَ المسرحية المتقنة التي قام بها بائعا البسكويت في الباص، أخذ حماماً ساخناً واندس عارياً في الفراش . فتح الكتاب. ظهرت الصورة وعاوده الغرق من جديد.

أحس بالكلمات تطرق رأسه. كان يدرك ذلك فعندما تأتي وتريد أن تسيل على الورق يشعر بها في أصابعه. إلا أن تعبه وعدمَ نومه جعلاه غيرَ قادرٍ على الكتابة مع شعوره بأنه إن لم يكتب وإن لم يسمح للكلمات بالخروج لن تعود أبداً. تطلع في الصورة، كان غرقه الآن عظيماً ولم يستطع كبت رغبته في التدفق. على ورقة صغيرة كتب جملةً واحدة ستكون دليله أيضاً: “بتُّ غريقاً يحيا في ماء”. ونام.

لم يدم نومُه سوى لحظات، أو هكذا فكر عندما فتح عينيه في صباح غائم متأخر. في مطعم الفندق أحضر له موظف الاستقبال فنجانَ قهوة وأبدى وداً ظاهراً كتعويض، تبادلا بعض الكلمات عن أحوال المدينة والطقس، وأخبره بأنه قادمٌ من دمشق في زيارة عائلية وليس من الباحثين عن استثمارٍ في زراعة القطن الذي نما في السنوات الأخيرة رغم إعجابه بالفكرة. لاحظ الموظف وجودَ الكتاب ، فسأله إن كان صحفياً، قال إنه قارئ  وإنه، مشيراً إلى الكتاب، سلاحُه ضدَّ الوقت. ابتسم الموظف وقد أعجبته الفكرة وسأله إن كان من منبج؟ ابتسم بدوره وأخبره بأنه ولد على ضفاف الفرات. تناول فطوراً خفيفاً وخرج.

كان الوقت قد تجاوز الظهر عندما وصل إلى بيت عمه. أثار قدومُه المفاجئ موجةً من فرح ضربت البيت الريفي المكوّن من طابقين وسور وبوابةٍ عريضة وصفٍ من أشجار الأكاسيا العارية في مثل هذا الوقت. كان أصغرَ أعمامه ويكبر عمتَه هلالة بأربع سنوات، وكان ستينيّاً متقاعداً أمضى سنواتٍ طويلة في المحلج الحكوميّ. أبدت زوجةُ عمه فرحاً مضاعفاً بقدومه بدا من خلال ضحكة عينيها وبدئها الفوري بإعداد الطعام.

بعد مضي الوقت المليء بالكلام الأوليّ والاستفسارات عن الأحوال والأسئلة الطبيعية، الوقتِ الطويل المتقطع بابتسامات وفرح فطري، وصلا إلى الصمت. هل ثمة كلامٌ يجب أن يقال؟ لم يجد من الملائم البدءَ في طرح أسئلةٍ أو حتى الحديث عن زيارة غير متوقعة. كان ذلك سيكون كسراً للفرح وإجحافاً لم يستطع البدءَ به. إلا أنه وعن قصد وضع الكتاب على الطربيزة في نقطة قريبة في المدى المجدي لنظر عمه.

طبيعياً بدا الأمر. حمل عمه الكتاب. توقفت عيناه على العنوان. ضحك أول الأمر. انقبضت عيناه قليلاً بشكل غامض. فتح الكتاب. وكانت الصورة.

بدت اللحظاتُ وكأنها لن تنتهي، عمرٌ كامل من التحديق، هل مرّ قرن؟ مئةُ ثانية؟ النظرة، الصمت الصاخب، والوجيب؟ أخيراً، متشبثاً بالصورة، انقطعت النظرة وبدأ الكلام:

“هذا أنت… بالـ 74 . في ساحة باب الفرج، في حلب. كانت واحدةً من الزيارات الألف إلى الوزارة ومديرية الطابو والعقارات. تركتُك معها في ساحة باب الفرج ولم تكن تنزلكَ من بين ذراعيها لحظةً واحدة. خشيتْ أن تضيع. لكن في النهاية هي من ضاعتْ، كلنا ضعنا. هي، أبوك، أنا وكل الناس الذين بحثوا عن حقوق غُمرتْ في المياه.”

