مُخرِب الأحلام

مُخرِب الأحلام

كان الشاب المدعو- آدم  والذي صار لقبه فيما بعد – الفيل – يجلس في الباحة السماوية تحت شجرة النارنج، عندما رأى فقاعة أشبه بفقاعة الصابون، تخرج من نافذة الغرفة التي ينام فيها والده وعروسه، وتقترب نحوه .

كان والده قد يئس من أية إمكانية لجعله آدمياً، فقد  طُرد من مدرسته على إثر ضربه لأحد أساتذته كما فشل في كل المهن التي تنقل فيها وكان على قناعة راسخة أنه لم يخلق ليؤدي عملاً نافعاً. بل يتعمد أن  يفسد الأشياء التي يفترض أن يصلحها، كأن يترك في المدافئ ثقوباً ليتسرب منها الوقود وتحرق البيوت بقاطنيها أو يغرس في الأحذية مسامير مسننة، أو يحدث في أقفال الأبواب ثغرة كي يخلعها اللص  ووصل به الأمر إلى وضع العث والديدان في المعاطف التي يبيعها .

بعد  طرده صار يمضي وقته  في باحة البيت تحت شجرة النارنج،  يسهر ليلاً وينام نهاراً. وكان الأب الذي طلق والدة آدم وتزوج شابة صغيرة  يشعر أن منتهى سعادته هي أن ينام ولده حتى وقت متأخر ويتمنى أن لا يستيقظ أبداً.

عندما صارت الفقاعة على بعد إنشين منه ارتجف جسده ورأى ما اعتبره خيانة زوجية تحدث في غفلة عن والده . كانت  زوجة والده، وجارهم الشاب يركضان في الفقاعة الشفافة الحمراء، وكانت الفقاعة التي بحجم كرة قدم تزداد توهجاً مع ضحكاتهما وعناقهما المحموم  بينما تتبدل ألوانها من الفضي إلى الوردي الفاتح إلى الأرجواني المتوهج.

في اليوم التالي لم يخرج كعادته لملاقاة أصحابه، بل أمضى يومه يراقب الزوجة الشابة وهي ترابط عند النافذة وتنظر بعيني قط محروم إلى باب الجيران.  

عند الغروب جلس خلف نافذته يراقب الزوجين وهما ينهيان آخر عاداتهما اليومية. سمع قرقعة الصحون وانسياب الماء في الحمام… دعسات والده… وقفل باب غرفتهما. عندها سحب كرسيه وجلس تحت شجرة النارنج  ينتظر الفقاعة التي اقتربت منه، وقدمت نفسها له كشاشة سينما أبطالها زوجة أبيه وجارهم الشاب. كانا يسبحان عاريين في مغطس ماء حار.

يتعانقان …يركضان على الحافة الدائرية للمسبح …يغيبان في أروقة قصر باذخ،  ثم يقفزان في الماء، و يواصلان السباحة.

غرس سبابته فأحس بلزوجة الفقاعة أخرجها ثم غرسها مجدداً كمن يوجه طعنة بسكين  فانقبض وجه المرأة وتراجعت للخلف، وهي تنظر حولها بذعر، شعر العاشق بالخطر فسبح هارباً خارج الحيز الذي يشمله الحلم لكن آدم ضربه في ظهره بسبابته فانزلق الشاب عند طرف الحوض وارتطم رأسه بالرخام، وسالت دماء كثيرة،  ثم تحول لون الفقاعة قبل أن تتبدد من الوردي إلى الأسود عندها سمع صرختين من الغرفة، وركض والده -الذي كان شخيره قبل ثوان يملأ الأرجاء – هلعاً ليملأ كوب ماء.

ما اعتبره  هواية ومارسه لسنوات  في المقهى وفي الشارع مع  المتشردين تحول بعد وفاة والده إلى حرفة حيث قصده الناس من كل مكان، وطارت سمعته إلى أوروبا وأفريقيا. قصده إعلاميون فاشلون وصحفيون يبحثون عن الشهرة بأي ثمن و دفعوا أموالاً طائلة لكي يروا قدراته الخارقة.

