الجدل حول سوريا يصل إلى طريق مسدود

الجدل حول سوريا يصل إلى طريق مسدود

روايتان متصارعتان تهيمنان على النقاشات، وكلتاهما لا تقدمان حلا

يشعر كل المتتبعين لأخبار سوريا المؤلمة الآن بحالة من التشبع بالمعلومات والأرقام والتحليلات والمعلومات المضللة التي ظهرت منذ عام 2011 وحتى وقتنا الحالي. الكثير منا تبنى روايته الخاصة للأحداث وهذا هو الحال سواء كنا من المتابعين لسوريا خلال العقدين الماضيين أو بدأنا فجأة بمتابعتها منذ 2011. وللأسف، ففي ضوء الطبيعة المثيرة للجدل للمعلومات التي تصلنا عن هذا البلد، وخصوصا في الظروف الراهنة، فإن بلورة هذه الروايات قابلة بالتأكيد للشكوك أو لرأي منطقي مضاد.

أما الأسوأ من هذا فهو هذا الانجذاب المتزايد نحو روايتين محددتين : أ) تلك التي تتحدث عن “ثورة متماسكة ونقية”، و ب) والتي تتحدث عن “المؤامرة الخارجية”. كلا التفسيرين يحمل شيئا من الحقيقة، ولكن كليهما مثقل بمزاعم لا حد لها تجاه الآخر، وفيهما إغفال جوهري لجوانب من القضية مما يعرقل اللقاء بينهما على أرضية مشتركة ضرورية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، أو لانتقال محتمل للسلطة وكذلك يعرقل مصالحة ما بعد الحرب.

هذه الخلافات تبلورت في مؤسسات ومراكز بحثية، ودوائر سياسية، وانتشرت في أوساط الفنانين والصحفيين، ووسائل الإعلام والفضائيات في الشرق الأوسط والتي تعرض عادة صورا هزلية لوجهة النظر التي تفضلها. هذه المناظرة تحدث في كل مكان، وحتى على مائدة الطعام في المطبخ حيث تجتمع العائلة وكذلك بين الأصدقاء ولكن بنبرات صوت، وحدة في الكلام، وبعجالة تختلف من موقف لآخر.المفارقة هي أن الاستثناء الغريب والذي يدعو للأمل هنا يكمن في السوريين المقيمين في سوريا الذين أنهكتهم كل تلك المقاربات، والذين يملكون وجهة نظر أكثر متانة تأسست من المعاناة القاسية والقرب من أحداث أقل ما توصف به أنها تمثل مستوى متطرفاً من القسوة.

الرواية الأولى تصر على نقاء وتماسك الثورة التي بدأت عام 2011. وهدف هذا المقال سيكون التركيز بشكل أكبر على الحيز الخطابي الواسع الذي تقع فيه تلك النقاشات وبالذات في الانترنت عوضا عن التركيز على الخيارات التي تتحدث عن تدخل أمريكي أكبر في القضية السورية.

غالبا ما ترتبط الرواية التي تحكم رؤيتنا للأحداث مع السياسة، حتى لو جاء هذا بشكل انتهازي ومتأخر وهو السبب الأهم الذي يدفعنا لأخذ وجهات النظر تلك بشكل جدي وخصوصا السائد منها. وبما أن هدفي هنا هو أن أتجنب الجدل الشخصي العقيم فإنني لن أحدد أسماء شخصيات أو مؤسسات بعينها ترتبط بأي من الروايتين السابق ذكرهما. بل إن هدفي هنا هو أن أسهم في استعادة شيء من المسؤولية والتمييز.

ويجب هنا أن نؤكد أن هناك اختلافات حول نقاط معينة ضمن كل رواية للأحداث الأمر الذي يفسر بعض التقلبات وخصوصا بعد تجذر العنصر الجهادي في الانتفاضة. ولكن التركيز هنا هو على الافتراضات الأساسية التي صيغت حول كل رواية للأحداث.