صمتَ قليلاً كمن يستعيد نفْسَه، وكان صمتُه محتقناً كبحيرةٍ خلف سد، انهار السد وبدأ يروي القصة من أولها. وبداية وصولِ الخبراءِ الأجانب مع مساطرهم الطويلة ومناظيرهم البعيدة وأجهزة المساحة. وكيف بدؤوا بقياس الأرض وعبورِ النهر شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً.
“كان الحديث عن جنة قادمة إلى المنطقة وعن ازدهار وعمل وكهرباء ونقود وماء محمولٍ بالقنوات يروي الناس والأرض.”

“لقد بدأ ترويضُ النهر” كانوا يقولون.
“فرحنا في البداية وبدت المنطقةُ وكأنها على موعدٍ في الفردوس. أليس الفرات أحد أنهار الجنة؟ إلا أن ما حصل لاحقاً كان رحيلاً غجرياً وتهجيراً إلى الرمل، للبشر والحيوات والذكريات عندما بدؤوا تفريغَ القرى التي ستختفي إلى الأبد.”

“كنّا من بين العائلات القليلة التي رفضتْ العملَ في مشروع السد، وكان جدكَ قد أدركَ، بشكلٍ غامض، أنه رغم المنفعة التي سيحملها السد، إلا أن حقوقنا نحن سوف تضيع. استشفَّ ذلك من الكلام الخالي من الدفء من أفواه المسؤولين وزوارِ المنطقة، وبالفعل لقد كان أهالي المنطقة يعملون نهاراً في المشروع ويعودون مكسورين إلى بيوتهم المرتجلة وكأنهم بدؤوا بحفر قبورهم.”

كانت الصورةُ تلوح في يده مع كل موجةٍ كلامية. لم يتركها وتابع فيضانَه:

“بدأنا بإعداد وثائق الملكية وحضِّ الناس على تصوير وثائقهم، وهلالة.” كانت عيناه على الصورة الآن. توقف عن الكلام لثوانٍ، ثم بدأ هادئاً كنهر صيفيّ:

“هلالة كانت متعلمة. لقد أصرّ جدك على تعليمها وكانت مدللتَه وآخرَ عنقوده، لكنها كانت قويةً وحادةً كنهر، وكانت مع كلِّ زيارة وفد إلى القرى المحيطة بالنهر، تجمع النساءَ والأطفالَ حاملين صكوكَ ملكياتهم وأوراقَ الطابو، ويقفون على مرأى من تذمرِ المسؤولين ووعودهم. وعندما رُحِّلنا وبدأت تلك الجولاتُ الطويلة والزياراتُ إلى حلب وحتى دمشق، أصرت هلالة على الذهاب. لكن المياه أتتْ بعد ذلك لتغرقْ كلَّ شيء الأرض والقرى والحقوق.”

أخذ نفسَاً طويلاً، وتابع:

“سكنا في خيام وبيوت طينية تطلُّ على الماء، وتكررت زياراتُ الوجهاء والمسؤولين، يتناولون الطعام ويتسابق الأطفالُ لصبِّ الماء على أيديهم ، يضحكون، يعِدون ويزداد غرقُنا. وكانت عمتك في كل شروق تقف على وجه الماء وتحدق بصمت.

لم أصدق، عندما حملوا جسدَها إلى القرية الطينية. لم أصدق. لقد كانت أمهرَنا جميعاً في السباحة. وكانت تصر أن تسبح يومياً وحيدةً في النهر، وحتى عندما كبرت قليلاً وجاء أحد الشيوخ إلى جدك ليشكو هلالة ويحاول منعها من السباحة، قامت بجمع فتيات القرية وسبحن بثيابهن في النهر. لا أعرف إن كانت غرقت أو أُغرقت. لكننا جميعاً غرقنا. سافر أبوك إلى دمشق، ورحلنا جميعاً إلى منبج.”