قصده الجميع بما فيهم الفنانون والسياسيون، والأساتذة الجامعيون، وأخيراً السحرة الذين أرادوا أن  يتعلموا منه طريقته في تحويل الحلم الأخضر إلى حلم يابس والأحلام الوردية إلى أحلام سوداء وكوابيس.

كان باب بيته مزدحماً واضطروا إلى هدم حارتين لكي يوسعوا الشارع المؤدي إلى بيته باعتباره ثروة إنسانية كما وقف خمسة عشر شرطياً وثلاثمائة متطوع  لتنظيم حركة المرور، واستعمل مئات المساعدين لتنظيم الزبائن في باحة البيت وفي الشوارع والمقاهي الجانبية والذين كانوا من كل الأجناس والأعمار.

كانت تقصده النساء لكي يباغت أزواجهن وعشيقاتهم في أسرتهن، ويحول أحلامهم  إلى كوابيس….

…الرجال الذين  يطلبون منه أن يتجسس على أحلام رؤسائهم في العمل

…آخرون يتفرجون على رغبات حبيباتهن ولكل شيء تسعيرة  فمشاهدة الحلم لها ثمن، والعبث به له ثمنه أيضاً.

كان كل شيء يسير باعتياد إلى أن أتى ذلك اليوم ….

في البداية أرسلوا إليه أشخاصاً يلبسون قبعات جلدية تخفي عيونهم  يجلسون في باحة البيت، و يراقبون باب مكتبه ويتهامسون فيما بينهم. في صباح أحد الأيام احترق منزله وفي يوم آخر نهبت نقوده ثم طردوا زبائنه وفي النهاية طلبوا إليه أن يعمل لحسابهم.

– تعمل لدينا ويعود لك ما أخذ منك مضاعفاً. عملك الآن سيختلف. نحن لا تهمنا خيانة الأزواج ولا الزوجات ولا ترهات العشاق والمراهقين.

على من سأتجسس إذاً؟

ستعرف لاحقاً.

كان تصنيف الأحلام يتدرج من عالية الخطورة كالأحلام المتعلقة بالأفكار  وأطلق عليها أحلام المجانين… إلى متوسطة الخطورة كالبيوت الفارهة أو السيارات الجميلة أو النساء الفاتنات وسميت أحلام اليائسين… إلى لا خطر منها وهي المتعلقة بوجبات الطعام  كأن يحلم الشخص بدجاجة مشوية أو مرطبان من العسل أو سلة من الفواكه وسميت أحلام الأموات.

لكن رئيسه في العمل أصر على أن كل الأحلام  خطرة لأنه إذا حظي الحالم بمرطبان العسل فسينتقل إلى المرتبة الأعلى، وهكذا حتى يبدأ بإطلاق أفكاره كما يطلق ريحاً من مؤخرته دون حسيب أو رقيب ، وكان يخبره كل صباح  مقطوعته اليتيمة: نحن لم نبن لك هذا المكتب كي تترك تلك الحشرات الخطرة تعبر من سماء المدينة .

وبذلك  صار يعمل دون ملل ويطلق العنان للشر الذي رباه في صدره طيلة السنوات الماضية تحت شجرة النارنج .

في بعض الأحيان كان يقبض على شخص وهو يعبر بوابة بيت ذي إطلالة جميلة أو يتأمل شرفة قصرعندها يلامس الفقاعة بصاعق كهربائي  فتهتز الفقاعة وينهار البيت فوق رأس الحالم، قد يعاود الحالم الكرة في الليلة التالية لكن بعد محاولتين أو ثلاث سيستيقظ مذعوراً بمجرد رؤيته لإطلالة جميلة أو بيت مترف.

