نجوم شباك نشرات الأخبار

نجوم شباك نشرات الأخبار

الحرب السورية التي هبت كالريح حملت معها عوامل تعرية حقيقية للمجتمع، والظاهرة الأسوأ التي قامت الحرب السورية بتعريتها، هي أنّ كل مواطن سوري كان يحمل داخله ديكتاتوراً صغيراً يمارس مساحة ديكتاتوريته بحسب حجمه (الأب الذي يقمع ابنته، الزوج الذي يخرس زوجته، الصديق الذي يقصي صديقه و لا يسمح له بالتعبير عن رأيه و هكذا…). هذا الديكتاتور الصغير بيّن لنا أنّ البلاد بحاجة ل23 مليون حراك ومن بعدها حراك واحد كفيل بإنهاء الديكتاتورية بكل أشكالها، كما عرّت الحرب مقدار المناطقية والطائفية والانفصالية والتشبيح والتدعيش الكامن في وجداننا الذي تمّ إفساده مع الزمن مما يكشف أنّ أمراض قرن لا بل قرون بحاجة لقرن ربما للتخلص منها، ذلك الذي كان من شأنه إعادة إنتاج الديكتاتوريات في كل أطراف البلاد، فقامت داخل سوريا سوريات صغيرة لكلّ منها فرع أمن الدولةو فرع فلسطينوفرع الأمن العسكرييضاف لها فرع حماية الطقوس الدينيةوفرع تنفيذ أوامر الله في أرضهوغيرها! ومن الملفت للنظر أنّ الشعب ذاته هو الذي يؤيّد خانقيه، فتجد كل ديكتاتور له شبيحتهمن الشعب، ومن تراه وسطياً إذا ذكر هذا تجده شبيحاً فيما لو ذكر ذاك، و طرق القمع و الإقصاء والإبعاد هي ذاتها، والاتهامات جاهزة وسريعة والمبررات سهلة، فمن السهل أن يتهم أحدهم مشجعي منتخب كرة قدم بالخائنين، وأن يجد آخر مبرر لقصف دمشق لأنّ قرية ما تقصف، بينما يصرخ آخر أنّه سيحاسب سكان دمشق وحلب وحماة المدينة والسويداء والساحل ونصف سكان حمص المدينة والعشائر والأكراد…..، يريد أن يحاسبهم كلهم باسم الشعب السوري بينما ينسى أنّه ذكر في فحوى كلامه الشعب السوري كله، هذا لا يصدر عن مؤسسات أو قوى أو أحزاب أو فصائل عسكرية، إنّه يصدر عن شاعر و سائق تكسي و صاحب مطعم وعامل نظافة وبائع خضار.

عرّت هذه الحرب كثيراً من الديكتاتورية والإقصائية والقمعية والتوحش و التسلط و الطمع في دواخلنا، على أنّ أسوأ ما طغى على السطح الفكر الراديكالي الذي لم يبرأ منه رقم يدعو للتفاؤل، فالواقع الديني الراديكالي حاضر في جميع الطوائف (جبهة النصرة، داعش، حزب الله، كتائب أبو الفضل العباس، فرق الشبيحة إلخ) ولكنّه مفيد لمن يريد التحكم به لدى الأكثرية أكثر منه عند الأقليات لأنّه قادر على خلق ما يسمّى بفوضى الجمهور التي تنتشر كالنار في الهشيم وتحصد كل ما يمكن زرعه لذلك تم استغلالها ودعمها استخباراتيّاً من الخارج والداخل معاً ليظهر الجمهور بالصورة التي ظهر بها، فمن الضروري جداً إظهار الجمهور بهذه الصورة فهذا من شأنه أن يترك حجة للدول الغربية لإعادة تموضعها في بقعة جغرافية يشكل شعبها الخطر وليست الحكومة، ومفيد للحكومة التي تريد إطفاء الشرعية على نفسها من جديد، ومفيد كل من يريد استباحة هذه الأرض التي لا حق فيها إلّا لشعبها إن كان هذا المستبيح مستبداً أو غازياً على أنّ المصيبة أنّ القاعدة الأساسية لهذا التطرف كانت قاعدة شعبوية والتسويق الأول هو تسويق شعبوي و كأنّ الشعب ينتحر بمحض إرادته!

