منتخب الأسد، مشجعو سوريا

منتخب الأسد، مشجعو سوريا

“عندما حاولتُ تتبّعَ الأمر، لم يبدُ واضحاً بالنسبة لي أين بدأ استخدام عبارة «فصل الرياضة عن السياسة» في النقاش حول الموقف من منتخب الجمهورية العربية السورية لكرة القدم، لكن العبارة على أي حال قليلة المعنى في السياق السوري، إذ ما هي السياسة التي يمكن أو لا يمكن فصلها عن الرياضة؟ عن أي حدود للسياسة نتحدث؟

الأرجح أن المعنى المقصود من هذه العبارة هو التالي: لا ينبغي أن نأخذ الخلاف السياسي حول كيفية إدارة السلطة والثروة في بلادنا بعين الاعتبار عندما يتعلق الأمر بمنتخبها، بل إن علينا أن نفصل بين الأمرين، فنشجع المنتخب أياً تكن الجهة السياسية الموجودة في سدة السلطة، لأنه يمثل البلاد كلها ولا يمثل تلك الجهة.

قولٌ كهذا هو تضليلٌ مكتمل الأركان في السياق السوري اليوم، ذلك لأنه لا سياسة في سوريا حتى نجادل أصلاً في مسألة فصلها أو عدم فصلها عن الرياضة. السياسة هي إدارة الصراع بين القوى السياسية والاجتماعية بدون عنف، وبالضبط بهدف إبعاد العنف، وفي سوريا لا شيء اليوم إلا العنف. ليس ثمة صراع سياسي بين أطراف متعددة الرؤى في سوريا، بل هناك صراع مسلّح مستمر، وهو ما يعني بالتعريف نفي السياسة.

ومنتخب كرة القدم السوري اليوم هو منتخبٌ شكّلته إحدى القوى المتحاربة، وهو يدين بالولاء الكامل لهذه القوة، يرفع رموزها وصور قائدها، ويتم اختيار لاعبيه وكادره التدريبي من قبلها، ويتم توظيف حضوره في أي محفل رياضي لصالحها. وتلك القوة هي نظام الحكم الذي لا يزال شرعياً من وجهة نظر المؤسسات الدولية، لكن شرعيته تلك محلّ تساؤل وتشكيك، ويساهم حضورُ هذا المنتخب في ترميمها وتعزيزها.

وفي الأصل، قبل قيام الثورة الشعبية ثم تحولها إلى نزاع مسلح، كانت هناك هيمنةٌ سياسيةٌ لفئة حاكمة تجتهد في استخدام أدوات العنف لنفي السياسة وحشرها في الزوايا الميتة، ولم تكن تلك الجهة تسمح بـ «فصل الرياضة عن السياسة»، بل كانت تجتهد في ربط كل إنجاز أو حضور رياضي بها، وبشخص قائدها وزعيمها الأوحد، الذي كانت السياسة التي يمارسها هي توزيع المنافع والامتيازات وشراء الولاءات، مع كم هائل من العنف المادي والرمزي المُنافي لأي سياسة.

هذا في التحليل، لكن للمشاعر حساباً آخر، إذ إلى جانب سؤال فصل الرياضة عن السياسة، كان يدور النقاش نفسه بصورة أخرى: هل يجب أن نفرح، أم أنه لا يجب أن نفرح، إذا فاز منتخب الجمهورية العربية السورية؟ وهذا السؤال بدوره قليل المعنى في السياق السوري، وفي أي سياق غيره، لأن سؤال «هل يجب؟» غير صالح للتعامل مع مسائل تتعلق بالمشاعر.

عن نفسي كانت المسألة مربكة للغاية، لأنني أدرك أن المنتخب هو منتخب نظام الأسد، وأن فوزه هو نقطة لصالح فكرة بقاء الأسد في سدة الحكم، وعلى هذا لم أفرح عندما سمعتُ أنه قد يصل إلى نهائيات كأس العالم، بل كنت أشعر بالأسى لمجرد تخيل الدعاية الداعمة للنظام التي سترافق تأهل المنتخب المحتمل إلى مونديال موسكو. كنتُ أريدهم أن يخسروا من أجل هذا، لكني عندما شاهدتُ الربع الأخير من مباراة المنتخب مع أستراليا، اجتاحتني ثوانٍ من البهجة عندما أحرز عمر السومة هدف التعادل، ولعلها بهجة قادمة من الذاكرة البعيدة، التي كان فيها حلمٌ دائمٌ بمشاهدة المنتخب السوري في كأس العالم.

قبلها بأيام، كنتُ في حي أكسراي في إسطنبول، وكنتُ غير مهتم إلى درجة أنني لم أكن أعرف أن المنتخب كان يلعب وقتها مع إيران. سمعتُ هتافاتٍ بإيقاعاتٍ ارتبطت في ذاكرتي بمظاهرات السوريين ضد نظام الحكم، ثم شاهدتُ عشرات يحتشدون هاتفين باسم عمر السومة، وهاتفين للمنتخب السوري، وهاتفين أيضاً: واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد. تمنيتُ أن يكون هذا حقيقياً، أعني أن يكون لنا بلاد كسائر خلق الله، وأن يكون لبلادنا تلك منتخبٌ يمثلها، نفرح لفوزه ونحزن لخسارته. أعني بلاداً فيها سياسة، وفيها رياضة مفصولة عن سياستها تلك.

