كتابة الحرية

كتابة الحرية

[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]

الروائي السوري نبيل الملحم

قد يكون منظرو الرواية هم أسوأ الروائيين، تمامًا كما تكتب الرواية التاريخية على أيدي أسوأ المؤرخين.. فالرواية بالنتيجة ليست “الحدث”، وليست “القضية”، الرواية هي من يروي.. كيف يروي؟
وعندما تتحول القضايا الكبرى إلى عكّاز لقدم الروائي، فلن يلغي هذا كون الروائي “أعرج”.

الهزّات.. الحوادث الكبرى ليست أكثر من استفزاز لذاكرة روائية.. أو لصياغة ذاكرة جديدة تأخذ مساحتها في الرواية ففي المحصلة الرواية هي “ذاكرة”، والأهم هو كيف تتذكر؟

تتذكر بشر بما يحمل البشري من تنوع يتأرجح ما بين الفضيلة والرذيلة، الحب والكراهية، الإعصار والرماد، وهذا بالتحديد يتصل بمن يتذكر، وكيف يصيغ هذه الذاكرة، وكيف يحييها أو يميتها، فالحرب، العنف، السطوة، الاستبداد، هاجس العدالة، كلها لاتكفي أن تكون الصلصال الذي يمنح منحوتة روحها.. بالنتيجة يد النحّات هي التي تُقرر.

كل ماسبق كلام عام، كلام في الموقف من الرواية كفعل إنتاج حياة على الورق، غير أنه حين يتصل الأمر بفعل محدّد هو الحرب السورية، بما مهّد لها وآلت إليه، فمن الصعب العثور على رواية هي رواية أولًا والحرب مادتها ثانيًا، وهذه إشكالية وقعت فيها القصيدة كما وقعت فيها الرواية، وربما يكون السبب هو استجابة الروائي لمتطلبات الرأي العام لا احتياجات الرواية بما جعل الرأي العام مادة خام، والقارئ زبونًا، وبوسعي أن أحكي عن أعمال روائية محدّدة وعن روائيين محددين خارج استطلاع رأي، وإذا كان كلامي صحيحًا (كليًّا أو جزئيًا)، فلهذا معنى واحد هي أننا أمام رواية عرجاء، عكازها “قضية بساقين مكتملتين”.

هذا عن رواية الحرب، أما عن رواية الاستبداد، فالاستبداد لم ينبت اليوم، والرواية لم تستنبته، الاستبداد متراكم عمره أعتق من عمر جيلنا والأجيال اللاحقة، ولا أظن أن “كريزا الحريّة” تكفي لانتاج رواية.. الرواية تطلقها تلك الحريّة الداخلية المُعاشة، المتراكمة فينا، تنتجها الشجاعة الأصيلة في الكاتب، والذي يكتب روايته حتى ولو كان بين فكي الغول.. ونحن اللحظة، في مساحة الكلام السهل، غير المكلف، الكلام الذي لايحمل مجازفة الحياة ولا مغامرة الكتابة، وهذا سيقلّل كثيرًا من قيمة منتجنا، وحين تسألني إذا ماكان الروائي مؤرخًا للّحظة فأقول لك:”ليس من رواية تؤرخ، فللمؤرخ مقعد المؤرخ، وللروائي مقعده، وحين يأخذ الروائي مقعد المؤرخ فهو مقعد إما فضفاضًا وإما ضيّقًا وفي الحالين مسخ.. في توثيق الحادثة التاريخية ليس ثمة علامة صحيح 95 بالمئة، أو واحد بالمئة، ثمة 100 بالمئة أو صفر، فالحادث التاريخي إما أنه وقع أو لم يقع، ولا مكان لنصف أو ربع وقع، أما في الخيال الروائي فإما أنه خيال خلاّق وإما أن يكون خيال شاحب، والفوارق شاسعة ما بين المورخ والروائي، وبين متطلبات الأول ومتطلبات الثاني، وأدوات الأول وأدوات الثاني، وتبادل المقاعد يخسر التاريخ ولا يربح الرواية، ويحصل الآن هذا التبادل، يحصل بشدّة استجابة لروح الدعاية، ولمتطلبات الرأي العام، بل لمتطلبات الراعي السياسي للرواية من قوى سياسية وصحف ومواقع ترويج، بما جعل الرواية بضاعة مؤقتة تستجيب للسوق، ولا أظن أن الفعل الروائي الذي هو فعل مخاض، سيكون وفيًّا لمخاضاته إن كان السوق مُرضعته.