توقف عن الكلام ، غاب قليلاً، أتى حاملاً الكثير من الأوراق والصكوك والجرائد القديمة التي تروي كيف ضاعت الحقوق حتى الآن.

أخيراً جاء صوتُ زوجة عمه منهيةً الصمتَ الذابح، فقد تمَّ تجهيز الطعام ووصلت القصة إلى نهايتها.

قاربت الحاديةَ عشرة ليلاً عندما عاد إلى الفندق، مازالت تمطر بتقطعات خفيفة،

“هذه الليلة سيبلغ المنخفضُ الجوي ذروتَه.” قال موظف الاستقبال الذي دعاه لشرب كأس من الشاي وسأله عن رأيه بالمدينة .

“إنها هادئة ككل القرى الكبيرة التي أصبحت مدناً بفعل ازدياد عدد سكانها فقط.”

لم يُدم جلوسَه طويلاً متعذِّراً بكونه قد حجز في رحلة الخامسة فجراً للعودة إلى دمشق، وتمنى له ليلةً طيبة. في الغرفة الدافئة، اندسّ عارياً كعادته في السرير وأنصتَ لدقائق إلى صوت المطر وقد اشتدّ الآن. ترك الكتابَ مفتوحاً، أخذ الصورة. كانت يدا عمته تحيطان ببطنه الصغير، وضع يدَه على بطنه، وعيناها تحدقان بالمصور الذي على الأغلب كان يحاول لفت انتباهه إلى الكاميرا، فابتسمت عمته وخلّد الورق الابتسامة. نظر إلى نفسه الآن عارياً في غرفة فندق غريبة غارقاً بأفكار غريبة أيضاً، هارباً من ضجر دمشق إلى هدوء مائي لم يجده. وسأل نفسه: “ماذا جئتُ أفعل؟ ماذا وجدتُ؟ لقد كنت أعرف بأنها غرقتْ.” وتساءل كيف يكون النهر عندما يطعن المطرُ وجهَه كإبر، حاول أن يستحضر صورةً للفرات، تذكر جسراً خشبياً واطئاً ومياهاً عريضة، وفكرَ …النهر أيُّ تجددٍ أيُّ خلود.

كان صباحاً صاحياً، وقد استعاد حضورَه بوعي كامل، الماء وصل حتى ركبتيه، والنهرُ أمامَه كشريان عظيم. ببطء تقدم في المياه التي ترتطم بالضفة التي أصبحت خلفه الآن، وتعاود غرقَها في مياه أخرى، مسافةٌ قليلة أخرى ويدخل في التيار. كانت الصورة في يد والكتاب في يد أخرى وأصبحتْ عيناه على وجه الماء اللانهائي.

كان انزلاقُه هادئاً بطيئاً، والجذبُ أصبح غيرَ مقاوَم. غابت الأرض من تحت قدميه وابتلعه التيار المندفع إلى الوسط والأمام، كان يدور الآن في دوامات مائية داخلية، أغلق عينيه بشدة ومارس ضغطاً على جفنيه وفمه رافضاً ابتلاع الماء الذي ابتلعه ولا يريد أن يفقد آخرَ رصيدِه من الهواء. في اللحظة التي أدرك فيها غرقَه، صرخ فاتحاً عينيه. كان وسْطَ مياهٍ مغبرَّة إلا أن التيار أصبح أقلَّ حدةً، شعر بذلك وقد لاحظ هبوطَه البطيء ممسكاً الصورة والكتاب. صرخ مرة أخرى وفتح عينيه، صرخ وصرخ من جديد والماء لم يدخل فمه ويستطيع أن يرى: “أنا حي، أنا حي وحر.”

