الهدية

الهدية

لم تتزوج أسماء كما أنها لم تُعشق، ورغم جمال وجنتيها وعذوبة نظراتها ورموشها الطويلة لم يستطع أحد أن يلحظ وردة النار في داخلها تلك الوردة الخفية التي  ما إن يراها أحدهم حتى يقع في غرامك.

يعبر الشبان من أمام البيت و تثقل خطواتهم وهم  ينظرون نحوها بشفقة وفضول. في كل مساء كانت تقف إلى النافذة، تراقب الفتيات الشرهات للحياة وهن عائدات من مواعيدهن السريّة ويحملن بين أيديهن علب الهدايا المغلفة بورق السوليفان البراق تزينه نجوم ذهبية تلمع تحت ضوء المصابيح الخافتة، لم تكن تستطيع سماع ثرثرتهن لكن الشفاه الملونة والباسمة كانت تفوح بالفرح وكان باستطاعتها أن تشم رائحة الفرح عن بعد….

في الليل وحين تتمدد في فراشها تقضي الوقت وهي تحاول أن تخمن ما يوجد بداخل العلب، وبين حين وآخر تحدث لها رؤيا، وهي أن هديتها تأخرت لكنها ستأتي ذات يوم. كان ذلك قبل أن تغلق والدتها النافذة بمسامير ضخمة وقبل أن يثقب رصاص الحرب جدران البيت وقلوب أخوتها الثلاثة….

لكن الحرب لم تستطع برغم شراستها أن تنسيها حلمها، ولم يكن العالم كله  ليروي هذه الرغبة السريّة في داخلها بأن تمتد يد محبة، يد قوية حنونة ودافئة إليها ذات يوم بهدية صغيرة، أي هدية.

في طفولتها المبكرة كانت تجلس في أحضان جدتها أمام مسكبة الورد، وتستمع لحكاياتها. الجدة المولعة بفلسفة كل شيء من الألوان حتى براز القطط قالت لها: إذا أهداك الرجل عطراً يعني ذلك أنه سيفارقك، العطر اعتذار يا صغيرتي وعندما يهديك الرجل عطراً فهذا يعني أنه يستعد لمفارقتك.

تتنهد ثم يهيم نظرها في الفراغ: جدك قبل أن يهرب مع تلك الساقطة اشترى لي عطراً. فسكبته في قن الدجاج. كانت الدجاجات نائمات بعدها تركهن الديك وركض نحو دجاجات الجيران فالرجال تجذبهم رائحة العفونة….

والدي أهدى أمي قطعة ذهب هل يعني ذلك أنه سيذهب؟ تسأل أسماء

آآآآه الذهب تأخذ العجوز نفساً وترميه بحسرة وتتابع، الذهب يقول: أنت جوهرتي الثمينة.

تبحث الصغيرة بعينيها في المكان، فترى قطة رمادية تخمش بمخالبها جذع شجرة الجوز.

وإذا أهداني قطة؟

ترمقها الجدة بعينيها اللتين تبرزان كخرزتين غرستا في صحن عجين، فتضحك وتسأل: والوشاح؟

آه الوشاح بحد ذاته حكاية يا أسماء، تقول الجدة المولعة بالألعاب اللغوية  مستعيرة جملة من نشيد الإنشاد: الوشاح يعني اعقدني على نبضك، والثمني بشفتيك وامسح دموعك بي.

بعد عدة أسابيع ماتت الجدة، لم تحتمل الصغيرة أول فراق، بكت كثيراً ثم أصيبت بالحمىّ، ونامت لأيام طويلة وظن الجميع أنها ميتة، وحين استيقظت أخبرت أمها -التي كانت تنتحب بجانبها وتهزها مثل دمية – بأنها رأت في حلمها الكثير من الهدايا وأن ملكاً وسيماً أهداها قرطين، لكنهما كانا ثقيلين فتمزقت أذناها وسقطتا.

كانت تمضي الليالي الباردة وهي تفكر في أنواع الهدايا  تقف قبالة نافذتها وتراقب العابرين بوجوههم الهلعة… يلوح لها البعض طالبين منها أن تدخل رأسها فلا تفعل، تجرها أمها وتغلق الباب، وهي تلعن حظها بعد ذلك أحضرت مطرقة واقفلت النافذة بالمسامير.

في الساعات القليلة التي ترى فيها البلدة الكهرباء يتسمر الناس إلى قنوات تحكي عنهم وعن موتاهم، يبكون سلامهم الماضي، ويتحسرون على شهدائهم. يمتلؤون بغيظ لا يعرفون أين يرمونه. في وجوه الزوجات؟ أم على وجوه من بقي حياً من أبنائهم؟

تقلب أسماء في القنوات، لا تعنيها قصص الموت. جربته مرة وكفى، جربته بقوة ولم تستيقظ من وجعه بعد. لا تعنيها صور الدبابات ولا القنابل فهي غارقة في عالم لا تعكره حروب ولا إطلاق رصاص… تقلب في المحطات ولا تتوقف إلا إذا لمحت هدية أو شاباً وسيماً. فوجه شاب جميل يعني وعد بقصة حب.

حين أطبق الحصار على البلدة، نفذت المؤن ولم تعد ترى في أيدي الفتيات أي هدايا فقط مناديل ملونة يربطنها على أيديهن وهي تذكرهن بحبيب بعيد أو ناكث للعهد فالذي يموت أو يقع أسيراً، هو ناكث لعهده في عرفهن مثله مثل الذي يتخذ حبيبة أخرى. وبينما يفكر الناس في الخبز وفي الطعام، كانت تفكر بهدية.

ذات مساء سمعت طرقات على الباب، حاولت النهوض وسبقتها والدتها، أطلت الأم برأسها ونادت باسمها مرتين وهي تبتسم. منذ زمن لم تسمع اسمها دافئاً في فم والدتها. منذ زمن لم تر ابتسامتها…

تبعت والدتها التي نظرت نحوها بلطف، كانت نظرات أمها أقل شراسة مما هي عليه وأكثر دفئاً، تركت الباب موارباً وغمزت بعينها واختفت، من خلف الباب حياها صوت ذكوري قوي: مرحباً يا أسماء.

أطلت برأسها من الباب الموارب وحدقت في وجهه… لم يستطع الغروب أن يخفي جمال العينين العشبيتين والابتسامة المشرقة، أثارت رؤياه دموعها لكنها حبستها، ودون ان تفتح شفتيها سألته: تعرف اسمي؟ منذ زمن بعيد.

مد يده إلى صندوق ضخم، وأخرج منه علبة ملفوفة بورق أحمر برّاق وقال لها: هذه من الملك.

– من الملك؟

– نعم وأنا حارسه الشخصي.

تناولت الهدية وفي هذه اللحظة عانقته وأخذت تنتحب، أبعد يديها برفق، قبل جبينها ومضى، أغلقت الباب وقرفصت، نزعت الشريط اللامع عندها تبخر كل شيء… كانت أمها تهزها بعنف.  

جلست وحدقت حولها، بين يديها ثم نظرت أرضاً فلم تجد أي شيء.  شعرت أنها ضحية خدعة كبيرة فالحلم والرائحة كل ذلك كان حقيقياً،  وهذه الأصوات والجوع وأمها الهزيلة مجرد حلم… لم تستطع نسيان ذراعي الشاب ولا رائحة صدره الذي يفوح منه أريج خشب الصنوبر.

سالت دموعها المالحة فوق وجنتيها ومرت فوق شفتيها وتابعت حتى ذقنها ورقبتها … كانت الدموع كل ما تبقى من الحلم .

شعرت بعداوة لأمها وظلت ليومين متتاليين تحاول تخمين نوع الهدية.

لو كانت تركتها  نائمة ريثما تفتحها.

هل هي علبة عطر؟ أم وشاح؟

ربما ياقوت أو حجر تزين به عنقها؟ ربما حذاء! أو… ورود هذا مستبعد لسببين: الورود لا توضع في علب مغلقة. والثاني أن الملوك لا يهدون وروداً للرعية….

اشتد الحصار ونفذت مؤن الناس، واشتدت أصوات المعارك الدائرة، على أطراف البلدة لكنها كانت في عالم آخر، كانت تأوي للنوم مبكرة علهّا تلتقيه مرة أخرى، أو على الأقل تتابع فتح الهدية، حتى تعرف ماهي. كانت تتمنى أن يكتمل الحلم من حيث توقف، لكن ذلك لم يحدث.

ذات مساء كانت فوق سطح البيت، حين رأت سيارة صغيرة تقف أمام البيت، ويترجل منها الشاب ذاته، عرفته من قميصه الأبيض، نزلت الدرجات مسرعة ووجيب قلبها يصل أذنيها، ثم فتحت الباب .

كان هو بعينيه العشبيتين، وذراعيه اللتين لوحتهما الشمس، ورائحة خشب الصنوبر حدق  فيها بغرابة توازي الغرابة التي رمقته بها وقال: كيف حالك يا أسماء؟

-إنك تعرف اسمي.

– منذ زمن.