ثمة سؤال في ملفكم هو: “هل تكون الكتابةُ في الحيزِ الضيقِ، حيزِ المواجهةْ، طوق نجاة في مواجهة هذا الخراب العميم؟ وما أهميةُ الكتابةِ في اللحظةِ الراهنةْ؟” أجيبكم أن الكتابة ليست طوق نجاة، غير أن مطرقة الحجّار تهوي بعشرات الضربات لتكسر الصخرة الصلبة، والرواية الخلاّقة – المطرقة، هي واحدة من هذه الضربات وقيمتها بقيمة شدّتها، ويد حاملها، وزاوية الصخرة التي يكيل ضرباته عليها، فهي فعل حياة، وفعل إنتاج حياة إذا كانت هي حياة، وما قيمتها في اللحظة الراهنة؟ هو السؤال الأكثر خطورة، فاللحظة الراهنة ليست رافعة لقيم الكتابة الموجوعة، القيم التي تؤصل لما بعد اللحظة.. هي قيم الكتابة السريعة.. قيم تويتر.. فيس بوك.. الانطباعات، أكثر مما تؤصل لقيم الاستغراق في تفكيك الأسئلة التي تطال عمق وجودنا فوق هذا الكوكب.. في هذه البقعة منه.. في طوفانه.. الكتابة حزينة، والوقت ليس لحسابها.. الوقت لحساب مسخ الكتابة، لحساب سوقها.. هاجس اليوم بات السوق.. مع ملاحظة أن كل ماقلته في كلامي هذا هو في الاطار العام لما يحدث للكتابة، غير أن في اللوحة مايكسر كلامي هذا ويقول: “لا.. ثمة كتابة أخرى.. في مكان آخر.. ليست كتابة بسطات وسوق”.

*************

نبيل الملحم في سطور:

صحافي وروائي سوري من مواليد السويداء عام 1953. درس الحقوق في جامعة دمشق والصحافة في جامعة القاهرة، ويقيم حاليًا في برلين/ ألمانيا.

يكتب في العديد من الصحف والمجلات العربية، ويدير حاليًا مركز “البوصلة للدراسات والبحوث” وقد صدر عن المركز حتى هذا اليوم (27) كتابًا، آخرها: روسيا – إيران – تركيا.. شرّ البليّة مابين التكتيك والاستراتيجية”، تقديم نبيل الملحم.

أعد وقدّم عدد من البرامج التلفزيونية منها: “ظلال شخصية” عام 1996، و”الملف” عامي 1999 – 2000.

كتب مسلسلين تلفزيونيين “ليل السرار” عام 2003، و”أرواح منسية” عام 2012.

له مجموعة من الكتب المطبوعة منها: “بوليساريو – الطريق إلى الغرب العربي”، “مسرحية أنا وهو والكلب”، “سبعة أيام مع آبو”.

يصفه النقاد بـ”صحافي مشاغب وروائي مشاكس”، وفي زمن الثورة السورية المُختطفة يقول “الملحم”: “ثورتي في نصي.. فيما أكتب”. هو السارد الذي تتناسل في نصوصه الروائية الخمسة التي صدرت مابين 2011 و2013، فجيعة الشخوص على مسرح التاريخ “فالغرقى أكثر من إمكانية إحصائهم”. ولقد وجد صاحب “آخر أيام الرقص”، الذي دخل عالم الرواية وهو في الـ57 من عمره، ويعكف حاليًا على كتابة روايته السابعة “الله حين يحكي”، وجد في الكتابة احتيالًا على الموت، وفي حياة الآخرين مخزونًا لترميم ذاكرة مهددة بالنسيان.. ذاكرة مأمولة تختزن جزءًا من تاريخ عاصف بالتحولات والخيانات، وجزءًا من حيوات بشر بعضهم مضى إلى حتفه، وبعضهم خان طريقه، وبعضهم التحفه النسيان. فكان أن كتب خلال السنوات الخمس الماضية ست روايات، آخرها “خمّارة جبرا”، والتي تصدر قريبًا، وفيها يحفر الروائي عميقًا في ذاكرة دمشق/ المكان، بتحوّلاته الاجتماعية والسياسية، منذ بدايات الاستقلال إلى لحظة هتاف السوريّين للحرية. حيث يقف الشخصية الأساسية في الرواية (جاد الحق جاد الله)، أمام شاشة التلفزيون، التي تنقل أخبار القتل في سورية، ليهتف: الشعب يريد إسقاط النظام؛ فيسقط هو وتتحطّم عظامه التي لن تُجبَر أبدًا. لحظة السقوط هذه لحظة تلخيصية لكل ما مضى من عمر (جاد الحق)، ولكل ما سيأتي، وكأن الراوي يريد بحسمٍ مطلق أن يقول: “إن عظام جاد الحق هي عظام سورية الهشّة، التي لم تحتمل الوقوف والهتاف للحرية، نتيجة عقود النخر في بنية البلاد”. فبقدر ما تتقاطع براءة (جاد الحق)، مع براءة استقلال سورية، يتقاطع تشوّهه المستمر مع تشوّه سورية الإنسان والبلد.