وفي أحيان أخرى يجد أحدهم متأنقاً ويمشي بزهو فيوجه مروحة إلى حلمه تجعله يتأرجح وسط دوامة ريح عاصفة ثم يسكب الماء الممزوج بالوحل على ثيابه ولا يكتفي بتخريب هندامه وبعثرة شعره بل يطلق خلفه كلاباً متوحشة.

أحلام الشعراء والفلاسفة صنفت ضمن عالية الخطورة حيث يلقي هؤلاء المواعظ والنظريات حتى في نومهم لذلك  كان يسكب فوقهم دلواً من الأسيد وهو يقسم أن يجعلهم: يتبولون في أسرتهم وعلى زوجاتهم وبالفعل كانوا يستيقظون وقد نسوا كل تفصيل ما عدا رائحة الأسيد والفراش المبلل ولعنات الزوجات.

تسليته الوحيدة هي أحلام الفقراء كأن يباغت شخصاً مع تفاحة أو حبة موز يضع فوق سبابته دودة ويغرسها في الفقاعة فتتحول الثمرة إلى حشرة ضخمة.

أمضى حياته يدخل زلازل في الأحلام  يسكب الأسيد والكيروسين يطلق كلاباً وأفاعيَ، يرمي في طعام الفقراء حشرات وقذارات ولم يترك حلماً يكتمل وكان يردد الحكمة التي سمعها من دون أن يفهمها: للأحلام قوة تجعلهم يستيقظون ويفهمون لكن الكوابيس تفعل العكس.

في النهار يقضي وقته  في الحانة ثم ينام بضع ساعات. في الليل يبدأ عمله صار لديه مساعدون وتلاميذ مثله ضخام الهيئة لذلك أطلق عليهم الفيلة، وأضيف بجانب اسم كل منهم رقم، مثل الفيل واحد، الفيل اثنان، الفيل ألف.

مع الوقت ازداد عدد الفيلة، وصارت الأحلام تُبتر من منتصفها، وتتحول إلى كوابيس، وكان  لكل حلم فيل ينتظره على مفترق الطريق، بعد زمن لم تعد تمر أية فقاعات متوهجة فقط الفقاعات السوداء كانت تستطيع المرور عبر سماء المدينة.  

صياح الديك

صياح الديك

لا أعرف من أين أتى الديك إلى هذه المدينة، يهزُّ ليلها المعتم بصياحه الفوضوي. ما مذهب هذا الديك، وإلى أيّ أرومة فلسفية ينتمي؟

فكرت وأنا في غمرة يأسي أن أكتب رسالة إلى السيدة الدولة، متمثلة بأعلى رموزها، أشكو لها الفساد الشامل، دون أن أتطرَّق ولو بإشارة إلى حقوق الإنسان، أو حقوق الأقليات، أو حقوق المرأة، فأنا أعتقد أن الدولة شديدة الحساسية من هذه الفذلكات، وربما هي على حق.

في هذه اللحظات السوداوية، اكتشفت اكتشافاً مريعاً؛ هو أن الناس في الحي الذي أقطنه يسمّون مصلح التلفزيونات ” أفلاطون” وأنا أعرف أن له اسماً آخر، وتبين لي، وهنا مكمن استنكاري أن لقب أفلاطون يطلقونه على الأغبياء ومدعي الذكاء! كيف أصبح اسم أفلاطون مرادفاً للغباء البشري؟ هل هذا نوع من البلاغة الشعبية، أن تقول الشيء وتقصد عكسه؟ لا أدري إذا ما كانت هذه بلاغة، من يستطيع أن يحل لي هذه المعضلة التي جعلتني أتفطر حزناً على الإغريق وعلى أفلاطون، وأتساءل: هل سكان حارتي اسبارطيون أم عثمانيون جدد، يكرهون الإغريق القدامى والجدد؟ لا أدري.