تؤكد الرواية الأولى للأحداث على نقاء وتماسك الثورة التي بدأت عام 2011، وتؤكد على أن الثورة تسعى لإزالة ديكتاتورية بشعة لإقامة حكم أكثر عدلا وقبولا للمساءلة. الكثير من أنصار هذه الرواية يدركون المشاكل التي تكتنف هذه النظرة بدءاً بعسكرة وأصولية الانتفاضة وانتهاء بالتدخلات الخارجية. ولكن هذه الديناميكيات يجب ألا تؤثر على جوهر الثورة. ووفق هذه النظرة فإنه لا توجد درجة من العسكرة، أو الأصولية، أو الطائفية في هذه الانتفاضة كفيلة بإحداث تغيير جوهري في إمكانية أن تقوم هذه الانتفاضة بتغيير الحكم إلى حكم أكثر شفافية وقبولا للمساءلة في سوريا. وهكذا فإن هذه الرواية للأحداث تعترف أن الجهاديين هم رأس الحربة في المعركة ضد نظام الأسد. ومع ذلك فإن هذه الرواية تقوم، وبشكل متزامن، إما بإدانة النظرة الأصولية للعالم أو بإلغائهم باعتبارهم نتاجاً للقمع، و هي في كلتا الحالتين تضع مسافة بين الأصوليين و”الثورة”. هذه الرواية قد تشجب أيضاً خضوع الممثلين الرسميين للثورة لدول الخليج، وتركيا، وللولايات المتحدة أيضا بما في ذلك دورهم في تمويل وتسهيل دخول الجهاديين إلى سوريا. ولكنها مع ذلك لا تعي ما يترتب على هذا الشجب من عواقب. يقال دوما إن الثورة قادرة على أن تخرج نقية بلا أذى في نهاية المطاف، ورفض هكذا رؤية قد يرقى إلى ما يشبه الخيانة.

تقر الرواية الثانية للأحداث بقمعية النظام ولكنها لا ترى إلا المؤامرة الخارجية والجهاديين المحليين. تعترف هذه الرواية بالاضطهاد الذي يمارسه النظام والحاجة إلى التغيير. والمعتنقون لهذه الرؤية غالبا ما يعترفون بشرعية الاحتجاجات، على الأقل بشكل نظري. ولكن عندما نصل إلى الانتفاضة الحقيقية، فإنهم لا يرون إلا المؤامرة الخارجية والجهاديين المحليين. ووفق هذه الرواية فإن بقية المتظاهرين إما يختفون في أفق بعيد لا علاقة له بالأحداث، أو يتم استحضارهم كعملاء لقوى خارجية تسعى لإثارة المشاكل. وبحسب هذه الرواية للأمور فليس هناك وجود لناشطين علمانيين، ومعادين للإمبريالية لا زالوا يسعون للإطاحة بالنظام. هؤلاء الناشطون إما غير موجودين أساساً، أو أنهم أقل من أن يتم ذكرهم. وفي نفس الوقت فإن هذا الرواية تجعل تدمير النظام لسوريا أقل حضورا في سردها للأحداث عن طريق التركيز على القوى الإمبريالية التي تستفيد من هذا التدمير. يذهب البعض إلى أبعد من هذا ويضع الدمار الذي يقوم به النظام على قدم المساواة مع قوى المعارضة الأضعف كثيراً منه. وفق هذه الرؤية فإن سوريا ليست مسرحا لنزاع إقليمي وعالمي فقط، بل هي الحلبة التي يجب أن تتم فيها هزيمة المخطط الغربي أيا تكن التكلفة التي يدفعها السوريون. وهكذا فإن المشاركة في المعارضة تصبح نوعا من الخيانة ضد القوى المعادية للإمبريالية ( وضد البلد نفسه).