وبقدر ما تبدو السياسة حاضرةً في الرواية، بقدر ما تبدو هامشية، فـ “خمّارة جبرا” أبعد ما تكون عن الرواية السياسية، إنما السياسة فيها مجرّد خلفية للمواقف الفلسفية والقراءة الوجودية، لقيم الحب والذاكرة، والنسيان والموت.

أما “بانسيون مريم” ثالث رواياته، فيأخذنا نبيل الملحم من تداعيات اللحظة السياسية التي يمكن التعبير عنها ببيان سياسي لطبقة أو حزب أو نخبة.. إلى عالم آخر.. إلى تحرير الروح الإنسانية.. تحرير الجنس فيها، وتحرير الأمل كما تحرير الجسد الذي يحلو له أن يرقص بعد ان أُصيب بشيخوخة طالت ثم احتجّت على نفسها.. إنها باختصلر شديد، رواية يمكن قراءتها بعين الغد لا بعيون الأمس المطفأة.

أعماله الروائية:
– “موت رحيم”، دار أطلس للنشر، بيروت 2013.
– “حانوت قمر”، دار أطلس للنشر، بيروت 2013.
– “سرير بقلاوة”، دار أطلس للنشر، بيروت 2012.
– “بانسيون مريم”، دار أطلس للنشر، بيروت 2012.
– “آخر أيام الرقص”، دار الجمل، كولن/ بيروت 2011.
– “خمّارة جبرا”، قيد الطبع.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
عن مصائر السوريين المأساوية والنهايات الحادة

عن مصائر السوريين المأساوية والنهايات الحادة

[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]

الروائي السوري ضاهر عيطة

الإنسان هو القيمة الوحيدة التي تعني بها الرواية، بل يمكن القول: إن الإنسان هو طفل الرواية، تتلقفه من رحم الواقع أحيانًا، ومن رحم الخيال في أحايين كثيرة، وتسهر على تنميته وعلى كسائه وغذائه وألق روحه وجسده وفكره ووجدانه، لتشكله حسبما تشتهي وتهوى، فعندما يكتب الروائي روايتها، يكتب ليس فقط عن وإلى الإنسان، إنما يكتب إنسان، يخلقه من جديد، وعليه يصبح الإنسان في الرواية كائن مقدس إن جاز التعبير، ويغدو أي مساس به من خارج الرواية، ضربة موجعة إن لم نقل مميتة للروائي والرواية.

تلاحق الرواية حياة أناسها بأدق تفاصيلهم وعواطفهم وأفكارهم وهواجسهم، ثيابهم صفاتهم ضحكهم حزنهم، وقد تُخصص فصول من رواية، لتحكي عن تفصيل صغير، وربما تصير كل فصولها وسطورها وحبرها فقط للحديث عن لحظة حزن أو فرح، أو لحظة تردد أو لحظة اندفاع تعيشها شخصية في رواية، غير أن ما يحدث في الواقع يكاد يدمر معنى كل تلك التفاصيل، فهو حدث صادم وموجع، ليس فقط للروائي وللرواية، بل للوجود الإنساني برمته، فعندما يغدو قتل آلاف الناس وذبحهم وتعذيبهم أمرًا عاديًا بحكم التوحش اليومي، لا يعود يهم كثيرًا على سبيل المثال، الحديث عن نوع الشاي الذي كان ذاك المذبوح يفضله قبل أن يذبح، ولا الحديث عن ثياب وأحلام تلك التي مزقتها صورايخ الطائرات وأحالتها إلى أشلاء.