إن كلمة “لا أدري” هذه تصلح كديانة جديدة للعقلاء والمعتدلين، بشرط أن يقولوا عن كل شيء لا أدري أو ما يوازي هذه الكلمة أو ما يتفرع عنها، مثل: ممكن،احتمال، هذا وارد… عندما أكون في وضع مناسب سأبشر بهذا الدين الذي لا يحتاج إلى ضحايا ولا إلى مجاهدين، ولا إلى أحاديث تلفزيونية. ريثما يتم لي ذلك، اعتذرت في نفسي لليونانيين القدماء، ونويت أن أبكي، إلا أنني قلت لا شأن لي بكل هذا، فأنا أحبُّ السيد أفلاطون، وأرسطو، وسقراط، واكسماندرس، وهيرقليطس الذي يقول: ” أنت لاتستطيع أن تستحم بماء النهر مرتين” رغم أنني استحممت بماء النهر مرتين وأكثر، عندما أغلقت مجراه مع أصحابي من أبناء القرية، ولم يكن في ذلك أي تحدّ لهيرقليطس، ولم يخطر ببال أحد منا أن يطلق على هيرقليطس اسم أفلاطون. كنا في زمن غير هذا الزمن. أذكر أن أستاذ المدرسة، أراد أن يسخر من أحد التلاميذ الأغبياء وأسماه “أنشتاين”! ربما كانت هذه البادرة التهكمية من الأستاذ نوعاً من البلاغة، إذ جعلتنا في قرانا النائية المنقطعة عن العالم وعن الكهرباء، نعرف من هو أنشتاين، وفي طريقنا لمعرفته تعرفنا على “أديسون” وعلى السيد “كوخ”  مكتشف عصيات السل، وتعرفنا على مخترعين آخرين. إذن، هذه بلاغة موصوفة لم يتحدث عنها الجرجاني ولا الآمدي ولا ابن قتيبة ولا المرزباني ولا ابن رشيق. وخلاصة القول؛ كنت وما أزال أحب أفلاطون الحقيقي، أَعلم هو بذلك أم لم يعلم. حين صاح الديك للمرة الثانية، تذكرت مأساة السيد المصلوب، حين تخلى عنه تلامذته وأنكروه واحداً تلو الآخر، أنكره أحدهم مرتين أو ثلاثاً قبل صياح الديك!

تمنيت ألا يكون هذا قد حدث بالفعل، ويبدو أنه قد حدث، ولا أدري. رغم أنني أدري بعض الأشياء، وهذا نوع من المكر أو سوء النية الفلسفي. الحقيقة لا أدري لماذا قررت بشكل مفاجئ أن أعبر الشارع نحو الحديقة العامة، منذ زمن طويل لم أدخل حديقة عامة، اكتشفت في منتصف الشارع، أنني جازفت وعرقلت حركة سير السيارات، التي تباطأت وشكلت اختناقاً مرورياً، ولا أدري إذا ما شتمني أحد السفهاء من السائقين، جرى ذلك للحظات، وأنا أتردد في العبور، استيقظ في ذاكرتي حمار جدي، كان يحرن كلما تحسس خطراً، أأمضي الآن إلى الأمام أم إلى الخلف؟ دفعني الارتباك إلى رفع يدي مستسلماً لقدري وموحياً بلا اعتذار لجميع السائقين العموميين وغير العموميين. لكن، ما لم يكن بالحسبان أن بيتاً من الشعر للمتنبي داهمني في هذا المأزق الحرج، وجعلني أندفع إلى الأمام وأنا أردده متحدياً كل هذه العربات المتحفزة:

      إذا اعتاد الفتى خوض المنايا             فأهون ما تمرُّ به الوحول

حين اجتزت الشارع شعرت بسعادة لا توصف، قلت بانتشاء، كمن خلص من مهلكة: ما أروعك يا أبا الطيب! كانت الحديقة تعج بالعشاق، رغم الحرب الدائرة في محيط المدينة، دائماً يخرج الإيروس متحدياً الموت، ألم يقل شاعرنا الحديث: “إذا ضحك الموت في شفتيك/ بكت من حنين إليك الحياة.”