كلا الروايتين تفشلان في رؤية الحجج المشروعة للرواية المقابلة. فالمعتنقون لكلا الروايتين يرفضون السماح للحقائق والتطورات أن تغير من رؤاهم. الطرفان يتبنيان مواقف ناقدة بشدة للتدخلات. ووفق الرواية الأولى، فالتدخل الأمريكي يصبح جيداً إذا كان موجها ضد النظام فقط. وبالنسبة للرواية الثانية، فالتدخل الأجنبي جيد إذا كان يهدف لمساعدة النظام، فروسيا ليست قوة إمبريالية مثل الولايات المتحدة وفق هذه النظرة. وفق الرواية الأولى فإن المخاطر المحتملة لسقوط الدولة هي نقطة محل نقاش. أما وفق الرواية الثانية فإن سقوط الدولة أمر غير مقبول مهما ساءت الأمور. وفي نقطة سقوط الدولة ( التي تختلف عن سقوط النظام) فإنه لا يوجد موقف مبني على تحليل رصين أو اعتبار واضح للنتائج في كلا الروايتين. وعوضا عن هذا فإن الطرفين يبدآن بفرضية حول أي طرف يجب هزيمته أولا، ثم يقوم كل طرف بعكس حجته بما يلائم النهاية التي يبتغيها. وعادة ما ترتبط الرواية الأولى بالغرب والرواية الثانية بالنظام مع استعمال كل التلميحات التي تدين الطرف الآخر. وفي النهاية لا يبدو أي طرف راغبا في التوصل إلى تفاهم، فلا شيء يمكن قبوله أقل من الهزيمة الكاملة إما للنظام أو للمعارضة، مما يسد الطريق على عدة مخارج محتملة قد تمنع الفوضى.

* * *
إن الانتصار الكامل لأي طرف لن يعيد العافية للوضع السوري. لن تنعم سوريا بالاستقرار ما لم تؤخذ في الحسبان آمال الأغلبية من المواطنين، أيا تكن انتماءاتهم أو ميولهم. ولهذا، فإنه وبالرغم من القناعة التي يحملها معتنقو هاتين الروايتين للأحداث فإنه لا يمكن لأي منهما ، ونتحدث هنا عن الحد الأقصى لكل منهما، أن تكون كافية لانتشال سوريا من حافة الهاوية. إن المصالحة الوطنية، وبناء على تجارب تاريخية سابقة، هي عملية معقدة وغير مرضية. فكلا الطرفين يذهبان بعيداً في الحديث عن أي صيغة مستقبلية مما يفسر التصلب الذي نراه اليوم. أولئك الذين يأخذون أيا من هذا للجدل حول التعادل الأخلاقي بين الظالم والمظلوم يركزون على أنماط مثالية لا سياسية.

هناك مقاربات أكثر دقة في الاختلاف ولكن أنصارها عادة يوصفون بأنهم إما خونة للثورة، أو ساذجون سياسياً، أو مؤيدون للنظام، أو من أنصار النظام أو حتى من مؤيدي الجهاديين. أحيانا تكون عبارة ” مؤيدي المعارضة” مصدر لعنة على معتنقي الرواية الثانية بسبب هوية من يدعمون المعارضة. وبالمثل، ووفق الرواية الأولى، فإن عدم اتباع المعارضة الحالية يرقى إلى تأييد بشار الأسد.

وفي ظل هذا الجو المسموم فإن المراقبين يجدون أنفسهم مضطرين للاصطفاف مع جانب معين وإلا اعتبرهم أنصار الروايتين مشوشين وليس لهم موقف معتبر. حيث يبدو أنه من غير المقبول انتقاد المعارضة من قبل من يحملون وجهة نظر معادية للنظام بشدة. وبالتساوي مع هذا فإنه لا يمكن أن نكون مع المعارضة بدون أن يتم وضعنا في الخانة العريضة التي تحوي “مؤيدي الغرب الامبرياليين” أو “مؤيدي الصهيونية” أو في معسكر “مؤيدي الجهاديين” أو ربما الثلاث خانات سوية وفي الوقت ذاته رغم التناقضات الواضحة بينها. ولكن المفارقة الرئيسة هنا أننا جميعاً نتظاهر بأننا نتكلم بالنيابة عن كل السوريين تقريبا، بينما في الواقع نرى السوريين، الذين يناضلون كل يوم من أجل إبقاء مجتمعاتهم حية، أكثر دقة وتفصيلا من كلا المعسكرين.

بعض الذين يدعون إلى أرضية مشتركة قد لا يكون لهم صوت مسموع الآن إذا لا توجد في الوقت الحالي أية مؤسسات أو قنوات سياسية أو اجتماعية لتوضيح موقفهم. ولكن يجب علينا هنا ألا نسعى وراء أرضية مشتركة مجردة ولا سياسية، بل السعي نحو تصور لمخرج يحفظ الجميع في سوريا بغض النظر عما يفضلونه هو الطريقة الوحيدة للخروج من هذه العقدة. وهذا يتطلب كرما في التفهم ومرونة في الرؤية يبدو أنه لا أحد من معتنقي الروايتين يتحلى بهما الآن.

