ذاكرة المستقبل

ذاكرة المستقبل

كنت جالساً البارحة بمفردي، وهذا بحد ذاته الآن شيء لا ينصح به لكل السوريين في المهجر، أتابع الأخبار. لا شغف ولا إثارة كانت تأتي من جميع القنوات الاخبارية أوصفحات التواصل الاجتماعي. على الرغم من أن معظم الأخبار كانت تركّز على مدينتي الجريحة. ليس فقط على المدينة، بل أكثر تحديداً على بعض الأحياء التي قضيت فيها سنين مراهقتي الشقية. السنين التي تعرفت فيها على عشيقتي التي قضيت معها ثلاثة عشر عاماً من الحب، حبيبتي حلب.

في سن الثالثة عشرة، اتخذت قراراً مبكراً بمغادرة قريتي البسيطة والذهاب إلى المدينة. حلب وقتها لم تكن غريبة علي وبنفس الوقت لم تكن ذلك المكان الذي آلفه جيداً أيضاً. حصل والدي الذي كان يعمل في المؤسسة العامة للاتصالات على منزل في حي سكني يدعى «مساكن هنانو». لم يكن والدي يعشق حياة المدينة ولكن قراره بالحصول على المنزل كان براغماتياً. القيمة الحقيقية للمنزل كانت أكثر بكثير من الأقساط الشهرية التي كان يدفعها والدي لمؤسسة الاسكان العسكرية وأيضاً فإن والدي قد رأى بأن هناك حركة هجرة متزايدة من الريف إلى المدينة لذلك فإن قيمة العقار سترتفع بدون أدنى شك. 

قرر أحد أشقائي أن يسكن في ذلك المنزل في الحي الجديد مع أسرته وبعد سنتين قررت الانضمام إليه بحكم أن قريتي الصغيرة لم تكن فيها مدرسة اعدادية ولم تكن تتسع لأحلامي الكبيرة حسب ما رأى أساتذتي في الابتدائية. كان حي مساكن هنانو وقتها جديداً ومميزاً تسكنه العديد من الفئات الاجتماعية المختلفة من طبقات وأديان واثنيات. يبدو أن والدي لم يكن الشخص البراغماتي الوحيد حينها. الكثير من الناس من الطبقة الوسطى من موظفين ومدرسين ومهندسين ومحامين قرروا استثمار مبلغ مادي بسيط للحصول على منزل في مساكن هنانو. الحي كان أيضاً يحتوي على أحياء سكنية للعاملين بقطاعات معينة مثل الجيش والشرطة وبعض مؤسسات الدولة الأخرى. 

هذه البنية الاجتماعية لم تستمر طويلاً مع الأسف إذ أن أغلب البراغماتيين بدأووا ببيع بيوتهم أو تأجيرها عندما أصبح ذلك ممكناً. وفي فترة معينة تحول الحي إلى مكان يسكنه أصحاب الدخل المحدود من عمال وموظفين. استمر الحي بالتغير جزئياً وفي مرحلة أخرى بدأ أصحاب الدخل المحدود أنفسهم بالتفكير بشكل رأسمالي يتماشى مع الأوتوقراطية الجديدة التي أوحت بها سياسات الرئيس الابن والتي كانت مليئة بالفساد والرشاوى وسياسات تحت الطاولة. بدأ العديد من الآباء من مساكن هنانو بشراء أراض مجاورة للحي الذي كان يشبه لدرجة كبيرة أي مستوطنة اشتراكية في بلدان الاتحاد السوفييتي السابقة حيث لايمكن لأكثر من عائلة صغيرة أن تسكن في الشقة. المنطقة الجديدة كانت تدعى «الأرض الحمرا». ومن الاسم نعرف بأنها كانت منطقة أراضي زراعية على الأغلب. 

اشترى أحد جيراننا قطعة صغيرة من الأرض ليبني بيتاً لولديه اللذين كانا من أصدقائي المقربين جداً وكانا وقتها في سن الزواج حسب العرف الشائع في المنطقة. كان ذلك قبل وقت قصير من مغادرتي للحي ورحلتي الشيقة للعيش في أحياء مختلفة في المدينة أثناء دراستي الجامعية.

 أتذكر تلك الأيام التي كنت أعود فيها منهكاً من العمل وبعد يوم دراسي شاق ثم أذهب لمساعدة صديقيّ في نقل القرميد وزق النحاتة البيضاء. كان لذلك معنى رمزياً كبيراً فأنا أساعد أصدقائي في بناء منزلهم. أما المعنى الآخر فكان هاجسي بأن أثبت لهما بأن ذهابي إلى الجامعة وقراري بترك الحي لن يغيرني ولن يغير طبيعة صداقتنا مهما كان الثمن. كان شباب الحي الدين قرروا البقاء، وربما شراء قطعة أرض في الأرض الحمرا متواجدين بشكل يومي لمساعدة صديقيّ. بالنسبة لهم ربما كان ذلك نوع من الإقرار الذي يجب أن يتخذوه ليشعروا بالطمأنينة والتعزيز للموقف الذي اتخذوه ببناء منازلهم والاستمرار بحياتهم هناك. شعور مفعم بالانتماء. لم أرغب حينها بأن أشعر بأنني الشخص الغريب أو الشخص الذي قرر الانسلاخ عن الحي وسكان الحي الذين كبر معهم وأصبحوا جزءاً من ذاكرته وتاريخه الشخصي.