على كل مقعد في الحديقة، يجلس عاشق ومعشوقته. لم أعثر على مقعد فارغ لأجلس وأرنو إلى البط في البحيرة، والحقيقة لم يكن ثمة بط ولا بحيرة، كان هذا موجوداً في ماضي هذه الحديقة ، قبل الحرب على الأرجح! لا أدري كيف مضت الأمور إلى زوال، وبأمر من؟ رحت أرنو إلى العشاق، هذه هواية قديمة لا زمتني منذ صباي، لا أستطيع حتى الآن مقاومة غريزة التلصص على العشاق. كنت أحياناً أتوارى خلف جذع شجرة وأراقب، فعلت ذلك مرة في بيروت، وكانت بيروت في زمن حرب أيضاَ. في هذه الحديقة، واحدة من الفتيات تجاوزت كل مألوف، وأظهرت اندفاعاً ثورياً يفوق التصور، أمسكت صاحبها وأدارته نحوها، ثم مدت يدها إلى ذقنه وجذبته نحوها وانقضت عليه، استمرت زمناً أطول من أي مشهد سينمائي مصري، ولم يصفر لها أحد، بل سرت العدوى منها إلى الأخريات. قلت في نفسي؛ عليَّ أن أكون سعيداً لهذا التحول في مجتمع محافظ، فالعالم يتغير دون أن يكون لديَّ يقين، إذا ما كان يتغير نحو الأمام أم نحو الوراء! كأنني أنتمي إلى العالم القديم. لا مكان لي في هذه الحديقة، لأذهب حالاً إلى المقهى الذي لم أدخله منذ سنوات بسبب غلاء الأسعار، أنا الآن أقتر على نفسي، وما كنت مقتراً. في شارع البرلمان، تحلق الناس حول امرأة، ورجل كهل يتشاجران، أغمض الرجل عينيه وراح يلكم الهواء مثل أعمى فقد صوابه، لم تُصب أي من لكماته المرأة التي اندفعت نحوه وهي تصرخ بهستريا. اجتمع خلق كثير وراحوا ينظرون بحياد، كأنهم يشاهدون مسرحية في الهواء الطلق. انقضت المرأة مثل خفاش على وجه الرجل الذي راح يترنح، أنشبت أظفارها في لحم خده، انبجس دم، وراح هو الآخر يصرخ كأن أفعى لدغته، وهو يشتم بأقذع المفردات التي يحذفها  موظفو الرقابة عادة بعد ان يستمتعوا بقرائتها. خمدت المعركة بعد أن تعب الطرفان. هدأت المرأة ومسدت فستانها، وتأكدت أنها لم تخسر أي شيء في هذه المعركة، بل كسبت الكثير من الصفات التي تجعلها أشد اعتزازاً بذاتها. لكن سرعان ماتبين أنها لم تكتف بما فعلته بوجه الرجل، بل ختمت فصلها الأخير بأن بصقت في وجهه، وهي تغادر مرفوعة الرأس، ولم تبال بالتعليقات الجنسية التي انطلقت من أفواه بعض الزعران! مالذي يجري في هذه المدينة، التي عرفت عبر تاريخها باللين والدماثة، كأن العالم السفلي قد خرج وطرد العوالم الوديعة!