قالت في سرها: هذه أول مرة أسمع بها اسمي منذ سنوات.

-أرسل لك الملك هدية، قال الشاب

– من الملك؟ انفلتت الكلمات بدهشة وفرح.

أتت والدتها راكضة  نحو الباب وهي تنظر لوجه الشاب الممتعض.

قالت معتذرة: إنها صمّاء.

-أحاول سؤالها عن عددكم في البيت لكنها تقول كلاماً غريباً.

– أصابتها حمى في العاشرة، ثم فقدت سمعها لكنها ليست بلهاء. نحن ثلاثة قالت الأم محتسبة القط الهزيل روكي الذي يتمدد فوق السطح بتعب.

حدق الشاب ذو العينين العشبيتين في وجهها، وبانت عليه علامات الأسف.

مضى إلى السيارة ثم عاد وأحضر علبة كبيرة، رماها على الباب مثل جثة وغادر تبسمت الأم وحملت العلبة بفرح، أحضرت سكيناً وفتحتها وكادت تزغرد وهي تنثر محتوياتها. فوق أرضية الغرفة ثم أخذت تحصي علب المرتديلا والمعكرونة والرز الرديء بصوت عال.

أسماء تابعت التحديق في الكرتونة الكبيرة المرمية ، كانت هناك ورقة زرقاء كبيرة كتب فوقها بخط بارز: مخصص للاجئين السوريين.

في قاعِ النهر

في قاعِ النهر

لم يتوقف المطر منذُ منتصف الليل، منذ اللحظة التي قرر فيها الذهابَ ومواجهةَ كلّ ماضيه المائي، ومساءلةَ النهرِ عن الغرق الذي لم تنجُ منه سوى الكلمات التي تصطدم ببعضها البعض كخرز السبحات القديمة في أيدي رجال ونساء يتذكرون مساقطَ رؤوسهم كجنات مفقودة. أحسَّ بالماء في عمق جلدهِ، وشعر بالغرق.

كان مركز انطلاق الشمال في حرستا، يضج بالمسافرين الصباحيين وأدلاءِ مكاتب السفر، تقدم رجلٌ يحمل مصبَّ قهوة مرّة.

“المصب كلمةٌ أخرى لها طبعُ الماء” فكرَ.
وشعر بتواطؤ اللحظات مع غرقه الخاص. وكانت القهوة أكثر من مرّة. انتظر ثوانٍ قبل أن يرد على الشاب الذي سأله إن كان مسافراً إلى حلب، ” لا. إلى منبج”. وكانت أول رحلة تنطلق إلى منبج عند الثانية عشرة ظهراً. اقتنع بكلام الشاب ولم يكن يحمل أية أمتعة باستثناء حقيبة يده، جلس في المقعد رقم ٤ وكان الماء يسيل على الزجاج مغرقاً كل شيء كذكرى بعيدة.

أخرج الكتاب الذي خبأ فيه الصورة، وكان من الروايات التي وصلته مؤخراً. تطلع في العنوان.” السباحة إلى المنزل”. وأحس بالغرق من جديد تواطؤٌ آخر في هذا الصباح الغارق في مائه.

منذ البداية، ظنَّ أن الموضوع لن يكون أكثر من صورة  بالأبيض والأسود، وجدت صدفةً بين أوراق قديمة، صورةٌ تمثل لحظةً ضوئية متوقفة وزمناً متجمداً. ملامح توقفت عن النمو، عيونٌ مفتوحةٌ في لحظة إبهار ضوء الكاميرا. تطلع في الطفل  كمخلوق وصلَ من زمن آخر. تطلع في المرأة التي تبتسم و تُجلس الطفل في حضنها، لم يكن قد رآها من قبل. ولم تكن ضمن صور أفراد عائلته، إلا أنه عرفها.

كان يمكن للقصة أن تأخذ نهايتها الطبيعيةَ وتموت في ذاكرته ككل الذكريات، لو أنها بقيت كما أخبره والده منذ زمن بعيد:”عمتك هلالة ماتت عندما كنتَ صغيراً ” لكن حضورَ الصورة الآن، أحضر إلى ذاكرته الطفولية كلَّ الهمساتِ المتبادلة بين أمه وقريباتها: “جنوا عليها” وتنتهي حدودُ الذاكرة بأصوات خفيفةٍ حبيسةٍ وأسىً مكتوم.

وقال في نفسه:

“هلالة المفلح، عمتي، أخيراً رأيتكِ”.

لم يتوقف عن القراءة إلا في حمص، في الاستراحة على الطريق السريع وضع الصورةَ حيث انتهى. باتت تشكل دليلَه. والمطر صار أكثرَ كثافةً.
عند الساعة الواحدة ظهراً وصل إلى حلب و لم يتوقف المطر. وأصبحت السباحة في منتصفها. في مركز انطلاق هنانو لم يجد أيَّ بولمان يتجه إلى الشرق. لم يدم شعورُه بالخديعة طويلاً، وذهب باتجاه كراج الهوب هوب.

لم تكن المسافةُ تزيد عن الساعتين، هكذا تذكر منذ آخرِ زيارةٍ له إلى بيت عمه. لكنه لا يذكر متى حدث ذلك. بعد الطوفان، أم قبل أن يباشر نوح ببناء سفينته. لا يتذكر إلا أن باص سكانيا الضخم الذي احتل فيه مقعداً متقدماً، بدا له كسفينة نوح.  

والركاب بدوا له غرقى بما فيهم نوح والناجي الوحيد هو ابنه.
كان السائق يحمل نفس الاسم. “تواطؤٌ آخر”.

بعد ثلاث ساعات رسا الباص الضخم في ساحة البطة الغارقةِ في ضوء باهت ومياه خضراء. ولثلاث ساعات لم يرغب بالقراءة، بل فتح كلَّ جلده لتلقّي ذلك السيل من الكلام المختلط الممزوج بالسباب والضحك ورائحةِ المازوت ورائحة الدجاج المشوي. أحس حقيقةً أنه غريقٌ بين غرقى أحياء.

نزل نصفُ الركاب واستغرق نزولهم أكثرَ من عشرينَ دقيقة. وتابع الباص إلى مرسى آخر. وكانت زخات من المطر بدأت بشكل خفيف إلا أنها أصبحت أقوى عندما غادر الباص وكان الليل الفضي قد بدأ. وقرر عدم الذهاب إلى بيت عمه، فالوقت أصبح غيرَ ملائمٍ، خصوصاً أنه لم يخبرْ عمه أو أحد أبنائه بقدومه إلى منبج. ولأنه أصبح مبتلاً حتى العظم وهو ينتظر مرور سيارة أجرة. قاده السائق إلى فندق مدينة منبج. كان الفندق نظيفاً من كل شيء حتى من النزلاء. في البهو الذي أُنير لأجله، طلب فنجاناً من القهوة ودخن سيجارتين وصعد إلى غرفةٍ في الطابق الثالث مطلةٍ على الشارع. كانت الغرفة دافئةً، فقد تم تشغيل المكيف قبل صعوده لكن المياه لم تكن ساخنة، طلب موظفَ الاستقبال الذي أخبره بضرورة الانتظار قليلاً، وأحسّ بأنه بدا للموظف كضيفٍ طارئ. من النافذة لمس الهدوءَ الأسودَ الماطر يخيم على الشارع، ونزل إلى الصالة. سأل موظفَ الاستقبال إن كانوا يقدمون طعاماً. لم ينفِ الموظف إلا أنه نصحه بأن يذهب إلى مطعمٍ ليس بعيداً يقدم أكلاً لذيذاً. في المطعم طلب نصفَ فروجٍ مشويّاً وأحسّ بأنه مازال في سفينة نوح من طراز سكانيا.

في الغرفة بقي تحت تأثير مزاجه الرائق الذي دام من لحظة خروجه من حلب حتى الآن. وأعاد في ذهنه رؤيةَ المسرحية المتقنة التي قام بها بائعا البسكويت في الباص، أخذ حماماً ساخناً واندس عارياً في الفراش . فتح الكتاب. ظهرت الصورة وعاوده الغرق من جديد.

أحس بالكلمات تطرق رأسه. كان يدرك ذلك فعندما تأتي وتريد أن تسيل على الورق يشعر بها في أصابعه. إلا أن تعبه وعدمَ نومه جعلاه غيرَ قادرٍ على الكتابة مع شعوره بأنه إن لم يكتب وإن لم يسمح للكلمات بالخروج لن تعود أبداً. تطلع في الصورة، كان غرقه الآن عظيماً ولم يستطع كبت رغبته في التدفق. على ورقة صغيرة كتب جملةً واحدة ستكون دليله أيضاً: “بتُّ غريقاً يحيا في ماء”. ونام.