وهذا كلّه يقودنا إلى أنّ سوريا تتجه لإعادة تركيز للسلطة المركزية في دمشق بيد النظام الحاكم كحالة شكلية محضة مع تقسيم للنفوذ على المحتلين والمستفيدين كلّ حسب حصته كمّا أنّها تتجه لمكان سيفاجئ كل مراقب لوضعها لأنّ ما يحدث من تورم يزيد بشكل مركب فالمشكلة تجر مشكلة والعنف يجر عنفاً أكبر والانهيار يجر انهياراً أعم هذا على المستقبل القريب، وتتجه لنهضة واسعة المجالات، وقد يظن البعض هذا الكلام ضرباً من الخيال أو محض مبالغة إلّا أنّ سوريا تحمل اليوم مقومات النهوض بشكل لا يمكن تصوره:

1- خبرات عملية متوزعة على دول العالم ولغاته فكل سوري حالم يحمل داخله تجربة واسعة تعلمها طوعاً أو كرهاً لا بد وأن ينقلها طوعاً أو كرهاً حين يعود إلى بلاده.

2- الشعب السوري عاش الأسوأ وهذا من شأنه أن يجعله أكثر سعادة مع الأقل سوءاً مما سيحفز على الإنتاج وتحرك عجلة الاقتصاد.

3- سوريا أصبحت دولة عالمية كما لم تكن منذ قرون فهي خبر أوّل وخيار أوّل ونجم شبّاك نشرات الأخبار مما يعطي لها الفرصة للظهور على أنّ الصدق يُلزمني أن أقول أنّ هذا البند غنيمة بقدر ما هو غريمة على البلاد.

4- النهر السياسي والاجتماعي لا يمر من نفس المجرى مرتين إذ أنّه لا عودة لركود الماضي وروتينه فلا بد للمستقبل أن يفرض معاييره شاءَ من شاءَ وأبى من أبى.

5- لو تعلم الشعب السوري 10% فقط من أخطائه لكان هذا أجمل ما في الأمر فكما يتوجب فإن الشعب السوري الآن يعرف من عدوه ومن صديقه ولم يعد عاطفياً يسخر منه من شاء الانتفاع والطمع أو يضحك عليه حاكم ما بممانعة أو استعداد لحرب لن تحصل.

هذا كله يؤكد أنّ جيلنا خسر سوريا للأبد بينما ستكون الأجيال القادمة محظوظة بسوريا أفضل من سوريتنا وأفضل من سوريّة آبائنا.

مشاهد في ظلّ الحرب

مشاهد في ظلّ الحرب

لستُ الوحيد الذي تُمزقّ الحربُ روحي بأنيابها الصلبة، الحرب التي تتكاثر كندوبٍ فوق جسد البلاد، لستُ الوحيد الذي رُمِي جسده ـ منذ سبع سنينٍ كاملةٍ ـ في محرقةِ البقاء العمياء، البقاءُ للأقوى:

تقول شرائع الغاب: البقاء للأقل حظاً، تقول الضحية التي تشبهني، الضحية التي نجت بلحمٍ محروقٍ وروحٍ مطعونةٍ بحراب الفقد.

أجل منذ سنينٍ سبعٍ وأنا أحفر الخنادق في ذاكرتي فلا يخرجنّ من طينها سوى الجثث وأصوات الأقدام المبتورة التي ما زالت تحاول الهرب، فأسقط عميقاً في فراغي.

ولستُ الوحيد، الذي أدمنتْه حبوبُ المهدئات، فصار أيضاً لاجئاً إليها، يحتمي بخدرِها كي ينجو فقط بما تبقى فيه من عاطفة، أمشي في شوارع دمشق فأرى الناس يتكئونَ على حزنهم، كما يتكئ الغريب على ظله فجميعنا أغرابٌ تهنا في أوردة البلادِ وأزقتها، أمشي في شوارعها أحدثُ الفراغَ المرعبَ الذي خلفته آلةَ الحربِ خلفها، أقول:

لا بدّ من نافذة، لا بدّ من خلاص.“

أعود إلى بيتي ـ بيتي الذي يتألف من غرفةٍ واحدة بأربعة جدرانٍ تحمل بقسوةٍ صورَ أصدقائي الذين غافلهم الموتُ بأصابعه الثخينة، فلوى أعناقهم وأعناق من بقوا على قيدِ الفقدِ يستجدونَ الأمل، أحاول مواربتهم ومواربة الموتِ بالنسيان، فأكثرُ من المهدئات والكحول حتى أصبح جثّةً هامدة، تطوف روحها بسلام مؤقت في فراغِ الغرفة / الشوارع/ المدينة، في فراغ الجسد.