كان سقوطُه بطيئاً كمن يسقط بمظلة فوق سطح القمر، لم يكن للتيار أيَّ تأثير الآن وأصبح يتنفس كسمكة. على القاع الحريري للنهر كانت خطواتُه أكثرَ طولاً، لاحظ عدمَ وجود أعشاب، كان القاعُ مقفراً. في البعيد لاحظ أسواراً حجرية لبيوت كأنما ضربها زلزال. دار حول البيوت، مرت أسراب سمك من جانبه، لم تعره أيَّ اهتمام ظانةً بأنه سمكةٌ أخرى لكن بزعانف أكثر طولاً. شعر بحركة غريبة خلفه، تلفت، لم ير أحداً. بعد قليل وفي بقايا ساحة مهدمة، انتصبت أمامه كعروس، ثابتةً في مكانها كنصب. وشعرُها كجذور سوداء تغصّنت.

“عمتي” . صرخ واندفع باتجاهها وقد عاد طفلاً كما في الصورة، ضمته واضعةً يدها فوق بطنه:

” لقد كبرتَ؟”

“لا . لم أكبر. وأنت لم تموتي كما قالوا لي؟”

“لا لم أمت. لقد كذبوا عليك. ألا تراني أتكلم وأضحك؟ روحي في النهر فكل الذين يأخذهم النهر تبقى أرواحُهم في قلب النهر ولا يموتون أبداً.”

“رأيتكِ كثيراً في أحلامي . هكذا مثلما أنت الآن. وعدّتُ إليك.”

“ماذا تحمل؟ ماذا أحضرتَ لي؟”

“إنها الصورة. هي من دلتني إليكِ. وكتاب هديتي لك.”

“تعال. سأريك أصدقائي وكلَّ من تسكن أرواحُهم النهر. وهذا العالمَ الذي نعيش فيه. لكن يدك باردة!”

وأخذته إلى أعماقٍ أقل،  حيث أعمدةُ الضوء تخترق الماءَ كأضواء مسرح، ثم غاصا عميقاً، ولم يشعر حتى بأنه يغوص، كان يطير معها كعصفوريْ ماء. ومرّا على السفوح المائية، على التلال القديمة التي تعرت وانكشفت عظامها الحجرية. مرّا فوق البيوت التي فقدت سماءها، وعبرا الأبوابَ المفتوحة أبداً للرياح المائية والشبابيك التي بلا أُطر. ومرّا برجال ونساء كثر وعندما سألها عنهم قالت له بأنهم أبناء النهر.

“هل هم حزانى”

“لا. إنهم يحزنون فقط لأنهم يشعرون بحزن من فقدوهم.”

وكانت تروي قصصهم، من أول نزولهم، الكثير من القصص وكلها لها نفس البدايات الحزينة، إلا أنهم مع الوقت يصبحون من هذا العالم ولا يغادرونه أبداً. وصلا إلى منطقةٍ بعيدة، ولاح في الأفق المائي حبلٌ أحمر. توقفت وطلبت منه أن ينظر باتجاه الحبل. قالت له هذا هو الخط الذي يفصلنا عن الغرق. لا أحد يتجاوزه. إنه قريبٌ من جسد السد. وعندما يفتحون إحدى البوابات يتشكل تيارٌ قوي يجذب كلَّ شي، ولا يستطيع أحد مقاومتَه، ويغرق. في تلك اللحظة لم يعرف كيف أُفلتتْ يدُه من يدها. وبدأ يبتعد وأصبح قريباً جداً من الحبل، أحس بالعرَق ينز من جسده، بدأ بالصراخ وقد أصبحت عمتُه بعيدةً، فتح عينيه، كانت الرؤية مغبرّة. صرخ مجدداً تمسك بحبال من ماء وكان ينزلق بقوة باتجاه هوةٍ يجهل عمقها. وصله صوتُها أخيراً، تمسك به كحبل. شدته إليها. احتضنته. عندها خرج صوته: “لا أريد أن أغرق.” سبحا باتجاه منزلٍ بلا سقف إلا أن جدرانه كانت مليئةً بصور ملونة. جلسا فوق صخرة. ثمة رجل يضحك ويحمل كاميرا معلقة في عنقه ، أجلسته في حضنها ، وضعت يدها فوق بطنه، والمصور يحاول جاهداً لفت انتباهه إلى الكاميرا، أخيراً لمع ضوء فلاش الكاميرا. وأيقن بأنه أصبحَ غريقاً يحيا في نهر.