لم يدم نومُه سوى لحظات، أو هكذا فكر عندما فتح عينيه في صباح غائم متأخر. في مطعم الفندق أحضر له موظف الاستقبال فنجانَ قهوة وأبدى وداً ظاهراً كتعويض، تبادلا بعض الكلمات عن أحوال المدينة والطقس، وأخبره بأنه قادمٌ من دمشق في زيارة عائلية وليس من الباحثين عن استثمارٍ في زراعة القطن الذي نما في السنوات الأخيرة رغم إعجابه بالفكرة. لاحظ الموظف وجودَ الكتاب ، فسأله إن كان صحفياً، قال إنه قارئ  وإنه، مشيراً إلى الكتاب، سلاحُه ضدَّ الوقت. ابتسم الموظف وقد أعجبته الفكرة وسأله إن كان من منبج؟ ابتسم بدوره وأخبره بأنه ولد على ضفاف الفرات. تناول فطوراً خفيفاً وخرج.

كان الوقت قد تجاوز الظهر عندما وصل إلى بيت عمه. أثار قدومُه المفاجئ موجةً من فرح ضربت البيت الريفي المكوّن من طابقين وسور وبوابةٍ عريضة وصفٍ من أشجار الأكاسيا العارية في مثل هذا الوقت. كان أصغرَ أعمامه ويكبر عمتَه هلالة بأربع سنوات، وكان ستينيّاً متقاعداً أمضى سنواتٍ طويلة في المحلج الحكوميّ. أبدت زوجةُ عمه فرحاً مضاعفاً بقدومه بدا من خلال ضحكة عينيها وبدئها الفوري بإعداد الطعام.

بعد مضي الوقت المليء بالكلام الأوليّ والاستفسارات عن الأحوال والأسئلة الطبيعية، الوقتِ الطويل المتقطع بابتسامات وفرح فطري، وصلا إلى الصمت. هل ثمة كلامٌ يجب أن يقال؟ لم يجد من الملائم البدءَ في طرح أسئلةٍ أو حتى الحديث عن زيارة غير متوقعة. كان ذلك سيكون كسراً للفرح وإجحافاً لم يستطع البدءَ به. إلا أنه وعن قصد وضع الكتاب على الطربيزة في نقطة قريبة في المدى المجدي لنظر عمه.

طبيعياً بدا الأمر. حمل عمه الكتاب. توقفت عيناه على العنوان. ضحك أول الأمر. انقبضت عيناه قليلاً بشكل غامض. فتح الكتاب. وكانت الصورة.

بدت اللحظاتُ وكأنها لن تنتهي، عمرٌ كامل من التحديق، هل مرّ قرن؟ مئةُ ثانية؟ النظرة، الصمت الصاخب، والوجيب؟ أخيراً، متشبثاً بالصورة، انقطعت النظرة وبدأ الكلام:

“هذا أنت… بالـ 74 . في ساحة باب الفرج، في حلب. كانت واحدةً من الزيارات الألف إلى الوزارة ومديرية الطابو والعقارات. تركتُك معها في ساحة باب الفرج ولم تكن تنزلكَ من بين ذراعيها لحظةً واحدة. خشيتْ أن تضيع. لكن في النهاية هي من ضاعتْ، كلنا ضعنا. هي، أبوك، أنا وكل الناس الذين بحثوا عن حقوق غُمرتْ في المياه.”

صمتَ قليلاً كمن يستعيد نفْسَه، وكان صمتُه محتقناً كبحيرةٍ خلف سد، انهار السد وبدأ يروي القصة من أولها. وبداية وصولِ الخبراءِ الأجانب مع مساطرهم الطويلة ومناظيرهم البعيدة وأجهزة المساحة. وكيف بدؤوا بقياس الأرض وعبورِ النهر شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً.
“كان الحديث عن جنة قادمة إلى المنطقة وعن ازدهار وعمل وكهرباء ونقود وماء محمولٍ بالقنوات يروي الناس والأرض.”

“لقد بدأ ترويضُ النهر” كانوا يقولون.
“فرحنا في البداية وبدت المنطقةُ وكأنها على موعدٍ في الفردوس. أليس الفرات أحد أنهار الجنة؟ إلا أن ما حصل لاحقاً كان رحيلاً غجرياً وتهجيراً إلى الرمل، للبشر والحيوات والذكريات عندما بدؤوا تفريغَ القرى التي ستختفي إلى الأبد.”

“كنّا من بين العائلات القليلة التي رفضتْ العملَ في مشروع السد، وكان جدكَ قد أدركَ، بشكلٍ غامض، أنه رغم المنفعة التي سيحملها السد، إلا أن حقوقنا نحن سوف تضيع. استشفَّ ذلك من الكلام الخالي من الدفء من أفواه المسؤولين وزوارِ المنطقة، وبالفعل لقد كان أهالي المنطقة يعملون نهاراً في المشروع ويعودون مكسورين إلى بيوتهم المرتجلة وكأنهم بدؤوا بحفر قبورهم.”

كانت الصورةُ تلوح في يده مع كل موجةٍ كلامية. لم يتركها وتابع فيضانَه:

“بدأنا بإعداد وثائق الملكية وحضِّ الناس على تصوير وثائقهم، وهلالة.” كانت عيناه على الصورة الآن. توقف عن الكلام لثوانٍ، ثم بدأ هادئاً كنهر صيفيّ:

“هلالة كانت متعلمة. لقد أصرّ جدك على تعليمها وكانت مدللتَه وآخرَ عنقوده، لكنها كانت قويةً وحادةً كنهر، وكانت مع كلِّ زيارة وفد إلى القرى المحيطة بالنهر، تجمع النساءَ والأطفالَ حاملين صكوكَ ملكياتهم وأوراقَ الطابو، ويقفون على مرأى من تذمرِ المسؤولين ووعودهم. وعندما رُحِّلنا وبدأت تلك الجولاتُ الطويلة والزياراتُ إلى حلب وحتى دمشق، أصرت هلالة على الذهاب. لكن المياه أتتْ بعد ذلك لتغرقْ كلَّ شيء الأرض والقرى والحقوق.”

أخذ نفسَاً طويلاً، وتابع:

“سكنا في خيام وبيوت طينية تطلُّ على الماء، وتكررت زياراتُ الوجهاء والمسؤولين، يتناولون الطعام ويتسابق الأطفالُ لصبِّ الماء على أيديهم ، يضحكون، يعِدون ويزداد غرقُنا. وكانت عمتك في كل شروق تقف على وجه الماء وتحدق بصمت.

لم أصدق، عندما حملوا جسدَها إلى القرية الطينية. لم أصدق. لقد كانت أمهرَنا جميعاً في السباحة. وكانت تصر أن تسبح يومياً وحيدةً في النهر، وحتى عندما كبرت قليلاً وجاء أحد الشيوخ إلى جدك ليشكو هلالة ويحاول منعها من السباحة، قامت بجمع فتيات القرية وسبحن بثيابهن في النهر. لا أعرف إن كانت غرقت أو أُغرقت. لكننا جميعاً غرقنا. سافر أبوك إلى دمشق، ورحلنا جميعاً إلى منبج.”

توقف عن الكلام ، غاب قليلاً، أتى حاملاً الكثير من الأوراق والصكوك والجرائد القديمة التي تروي كيف ضاعت الحقوق حتى الآن.

أخيراً جاء صوتُ زوجة عمه منهيةً الصمتَ الذابح، فقد تمَّ تجهيز الطعام ووصلت القصة إلى نهايتها.

قاربت الحاديةَ عشرة ليلاً عندما عاد إلى الفندق، مازالت تمطر بتقطعات خفيفة،

“هذه الليلة سيبلغ المنخفضُ الجوي ذروتَه.” قال موظف الاستقبال الذي دعاه لشرب كأس من الشاي وسأله عن رأيه بالمدينة .

“إنها هادئة ككل القرى الكبيرة التي أصبحت مدناً بفعل ازدياد عدد سكانها فقط.”

لم يُدم جلوسَه طويلاً متعذِّراً بكونه قد حجز في رحلة الخامسة فجراً للعودة إلى دمشق، وتمنى له ليلةً طيبة. في الغرفة الدافئة، اندسّ عارياً كعادته في السرير وأنصتَ لدقائق إلى صوت المطر وقد اشتدّ الآن. ترك الكتابَ مفتوحاً، أخذ الصورة. كانت يدا عمته تحيطان ببطنه الصغير، وضع يدَه على بطنه، وعيناها تحدقان بالمصور الذي على الأغلب كان يحاول لفت انتباهه إلى الكاميرا، فابتسمت عمته وخلّد الورق الابتسامة. نظر إلى نفسه الآن عارياً في غرفة فندق غريبة غارقاً بأفكار غريبة أيضاً، هارباً من ضجر دمشق إلى هدوء مائي لم يجده. وسأل نفسه: “ماذا جئتُ أفعل؟ ماذا وجدتُ؟ لقد كنت أعرف بأنها غرقتْ.” وتساءل كيف يكون النهر عندما يطعن المطرُ وجهَه كإبر، حاول أن يستحضر صورةً للفرات، تذكر جسراً خشبياً واطئاً ومياهاً عريضة، وفكرَ …النهر أيُّ تجددٍ أيُّ خلود.