هكذا فقط أستطيع أن أثبت لنفسيَ المنحورةَ بسكين الغائبين أنني ما زلت حياً، فأستيقظ صباحاً مكبّلاً بقيودٍ لا حصر لها:

اسمي، عائلتي، هويتي، والحاجز الذي ينتظرني على مبعدة أمتارٍ قليلة، أفتش عن طريقةٍ للهروب كي لا يسألني أحدهم: “من أين أنت؟”

سؤالٌ ينحر رئتي كخنجرٍ مسموم، فأفقد صوتي، وانتمائي بينما تجول بي الذاكرة غرب البلادِ وشرقها، ليوقظني الصوت الأجش من جديد: “من أين أنتفأكتفي بأن أقول أنا من هنا، من عدة أمتارٍ مغلفةٍ بالدمِ والحرائق اسمها دمشق، ثم أمضي تاركاً خلفي أجوبةً لا قرار لها، أجوبة طفلة تكاد من براءتها أن تسيل ماءً على وجوه السائلين.

وأنا من هنا، رجلٌ في الثلاثين نجوتُ مراتٍ عدةٍ من سهام الموت وقراصنته، مازالَ مشهدُ القذائف التي انفجرت محاذاتي يعيد نفسه كآلةِ تسجيل، وأذكر أنني نجوت من أربع سياراتٍ مفخخة، انفجرت بعد أن اجتزتها بقليل، قليل فقط، إلا أنني لم أنجُ من حروقٍ في أصابعي عندما انتشلتُ جثث أصدقائي أشلاءً ووضعتهم بيدي هاتين في أكياسٍ سيُخاط فمها جيداً كي تبقى الجثث هادئةً في خوفها الأخير.

هكذا أزاول الحياة أو أني أواربها بالضحك الممسوس بالخوف ـ الخوف من الوحدة من المُخبر من الفقد من الأصدقاء الذين قد لا يعودون ـ الخوف من الغد، الغد الذي قد لا يأتي.

صباحاً، أذهبُ إلى عملي أتأمل الوجوه الغارقة في ضباب الحزن، كم من مرةٍ وددت أن أعانقها جميعاً، لكنني دائماً كنت أفشلُ حتى في التحديقِ الطويلِ في عيونها، عيونها التي تحمل البلادَ المهدومة على أنقاضها، عيونها التي تريد أن تبكي إلا أنه لم يبقَ حتى طللٌ ثابت تبكي عليه.

فصور المدن تلاحقنا وكأننا قتلةٌ، المدن التي تسألنا بألسن من نارٍ:

ماذا فعلتم من أجلنا؟

ـ لم نفعل شيئاً يا أمي، حملنا صمتنا فوق كفوفنا الفارغة فكنّسَنا خوفُنا عن شوارعك وحدائقك ومقاهيك وشرائطَ الأخبار العاجلة.

لذلك، ولأنني رجلٌ وحيد، أو رجل أصبح وحيداً بعد أن ناله الفقد بكامل صخبه، وجدت نفسي وجهاً لوجه في معركةٍ ضدّ القبح، دونَ سلاح يُذكر، فأنا لا أحمل في جيبي سكيناً أو مسدس، حتى أني بتّ أخاف صوتَ الرصاصِ وعويل الأمهات، فشرعت أصابعي للكتابة، وروحي للركض على الصفحات عاريةً من كل شيء، ربما ـ على الورق ـ أجد نفسي أكثر توازناً، فالكتابة هي الشيء الوحيد ـ في هذه الحرب ـ الذي لا يحتاج لبتر ذراع أحدهم أو اقتناصِ فرحه برميةٍ طائشة، الكتابة غرفةٌ مستعارة تستطيع نقلها أينما ذهبت، غرفةٌ بلا جدران أو لصوصٍ ينظرون إليك من ثقوبٍ في روحها، الكتابة كنايةٌ ـ كنايةُ أنّك ما زلتَ تصر على استنشاق الهواء النظيف رغم تراكم الغبار والحرائق، الكتابة جلد الذات وجلد الآخر في محاولةٍ لكنسِ الألم مخفوراً بالمعنى ـ المعنى اليقين، أنك صدفةً نجوت، وأنكَ صدفةً ستسير في عوالمَ ما من شيءٍ يؤرقها سوى وجودك المحتوم، وجودك المُراوغ لتفاصيل الموتِ وأشكاله.