هذا المقال سوف يناقش الاتجاهين الأكثر شيوعا كطريقة لاستكشاف احتمالات لحلول تنهي الأزمة الحالية. هذه الحلول يجب أن تكون بالضرورة بعيدة عن تحقيق الحد الأعلى من المطالب حيث أنه من الواقعي القول إن التوصل إلى مصالحة حقيقية يعد وهما في الوقت الحالي.

وجهات النظر ولعبة إلقاء اللوم

وسط أصوات القنابل والقتل اليومي يستمر الكثيرون في الجدل حول الطرف المسؤول عن الكارثة الحالية، ويقع هذا في أكثر الأحيان على المستوى الشخصي. فقد أصاب التحزب والسياسات الجامدة عقولنا بالخدر، حيث يحاول الكثيرون تبرئة أو لوم هذا الطرف أو ذاك أو الحديث عن الأمور بشكل مطلق.

إن القتل الذي نشهده هذه الأيام يقوم به كل الأطراف، ولكن بشكل أوسع كثيرا على أيدي النظام السوري. إنه من الصعب أن نقسم اللوم بشكل دقيق ولكن الأمر ليس لغزاً لا حل له متى ما استعنّا بالتاريخ واستعملنا المنطق. من ناحية أخرى وبشكل أساسي، كيف يمكن لنا أن نبرئ النظام من المسؤولية؟ فجبهة النصرة أو قطر ليسا هما من حكم سوريا بقبضة من حديد في العقود الأربعة الماضية. إن الحديث عن اللاعبين الأساسيين الذين لعبوا دوراً أساسياً في إضعاف المعارضة عن طريق اختطاف الثورة وتشجيع المجموعات المسلحة لتحاول إسقاط النظام شيء، والتمسك بهذا المنطق لتغطية عقود من قمع النظام لشعبه، وسياساته الاقتصادية النيوليبرالية الضارة وعيوبه الأخرى شيء آخر. إن ما نشهده من قتل ودمار اليوم في حلب ومناطق أخرى يقوم به كل الأطراف ولكن يتحمل مسؤوليته بشكل أكبر النظام السوري. هذا الدمار ليس قطيعة مع عقيدة النظام بل بالأحرى تجسيد لها ولكن في ظروف مختلفة.

إن النظام في سوريا سوف يستجيب بنفس الأسلوب لأي تهديد لحكمه. فلا يمكن أن نتصور أن الأسد قد يتحمل معارضة نشأت محليا وبشكل مستقل، وذات توجهات علمانية ومعادية للامبريالية ومؤيدة لفلسطين ويسارية الانتماء سواء كانت مسلحة أو لا. الفرق الوحيد اليوم هو هوية وشخصية القوى التي تقف وراء المعارضة. وهذا هو الفرق الذي يعطي الأزمة بعدا جيوبوليتيكيا يستفيد منه النظام عن طريق تحديد ذكي وتلاعب بالمتناقضات التي تعاني منها المعارضة.

الخلاصة هنا أن أقل المزاعم تعقيداً بخصوص الوضع السوري، والذي يمكن معارضته بشكل مقنع هو مدى إجرام النظام. فالحجج المقابلة لهذا لا تنجح في اجتياز معايير التحليل الواقعي ناهيك عن المعايير الأخلاقية. إن أولئك الذين يتحدثون عن قتل المعارضة لعشرات الألوف من جنود الجيش السوري والعشرات من المدنيين الموالين للنظام أو الساكنين في مناطق تحت سلطته ليسوا بعيدين عن الحقيقة. ولكنهم أيضا لا يقتربون من مسؤولية النظام عن الكارثة في السابق والآن. وحين يتم الحديث عن وحشية النظام فإن المدافعين عن نظرية “المؤامرة” غالبا ما يعترفون بهذا ولكنهم سرعان ما يطرحونه بعيداً لصالح إلقاء اللوم على مجرمين أكبر منه وكأن هناك جريمة تلغي الأخرى أو كأن هذا الأمر يخفف معاناة الضحايا.