البارحة كانت الكثير من الأخبار المصورة تأتي من حي مساكن هنانو وكيف تمكن الجيش النظامي من السيطرة عليه بعد أن دمّر العديد من المباني وألحق الضرر بالمباني الباقية وهجّــر من تبقى من أهله أو من أوى إليه بعد أن فقد منزله في مكان آخر. جاءت كل هذه الذكريات ثقيلة وكثيفة دفعة واحدة. حاولت أن أتمسك بها أوأضعها على الورق للتعبير عن موقفي وعن غضبي ولكنني عجزت عن إمساك القلم وظلّت الذكريات تسيل كالماءالمخلوط بالزيت من بين أصابعي التي تابعت ممارسة عجزها عن فعل الكتابة. 

اليوم عشت ساعات طويلة من التشويش الفكري الذي حجب عني قدرة النظر إلى الخلف. لم أعرف إن كان هذا فعلاً إرادياً من وعي مسيـــر أم أنه فقط ردة فعل من لاوعي قرر السير قدماً والنظر إلى الأمام. امتلاك ذاكرة في زمن الصراعات من هذا النوع هو أمر مرعب ومثير للإرباك! عندما تركّز على ماض كان جميلاً ثم تراه يختفي وأنت لا تستطيع فعل شيء، فإن شعورك اليومي بالعجز يتنامى لدرجة ترفض فيها أن تقبل بمطالبة تلك الذكريات بالعودة وبنفس الوقت، تمتلك رغبة جامحة بعدم خسارتها!

الشيء الذي أرهقني هو أنني تذكرت يوم قررت الرحيل، قررت أن أترك دفاتر قصائد المراهقة وكراسات القصص القصيرة التي لم أمل من قراءتها لأصدقائي في المدرسة على طريق العودة من حي الصاخور حتى عندما كان الطقس بارداً. قراري بترك تلك الدفاتر كان بياناً رسمياً بانتمائي للمكان. أتذكر وقتها بأنني فكرت فكرت طويلاً ثم قلت لنفسي بأنني أريد أن أترك جذوراً لي هنا. عندما أعود- لأنني سأعود يوماً- أريد أن أشعر بانتمائي لذكرى الأمكنة وقصص الخيال الذي منحتني إياه المدينة بأضواءها وأزقتها الضيقة وضحكات صباياها من خلف ستائر شبابيك الشتاء.

اليوم رأيت منزلي في مساكن هنانو مخرباً. صفعتني ذاكرة غريبة بدون وجه ومضت سريعاً. كان عندي قدرة هائلة بالتعرف وتذكرالحي والمبنى والشارع والمنزل رغم كل الدمار الذي حل بهم. سمعت صوت دفاتري القديمة وكان الصوت غريباً علي. خدر كثيف أصاب ذاكرتي لفترة ليست بقصيرة وعندما صحوت شعرت برفض تام بالعودة إلى الخلف. لم أفهم لماذا؟ مازلت غير قادر على تفسير هذا الشعور. الشيء الوحيد الذي أفكر به الآن، (ويزعجني ويضايقني بمجرد وجوده في حيز تفكيري)، هو ما سأقوله غداً لصديق يسألني عن حلب أو شريكة تحاول التخفيف عني أو حتى لطفل لا أتوقع قدومه حتى الآن. أريد ذاكرة للمستقبل ولكن كيف؟ لست أدري.

أجلس الآن في غرفتي الصغيرة في السكن الجامعي في بودابست. أحاول صرف انتباهي عن الذاكرة بسماع الموسيقى والتفكير بما سيأتي. أجلس وحيداً وأعرف أنه ليس الشيء الذي علي فعله الآن. أنظر إلى شاشتي الصغيرة وأضيع مجدداً في الأخبار القادمة من مدينتي من حينا ومن منزلي القديم. أرى الناس تهجــر قسرياً وتعود إلى دائرة الهتاف البعثي القديم وتخليد الابن بعد الأب والذود عنه بالروح وبالدم. أحاول أن أنظر في عيونهم عبر شاشتي الصغيرة. لا أرى أي تعابير. وجوههم أيضاً فقدت تعابيرها. ربما هم مثلي خسروا شيئاً من تاريخهم الشخصي أو ربما هم أفضل مني بكثير… فأنا مازلت جالساً هنا أشعر بالعجز وأمارس حياتي اليومية وأبني ذاكرة جديدة للمستقبل.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]