كان صباحاً صاحياً، وقد استعاد حضورَه بوعي كامل، الماء وصل حتى ركبتيه، والنهرُ أمامَه كشريان عظيم. ببطء تقدم في المياه التي ترتطم بالضفة التي أصبحت خلفه الآن، وتعاود غرقَها في مياه أخرى، مسافةٌ قليلة أخرى ويدخل في التيار. كانت الصورة في يد والكتاب في يد أخرى وأصبحتْ عيناه على وجه الماء اللانهائي.

كان انزلاقُه هادئاً بطيئاً، والجذبُ أصبح غيرَ مقاوَم. غابت الأرض من تحت قدميه وابتلعه التيار المندفع إلى الوسط والأمام، كان يدور الآن في دوامات مائية داخلية، أغلق عينيه بشدة ومارس ضغطاً على جفنيه وفمه رافضاً ابتلاع الماء الذي ابتلعه ولا يريد أن يفقد آخرَ رصيدِه من الهواء. في اللحظة التي أدرك فيها غرقَه، صرخ فاتحاً عينيه. كان وسْطَ مياهٍ مغبرَّة إلا أن التيار أصبح أقلَّ حدةً، شعر بذلك وقد لاحظ هبوطَه البطيء ممسكاً الصورة والكتاب. صرخ مرة أخرى وفتح عينيه، صرخ وصرخ من جديد والماء لم يدخل فمه ويستطيع أن يرى: “أنا حي، أنا حي وحر.”

كان سقوطُه بطيئاً كمن يسقط بمظلة فوق سطح القمر، لم يكن للتيار أيَّ تأثير الآن وأصبح يتنفس كسمكة. على القاع الحريري للنهر كانت خطواتُه أكثرَ طولاً، لاحظ عدمَ وجود أعشاب، كان القاعُ مقفراً. في البعيد لاحظ أسواراً حجرية لبيوت كأنما ضربها زلزال. دار حول البيوت، مرت أسراب سمك من جانبه، لم تعره أيَّ اهتمام ظانةً بأنه سمكةٌ أخرى لكن بزعانف أكثر طولاً. شعر بحركة غريبة خلفه، تلفت، لم ير أحداً. بعد قليل وفي بقايا ساحة مهدمة، انتصبت أمامه كعروس، ثابتةً في مكانها كنصب. وشعرُها كجذور سوداء تغصّنت.

“عمتي” . صرخ واندفع باتجاهها وقد عاد طفلاً كما في الصورة، ضمته واضعةً يدها فوق بطنه:

” لقد كبرتَ؟”

“لا . لم أكبر. وأنت لم تموتي كما قالوا لي؟”

“لا لم أمت. لقد كذبوا عليك. ألا تراني أتكلم وأضحك؟ روحي في النهر فكل الذين يأخذهم النهر تبقى أرواحُهم في قلب النهر ولا يموتون أبداً.”

“رأيتكِ كثيراً في أحلامي . هكذا مثلما أنت الآن. وعدّتُ إليك.”

“ماذا تحمل؟ ماذا أحضرتَ لي؟”

“إنها الصورة. هي من دلتني إليكِ. وكتاب هديتي لك.”

“تعال. سأريك أصدقائي وكلَّ من تسكن أرواحُهم النهر. وهذا العالمَ الذي نعيش فيه. لكن يدك باردة!”

وأخذته إلى أعماقٍ أقل،  حيث أعمدةُ الضوء تخترق الماءَ كأضواء مسرح، ثم غاصا عميقاً، ولم يشعر حتى بأنه يغوص، كان يطير معها كعصفوريْ ماء. ومرّا على السفوح المائية، على التلال القديمة التي تعرت وانكشفت عظامها الحجرية. مرّا فوق البيوت التي فقدت سماءها، وعبرا الأبوابَ المفتوحة أبداً للرياح المائية والشبابيك التي بلا أُطر. ومرّا برجال ونساء كثر وعندما سألها عنهم قالت له بأنهم أبناء النهر.

“هل هم حزانى”

“لا. إنهم يحزنون فقط لأنهم يشعرون بحزن من فقدوهم.”

وكانت تروي قصصهم، من أول نزولهم، الكثير من القصص وكلها لها نفس البدايات الحزينة، إلا أنهم مع الوقت يصبحون من هذا العالم ولا يغادرونه أبداً. وصلا إلى منطقةٍ بعيدة، ولاح في الأفق المائي حبلٌ أحمر. توقفت وطلبت منه أن ينظر باتجاه الحبل. قالت له هذا هو الخط الذي يفصلنا عن الغرق. لا أحد يتجاوزه. إنه قريبٌ من جسد السد. وعندما يفتحون إحدى البوابات يتشكل تيارٌ قوي يجذب كلَّ شي، ولا يستطيع أحد مقاومتَه، ويغرق. في تلك اللحظة لم يعرف كيف أُفلتتْ يدُه من يدها. وبدأ يبتعد وأصبح قريباً جداً من الحبل، أحس بالعرَق ينز من جسده، بدأ بالصراخ وقد أصبحت عمتُه بعيدةً، فتح عينيه، كانت الرؤية مغبرّة. صرخ مجدداً تمسك بحبال من ماء وكان ينزلق بقوة باتجاه هوةٍ يجهل عمقها. وصله صوتُها أخيراً، تمسك به كحبل. شدته إليها. احتضنته. عندها خرج صوته: “لا أريد أن أغرق.” سبحا باتجاه منزلٍ بلا سقف إلا أن جدرانه كانت مليئةً بصور ملونة. جلسا فوق صخرة. ثمة رجل يضحك ويحمل كاميرا معلقة في عنقه ، أجلسته في حضنها ، وضعت يدها فوق بطنه، والمصور يحاول جاهداً لفت انتباهه إلى الكاميرا، أخيراً لمع ضوء فلاش الكاميرا. وأيقن بأنه أصبحَ غريقاً يحيا في نهر.

شتاء الرسائل الجميلة

شتاء الرسائل الجميلة

إلى الصديقة العزيزة كندة شريقي حنا.

حارتنا هي صوتٌ عتيق لعجوز، صوتٌ يتلاشى ببطءٍ خلف شاحنة ذاهبة إلى العتمة، سأرحل وبذمتي هذا اليقين الوحيد.

عجوز حارتنا أقدم من كلّ بيوتنا، لا أحد يعرف تاريخها، لكنها،  تعرف تاريخنا كلّنا، حتى تفاصيله المملّة، نحن وأهلنا ولدنا على يديها.

الكبار يقولون إنّ لديها يقينيات غريبة تشبه حياتها… أنا لا أحبها، هي غير مؤذية، لكنّنا نخاف منها عندما نمرّ بها وهي على كرسيها فوق رصيفها تدخن كخريفٍ عمره ألف سنة.

اليوم سمعتُ صوتها لأول مرّة منذ سنوات، لا يزال دافئاً كحارتنا، كانت تهذي في الخارج للناجين مصادفة من الحرب:

ـ ابن البدينة… أنا أعرفه جيداً، ذلك الشتاء جعل بناتي جميلات… ابن السكير، اشتقتُ له، بسببه صار الحب في حارتنا أحلى، لأجله كانت تلك الرقصة الساحرة. هل تذكرون ذلك الشتاء؟ أمه لم تحب أباه، أجمل الصبيان أولئك الذين يولدون عن غير حب، الوغد. كسر قلبي في ليلته الأخيرة إلى تسع بنات واثنين وأربعين رسالة، اجلبوه إليّ إن كان حياً، اشتقتُ له، يا كلاااااب… أعطوني سيجارة…

(أبو رسائل) سخرتْ مرّة أختي، حملتُ هذا اللقب طويلاً بين غرف بيتنا.

في بيتنا القديم كان لدينا مكتبة بعدّة رفوف، تسلّيتُ أثناء المراهقة بقراءة كتبها، فصارتْ لغتي جميلة.

في ذلك الشتاء، ذات ليلة.. تسلق خالد حائطنا ليقفز إلى شجرة الأكيدنيا حتى غصنها المحاذي لشباك غرفتي، نقر بسبابته على البلور، فتحته مستغرباً. بقلب منكسر الخاطر همس لي وهو يبكي:

ــ أرجوك… أنا أحب يسرى، ساعدني واكتب لي رسالة حبٍ إليها.

وكتبت لخالد ابن الحانوتي، رسالة حب لـ يسرى بنت الخياطة، بعد مسائين كانت النتيجة جميلة له فأعطاني بضع سجائر. ابن عمه حيان فهم القصة، توسل لي من فوق غصن شجرة الأكيدنيا في مساءٍ بارد آخر أنّ أكتب له رسالة حب لـ هناء.

كتبتُ له متأففاً رسالة جميلة، بعد أيام عرف أمجد قصة الرسالتين، ثلاثتهم تسلقوا الشجرة وأمام شباكي ترجوني أن أكتب لهم رسائل لعشيقاتهم من بنات حارتنا.

وكتبت لهم، بصراحة. كنت أستمتع بكتابة الرسائل للبنات جانب المدفأة، وأوقعها بأسماء الآخرين، هذه الرسائل كانت تشغلني عن متابعة مشاجرات والديّ كلّ ليلة.