لقد قامت الحكومة منذ عام 2011، وبدعم من حلفائها الإقليميين والدوليين، بالتعامل بوحشية مع مواطنيها السوريين. ولكن الحقائق لا تعفي خصومها الإقليميين والدوليين من مسؤوليتهم في الإسهام البارز في هذه الفوضى. فقد علقت حركة احتجاج شرعية قام بها أغلب السوريين في شباك أغراض إمبريالية خارجية خبيثة لا علاقة لها بتعزيز معارضة مستقلة، ديمقراطية وذات أرضية واسعة، ولا يمكن لأي تفكير منطقي أن يتقدم بدون الاعتراف بهذه الحقيقة. العديد من المراقبين يعترفون بهذا بالفعل ولكنهم سيمتنعون عن تحديد تبعاته، بما في ذلك أنه يلطخ مفهومي ” المعارضة” و”الثورة”. هناك أيضا من هم غير راغبين في الاعتراف باستحالة فصل من يفترض أنهم الثوار الجيدون عن السيئين، وعلاقة هذين الطرفين بالقوى الخارجية التي أشعلت العنف الذي ذبح السوريين. جبهة النصرة، التي تسمى الآن فتح الشام، أصبحت عاملا يشبه الحنفية يمكن فتحه وقفله حسب السياق، وبموجب رواية “الثورة” فكل هذا الكلام هو وقود للنظام لكي يبرر القتل الذي يقوم به. ورغم أن هذا صحيح في أغلب الأحيان، إلا أن هذا المنطق ينظف صورة “المعارضة” أو “الثوار” ويبرئ بكل سذاجة القوى الخارجية التي تدعمهم، والتي تمتلك تاريخا بشعا في السياسات الداخلية والخارجية في المنطقة.

إن الاستهانة بالمزاعم المبالغ بها حول المؤامرة الخارجية لا يعني أنه لم يكن هناك توافق ضمن اللاعبين الاقليميين والدوليين (مثل السعودية، وقطر، وتركيا والولايات المتحدة). هذا التوافق كان حول الحاجة إلى تقليص حجم سوريا وحلفائها لأنهم يعرقلون سيطرة هذه القوى وحلفائها، وخصوصا إسرائيل، على المنطقة. العراق وسوريا هما القوتان الوحيدتان الباقيتان اللتان قد تمثلان أي تهديد للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والتطهير العرقي لها، حتى لو كان بشكل غير مباشر كما نرى في حزب الله بالنسبة لسوريا. هذه القوى ذاتها ربما أوقعت نفسها في عثرات حين اندفعت لتمويل واختطاف الانتفاضة السورية لخدمة أغراضها الخاصة. وسرعان ما اكتشفت هذه القوى وجود موانع حقيقية، وخصوصا إيران وروسيا وحتى الصين. كيف يمكن لنا إذا أن نبرئ القوى الإقليمية والدولية من توريط أنفسهم في الشؤون السورية بشكل أساسي؟

إضافة لهذا فإن هناك تاريخا من التطفل الذي يولد شعورا بالسخرية من أي دعم خارجي لرواية ” الثورة النقية المتسقة”. بماذا تخبرنا عقود من الدعم الذي قدمته نفس الدول البترولية الغنية للنظام السوري والتي هي نفسها من موّل عسكرة الانتفاضة السورية؟ وكيف ننظر إلى الاتفاقيات الموسعة للتعاون الاقتصادي بين الرئيس التركي أردوغان وسوريا الأسد قبل الانتفاضة وهل هذا شيء حدث في عالم مثالي؟ وكيف يمكن لنا أن نفسر الاهتمام الأمريكي بتأييد المعارضة السورية في الوقت الذي كانت فيه واشنطن تؤيد سحق الثورة البحرينية قبل أشهر قليلة من ذلك، وفي الوقت نفسه تقوم بالإشراف على الفوضى التي أطلقت من عقالها في الجارة العراق بعد الغزو الوحشي ذي الأسباب المزيفة عام 2003؟

إن أي مراقب مطلع يعلم أن سنوات من الفوضى، والحدود المفتوحة في العراق مع سوريا كان لها أثر في تنمية وبناء أغلب العناصر المسلحة في الانتفاضة السورية، مع ملاحظة الدعم الذي كان يقدمه النظام السوري نفسه في تسهيل بناء الشبكات وعبور العناصر الجهادية إلى داخل العراق في فترة ما بعد 2003. نفس هذا التاريخ البغيض يتكرر في اليمن اليوم. فنفس أولئك الذين يدعون إلى وقف القصف الروسي والسوري على حلب وتقديم الدعم الانساني للمدينة، ونعني هنا الولايات المتحدة والسعودية، هم ذاتهم من يقودون عمليات قصف المناطق التي يسيطر عليها الثوار في اليمن مما يسبب جرائم حرب مريعة.