الناي الأميرة

الناي الأميرة

جدي يضحك كثيراً.

قلت لجدي: “البلبل هو الطائر الذي تراه في المساء عندما تكون مع أمّك على الدربضحك، وضمني

كان جدي يضحك ويضمني، عندما أقول أشياء كهذه.

***

لم أعد قادراً على أن أعرف البلبل بالطريقة القديمة نفسها، صرت كبيراً وأتيت مع الكثيرين ـ الذين كبروا أيضاً ـ إلى دمشق.

ذات مساء دمشقي، عدتُ إلى غرفتي، فعلت ما يفعلُه الآخرون تماماً: وضعتُ المفتاحَ في القفل، وأدرتُه، لم تكن غرفتي كعادتها؛ كانت تضم ستة رجال لم أر ملامحهم من قبل، خمسةٌ يحملون بنادق، وسادسهم يحمل مسدساً. ستُّ فوّهات، لو خرجت من أي فوهة رصاصة واحدة لسال دمولـ

طلبوا مني أن أديرَ وجهي إلى الحائط، وأن أرفعَ يديَّ. كانت كتبي وثيابي مبعثرةً على الأرض. انتبهتُ إلى أن القميص السماوي الذي أهدتني إياه ليلى مرمي، وأني أدوسه بقدمي، حاولت أن أبعدَ قدمي عن القميص، ركلني أحدهم، أثناء استجابتي لركلته أزحت قدمي عن القميص. قلت إنّ ليلى لن تؤاخذني، فهي تعلم أني وضعتُ حِذائي على القميص مرغماً، وها قد أزحتُها. لكني لم أعرف: ما الذي يحدثُ في غرفتي. خطر لي أنني أرتدي القميص السماوي، وأن فوهة قد أطلقتِ النار، رأيت كيف يسيل الدّمُ، ويلوّن زرقة القميص. طلبوا مني أن أدلَّهم على المكان الذي أضع فيه السكر والشاي، قلت لهم إنني مستعد لأن أصنع لهم الشاي بنفسي، وأقدمه لهم، رفضوا، سألتهم: “من أنتم؟قال حامل المسدس: “اخرس!” صمتُّ. وتابعتُ تصور مشهد موتي: أيُّ لغزٍ مربك سيكون موتي بطلق ناريليتني أعرف شيئاً قبل أنأين سأقع؟ صارت عيناي تبحثان في المساحة التي يمكن أن ترياها من أرض الغرفة، وفجأة أيقظني موتُ الأميرة من موتي. رأيتُ الأميرة مرميةً على الأرض وقد تحوّلت إلى أشلاء، أحزنني ذلك كثيراً، رأيت كيف أن حذاءً قد هشّم فمها، لا أدري لماذا شعرت أنه يدوس على فمي! لأقل أنني أحسست بوقع الحذاء في المكان الذي أضع فيه فمي أما ثقوبها فقد صارت أقواساً بعد أن تحطم جسدها! أجبرني الرجال الستة على الذهاب معهم، لم أعد أذكر إلا مشهد الأميرة المرمية. وحيدة بقيت بين أشياء مبعثرة على أرض غرفتي، التي لم أزرها بعد ذلك اليوم أبداً.

***

في مساء خريفي ـ يبدو أنه موغل في القدم أحياناً، ويبدو وكأنه مساءُ البارحة في أحيان أخرى ـ كنت أمشي وراء أمي على درب ريفي ضيق، صرخت فجأة: “أمّيانظري، إنه عصفورٌ حلوحلوٌ كثيراً!” قالت أمي ببرود لا يليق بجمال ريشه ولا باشتعال دمي: “إنه بلبل“.

كان الطائر يحط على غصن شجرة زعرور. ركضت باتجاهه حاملاً إعجابي ودهشتي، لكنه طار قبل أن أصل إليه ـ منذ ذلك اليوم وأنا أشعر أن ما يثير دهشتي وإعجابي يطير قبل أن أصل.