لكن ماذا عن أولئك الشبان في أكسراي، ماذا عن شبانٍ في الغوطة الشرقية التي حطمتها الآلة الحربية للنظام يرفعون لافتةً تحيي المنتخب وعليها علم الثورة السورية، ماذا عن شبانٍ في فيديو من ريف حلب الغربي يقفزون مبتهجين بهدف عمر السومة إياه؟ لا شك أن هؤلاء يرغبون ببلاد تنفصل رياضتها عن سياستها، لا شك أن هؤلاء لديهم مشاعر عبرّوا عنها كلٌ على طريقته، ولا شك أنه ليس لأحدٍ حق الرقابة على مشاعرهم تلك.

لا يستقيم وصف هؤلاء بأنهم شبيحة للنظام مع أي طموحٍ لبناء بلاد فيها سياسة، فهؤلاء لا يهتفون لمنتخب بشار الأسد، بل يهتفون لما يعتقدونه منتخب سوريا. وحتى إذا كان في سلوكهم هذا تعبيرٌ عن حنينٍ إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل 2011، فإنهم آخر من يُلام على حنينٍ كهذا. ينبغي أن تتوزع الملامة على كثيرين قبل أن يصلهم نصيبهم منها، على أنصار نظام الأسد نفسه، وعلى الدول الإقليمية والعظمى، والفصائل المسلحة والمعارضة السياسية، والمجتمع الدولي الذي لا يزال يعتبر أن القوة المسلحة الهمجية التي يتزعمها بشار الأسد هي الحكومة السورية الشرعية.

تلك الشرعية الدولية بالتحديد، هي التي جعلت منتخباً تشرف على تشكيلته أجهزة المخابرات ممثلاً للبلاد كلها في المحافل الرياضية، وهي التي تسمح للنظام بابتزاز السوريين في مسألة جوازات السفر أيضاً، تسمح له بأن يُذلَّ السوريين على أبواب القنصليات، وفوق الإذلال قد يدفع سوريٌ منكودٌ مبلغاً كبيراً هو 800 دولار مقابل جواز سفر يصلح عملياً للاستعمال مدة عام ونصف فقط، في عملية سطو مستمرة على أموال السوريين وأعمارهم حتى خارج البلاد. وعلى ما في المماثلة من شطح، فإن الذهاب رغم كل هذه المهانة إلى قنصلية النظام السوري للحصول على جواز سفر مُعترف به، تلتقي في مكانٍ ما مع تشجيع المنتخب، لأن في كليهما استسلامٌ لفكرة أن هذه حكومتنا «الشرعية» شئنا أم أبينا.

كان بشار الأسد في آخر خطاباته قد قال «إن إنجازات الجيش العربي السوري هي الحرب، وهي السياسة أيضاً»، ومعنى هذا بالضبط أنه لا سياسة في بلاد يحكمها هو. أما فصل الرياضة عن السياسة كما يفهمه النظام، فهو يتجلى في سيرة منتخب كرة القدم الحالي بوضوح، ذلك أن عودة عمر السومة إليه، مع ما رافقها من تحيّات ضرورية لرأس النظام وشقيقه والجيش العربي السوري، سمحت له أن يتوسط لإطلاق سراح أحد المعتقلين، وهو ما عجزت عن تحقيقه كل مراحل المفاوضات السياسية.

تلك هي السياسة كما يعرفها نظام الأسد، بعض الامتيازات التي لا تمرّ عبر أي قانون، مقابل كل الولاء.

سادَ الاضطرابُ والتشكّكُ النقاشَ السوريَ العامَ حول مسألة تشجيع المنتخب، وترافقَ مع اتهامات متبادلة ومشاعر مختلطة ومتناقضة، وهذا شمل قطاعات واسعة من السوريين، ليس من بينها أنصار النظام السوري، الذين لا يزالون واثقين تماماً مما يفعلون ويقولون. هم لا يهتفون أن الشعب السوري واحد، لأن الشعب السوري بالنسبة لهم هو فقط أنصار الأسد والمستكينون لحكمه دون مقاومة من أي نوع. سوريا بالنسبة لهم هي سوريا الأسد، ولا شيء آخر، وهذا المنتخب يمثلها طبعاً دون جدال.

أما معارضو النظام الذين يشجعون المنتخب، فإنهم ربما لا يزالون يحلمون بسوريا، أو ربما يكونون من عشاق كرة القدم، ويشجعون المنتخب الذي يمثّل بلاداً ليس لديهم بلادٌ غيرها، وإذا كان هؤلاء يجهلون أو يتجاهلون أن انتصارات هذا المنتخب هي انتصاراتٌ للطغمة الحاكمة التي حطمت حياتهم، فربما يكون ذلك لأنهم يشعرون أن لا شيء يمكن أن يُلحِقَ مزيداً من الضرر بقضيتهم. وهل يلامون على شعورٍ كهذا بعد أن أصبح العالم كله شريكاً في تحطيم حياتهم؟!”

 تم نشر هذا المقال في «الجمهورية»