لا شيء من هذا يبرر المذابح التي ترتكب في حلب اليوم، ولكنه يلقي بظلال من الشك على الدعم الذي يلقاه الجهاديون الذين يقودون المعارضة المسلحة في السنوات الخمس الأخيرة. فالنظام الآن في وضع عسكري أفضل بكثير بفضل تزايد الدعم الروسي والايراني، ومن طرف حزب الله، والميليشيات العراقية. ولكن حين لم يكن هذا الوضع العسكري الجيد موجودا في الأعوام 2012-2014 استمرت رواية ” الثورة النقية” في الاصرار على وجودها رغم أن الجهاديين استولوا عليها بدعم من “أصدقاء” الثورة.

نحتاج جميعاً إلى إعادة التفكير فيما حصل بالفعل. هل كانت الحجة هي كل شيء من أجل الثورة، أو كل شيء من أجل اسقاط النظام، وبهذا فنحن نحتاج إلى إعادة تعريف مفهوم الثورة أو اسقاط النظام بالنسبة للشعب السوري، وبضمنهم أولئك الذين يعتبرون النظام أقل اللاعبين شراً. ولأنه لا يوجد من يستطيع الاجابة عن هذا السؤال فنحن نجد الكثير من المعارضين النزيهين للنظام ممن لديهم تشخيص مختلف للأزمة.

إن النقاشات البناءة التي تحدث داخل وخارج سوريا ليست بين المؤيدين المطلقين للنظام القمعي وأولئك المؤيدين للمعارضة المفككة. ولكن النقاشات الجادة تحدث بين أولئك الذين يعارضون النظام بلا تحفظ وبشكل مبدئي ولكن من منطلق يتمحور حول التآمر أو الخضوع الذي تتعامل به فصائل هامة من المعارضة مع اللاعبين الخارجيين. في هذه النقاشات تظهر حقيقة أن مفهوم “الثورة” ودلالته الجيوسياسية في الأزمة السورية هو بأهمية حقيقة أن الانتفاضة بدأت كانتفاضة أصيلة ضد الديكتاتورية، ولا يوجد ببساطة أي مهرب خطابي أو عملي من هذا المأزق.

مأساة إقليمية

الأخبار القادمة من سوريا، وروسيا، وبريطانيا، والسعودية، وتركيا والعراق لا تنبئ بأي حل قريب للأزمة. إن الرغبة الانسانية التي تدفع باتجاه وقف لحمام الدم غالبا ما تقود إلى دعوات، ظهر إلحاحها أكثر خلال حصار حلب، لاتباع سياسات قد تضمن التصعيد من قبل القوى الغربية. وحتى نفهم هذا المأزق لا بد أن ننظر إلى الأزمة المترابطة إقليميا بشكل شامل. وفي تكرار للمأزق المزدوج لهذا المنطق، فإن كلا من الولايات المتحدة وروسيا عالقتان في الأزمة. فواشنطن لن تجلس متفرجة لوقت طويل لتشاهد موسكو تتفرد بإدارة الأزمة. ولكن أكثر الاقتراحات رواجاً في الولايات المتحدة، ألا وهو فرض منطقة حظر طيران أو قصف، لا بد أن يكون مصحوبا باستعداد واضح لمواجهة مباشرة مع روسيا كنتيجة حتمية لأي فرض جدي لمنطقة حظر طيران.