أجل فأنا ومنذ سبعِ سنين خراب ما زلت أكتب، كتبت عشرات القصائد بل المئات منهاـ قصائد تحمل النعوش عالياً، قصائد يرشح من أصابعها الدم والبرد، قصائد تحتفي بوردةٍ ذابلةٍ على نهد إحداهن، قصائد ترتجف في هذيانها.

ولطالما احتميت من ندمي بأمسياتٍ شعريةٍ كنت أقيمها في أصغر حاناتِ دمشق وأكثرها اكتظاظاً بالسوريين الذي سيتقاسمون صوتي الأقرب من لسانِ إلى صوتِ المجزرة.

والآن أصبح لي ديوانٌ وحيد سميته ضوءاً قصيراً، سميته سريراً بارداً، ديوان ينزف من أوراقه الصفراء أجساداً هائلة تصرخ بصوتٍ واحدٍ:

كان لا بدّ من نافذة، كان لا بد من خلاص.“

ماذا أطعم النور؟

ماذا أطعم النور؟

قصة قصيرة

عربات الخضار في مكانها المألوف.  بندورة، بقدونس، نعنع، بامية ديرية، ملوخية، بطاطا، فاصولياء،  لوبياء، باذنجان، كوسا، كلمات تخرج من الحناجر في إيقاعات رتيبة في أفق الحي. قرب عربة أخرى بائع يصيح: “خاين يا طرخون”. المأذنة هي الأعلى في الحي. شكلها عادي، لا يعكس عراقة معمارية. السماء غبارية، تتناثر فيها غيوم قطنية. دخان السيارات مرئي بحدة في الشارع العريض. يتعالى الأذان في الجو، صريحاً آمراً ومألوفاً. تُغلق المحلات، تُغطى بعض العربات، ويذهب عدد كبير من الأشخاص إلى الصلاة، لا يتسع المسجد فتركع الحشود على الرصيف وفي الشارع، مما يوقف حركة المرور. يصطفون في خشوع ويركعون. تمتمات شفاه، حركات أيدٍ، انحناءات أجساد، تسبيحات وتكبيرات.

الجو حار والرطوبة مرتفعة، ولم يتبق إلا مائة متر في الشارع الرئيسي وبعدها انعطافة إلى اليسار في زقاق طوله مائتا متر. أُخْرجُ المفاتيح، أفتحُ باباً حديدياً يصدر صريراً مزعجاً وأدخل. كان شريكي في الغرفة يطبخ مجدّرة وبدلته معلقة إلى مسمار في الحائط. رائحة البصل المقلي تغطي رائحة بوطه العسكري. أتناول عباءتي الصيفية، أخلع ثيابي وأرتديها. أتمدد على الأرض، على الحصير وأسند ظهري إلى مسند. ذهني يقودني في اتجاهات مختلفة، اكتشفت أنني كنت جامداً طول تلك السنين السابقة، لم أفعل شيئاً، استسلمتُ للمستوى الذي أنا فيه. لم أمتلك أفكاراً عن الطموح والمغامرة، شعرت أنني ما أزال طفلاً جاهلاً، أو ربما كنت منتظراً، لأبي كي يفعل لي شيئاً، لأخي كي يخرج من أنانيته ويساعدني في إطلاق مشروع. وظيفتي الأولى كان تأمينها كالمهزلة. قريب لي يعمل في سفارة تحدث مع مدير دائرة. ذهبت إلى الدائرة، فرفض الحارس إدخالي في البداية، ثم بعد أن ألحّيت، أطلق ضحكة كريهة مفتعلة وقال بعد أن تأكد من أن المدير طلبني:

– ادخلْ، قَطْع الأعناق ولا قَطْع الأرزاق.