دخلتُ المقهى دخولاً مظفراً، مدفوعاً بامتياز الرواد القدامى. هنا كان لي صولات في سنوات مضت. صفق لي النادل مرحباً وكأنني أعود إلى بيتي الذي هجرته، وراح يعاتبني على انقطاعي. اشرأبت أعناق أصدقائي لظهوري غير المتوقع، كما هي العادة، من الصعب أن يجتمع هذا العدد على طاولة واحدة، مع أخذ الخصومات والصراعات الكلامية بالحسبان، وقد ارتفع منسوب الصراعات في هذا الزمن الدامي، زمن الشقاق، التشتت التفكك. كان علي أن أوزع نفسي في جسوم عديدة. اخترت طاولة الصديق الأقرب إلى الباب. سألني أحدهم عن رأيي بما يجري، إلا أنني تريثت بالإجابة، تصدى للإجابة عني شخص لم أكن أعرفه، وقال: لينين انتقد عفوية الجماهير. قلت مازحاً: وأنا أيضاً ضد تقديس عفوية الجماهير. ابتسم الرجل وشعر بالنصر، وزاد من اعتداده أن دخلت فتاة أو امرأة، لا أدري، إذا ما كان هذا مهماً، كانت مثيرة في الحدود الدنيا من الأناقة، اتجهت صوبنا وتعانقت مع الرجل اللينيني، تهامسا بجانبنا، ثم ذهبا وجلسا في عمق المقهى. سألت صديقي: من هذه؟ معتقداً أنها من الكاتبات الجديدات. قال صديقي ببذاءته المعهودة: إنها قحبة ثورية. قحبة ثورية إذن؟ هذا فائض قوة جديدة للثورات الملونة أو المزركشة أو الدموية. لو أن الخال العزيز أبا داؤود موجود، لديه غرام شديد بمثل هذا النوع من الثوريات بشكل خاص! أما أنا فلست إلى هذا الحد. بل أستطيع القول إن ميلي يتجهة عكس ذلك، ولا رغبة عندي في كشف ميولي، لكن الشيء بالشيء يُذكر. حضر أبو داؤود معظم مؤتمراتي السوريالية، ومؤتمرات الأممية السادسة، وكان حاضراً بقوة في آخر مؤتمر عقدته في غرفة القابون، تسعينيات القرن المنصرم، أعلنت فيه حل الأممية السادسة. كان حماس أبي داؤود عالياً دائماً. اسكندر وكريستين وكريم، سحرتهم شخصية أبي داؤود، يعتقدون أنه إرهابي قديم، من رجالات الثورة الفلسطينية، يستحق التبجيل، راح الشعراء الجدد يقرأون له أشعارهم النثرية منتظرين منه اعترافاً.

خرجت من المقهى، دون أن أشغل نفسي بالتفكير في جسد تلك الثورية، لدى الإنسان كثير من المشاغل والهموم تشغله عن التفكير باللحظات العابرة مهما كانت دلالاتها وإيحاءاتها. كنت أفكر بالحرب، والمآسي التي تنتج عن الحرب. وجدت نفسي في دوامة من الكآبة التي لا شفاء منها. في الطريق صادفت أحد معارفي القدامى، قال لي إنه يعد نفسه للهجرة، وقال: هذا الشرق لعنة قدرية، فنحن كل عشر سنوات أو عشرين سنة أمام حرب من هذا النوع القذر. كان الرجل في غاية السوداوية، ناقماً على كل الناس، وكل الجهات بالمقدار نفسه. لم ينتظر مني تأييداً أو تعاطفاً، ودعني متمنياً لي ولأسرتي السلامة، ثم بكى. شعرت بالحاجة الماسة للعودة السريعة إلى البيت، لم أعد أحتمل أن أرى أكثر مما رأيت في هذا اليوم. يوم طويل في حياة مواطن عايش الحرب بكل حواسه، وانفعل مع آلامها منذ اللحظة الأولى. بدا لي أن الطريق إلى البيت أطول مما هو عليه في الواقع، لا أدري كيف أشرح ذلك، ولم يخطر ببالي أن أقحم مدة برغسون في الموضوع، سأترك الأمر للتخمينات. في الطرق قفزت في رؤاي صورة ذلك الرجل الذي بكى وهو يودعني، وتذكرت ذلك البيت من الشعر، أعتقد أنه للمهلهل بن ربيعة، يقول:

” ونبكي حين نذكركم عليكم          ونقتلكم كأنا لا نبالي”

لكن رجلاً له ماض لا تهزه دموع رجل خائب ممخرق قرر السفر عند أول مشهد للخراب، تمنيت أن أستوقفه وأقول له: إلى أين تمضي؟ فإذا كانت حياتك هنا خراباً في خراب، فستكون خراباً في خراب أينما توجهت، وهذا اقتباس مشوه من قصيدة اليوناني الاسكندراني كفافيس. في شبابي كنت ألوح لنفسي بهذا المقطع الشعري كلما لاحت لي فرصة للسفر أو للهجرة. ويَصلح هذا الشعر كأنشودة للمتقاعسين عن السفر والكسالى الذين لا يحبون أن يغادروا أماكنهم.