ـ أمي، أنا أحببتُه. لماذا هرب مني؟ أين سيذهب؟

طلبت أمي أن لا أثرثر! لم أكن أثرثر، كنت أسألها من أعماق روحي. طارت عيناي وراء الطائر، ورأيتهُ وهو يحطُّ في غابة القصب القريبة، انحنى رأس قصبة وهو يحط فوقها. كانت باقي القصبات تلوّح بأيديها مرحبة بالطائر الحلو.

قلت لجدي: لقد حطّ البلبل على رأس أميرة غابة القصب، انتقى الأميرة أليس كذلك؟

ضحك جدي، كان جدي يضحك كثيراً. قال لي: إنها الأميرة طبعاً.

***

أمي تضرب، تضربني إذا خالفت أمراً لها

قالت لي: لا تدخل غابة القصب، وقالت لي: فيها ثعابين، ولدغة الثعبان تميت، وقالت: القصب يجرح مثل السكين، هنالك عقارب أيضاً. صار دخول الغابة يلغ في دمي، ففي الغابة عصفور حلووأميرة، ثم أن الغابة محرمة وهذا يكفي لملئها بالأسرار! دخلت غابة القصب المحرمة في ظهيرة من ذلك الخريف البعيد، متحدياً تحذيرات أمي، راغباً في التعرف على أميرة الغابة، كنت أريد أن أقول للبلبل: أنا أحبك. والله العظيم أحبك، فلماذا فررت؟

عبثاً بحثت عيناي في السماء القريبة! بدت عصافير الدوري تافهة لا قيمة لها، ولم يدهشني طيرانُها. كنت أبحث عن ذلك الملوّن الحلو

تبدو الغابة من بعيد أكثر جمالاً مما هي عليه وأنت في داخلها. لا أسرار تراها عيناك، سوق متشابهة متكررةليس هناك بساط أخضر، كالذي تحمله القصبات على رؤوسها وتنشره في الهواء. لا شيء غامضاً يستحق الاكتشاف.

بعد أن يئست من رؤية الطائر ومللت، بدأت أبحث عن الأميرة، لا أدري بأية لغة أقنعتني إحدى القصبات بأنها الأميرة، لكنني صدقتها وفرحت، وصار لدخولي إلى الغابة معنى. لعلّي كنت أبحث عن هذا المعنى!

أيقنت أنها الأميرة، قطعتها بالسكين التي سرقتها من المطبخ، وجررتها معي إلى البيت، محولاً إياها إلى حصان له ذيل أخضر، يكنس الطريق، ويثير الغبار.

ضربتني أمي لأنها بحثت طويلاً عن سكين المطبخ، ولأني جرحت يدي ـ كان جرحاً صغيراً، ولم ينزف إلا القليل من الدم الذي تيبس فوق جسد الأميرة، وضربتني لأني خالفت أوامرها ودخلت غابة محرمة علي؛ لكنها لم تؤذ الأميرة. قال جدي بصوت غاضب: لماذا تضربينه؟ بدأت أمي تشرح له بصوت عالٍ، ولكنها كفت عن الضرب. عرفت أن جدي يغضب أحياناً ولكن جدي يضحك، يضحك كثيراً. ضحك عندما قلت له إنني أحضرت أميرة غابة القصب معي، وضحك عندما أكدت له أنها الأميرة لأن البلبل حط على رأسها، وضحك عندما سألته: “أين ذهب البلبل؟وقال لي إنه سيعود.

ـ متى؟

ـ بعد قليل!

وقال لي: “سأصنع لك شبّابة عندما تتيبس القصبةوأردف ضاحكاً: “أقصد الأميرة.”

***

أمسك جدي بالقصبة، خلصها من أوراقها التي تيبست، أمرني بإحضار الحطب، أشعل ناراً، أحضر سيخاً من الحديد، وضعه في قلب النار، بسهولة صنع لي شبابة. بعدئذ تغيرت ملامحه، بدا وكأنه يصلي صلاة غريبة، كان يحدق في جسد الأميرة، يحركه بين أصابعه بحنان، بدت أصابعه مختلفة، كانت ترتجف رجفاناً لا يرى، رجفاناً من داخلها، وكان وجهه متأملاً غائباً، والأميرة بين يديه مطواعة هادئة.