كانت جملته غريبة، أراد أن يمنّني بعد أن عاملني بمهانة.  طلب مني مدير مكتب المدير العام أن أوقع بعض الأوراق وأرسلني مباشرة إلى مكتب كي أباشر عملي. كان المكتب صغيراً، حُشرتْ فيه أربع طاولات وأربعة كراس. طاولتي كانت مقابل الباب الذي يبقى مفتوحاً، حيث تمر موظفة كل عشرين دقيقة.  تفعل هذا باستمرار، بإدمان، ثم تمط رقبتها وتنظر إلى الداخل. شكلها يدفع إلى النفور، ستفضّل أن تنظر إلى قطة أو كلب، ولذلك درّبْتُ نفسي على ألا أرفع رأسي عن الأوراق التي أمامي حين أسمع صوت كندرتها على البلاط وهي رائحة غادية. لم أشعر بالزمن الذي مر في الدائرة، كان التكرار هو حياتي المبددة في أعمال لا قيمة لها، وفي نهاية الشهر، كنت أنتظر في الدور ثلاث ساعات كي أقبض راتبي. ازدحام رهيب من أجل راتب تافه لا يبقى منه أي شيء بعد أن أقتسم أجرة الغرفة مع صديقي. كان صديقي الذي يؤدي خدمته العسكرية يتحدث في الليل متظاهراً بالنوم، يتحدث كثيراً، في البداية ظننته مريضاً، لكنني اكتشفت أنه يريد أن يوهمني بذلك، ويريد أن يحكي لي ما يجري معه بطريقة غريبة، تبرّئه من المسؤولية، لا بد أن هناك شيئاً في أعماقه جعله مرتاباً بي، كلنا نخفي أموراً في ظلمات النفس وطبقاتها المجهولة، هل لأننا غير قادرين على الانفصال، على التحرر، وإذا ما انفصلنا لا نستطيع أن نكون جذريين؟ لست أدري. أنا أعتزّ بصداقته، وأحبه، ولكنه عاملني بطريقة غريبة، حيرتني. في المرة الأولى التي تحدث فيها، كانت الساعة الواحدة ليلاً، وكان اليوم يوم جمعة، حيث كان لديه مبيت، سمعته يقول:

– أغمضوا أعينكم، تخيّلوا، ماذا ترون؟

ذكر الاسم، فقالوا إنهم يرونه ممتطياً صهوة جواد من نور، يخترق عوالم الظلمة، يوزع الأقمار، يعلق قمراً في سقوف الغرف، وفي كل شارع وزقاق. تنتشر الأقمار في المدينة وتنيرها. وبعد أن يجوب عوالم الظلمة يعود، وتستقبله الحشود، تجرح أيديها وتكتب له بالدم عبارات الحب: انتظرناك طويلاً، بددنا أعمارنا ونحن ننتظرك، أيها الفارس العائد من الظلمة، لك الملكوت، لك عطر العهود، لك الأبدية أيها الخالد، لك الأرض بساحلها وداخلها، لك الرجال، كرمى لك يرمون أنفسهم في التهلكة. وحيث يمرّ ترتفع قباب النور، تتدفق الأنهار بقوة، يطلع الشجر بسرعة وتجود المواسم.

صارحْتُهُ، قلت إنه يتحدث عن أمور معينة فأنكر ذلك. هل يوصل إليَّ رسالة متظاهراً بالبله أو الجنون؟ لم يكن يتوقف عن الكلام حين تنقطع الكهرباء ولا يبين أي قمر من أقمار الفارس الذي يتحدث عنه. حين أقف في صف طويل كي أشتري عشرين لتراً من المازوت أتمنى لو أن الفارس المُبدِّد للظلمة يقتحم المشهد ويفرض سحره ويملأ البيدونات المصطفة. وحين أنتظر الميكرو لمدة ساعة أحياناً وأجري مع المحتشدين كي أؤمن مقعداً، أتمنى لو أنه يجيء على حصانه ويوصلني إلى العمل، وحين أحاول تأمين جرة غاز، أفكر به كثيراً، متمنياً أن يأتي في أية لحظة وينتزع لي جرة من البائع ويوصلها لي إلى البيت على ظهر حصانه. تمنيت قدومه أيضاً حين فاضت المجارير في الحي ودخلت إلى البيوت، ووضعنا خفّافات كي نسير عليها للدخول إلى الغرفة. كانت أم صاحب البيت التي تسكن مع ابنها في الطابق الثاني مصابة بالسعال الديكي. لم تتوقف لحظة واحدة. تمنيت لو أنه جاء وأخذها إلى العلاج، كان وجهها سمحاً ويفيض بالحب والطيبة. اعتدنا على سعالها حتى صار جزءاً من وجودنا، جزءاً من إيقاع حياتنا، وبعد فترة توفيت، وساد الصمت في الليل، لم يعد هناك سعال. شعرت بحنين، بشوق إلى هذا السعال. انتابتني تهيؤات عديدة حول كائن يسعل حتى الموت، دون أن يأخذه أحد إلى العلاج. كان الابن قاضياً مشهوراً بامتلاكه للعقارات في أحياء المخالفات، كان يؤجر مستودعات وشققاً، لكن أمه كانت تسعل طول الوقت. وحين جاءت معي سلافة، وكانت أول عشيقة لي في المدينة أحبتني في ظروف لا يمكن أن يستمر فيها الحب، كان هناك استنفار في البلد وصديقي نام في القطعة، فخلا الجو بالنسبة لي. سارتْ سلافة على الخفافات كي لا تتلوث قدماها بمياه المجارير، كانت الروائح تملأ الحي. لم تقل شيئاً، لكنها قررت أن تشرب الشاي وتذهب، ظل كأسها مليئاً. تذرعت بشيء ما.