في الحي الذي أسكنه، بدأ الليل قبل أوانه، كما في كل يوم، إذ يأبى النهار أن يأتينا كاملاً. تسقط العتمة وتحل علينا كضيف ثقيل الظل بل كمستبد أرعن. الإرهابيون جعلوا التيار الكهربائي هدفاً يومياً، لماذا يفعلون ذلك، أليسوا ثواراً، ويتوجب عليهم أن يكرهوا الظلام؟ قلت هذا لأحد المتعاطفين معهم عن بعد. قال لي: هذه مقولات بائدة عن النور والأنوار، على العكس، نحن الثوار الجدد علينا أن نحب الظلام والأنفاق، نحن ثوار ما بعد الثورات لنا قاموسنا الجديد. استفاض الرجل في حذلقة فلسفية، لا أدري، ربما ووفق الوضع المابعد الحداثوي، نكون نحن كائنات عصر الأنوار قد أصبحنا حقاً من عالم الأمس.

استمر انقطاع الكهرباء كل الليل، مما جعلنا نسمع دويَّ انفجارات من بعيد ومن قريب. النوم في مثل هذه الظروف شبه مستحيل إذ تهاجمك عصابات من ميلشيات الناموس، بعضها يطنُّ وبعضها يتسلل دون طنين. إنه توزيع أدوار حربية، إذ يمكن للإنسان أن يتعلم فن الحرب من خبرات هذه الحشرات الجوية التي تتمتع بطاقات كبيرة على المناورة وتختبئ في النهار تحت السرير أو خلف الستائر أو في خزانة الملابس، تخرج عندما ترى الوقت مناسباً، حتى أن الذباب يبدو متخلفاً عن هذا الفصيل البرغشي المتمرس، وأعتقد ليس أمام الذباب من خيار إلا أن يتجدد أو يتحول إلى ناموس حتى يضمن لجنسه الاستمرار. خطر لي أن التفكير في هذه الأشياء هو جزء من تفاهة زمن الحرب، وعلى الإنسان الحصيف الجدي ألا ينجر إلى مثل هذه السخافات اليومية، الحياة الضاغطة لا تحتمل كثيراً من هذه التأويلات.

قبل بزوغ الفجر عاد الديك الغريب ليصيح، ردَّ عليه ديك آخر من مكان آخر، كأنه يحتج على الخطأ في التوقيت، أو أن الدنيا كلها باتت في حالة خصام، فعل ورد فعل، ربما هو فائض الحيوية، فائض العدوانية، فائض المكبوتات، كل شيء يعبر عن نفسه بالحدود القصوى.

في زمن الحرب والموت، لا قيمة لشيء له قيمة، القيمة الكبرى تغدو لكل ما ليس له قيمة حقيقية. زمن يتمنى فيه المرء أنه لم يولد ولم يلد، زمن الفتنة الكبرى وما بعد بعد الفتنة الكبرى. في زمن الحرب والموت ننسى جمال ما حولنا، ننسى كل النعم والهبات التي منحتنا إياها الطبيعة، في زمن الحرب والموت تطل من كل الكوى والنوافذ والآفاق ألسنة البذاءة والخداع، لنردد إذن مع حصان المتنبي بفجائعية وهجائية للجنس الآدمي:

   ” أبوكم آدم سنَّ المعاصي                وعلمكم مفارقة الجنان”

صباح هذا اليوم سقطت ثلاث قذائف هاون على الحي، من حسن الحظ لا توجد إصابات في الأرواح البشرية، اقتصرت الأضرار على الماديات، أخشى أن يكون الديك الصائح قد تعرض للضرر، وفي حال كان الأمر كذلك، أرجو أن يحل ديك بديل يقوم بالدور، فأنا لم أعد أستطيع العيش في هذا الحي دون سماع صياح الديك.