نعم الرواية تسهر على ولادة أناسها، وتظل ترافقهم مشتغلة على بنيتهم الروحية والنفسية والجسدية، لتحيك مصيرهم ببطء وهدوء وأناقة وتأني، بينما ما يحدث في الواقع العربي، وخصوصًا السوري، أحال المصائر الإنسانية إلى نهايات حادة، ومباغتة، وفي معظمها لا تتفق مع تطور وصيرورة بنية الإنسان على أرض الواقع. وقد تصل الأمور في بعض الأحيان أن يطرح الكاتب على نفسه سؤال كهذا: ما قيمة أن أخلق امرأة فاتنة الجمال في روايتي، وأنا أدرك أن الواقع أحل ويحيل وسيحيل كل هذا الجمال الأنثوي، وبطرفة عين، وعبر صاروخ يسقط من السماء، إلى أشلاء مبعثرة تنافي كل قيمة جمالية، فهذا القتل اليومي لا يقتل الإنسان فقط، إنما يساهم بقدر كبير في قتل الجمال والأدب والفن والقيم، ولا يعود هناك ثمة قارئ، فما الذي سيلفت انتباه القارئ ويدهشه ويضيف خبرة إلى خبرته وهو يرى السكاكين تفصل الرؤوس عن الأجساد، والصواريخ تكتب المصائر المأساوية، ليس فقط مصائر البشر بل ومصير الجغرافية والوجود، فلا أظن أن قارئ خرج لتوه من تحت أنقاض بيته، أو مثّل بجثة حبيبته أمام عينيه، أو استحالت أمه إلى أشلاء وهي تعد له طعام الفطور، أن يكون لديه شغف أو رغبة، ليقرأ رواية، فثمة ألف ألف رواية قد عشعشت في رأسه، وبات لديه فائض منها، ومن خلال تجربتي الشخصية كثيرًا ما صادفتُ أشخاص عاديين، وما إن يعلموا أنني أعمل في حقل الأدب والرواية، حتى يعبروا عن سخرية دفينة، معلنين عن امتلاكهم لألف رواية، مقترحين عليّ أن اصغي إلى رواياتهم عساها تغنيني ساعة الكتابة، إذًا لعلى الرهان في كتابة الرواية لم يعد على قارئ غارق في الدم والخراب والهجرة والاعتقال، إنما هو رهان مؤجل، يتطلع إلى جيل سيرث هذا الجيل، ويكون لديه عطش لقراءة رواية ما حدث في يوم غابر، ولكن كل هذا لن يمنع الروائي من أن يكتب، وإلا شاخ سريعًا أو نال منه الموت قبل الأوان، فحال الروائي بات كحال القارئ، فهو أيضًا مستغرق في الوجع، والدم، وكثيرًا ما يكتب ليهرب من خوفه، ليهرب من الموت الذي يلاحقه، يكتب على أمل أن يقول كلمة ما في الموت قبل أن يموت، أو يكتب ليعلن: أنه وإن كان عاجزًا عن القيام بفعل يوقف شلال الدم على أرض الواقع، فأنه يفعل أشياء كثيرة على الورق، وبهذا المعنى بات الكتّاب يكاتبون بعضهم، أو يكاتبون المؤسسات المعنية بشؤون الكتابة والثقافة والجوائز.