ألححت عليها كي نمارس الجنس، وكان بي ظمأ إلى ذلك، وبدأت أمد يدي وأتحسس، قالت مازحة:

– يا لك من عجوز شبق!

كان السير معها في الشارع جميلاً في ذلك اليوم، أذكر وجهها، ربما تغير الآن، دخل في شكل آخر، في قناع مرحلة أخرى من حياتها. لم تقل أي شيء عن ماء المجارير ولا عن السعال، أنا أحضرت لتر العرق وبدأت بشربه في كؤوس صغيرة. كنت أشرب كل يوم إلى أن أشعر بالاسترخاء ثم بالخدر وبعد ذلك أنام. كانت أم شريكي في السكن ترسل له المونة من الضيعة كالزيتون المرصوص والعيطون الأسود والكشك والشنكليش والمكدوس. كانت مأكولات شهية، وكان هو شهماً. لم يدقق أبداً في مصروفاتنا، لكنني شعرت أنه خائف مني، هل يتخيلني منهم؟ لماذا لا يثق بي؟ بدأت تخطر لي أفكار من هذا القبيل. لم أخنه، لم أخن أحداً، ولا أريد أن أقدّم اعترافاً حول الأمر، لم يتعرض لأي موقف من قِبلي وهذا كاف لجعله يبتعد عن هواجس من هذا النوع. أم هل لأنني من طائفة أخرى؟

– أغمضوا أعينكم، تَخيّلوا من جديد، ما الذي ترونه؟

كان مفروضاً على الجميع أن يجيبوا على السؤال. أحدهم قال إنه من نور خالص، وهذا النور يضيء الكون فيما قال آخر إنه الشمس التي تشرق كل يوم.

– أريد أكثر، ألا تفكرون إلا بالشمس والقمر!

أحدهم تلعثم قليلاً، لم يستطع أن يعبّر، عجز عن تصوير ما تخيّله في كلمات، فأخرجوه من المجموعة المتمددة على ظهورها في ساحة رملية مسورة تحت شمس حارقة، حلقوا له على الصفر وحرموه من المبيت. كانت الإهانات تنصب عليه من كل حدب وصوب، عومل كحشرة تُسحق تحت الأقدام.

مرة قلت لصديقي أن لا داعي للمناورة وأن بوسعه أن يحكي لي ما يجري معه بصراحة، وأنه يجب أن يثق بي، لكنه تظاهر بأنه لا يفهم قصدي. قبلها كنت أضع لتر العرق وأحضر بعض المازة وأبدأ بالحديث معه، لكنه كان يغيّر الموضوع، وبعد أن ينام، أو يتظاهر بالنوم، يدخل في الموضوع.

أريد أكثر، من رأى أكثر؟

جاء دور صديقي، قال عنه إنه مجترح معجزات، مرة نقل جبلاً من مكانه، وغيّر مسار نهر كي يخصب مناطق مجدبة، وفي المناطق التي لا تصل إليها المياه يلمس الأرض فتنبجس الينابيع. صارت الحناجر تهتف باسمه حتى في بعض المدن الحاقدة. لم يعد سكان هذه المدن قادرين على السيطرة على حناجرهم التي بدأت تهتف فاعترفوا بأنهم مخطئون وأن حناجرهم صادقة، وقد فعلتْ هذا من تلقاء نفسها.