*****

هل هي لعبة، كما يقول المحللون التلفزيونيون، لا أدري. لكن من المؤكد أن الأمر أخطر، تعالوا انظروا الدماء في الشوارع، أستعير هذه الجملة من الشاعر بابلو نيرودا وهو يتحدث عن الحرب الأهلية في إسبانيا. إذن، ليس الأمر مجرد لعبة  يلعبها اللاعبون الدوليون، لكن ربما تكون في أحد جوانبها لعبة قذرة يلعبها مجرمون، أنا لا أغفل دور اللعب في التاريخ. ويالها من لعبة قتل متدحرجة لاتريد أن تنتهي. قالت امرأة ثكلى، وهي تنتظر جثمان ابنها الشهيد: ياخوفي أن تذهب دماء الشهداء هدراً.

انتابني في غمرة الليل شوق عارم للبحر، ولم أكن يوماً مغرماً بالبحر ولا بالبحيرات، بل مغرم بالأنهار والينابيع والغدران الرقراقة. منذ سنوات لم أجلس على شاطئ، ولم أحدق بالأفق المفتوح كما كنت أفعل في سنوات الصبا والشباب، ذاكرتي تحتفظ بانطباع جيد عن الأفق، بصرف النظر عن هذا الأزرق الصلف ورائحته التي لا أحبها في الصيف. ظلت مشاعري الفوضوية تتحكم بي، لا تزال تستهويني فوضى المشاعر. قد يداهمني بعد لحظات التفكير في صحراء تدمر، أو جبال البتراء، أو في تخيل مدينة تيماء الصحراوية، ولا أعرف أين تقع تيماء هذه. قد أفكر بمدينة الرقة أو بمسقط رأسي في ديرالزور. أنا الآن تحت وطأة صياح الديك المرتقب، وتحت وطأة انقطاع التيار الكهربائي، لا أعرف لماذا داهمتني رغبة في سماع نصري شمس الدين، وكنت على استعداد بأن أدفع كل ما في جيبي من نقود مقابل سماع نصري، وكأن نصري في هذه اللحظات إكسير مضاد للسأم والكآبة والحرب، وتذكرت المشهد المؤلم لرحيل هذا الفنان، كان تابوته محملاً فوق سيارة أجرة تنقله من دمشق إلى بيروت. هكذا يموت العظماء الحقيقيون يا نصري، غرباء بلا مشيعين وبلا جنازات هادرة. أحمد الله أن الدولة لا تزال موجودة، وهي تؤكد لنا ذلك عبر النبضات المتقطعة للتيار الكهربائي، وكأنها تقول: أنا هنا. أحد رجالات الدولة من قريتي، هو من أبناء جيلي، مرح ويحب المقالب، رغم أنه فاسد من الطراز الأول، زرته منذ أيام في مكتبه للتضامن التهكمي مع رجالات الدولة، قال لي باختصار: سننتصر على الإرهاب. كانت أسنانه جديدة، غير تلك التي عهدناها في فمه، وفعل بها الزمن بعض الأفاعيل، قلت له مازحاً: أسنانك هذه عثرت عليها قبل الأزمة أم بعدها؟ قال: لم يمض عليها سوى أيام، ولكن إياك أن تظن أنها مسروقة. قلت: لم يخطر ببالي ذلك. قال هذا يجعلني أفتح معك صفحة جديدة، لكن هل تعتقد أن تركيب أسنان جديدة في هذه الظروف يثير الشبهات؟ قلت: لا تقلق، يبدو أن كل شيء مباح الآن. قال: العرصات أمراء الإرهاب، يحظون بكل شيء؛ البترول والنساء وتجارة الأعضاء وكل شيء على الأرض السورية والعراقية والليبية. قلت: ويريدون أن يحجزوا لهم السماء أيضاً.