من ناحية أخرى نرى روسيا غارقة حتى أذنيها في الأزمة بذريعة التخلص من الجماعات “الإرهابية” ( كما تصف كل جماعات المعارضة المسلحة). هذه مهمة غير محددة وهي غطاء مخادع يخفي أهدافاً أكبر تتمثل في إعادة تأكيد الدور الروسي وهو أمر لن يتراجع عنه الرئيس بوتين بسهولة. إن المقترحات غير الناضجة التي نراها الآن تشبه ضمادات خفيفة للأزمة، وفي أسوأ الأحوال فقد تكون وصفة لحرب عالمية واسعة. فقد توسع الولايات المتحدة من تدخلها، ولكنه من غير المتوقع أن تتجه لتصعيد هذا التدخل بوجه الخطوات الروسية الثابته بالرغم من دعوات هيلاري كلينتون لفرض منطقة حظر طيران.

إن سوريا بحد ذاتها ليست لاعبا مهما أو جائزة عالية القيمة في مجال العلاقات الدولية. إن النظام السوري يقوم هو وروسيا بتسريع حملاتهما لتعزيز الوضع العسكري للنظام، إضافة لوضعه الاقتصادي قبل أن تأتي إدارة جديدة للبيت الأبيض في يناير المقبل. ولكن هناك بعداً آخر لهذا الأمر. وحتى نفهم السبب وراء هذا المأزق لا بد لنا أن نلقي على الموضوع نظرة شاملة تلم بكل الأزمات الاقليمية المترابطة. فالأزمة السورية تزداد ارتباطا يوماً بعد آخر بالتطورات الاقليمية من العراق إلى اليمن، إضافة إلى موضوع داعش. وفي الوقت الذي تقصف فيه روسيا حلب فإن السعودية تقصف اليمن بطائرات أمريكية الصنع تقوم واشنطن بإعادة تزويدها بالوقود، في الوقت الذي تتقدم فيه قطع البحرية الايرانية إلى السواحل اليمنية لتدافع عن الحوثيين. يقوم كل من روسيا، وسوريا، والثوار السوريون، والولايات المتحدة، وتركيا، والعديد من الفصائل الكردية، والعراق والحشد الشعبي فيه بقتال داعش، أو يزعم بعض منهم أنه يفعل ذلك. وقد بدأ آخر خمسة أطراف ممن ذكرناهم سابقاً بهجوم لاستعادة الموصل من داعش رغم أن الحكومة العراقية وتركيا منخرطتان في حرب كلامية حول من سيشترك في القتال من عدمه. وهناك الكثير من التعقيدات الاضافية قد تبرز، حتى إذا أهملنا النظر إلى المستقبل.

إن أي شخص يعتقد أنه يمكن التعامل مع الأزمة السورية بمعزل عن هذه المعارك فإنه لا يرى الصورة الكاملة. إن الجدول الزمني لكل طرف يختلف عن الآخر، وهكذا فإن سحق المعارضة في حلب قد يكون قريبا جدا بالنسبة للروس والنظام السوري. وسيكون هذا مرحلة ضمن جهد استراتيجي أوسع ستكون له آثار ارتدادية على المنطقة. مع كل هذه المتغيرات، فإن هناك تطورات غير متوقعة قد تعقد الموقف في سوريا أكثر، وكل هذا سيكون على حساب الشعب السوري.

مخارج غير مرضية

منذ فترة من الزمن لم تعد هناك مبادئ في هذه الأزمة، وأصبح مفهوم النصر والمنتصر غير ذي معنى. حتى الآن لا يوجد سوى ضحايا. إنه من الصعب أن نكتب ونفكر بهدوء في الوقت الذي يتدمر فيه البلد ويتمزق فيه المجتمع السوري، ولكن هذا يجب أن يكون دافعا لنا لنلج أماكن لم نفكر فيها من قبل.

يجب ألا يكون هناك من يزعم النصر المطلق وبضمن هؤلاء العناصر المسلحة المتصارعة. ولكن الكثيرين يرون منتصراً محتملا يمكن لهم أن يؤيدوه. البعض يريدون للنظام أن يختفي أولا بغض النظر عمن يقود الجهد لتحقيق هذا الهدف، فحجتهم هي أنه ” حينها فقط يمكننا التحاور، والبناء، والمصالحة”. وكأن النظام عبارة عن جسم منفصل بذاته عن الناس ويمكن فصله بعملية جراحية. أما التصور الآخر الذي لا يقل خيالية عن سابقه فهو الطلب بأن يتم سحق المعارضة أولا، وبعد هذا يمكن للنظام أن يعيد بشكل ما سيطرته على كامل سوريا ويضم ما تبقى من البلد ويعيد إنتاج ماضيه القمعي. وبعيداً عن المعايير الأخلاقية فإن كلا المطلبين خياليان.