في درس الفيزياء الغليظ، كتب لي قاسم على دفتره ملاحظة وناولي إيّاه من أسفل المقعد:

ـــ بـ حياة أمك. اكتب لي رسالة حب لـ سمية. ومساءً نلتقي على شجرة الأكيدنيا…

زفرتُ، خلال أسابيع قليلة صاروا تسعة مراهقين أكتب لهم رسائل لتسع مراهقات، ودائماً، بين الأرض والسماء… على أغصان شجرة الأكيدنيا في المساءات الماطرة،  أعطي الأوراق لأصحاب الوجوه النحيلة ذاتِ القلوب المعذبة.

أظنّ أنّ أحدهم كان جاسوساً لمدير الإعدادية الأستاذ خليل، طلبني إلى الإدارة فذهبت وبعد دخولي مكتبه طلب مني ــ بلطف غير معتاد ــ أن أجلس، كان مرتبكاً قال لي بخجل:

ـــ بني… أنا أحب المستخدمة جمانة، الغبية لا تفهم عليّ. أريدك أن تكتب لها رسالة مني… عليها اللعنة، مجرد مستخدمة ومغرورة!

ـــ حبيبي أبو الخل، في الحب لا يوجد مستخدمة أو طبيبة… مهندسة أومتسولة… يوجد أنثى فقط و…

كنت أشرح له فلسفتي في رسائل الحب بعد خبرة أوراق كثيرة، وأنا ألف ساقاً على ساق وأنسل من علبة سجائره فوق المكتب سيجارة و…

ـــ انقلع من هنا يا كلب.

قذفني بصحن السجائر فأسرعتُ لأخرج وأنا أتعثر برِجْلي.

ثمّة ليلة محال أنّ أنساها، كان مطرها غزيراً دونما قمر، أمام بلور شباكي تناثر بصمت على أغصان الأكيدنيا تسعة أشباح. أمامهم كنت جالساً على سريري وفوقي لحاف وأمامي أوراق وأقلام. أتأملهم وأتأمل أوراقي، وفي الغرفة المجاورة مشاجرة مؤلمة بين صلاة نقية لأمي وخمر تعيس لأبي.

صراخ هنا وهناك ثمّة عيون حزينة ، تنتظر أوراقي، مصير روحها معلق بالقلم بين أصابعي، والمطر لا يرحم الوجوه المائلة على الأغصان.

ثمّ، ساعتين ونصف… أفتح شباكي لأعطي المبللين بالماء والحب رسائلهم. يأخذونها بفرح ويمضون لأبقى وحيداً على شباك الحب بلا رسالة خاصة بي، محاولاً فهم عدم انسجام الصلوات النقية مع الخمور التعيسة.

ذات ملل اخترعتُ رسالة حب إلى أمي موقعة باسم أبي ووضعتها فوق قطرميز المكدوس، لم تنتبه، مرّة ثانية كتبتُ رسالة حب من أبي لأمي ووضعتها جانب قنينة العرق، لم ينتبه. فشلتُ بمصالحة صلاتِها مع خمره.

بعد شهرين، نساء حارتنا مع بناتهنّ اجتمعنَ في بيت أم العبد للاحتفال بولادتها، العجوز كانت موجودة تراقب بصمت كعادتها، انتبهتْ لشلة بنات في زاوية بعيدة معهن أوراق يقرأن منها سراً، تأملتهن مطولاً. شعرتْ أنهن جميلات، من يقينياتها الغريبة: البنت لا تصير جميلة إلا عندما تصلها أوّل رسالة حب في حياتها.

نهضتْ ومشتْ إليهن، انتبهن بخوف خبأن الرسائل، انحنتْ عليهن وهمستْ بثقة:

ــ من يكتب لكُنّ؟

لم يتجرأن على الإنكار، كلّ واحدة همستْ بخجل باسم المراهق الخاص بها، أخذتْ العجوز الأوراق ونظرتْ فيها، هي لا تعرف القراءة لكن حاستها بالخطوط قديمة، شهقتْ:

ـــ كلّ هذه الرسائل كتبتها يدٌ واحدة.

والتفتت إلى الخلف، كأنها تنظر إلى الليالي السابقة، تذكرتْ مرورها بضع مرّات من أمام بيتنا، والأشباح المعلقة بصمت على أغصان شجرة الأكيدنيا، ابتسمتْ بخبث وتمتمتْ:

ـ ابن السكير. هو من كتب كلّ هذه الرسائل، ما أحلاه (هزّتْ رأسها بحزن وهي تردف بأحد يقينياتها) أجمل الصبيان أولئك الذين يولدون عن غير حب.

تنهدتْ وانحنتْ على البنات مجدداً، همستْ لهن محذرة:

ـــ لا تخبرن الصبيان أنكنّ قد عرفتن صاحب الرسائل، ليظل ابن البدينة يكتب. إن توقفتْ رسائله سوف تصرن قبيحات، بدون رسائل لن تبقين جميلات..

تلك الحفلة، كلّ بنات حارتنا رقصن، أحياناً رقصات فردية وأحياناً جماعية، الرقصة الأحلى كانت جماعية لتسع بنات، صفقن لها النساء كثيراً وما عرفن سرّها.

البنات حافظن على السرّ، لتمر الأيام الممطرة، وشجرة الأكيدنيا تسجل القمر في أغلب الليالي: غياب، والمتسلقون لا يؤذيهم برد، شباكي تغادر منه أوراق وترجع منه سجائر. وفي الغرفة المجاورة، شجار أمي مع أبي لا ينتهي.

أستمرّ بكتابة رسائل الحب دونما حب، أوقعها بتسع أسماء وأظلّ بعد رحيلهم على شباكي مع السجائر.

بعد أشهر انتقلنا إلى بيت صغير في حارة بعيدة، بعد أن تراكمتْ علينا الديون، جلبنا شاحنة، في ثلاث رحلات نقلنا كلّ  إخوتي وصلوات أمي وخمور أبي وأثاثنا.

في النقلة الرابعة والأخيرة تناثرتْ على الشاحنة أشياء غرفتي وكراكيب غرفة المؤونة، مشتْ الشاحنة والمطر يهطل علينا. عبرنا شارع حارتنا، القمر كان موجوداً على غير عادته، صوت الشاحنة كان مزعجاً. وهي تبتعد لوحتُ لها فلوحتْ لي بغصنها شجرة الأكيدنيا، ضيعنا بيتنا القديم، غصة تبتلع الحنجرة، تأملتُ بيوت حارتنا مقهوراً، فجأة. تحت المطر، تسع بنات يخرجن إلى شرفاتهن الصغيرة، ينظرن إليّ… ثمّ، يرفعن أيديهن برسائلي ويلوحن ليّ في بكاءٍ صامت.

خرجتْ من بيتها شبه المهجور إلى الشارع، طاردتْ الشاحنة تحت المطر وهي تدق الإسفلت بعكازها، كانت تصرخ فيّ:

ـــ إلى أين راحل يا ابن السكير؟ ارجع. اللعنة على أمك البدينة… ارجع يا وغد، بناتي صرن جميلات بسبب رسائلك، من سيكتب لهن بعد الليلة؟ لا تقتل قلبي برحيلك يا حقير، ارجع.

عندما جاء الصيف، أختي الكبيرة في المطبخ قالتْ لخالتي بحنق من فوق ماكينة الكبة:

ـــ الله وكيلك، كنا نظن أنّه يدرس في غرفته، بعد رسوبه في الشهادة الإعدادية اكتشفنا أنّه كان يكتب رسائل للبنات. معها حق أن تشمت فينا أم مالك، أبو رسائل، الله يلعنه.

الشاحنة في نهاية الشارع، العجوز وهي تسقط أرضاً قذفتني بعكازها، عكازها وصلني بعد عقدٍ ونصف ليسقط عليّ بهيئة قذيفة في حربٍ لم نعرف من أين جاءتنا.

تمزق كلّ جسدي، اكتشفتُ بعد استيقاظي من القذيفة أن يدي اليمنى خسرتْ خنصرها وبنصرها، أخذوني عبر أنقاض الحارات إلى مستشفى بعيد، قال الطبيب بعد تضميد ثلاثة أرباعي:

ـــ صباح الغد سوف نبتر ساعدك الأيمن. العظم تفتت، جزء من اللحم طارت عنه، أعصاب كثيرة مقطوعة و…

حتى منتصف الليل وأنا أهذي وأتأمل يدي غير قادر على تحريكها:

ــــ إما أن أعيش كلّي أو أموت كلّي.

اقتربتْ الممرضة لتعبث بعامود السيروم، نظرتُ في وجهها، ياااه. حلوة كحارتنا القديمة:

ـــ هل تسمحين لي أن اكتب لك رسالة حب؟ هي أمنية رجل سوف يموت قريباً.

دمعتها بنت مراهقة وعينها شرفة، عجز لسانها عن الرد.

ـــ كتبتُ في حياتي رسائل حب للكثيرات بأسماء الآخرين، أشتهي الآن كتابة رسالة خاصة باسمي.