اقتطع قطعة ونظر إليها ملياً، وبدأ يقيس بأصابعه. بعدها أخذ سيخ الحديد المحمر من النار وبدأ يضع ثقوباً على جسد الأميرة، كانت النار ترقص وتلوّن وجه جدي تبعاً لرقصتها، ويد جدي تهتز قليلاً.

بدا لي ذلك طقساً غريباً، وسيطر عليّ خشوع لا أعرف كنهه.

بعد أن انتهى جدي من تشكيل جسدها كما يرغب، نهض بهدوء، وبدا قلقاً بعض الشيء! وفي المساء، رفع جدي كأس الخمر الذي اعتاد أن يشرب نِصفَه كل يوم، ودلقه في فم الأميرة، ثم صبّ لنفسه نصف كأس جديد. بهدوء رفع الأميرة بين يديه، وبدأ ينفخ في فمهاكان الصوت ساحراً.

اعتقدت أن جدي خدعني! أخذ جسد الأميرة الفعلي، وترك لي شبّابة تافهة. قلت لجدي: “الأميرة هي التي تركتها لنفسك! ضحك جدي! قلت له: أريد هذه. وأشرت بإصبعي إلى الناي التي صنعها. ضحك ومدها صوبي. استغربت أن يتخلى عنها بكل تلك البساطة!

***

لم تكن أصابعي قادرة على أن تتباعد وتغطي ثقوب الناي، تعبت حتى تعلمت كيف أُصدر صوتاً. سألت جدي: لماذا باعدت الثقوب هكذا. ضحك جدي وقال: ستعرف عندما تكبر.

ـ ومتى سأكبر؟

ـ بعد قليللا تستعجل!

مضى القليلالذي تحدث عنه جدي، وكبرت! ـ ليتني لم أفعل ـ صارت أصابعي تغطي ثقوب الناي. كانت أمي تحتج على الصفير الذي أحدثه، لم أكن وقتها أعرف كيف أتحدث مع الأميرات، كنت أنفخ بغلظة، وكانت الأميرة تحتج وتتوجع، لم أكن أعرف كيف أهمس روحي في فم الأميرة لتقول شيئاً حلواً! مراراً كانت أمي تهددني بتحطيم الأميرة فوق رأسي إذا لم أكف عن الصفير.

***

بعد أن دربتني الأميرة على الحديث معها، رفعت فم الأميرة إلى فمي ذات مساء صيفي، وبدأنا نحدّث أمي عن مساء مشيناه معاً، عن بلبل حلو وشجرة زعرور قرب درب ريفي، عن الولد الذي كنته. عن أشياء تعرفها أميوعندما أنزلت فم الناي عن فمي، قالت أمي: “اعزف أيضاً. هذا العزف يدخل إلى القلب!” فرحت لأن أمي لم تعد تقل لي: “كف عن الصفير!”

أنا والأميرة أخبرنا أمي حكاية عنها، حكاية تعرفها كثيراً، أشياء تستوطنها بطريقة ما. أحبتها أمي دون أن تعرف ما هي بالضبط، شيء كسر مفضوح، يبقى سراً ويبقى مباحاً! هذا ما تعلمنا قوله أنا والأميرة.

***

قالت لي ليلى، وعيناها تتجنبان النظر في عيني: “أظنأنناأقصد أن أقول... أعتقدربما كان من الأفضلأن نفترق!.”

غضبت، سألت مرتجفاً: “لماذا؟كان قلبي صدىً لسؤالي، وسؤالي لم يكن يعني إلا شيئاً واحداً: أنا أشتعل حباً فكيف يمكن أن يخطر لك أن نفترق. لم أقدر وقتها على أن أفهم أن ليلى كائن آخر له جسده وروحه، وله الحق في التصرف بهما!