إن الأساسيات ليست لغزاً. فلا يمكن العودة إلى أسلوب الحكم الذي كان قائما قبل 2011، ولا يهم هنا إن كان الروس يرغبون في هذا أو حتى الإرادة السماوية. وبشكل مشابه فإن المعارضة لن تطيح بالنظام وتبني سوريا علمانية، وديمقراطية تتمتع بعدالة اجتماعية لأنه لا أحد من الداعمين الخارجيين أو من الميليشيات القوية في الداخل يريد هذا. إن من يريدون سوريا علمانية وديمقراطية وعادلة مع مواطنيها موجودون على طرفي الانقسام الحاصل ولكن أصواتهم يتم اسكاتها.

رغم أن الظروف الحالية تبدو قاتمة، فإنه يمكننا على الأقل أن نجمع الأصوات اليائسة سوية تحت شعار النضال من أجل سوريا أفضل. ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا وافقت جميع الأطراف على أنهم لا يمكن لهم الحصول على كل ما يريدون. أو على الأقل أن يتقبلوا الحاجة لإعادة تعريف الانتصار وفق حدود لا تقصي الآخرين وتشمل كل المجموعات السورية، وتحفظ مصالح السوريين جميعا وتفي بوعد تحقيق العدالة لكل من عانوا.

يجب على كل معارضي النظام، أيا كان منطلق معارضتهم، أن يجندوا طاقاتهم نحو بناء حركة أكثر استقلالية، وديمقراطية، وشمولية على أسس الأهداف الوطنية المشتركة، والمصالح المتداخلة حتى يمكن على الأقل إيقاف هذا العنف. هذه المهمة ستكون طويلة وشاقة، وفي خلالها يجب علينا أن ننظر بجدية في بعض الطروحات والمخاوف التي تتبناها كلا الروايتين اللتين ناقشهما المقال. الأهم من هذا أننا يجب ألا نقوم بهذا وفي مقصدنا نهاية محددة لهذه الأزمة. من المهم أن نبقي في حسباننا أن هناك حياة يمكن أن تبنى بعد الأزمة مما يتطلب بناء نقوم به بروح المسؤولية. يجب أن نبدأ الآن، وإلا فإن لاعبين آخرين أكثر قوة وأفضل تمويلا يمكنهم أن يسرقوا هذه اللحظة من الزمن مرة أخرى ويفرضوا نموذجا مخففا لسوريا قمعية واستغلالية.

الأخبار الجيدة هنا هي أن العديد من الجماعات والمنظمات داخل وحول سوريا قد بدأت بالفعل في بذل هذا الجهد، وهي واعية تماماً أن المنظمات الدولية، والمانحين، والدول ستتكالب على المشهد السوري حين يحين وقت إعادة البناء. هؤلاء اللاعبون الخارجيون الأغنياء، سواء كان البنك الدولي، أو مجلس التعاون الخليجي، أو الممولين أو غيرهم وبضمنهم الصين، قد بدأوا عملهم بالفعل في ترقب لنهاية للأزمة وهم يتمتعون بأفضلية تنظيمية فيما يخص رأس المال وشبكات العلاقات. يجب ألا يترك هؤلاء ليتحكموا منفردين في “فترة ما بعد الأزمة”. إن الجهود البديلة تستحق مساندتنا في الدفع باتجاه رواية مستقلة للأزمة، وباتجاه سوريا مستقلة واثقة الخطى.

قد يكون هذا الأمر بعيد المنال، ولكنها رؤية يمكن لنا أن نخلق منها أفكاراً منتجة لا تلغي إحداها الأخرى من أجل وجهات النظر الموجودة بالفعل والتي تعتبر أكثر صعوبة في التحقيق وأكثر دموية.

[ترجمة علي أديب عن الإنجليزية]

[اضغط/ي هنا للنسخة الإنجليزية من المقال]

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]