ـــ لن تموت (قالتْ وهي تمسح على جبيني، ليغني في قلبي قطرميز مكدوس لأمي نسيناه في بيتنا القديم، فحزنتْ لأجله أياماً) مستحيل أن تكتب بيدك أو تحركها.

توسلتُ لها أن تجلب ورقة وقلماً، استجابتْ لملامحي الشاحبة. أدخلتْ بلطف القلم بين أصابعي المضمدة، وتحت يدي بهدوء وضعتْ ورقة، ثم مضتْ.

بيدي اليسرى شبه السليمة، أشعلتُ سيجارة. من الشباك تأملتُ الليل، تأملني الليل ثمَّ ردد لي بصدى مزعج وهو يضحك: سوف تخذلك يدك، أبو رسائل.

أخذتُ آخر نفس من سيجارتي ومن الشباك بأصابعي قذفتُ الليل بها، ثمّ صرختُ بصوت عالٍ: (يالله) وانحنيت.

الكلمة الأولى، تحركتْ يدي اليمنى، أوجاع الأرض تعزف موسيقى غير منسجمة في كلّ جسدي.

دونما إصبعين دخلتُ في السطر الأول، تسعة صبيان يتسلقون على عجل شجرة الأكيدنيا، تسع بنات يسرعن إلى شرفاتهن، كلهم… معاً، يصرخون فيّ: اكتب، اكتب…

دخلتُ في السطر الثاني:  أمي وخلفها عشرات المصلين في جامع في العالم الآخر، يلتفتون إليّ، هي وهم ــ من ورائها ــ بصوت واحد يصرخون فيّ: اكتب، اكتب…

دخلتُ في السطر الثالث، أبي وألف مخمورٍ في حانةٍ في العالم الآخر، وهم يترنحون يرفعون كؤوسهم ويصرخون فيّ: اكتب، اكتب…

دخلتُ في السطر الرابع، أنثى جميلة بثياب بيضاء تضمد ما تبقى من حياتي، تهمس لي: ولا مرّة كتب لي أحدهم، لهذا أنا قبيحة، اجعلني جميلة اكتب، اكتب…

دخلتُ في السطر الخامس، واحد وثلاثون شتاءً في حياتي يصرخون حولي كعواء ذئاب جريحة: اكتب، اكتب…

ودخلتُ في السطر السادس.

الصباح يقتحم الغرفة عبر شباكها، يقترب من يدي وقد نزفتْ كثيراً ثمّ يقبلها، كما يقبل حفيدٌ يد جده.

في نهاية السطر السادس من آخر رسالة حب لي، صار صباحي الأخير حفيداً شرعياً ليدي… ابتسمت.

دخلتْ الممرضة، تأملتني. بكتْ، أخذتْ الرسالة من بين أصابعي لتتأمل في سطورها القليلة، جمالها هي. جثتْ جانب السرير.

دخل الطبيب فأسرع إلى ساعدي، فحصه بسرعة ثمّ صاح مندهشاً:

ـــ حال يده صار أفضل، لم تعد بحاجة إلى بتر.

ـــ مات.

قالتْ له بقهر وهي تخفي دموعها خلف رسالتي.

بعد أن دفنتُ، كثرت الأحاديث همساً حول هذا الطبيب.

قالوا إنه قد جنًّ بسب الحرب وأهوالها، كان يحكي دائماً للجرحى، لمرافقيهم، للممرضين، للأطباء، للجدران، لأعمدة السّيروم: عن جريحٍ يعرفه جيداً، مات كله لكن يده ظلّت على قيد الحياة، ويقسم على هذا.

لا أحد صدّقه، سوى ممرضة وتلك العجوز التي تدخن بملل وتبيع الكعك جانب باب المستشفى، وكلما شاهدت طيفي على شاحنة تمرّ بها، تصرخ:

ـــ يا كلااااب، أعطوني سيجارة.

الناي الأميرة

الناي الأميرة

جدي يضحك كثيراً.

قلت لجدي: “البلبل هو الطائر الذي تراه في المساء عندما تكون مع أمّك على الدربضحك، وضمني

كان جدي يضحك ويضمني، عندما أقول أشياء كهذه.

***

لم أعد قادراً على أن أعرف البلبل بالطريقة القديمة نفسها، صرت كبيراً وأتيت مع الكثيرين ـ الذين كبروا أيضاً ـ إلى دمشق.

ذات مساء دمشقي، عدتُ إلى غرفتي، فعلت ما يفعلُه الآخرون تماماً: وضعتُ المفتاحَ في القفل، وأدرتُه، لم تكن غرفتي كعادتها؛ كانت تضم ستة رجال لم أر ملامحهم من قبل، خمسةٌ يحملون بنادق، وسادسهم يحمل مسدساً. ستُّ فوّهات، لو خرجت من أي فوهة رصاصة واحدة لسال دمولـ

طلبوا مني أن أديرَ وجهي إلى الحائط، وأن أرفعَ يديَّ. كانت كتبي وثيابي مبعثرةً على الأرض. انتبهتُ إلى أن القميص السماوي الذي أهدتني إياه ليلى مرمي، وأني أدوسه بقدمي، حاولت أن أبعدَ قدمي عن القميص، ركلني أحدهم، أثناء استجابتي لركلته أزحت قدمي عن القميص. قلت إنّ ليلى لن تؤاخذني، فهي تعلم أني وضعتُ حِذائي على القميص مرغماً، وها قد أزحتُها. لكني لم أعرف: ما الذي يحدثُ في غرفتي. خطر لي أنني أرتدي القميص السماوي، وأن فوهة قد أطلقتِ النار، رأيت كيف يسيل الدّمُ، ويلوّن زرقة القميص. طلبوا مني أن أدلَّهم على المكان الذي أضع فيه السكر والشاي، قلت لهم إنني مستعد لأن أصنع لهم الشاي بنفسي، وأقدمه لهم، رفضوا، سألتهم: “من أنتم؟قال حامل المسدس: “اخرس!” صمتُّ. وتابعتُ تصور مشهد موتي: أيُّ لغزٍ مربك سيكون موتي بطلق ناريليتني أعرف شيئاً قبل أنأين سأقع؟ صارت عيناي تبحثان في المساحة التي يمكن أن ترياها من أرض الغرفة، وفجأة أيقظني موتُ الأميرة من موتي. رأيتُ الأميرة مرميةً على الأرض وقد تحوّلت إلى أشلاء، أحزنني ذلك كثيراً، رأيت كيف أن حذاءً قد هشّم فمها، لا أدري لماذا شعرت أنه يدوس على فمي! لأقل أنني أحسست بوقع الحذاء في المكان الذي أضع فيه فمي أما ثقوبها فقد صارت أقواساً بعد أن تحطم جسدها! أجبرني الرجال الستة على الذهاب معهم، لم أعد أذكر إلا مشهد الأميرة المرمية. وحيدة بقيت بين أشياء مبعثرة على أرض غرفتي، التي لم أزرها بعد ذلك اليوم أبداً.

***

في مساء خريفي ـ يبدو أنه موغل في القدم أحياناً، ويبدو وكأنه مساءُ البارحة في أحيان أخرى ـ كنت أمشي وراء أمي على درب ريفي ضيق، صرخت فجأة: “أمّيانظري، إنه عصفورٌ حلوحلوٌ كثيراً!” قالت أمي ببرود لا يليق بجمال ريشه ولا باشتعال دمي: “إنه بلبل“.

كان الطائر يحط على غصن شجرة زعرور. ركضت باتجاهه حاملاً إعجابي ودهشتي، لكنه طار قبل أن أصل إليه ـ منذ ذلك اليوم وأنا أشعر أن ما يثير دهشتي وإعجابي يطير قبل أن أصل.

ـ أمي، أنا أحببتُه. لماذا هرب مني؟ أين سيذهب؟

طلبت أمي أن لا أثرثر! لم أكن أثرثر، كنت أسألها من أعماق روحي. طارت عيناي وراء الطائر، ورأيتهُ وهو يحطُّ في غابة القصب القريبة، انحنى رأس قصبة وهو يحط فوقها. كانت باقي القصبات تلوّح بأيديها مرحبة بالطائر الحلو.

قلت لجدي: لقد حطّ البلبل على رأس أميرة غابة القصب، انتقى الأميرة أليس كذلك؟

ضحك جدي، كان جدي يضحك كثيراً. قال لي: إنها الأميرة طبعاً.

***

أمي تضرب، تضربني إذا خالفت أمراً لها

قالت لي: لا تدخل غابة القصب، وقالت لي: فيها ثعابين، ولدغة الثعبان تميت، وقالت: القصب يجرح مثل السكين، هنالك عقارب أيضاً. صار دخول الغابة يلغ في دمي، ففي الغابة عصفور حلووأميرة، ثم أن الغابة محرمة وهذا يكفي لملئها بالأسرار! دخلت غابة القصب المحرمة في ظهيرة من ذلك الخريف البعيد، متحدياً تحذيرات أمي، راغباً في التعرف على أميرة الغابة، كنت أريد أن أقول للبلبل: أنا أحبك. والله العظيم أحبك، فلماذا فررت؟

عبثاً بحثت عيناي في السماء القريبة! بدت عصافير الدوري تافهة لا قيمة لها، ولم يدهشني طيرانُها. كنت أبحث عن ذلك الملوّن الحلو

تبدو الغابة من بعيد أكثر جمالاً مما هي عليه وأنت في داخلها. لا أسرار تراها عيناك، سوق متشابهة متكررةليس هناك بساط أخضر، كالذي تحمله القصبات على رؤوسها وتنشره في الهواء. لا شيء غامضاً يستحق الاكتشاف.