حصل صديقي بعد أن قصّ ما رآه على إجازة لمدة أسبوع كجائزة له. سافر كي يزور أمه وأباه وأخوته، في الريف البعيد. بقيت لوحدي. خطر لي أن أسافر إلى بلدتي لكنني لم أشعر برغبة في ذلك فقررت أن أمضي وقتي في التسكع في مركز المدينة. ثم في المساء أعود إلى غرفتي. كان لدي بعض الكتب التي كنت أتسلى بها وحين تنقطع الكهرباء أستسلم للنوم. يجيء الصباح معتماً بين الأزقة في الحي الذي أسكن فيه. البنايات متلاصقة والأصوات متلاصقة، ولا يفصلك عن آخرين لا تعرفهم إلا حائط سمكه ٢٠ سم وأحياناً أقل. كان لون الاسمنت طاغياً، والخفّاف غير مليّس في معظم الأبينة، وكل يوم يولد بناء جديد، بسرعة البرق، قبل أن ينشف اسمنت الأعمدة. تحولت أصوات شاحنات نقل الخفاف وأكياس الاسمنت والحديد ومجابل الباطون وصيحات العمال، وقرع المسامير في خشب السقوف إلى خلفية يومية تدجنت الآذان على قبولها، وفي الليل تأتي أصوات أغنيات لمطربين جدد لم يُسمع بهم من قبل، أصوات تتناهب الأفق، تسوّره، تحجبه، ثم تتبدد في خواء المدينة.

أحياناً أنظر إلى سرير صديقي الفارغ، أحاول أن أجمع خيوط كلماته، وأتساءل لماذا يحدث هذا؟ لماذا؟ لماذا؟

في إحدى الليالي رأيت حلماً، قُرع باب الغرفة وسمعت أصواتاً غير مألوفة تنادي باسمي، فتحت الباب، كان شكلاً من النور على جواد من النور، فضح بريق النور غرفتي وأثاثها الفقير، بانت قطرميزات المكدوس والزيتون والعيطون وربطة الخبز، ظهرت الأغطية المتسخة التي لم تُغْسَل منذ فترة، انكشفت ثيابي المعلقة بالمسامير، والمرآة ذات الإطار البلاستيكي، أُضيئتْ فرشات الإسفنج غير المُلبَّسة والتي ننام عليها صيفاً وشتاء، تبدّتْ البقع الصفراء على المخدات، وكراسي البلاستيك المتسخة، وأوراق الجرائد المبعثرة.

– هل يمكن أن أدخل؟

استغربت أنه استأذن مني. دخل على حصانه إلى داخل الغرفة، ترجّل، لمسَ حصانه فاختفى، جلس وقال:

– أعدّ لي مائدة مما لديك.

شعرتُ بالخجل. ماذا يمكن أن أطعم النور؟ أشار إلى القطرميزات، فذهبتُ إليها، لكن كان عليَّ أن أجلي الصحون، وحين فتحت الحنفية لم ينزل ماء. نهض لمس الحنفية فتدفق الماء، غسلتُ الصحون وسكبت له صحن زيتون وصحن عيطون وصحن مكدوس، ذكّرني بالشنكليش فأخرجتُ له قرصاً مستوياً من قطرميز ووضعته في صحن وسكبت عليه الزيت. ثم رتبت الصحون في الطبق القشي ووضعته أمامه. طلب كأس عرق. ذهبت وأحضرت اللتر الذي كان فيه ثلاثة أرباعه. نظر بشهوانية رهيبة إلى الصحون وبدأ بالتهامها، أكل كل شيء وشرب العرق كله، ثم طلب المزيد إلى أن فرغت القطرميزات، ثم نهض دون أن يصافحني، تمتم فجاء حصانه النوراني، وفيما هو ينهض أطلق بعض الغازات، ركب عليه واختفى، وبقيتْ خلفه رائحة غازاته الكريهة. جمعتُ الصحون، كوّمتها على المجلى، وفتحت الحنفية كي أغسلها لكن الماء كان قد انقطع.

كان حلماً غريباً، غير أنني شعرت بالراحة أنه لم يكن فيه أحد يأمرني بأن أغمض عينيَّ وأتخيّل وأروي، ربما لن أجرؤ على قول ما أريد أن أتخيله، ولكن هنا، في غرفتي، في ظلمتي السرية، في الحارة البعيدة عن المركز والتي يلتهمها الاسمنت كوحش مدرّب، وتنهش لحمها الأصوات المسنونة، أمرتُ نفسي:

– أغمضْ عينيك؟ تخيّلْ. ماذا ترى؟

– هاوية، هاوية، نندفع إليها جميعاً.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]