تركتني ليلى، وصار قلبي يرتجف كعصفور مذبوح ومجنون! بدا العالم غير قابل لأن يُفهم. أخذت الأميرة معي، وذهبنا معاً وراء خطواتي، قادتني خطواتي إلى غابة سنديان، تطل على نهر صغير. كانت روحي تحمحم بوجع: “ليلى ليلى لمَ شبقتني*.

جلست على صخرة، صرت أقول للناي أسئلتي ووجعي، وصارت تنشر في الفضاء القريب أوجاع مراهق بريء عذب. من ثقوب الناي خرج آلهة طيبون، تجمّعوا تحت أشجار السنديان، أتوا يحملون نبيذاً معتقاً هناك في السموات البعيدة حيث يقطنون، ربما كانوا يقصدون النهر القريب للاستحمام، تحلقوا حول الصخرة، واقترب كبيرهم مني، ودموعه النورانية تنساب فوق لحيته القدسية، قال لي: يا لقلبك! إنه يستحق فرحاً وسع السماوات والأرض! وقال لي وهو يصغي إلى الناي: صدقت. صدقت يا بني، أصعب من الألم بكثير أن تتألم وحيداً! ركعوا عند أقدام الصخرة، وقفوا، ثم ربت كبيرهم على شعري، فأزلت الناي بخشوع عن فمي، لم يعد هناك سنديان أو صخرة أو مساء! يد إله حنون تربت برقة الآلهة على كتفي! بدأت أبكيوبعد قليل بحثت عنهموأدركت أن العين لا تستطيع رؤيتهم لأنهم خرجوا من ثقوب الناي وانتشروا هناك في فضاء غابة السنديان. وكثيراً ما أحس بهم عندما أذهب إلى هناكحيث زرعتهم.

***

لم أصبح موسيقياً شهيراً.

لم يجر معي أيّ صحفي مقابلة لأقول له إنني لا أحب العزف على النوطة، فسطورها مثل قضبان السجن، لا تستطيع الروح أن تتخطاها، ولم أقل لأحد أن الناي هي أفضل بكثير من الآلات الوترية كلها، لأن الناي تقبل أن تسكب فيها روحك مباشرة والآلات الوترية تحتاج إلى وسيط كالأنامل والريشة، حيث يضيع شيء من الروح

كل ما كان يقال لي: “اعزف لنافأوافق عندما يأتي اللحن، واللحن يأتي هكذا فجأة، يأتي دون أن يستأذن أو أن يطلب منه القدوم. ولم أكن أرغب في أن أدونه على نوطةكنت أوزعه في المساحة الواسعة، يخرج مثلاً من نافذة الغرفة التي استأجرتها ويتمشى في سماء المدينة.

في الغرفة التي استأجرتها، وضعت رفاً صغيراً، ووضعت فوقه قطعة من الحرير الفيروزي، وأمسكت الناي وقلت لها: “هذا سريرك“. فوق ذلك السرير كانت تنام الأميرة إلى أن يوقظنا اللحن معاً! كانت تستيقظ وتقول شيئاً حلواً ثم تعود إلى سريرها!

***

منذ زمن بعيد غادرت تلك الغرفة، وتركت الأميرة مهشمة في أرضها وقد أُنزلت من سريرها عنوةً! تساءلت كثيراً عن مصيرها، لم أستطع أن أقول لنفسي أن أصحاب البيت كنسوها ورموها في سلة المهملات، وبعدها انتقلت إلى إحدى سيارات القمامة. يحزنني أن أصدّق ذلك وكعزاء كنت أقول: كم من الورود الجميلة تنتهي إلى بطون تلك السيارات.

حاولت وفشلت في أن أعود إلى غابة القصب وأنتقي أميرتها الجديدة. لم أعد قادراً على أن أمشي مع أمي مساءً وأرى طائراً مدهشاً ولم يعد جدي حياً. لو كان حياً لسألته: كيف يمكنني أن أصادف أميرة مرة أخرى؟ هل سيضحك جدي الذي كان يضحك. يضحك كثيراً

*ورد في إنجيل متى / الإصحاح 27، الآية 46 على لسان السيد المسيح وهو على صليبه إيلي، إيلي لمَ شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تخليت عني.