بعد أن يئست من رؤية الطائر ومللت، بدأت أبحث عن الأميرة، لا أدري بأية لغة أقنعتني إحدى القصبات بأنها الأميرة، لكنني صدقتها وفرحت، وصار لدخولي إلى الغابة معنى. لعلّي كنت أبحث عن هذا المعنى!

أيقنت أنها الأميرة، قطعتها بالسكين التي سرقتها من المطبخ، وجررتها معي إلى البيت، محولاً إياها إلى حصان له ذيل أخضر، يكنس الطريق، ويثير الغبار.

ضربتني أمي لأنها بحثت طويلاً عن سكين المطبخ، ولأني جرحت يدي ـ كان جرحاً صغيراً، ولم ينزف إلا القليل من الدم الذي تيبس فوق جسد الأميرة، وضربتني لأني خالفت أوامرها ودخلت غابة محرمة علي؛ لكنها لم تؤذ الأميرة. قال جدي بصوت غاضب: لماذا تضربينه؟ بدأت أمي تشرح له بصوت عالٍ، ولكنها كفت عن الضرب. عرفت أن جدي يغضب أحياناً ولكن جدي يضحك، يضحك كثيراً. ضحك عندما قلت له إنني أحضرت أميرة غابة القصب معي، وضحك عندما أكدت له أنها الأميرة لأن البلبل حط على رأسها، وضحك عندما سألته: “أين ذهب البلبل؟وقال لي إنه سيعود.

ـ متى؟

ـ بعد قليل!

وقال لي: “سأصنع لك شبّابة عندما تتيبس القصبةوأردف ضاحكاً: “أقصد الأميرة.”

***

أمسك جدي بالقصبة، خلصها من أوراقها التي تيبست، أمرني بإحضار الحطب، أشعل ناراً، أحضر سيخاً من الحديد، وضعه في قلب النار، بسهولة صنع لي شبابة. بعدئذ تغيرت ملامحه، بدا وكأنه يصلي صلاة غريبة، كان يحدق في جسد الأميرة، يحركه بين أصابعه بحنان، بدت أصابعه مختلفة، كانت ترتجف رجفاناً لا يرى، رجفاناً من داخلها، وكان وجهه متأملاً غائباً، والأميرة بين يديه مطواعة هادئة.

اقتطع قطعة ونظر إليها ملياً، وبدأ يقيس بأصابعه. بعدها أخذ سيخ الحديد المحمر من النار وبدأ يضع ثقوباً على جسد الأميرة، كانت النار ترقص وتلوّن وجه جدي تبعاً لرقصتها، ويد جدي تهتز قليلاً.

بدا لي ذلك طقساً غريباً، وسيطر عليّ خشوع لا أعرف كنهه.

بعد أن انتهى جدي من تشكيل جسدها كما يرغب، نهض بهدوء، وبدا قلقاً بعض الشيء! وفي المساء، رفع جدي كأس الخمر الذي اعتاد أن يشرب نِصفَه كل يوم، ودلقه في فم الأميرة، ثم صبّ لنفسه نصف كأس جديد. بهدوء رفع الأميرة بين يديه، وبدأ ينفخ في فمهاكان الصوت ساحراً.

اعتقدت أن جدي خدعني! أخذ جسد الأميرة الفعلي، وترك لي شبّابة تافهة. قلت لجدي: “الأميرة هي التي تركتها لنفسك! ضحك جدي! قلت له: أريد هذه. وأشرت بإصبعي إلى الناي التي صنعها. ضحك ومدها صوبي. استغربت أن يتخلى عنها بكل تلك البساطة!

***

لم تكن أصابعي قادرة على أن تتباعد وتغطي ثقوب الناي، تعبت حتى تعلمت كيف أُصدر صوتاً. سألت جدي: لماذا باعدت الثقوب هكذا. ضحك جدي وقال: ستعرف عندما تكبر.

ـ ومتى سأكبر؟

ـ بعد قليللا تستعجل!

مضى القليلالذي تحدث عنه جدي، وكبرت! ـ ليتني لم أفعل ـ صارت أصابعي تغطي ثقوب الناي. كانت أمي تحتج على الصفير الذي أحدثه، لم أكن وقتها أعرف كيف أتحدث مع الأميرات، كنت أنفخ بغلظة، وكانت الأميرة تحتج وتتوجع، لم أكن أعرف كيف أهمس روحي في فم الأميرة لتقول شيئاً حلواً! مراراً كانت أمي تهددني بتحطيم الأميرة فوق رأسي إذا لم أكف عن الصفير.

***

بعد أن دربتني الأميرة على الحديث معها، رفعت فم الأميرة إلى فمي ذات مساء صيفي، وبدأنا نحدّث أمي عن مساء مشيناه معاً، عن بلبل حلو وشجرة زعرور قرب درب ريفي، عن الولد الذي كنته. عن أشياء تعرفها أميوعندما أنزلت فم الناي عن فمي، قالت أمي: “اعزف أيضاً. هذا العزف يدخل إلى القلب!” فرحت لأن أمي لم تعد تقل لي: “كف عن الصفير!”

أنا والأميرة أخبرنا أمي حكاية عنها، حكاية تعرفها كثيراً، أشياء تستوطنها بطريقة ما. أحبتها أمي دون أن تعرف ما هي بالضبط، شيء كسر مفضوح، يبقى سراً ويبقى مباحاً! هذا ما تعلمنا قوله أنا والأميرة.

***

قالت لي ليلى، وعيناها تتجنبان النظر في عيني: “أظنأنناأقصد أن أقول... أعتقدربما كان من الأفضلأن نفترق!.”

غضبت، سألت مرتجفاً: “لماذا؟كان قلبي صدىً لسؤالي، وسؤالي لم يكن يعني إلا شيئاً واحداً: أنا أشتعل حباً فكيف يمكن أن يخطر لك أن نفترق. لم أقدر وقتها على أن أفهم أن ليلى كائن آخر له جسده وروحه، وله الحق في التصرف بهما!

تركتني ليلى، وصار قلبي يرتجف كعصفور مذبوح ومجنون! بدا العالم غير قابل لأن يُفهم. أخذت الأميرة معي، وذهبنا معاً وراء خطواتي، قادتني خطواتي إلى غابة سنديان، تطل على نهر صغير. كانت روحي تحمحم بوجع: “ليلى ليلى لمَ شبقتني*.

جلست على صخرة، صرت أقول للناي أسئلتي ووجعي، وصارت تنشر في الفضاء القريب أوجاع مراهق بريء عذب. من ثقوب الناي خرج آلهة طيبون، تجمّعوا تحت أشجار السنديان، أتوا يحملون نبيذاً معتقاً هناك في السموات البعيدة حيث يقطنون، ربما كانوا يقصدون النهر القريب للاستحمام، تحلقوا حول الصخرة، واقترب كبيرهم مني، ودموعه النورانية تنساب فوق لحيته القدسية، قال لي: يا لقلبك! إنه يستحق فرحاً وسع السماوات والأرض! وقال لي وهو يصغي إلى الناي: صدقت. صدقت يا بني، أصعب من الألم بكثير أن تتألم وحيداً! ركعوا عند أقدام الصخرة، وقفوا، ثم ربت كبيرهم على شعري، فأزلت الناي بخشوع عن فمي، لم يعد هناك سنديان أو صخرة أو مساء! يد إله حنون تربت برقة الآلهة على كتفي! بدأت أبكيوبعد قليل بحثت عنهموأدركت أن العين لا تستطيع رؤيتهم لأنهم خرجوا من ثقوب الناي وانتشروا هناك في فضاء غابة السنديان. وكثيراً ما أحس بهم عندما أذهب إلى هناكحيث زرعتهم.

***

لم أصبح موسيقياً شهيراً.

لم يجر معي أيّ صحفي مقابلة لأقول له إنني لا أحب العزف على النوطة، فسطورها مثل قضبان السجن، لا تستطيع الروح أن تتخطاها، ولم أقل لأحد أن الناي هي أفضل بكثير من الآلات الوترية كلها، لأن الناي تقبل أن تسكب فيها روحك مباشرة والآلات الوترية تحتاج إلى وسيط كالأنامل والريشة، حيث يضيع شيء من الروح

كل ما كان يقال لي: “اعزف لنافأوافق عندما يأتي اللحن، واللحن يأتي هكذا فجأة، يأتي دون أن يستأذن أو أن يطلب منه القدوم. ولم أكن أرغب في أن أدونه على نوطةكنت أوزعه في المساحة الواسعة، يخرج مثلاً من نافذة الغرفة التي استأجرتها ويتمشى في سماء المدينة.

في الغرفة التي استأجرتها، وضعت رفاً صغيراً، ووضعت فوقه قطعة من الحرير الفيروزي، وأمسكت الناي وقلت لها: “هذا سريرك“. فوق ذلك السرير كانت تنام الأميرة إلى أن يوقظنا اللحن معاً! كانت تستيقظ وتقول شيئاً حلواً ثم تعود إلى سريرها!

***

منذ زمن بعيد غادرت تلك الغرفة، وتركت الأميرة مهشمة في أرضها وقد أُنزلت من سريرها عنوةً! تساءلت كثيراً عن مصيرها، لم أستطع أن أقول لنفسي أن أصحاب البيت كنسوها ورموها في سلة المهملات، وبعدها انتقلت إلى إحدى سيارات القمامة. يحزنني أن أصدّق ذلك وكعزاء كنت أقول: كم من الورود الجميلة تنتهي إلى بطون تلك السيارات.

حاولت وفشلت في أن أعود إلى غابة القصب وأنتقي أميرتها الجديدة. لم أعد قادراً على أن أمشي مع أمي مساءً وأرى طائراً مدهشاً ولم يعد جدي حياً. لو كان حياً لسألته: كيف يمكنني أن أصادف أميرة مرة أخرى؟ هل سيضحك جدي الذي كان يضحك. يضحك كثيراً

*ورد في إنجيل متى / الإصحاح 27، الآية 46 على لسان السيد المسيح وهو على صليبه إيلي، إيلي لمَ شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تخليت عني.   

خطّـــــــة القُبَـــــل

خطّـــــــة القُبَـــــل

لا فائدة! أخبار الموت والجوع والدمار تتكرر منذ خمس سنوات. مفردات الصحف في الحروب معروفة ومحدودة: “غارة، قذيفة، هدنة، انفجار، قتلى وجرحى، مفاوضات، طائرات، فشل، مساعٍ دولية، ضحايا….” تُضيفُ إليها كلّ بلد ابتكاراتها المحليّة الخاصة من أسماء الأسلحة المُستحدثة وألقاب المُتصارعين والتقسيمات الجديدة للمناطق وغيرها.

قبل الحرب كنتُ أحرص على جلب وأرشفة الأعداد التي تروقُ لي والتي تنشر ما أحبّ الاحتفاظ به والعودة إليه: ملفٌّ عن موضوع يهمني، إحياءُ ذكرى سنوية لشاعرٍ أو كاتبٍ أُحبّه، مراجعةٌ لكتاب ثمين، افتتاحيةٌ مميزة أو مقالٌ صحفيٌّ لافت.

أما اليوم فلم أعد مهتمّة بالاحتفاظ بها. الحربُ علّمتني أصلاً ألّا جدوى من الاحتفاظ بشيء مادّي. في ظروف النزوح والهرب المتواصل لا نحملُ معنا إِلَّا ما نحفظه في عقولنا وقلوبنا. وكل شيء آخر هو إما ضائع أو مسروق أو متروك أو محروق أو فانٍ.

كَوَّرتُ الجرائدَ بنَزَقٍ وتوتّر غير آبهةٍ بالمقالات والعناوين التي لم أمرّ عليها. ألقيتُ بها في حاوية المطبخ. قبّلتُ أمي الواقفة أمام حوض الجلي قبلةً طويلة ووعدتُها ألّا أبتعدَ أو أتأخّر. وخرجتُ من البيت.  

لم أشعر بشيء ولم أنتبه لفقدانِ حقيبة يدي إِلَّا عندما رأيتُه يتأبّطها وهو يركض أمامي بخفّة نشّال محترف.

ركضتُ خلفه وأمسكتُه بسهولة. كان ولداً في حوالي العاشرة، بهيئة عادية، لا رثاثة فيها ولا رائحة تسوّل.

واجهتُه وأنا أمدُّ يدي صوب الحقيبة:

“هاتِها، لن تجد فيها ما تحتاجه. لا أحملُ محفظة نقود، ليس عندي إِلَّا محفظة قُبَل.”

اتسعتْ عينا الصبي وافترضتُ أنه سيستفسر، فبادرتُه سريعاً لأحدّثه برغبةٍ ومتعة عن هوايتي الوحيدة:  

“أنا لا أؤمن بفكرة حفظ النقود، أنا أحفظُ القُبَل. أجمعُها في أيّ محفظة متعددة الجيوب؛ ستجدُ في الجَيب الداخلي قُبَلاً من فئة الـ (وسط) وهي القُبَل التي نتبادلها مع المعارف العاديين في المناسبات الرسمية والمباركات والأفراح والتعازي. ورغم أنها تتفاوت في قيمتها وأهميتها إلا أنني أجمعها في جيبٍ واحد لأن فرز هذا النوع من القبل مُربِكٌ وصعب.

وستجد في جيب آخر قُبَلاً من فئة الـ (هامّ) وهي القُبَل التي نتبادلها مع الأصدقاء والمقرّبين في لحظاتٍ شتّى: شوق، لقاء بعد غياب، دفقة عاطفية طارئة، وغير ذلك. هذه المجموعة أربطها بعناق من النوع المطاط. فالعناقات هنا جزءٌ أساسي من القبلات لا تكتمل ولا تطيب إن غابتْ عنها.

ستجدُ أيضاً مجموعة خاصة من القُبَل تمّ تغليفها بورقٍ لاصقٍ شفاف، هذه قُبَل المهاجرين والراحلين والمتوفين، هي قبلاتٌ توقّفَ التعاملُ بها وأصبحتْ قبلاتٍ نادرة، لذا أشمّسها وأيبّسها ثم أجلّدها بما يحفظها من الرطوبة والنسيان، فكلمّا طال الوقت كلّما ارتفعتْ قيمتُها وزادتْ غلاوتها.

أما في السحّاب الخلفي للمحفظة فستجد مجموعة هائلة من القُبَل الصغيرة، (فراطة) يعني. هذه قبلات يومية أتبادلها مع أفراد أسرتي وتترافق عادةً مع: صباح الخير، تصبحون على خير، نعيماً، شكراً وهكذا… ورغم أنها كثيرة ومتوافرة إِلَّا أنها ضرورية، ضرورية جداً، لا أستطيع التحرّك بدونها.”

أخذتُ نفساً عميقاً كي أبدأ بشرح الجزء الثاني من هوايتي الذي يتحدث عن (قواعد التخزين ومحاذير غسيل القُبَل) لولا أنني لمحتُ في عيني الصبي دمعةً كبيرة قَبْلَ أن يصرخَ بي:

“أعرف، أعرفُ كل شيء عن قبلاتك ومحفظتك وهوايتك، وأنا هنا لأجل ذلك. لقد جمعتُ حتى الآن مئة وخمسين محفظةَ قُبَل من حقائب وبيوت الناس الرافضة للحرب. بعضها سرقته، والبعض الآخر حصلتُ عليه كتبّرع من أصحابه لدعم الخطة”.

سألتُه بخجلٍ وذهول:

-أي خطّة؟

-خطّة أطفال سوريا. لقد اتفقنا على أن نجمع أكبر عدد ممكن من القُبَل والعناقات، سنحشو بها البراميل وجرات الغاز ومدافع جهنم وسنطلقها على كلّ المدن والقرى المحتاجة، وسنـ…

-لا تُكمِل، خذ المحفظة والحقيبة كلّها، سأستردُّ فقط المجموعة المغلّفة الخاصة بالراحلين لأن تعويضها مستحيل، وسيتكفّل الأهل والأصدقاء بتعويضي عن الفئات الأخرى، سأرسلُ لك أيضاً كلّ ما أستطيع جمعه من قُبلات حتى يحين موعد الخطة. رجائي الوحيد أن تتصل بي وتخبرني بما يستجدّ.

زوّدتُ الصبي بقبلتين إضافيتين على خدّه وجبينه، ودّعتُه بعناقٍ طويل ثم عدتُ إلى بيتي سعيدةً ومتفائلةً بخطّة القُبَل.

بعد أيام اتصل بي، كان صوته ضعيفاً وبعيداً ومكسوراً:

-أردتُ فقط أن أطمئنكِ عليّ. أنا بخير. لكنني خارج سوريا مع مجموعة من الأطفال وقد لا نعودُ أبداً.

اهتزّ قلبي مُتَنَبِّئاً بخبرٍ تعيس:

-لماذا؟ ألم تنفّذوا الخطة؟

-بلى، نفّذناها. وأطلقنا آلاف القُبَل صوب معظم الأماكن المشتعلة بالخوف والكراهية، لكننا الآن ملاحقون ومطلوبون من كلّ الأطراف، يقولون إننا أفسدنا مساعيهم وأفشلنا كلّ شيء حتى المباحثات الدولية، لذا قرّرنا أن نهرب.

-لم أفهم، ماذا حدث؟

-الهدنة، لقد اتهمونا بخرق الهدنة.