فكل ما يحدث وما يحيط بالكاتب يترك أثره عليه وعلى ما يكتب، ففي روايتي الأولى “لحظة العشق الاخيرة” والتي نشرت عام 2010 كان ضابط أمن في المعتقل قد غير مصير ثلاث شخصيات في الرواية، منهيًا عمرًا كاملًا من العشق بلحظة واحدة، ولو أني قبلها كنت قد اختبرت تجربة المعتقل لمَ كتبت هذه الرواية على هذا النحو، وبعد نشر الرواية بعدة شهور، كنت شرعت بكتابة رواية جديدة، لكن مع الثورة توقفت عن هذا المشروع ، ورحت أستغرق في رواية مختلفة، ويوم اعتقلت عام 2012 واعتقل معي جهازي المحمول، وكان يحتوي على فصول من تلك الرواية، أحدثت فيَ تلك الفصول المحفوظة في الجهاز المحمول رعبًا مميتًا، فقد كان الإطلاع عليها من قبل عناصر الأمن في المعتقل، كفيلًا بأن يؤدي إلى قتلي على الأقل تقدير لمجرد أنني اسميت ما يحدث ثورة وليس أزمة كما كان يروج من قبل إعلام النظام في حينه، لكن بعد تسلمي للجهاز يوم خروجي من المعتقل، اكتشفت أنهم لم يفتحوا الجهاز أبدًا، بل كانوا قد قاموا قبل اعتقالي بتصوير ونسخ جميع كتاباتي على الفيسبوك منذ بداية الثورة وبناء عليها اعتقلوني، غير أن تجربة المعتقل بحد ذاتها، وما رأيته من سحق لكرامة الإنسان وجلده وتجويعه وتعذيبه حتى الموت، أدت إلى تعديل الكثير مما كنت كتبت، ومع حرق الطيران لحمص ودرعا وحلب وداريا، أيضًا انزاحت بعيدًا خيوط كثيرة من الرواية، وهذا ما حدث مع السلاح الكيماوي على غوطة دمشق، ومع ظهور داعش.. وحتى الآن لازلت أشتغل على هذه الرواية، بل شرعت قبل عام ونصف تقريبًا بكتابة رواية ثانية، أهرب من الأولى، كي أشتغل على الثانية، وأهرب من الثانية للرجوع إلى الأولى. فقبل المعتقل كنت أكتب كي أنتشي بشخوصي الذين يحلقون إلى السماء بجوانح حريتهم التي راحوا يغزلونها، وبعد تجربة المعتقل صرت أكتب هربًا من الخوف والموت، والآن في دول اللجوء أكتب هربًا من الغربة، أو محاولة مني لتتطهر من عار هروبي وترك الأطفال هناك يموتون وحدهم دون أن أقدر على صون ولو قطرة واحدة من دمهم، ولعل هذا ما دفعني إلى استحضارهم في روايتي الثانية عساهم يدركون يومًا أنني كنت قريبًا منهم.

*************

ضاهر عيطة في سطور:

ولد الكاتب والروائي والمسرحي السوري ضاهر عيطة، في مدينة دمشق العام 1966. وهو يقيم حاليًا في ألمانيا.

وهو معتقل سابق في سجون النظام السوري، حيث أوقفته أجهزة الأمن السورية في تشرين الثاني/ نوفمبر بدمشق، لمواقفه المنتقدة للنظام.

حاز إجازة في الفنون المسرحية ، قسم الدراسات المسرحية، من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق العام الدراسي 1994 ـ 1995. وكان منذ العام 2003 وحتى العام 2015عضوًا في هيئة تدريس المعهد .

أصدر في العام 2010 روايته الأولى “لحظة العشق الأخيرة ” عن دار نينوى، دمشق. وقد أعاد هذا العام نشرها إلكترونيًا، من خلال الموقع الرئيسي لدار “كتابوك” المتخصصة بالنشر الإلكتروني عبر الانترنت.

وقال “عطية” عند نشر روايته إلكترونيًا: “جل شخصيات الرواية كانت في حالة اختناق كامل، كتبت الرواية وأنا أختنق مترقبًا خلاصًا ما لم أكن أعرف كنهه لكن استمرار الحياة مختنقًا كان أمرًا مستحيلًا، ولكم في الكتابة أكسجين الحياة أيتها الأقلام المبدعة”.

من مؤلفاته:
– “رقص مع النجوم “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2008.
– “حراس البيئة “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2009. ونال الجائزة الاولى في “مسابقة عبد الحميد شومان للتأليف المسرحي للأطفال” في الأردن.
– “طيور الحمام “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2010. ونال الجائزة الأولى في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى وزارة الثقافة” في سوريا.
– “عصفورة النجاة “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2011. ونال الجائزة الأولى في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى وزارة الثقافة” السورية.
– “براءة بحار”، (نص مسرحي موجه للأطفال)، ، نشر لدى الهيئة العربية للمسرح في الشارقة 2012 بعد فوزه بالمركز الأول في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى الهيئة العربية للمسرح” في الشارقة.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
نتصدى للطغاة بأسلحة الروح

نتصدى للطغاة بأسلحة الروح

[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]

الروائي السوري هيثم حسين

تسعى السلطات عادة إلى تضييق الهامش المتاح للناس، لكنّ الأدباء لا يفتؤون يجاهدون لتحدّي مسعى تلك السلطات، وتوسيع الهامش ذاك ليغدو ميدانًا رحبًا ينطلقون فيه ومنه إلى عوالمهم، يهندسون فضاءاتهم، يتحرّرون من القيود المفروضة عليهم، يقفون في خطّ مواجهة مباشر مع السلطات القامعة، يكشفون إجرامها بحقّ الإنسان والوطن، يرشّون ملحًا على الجرح كي لا يتمّ إهماله، أو التعامي عنه. وللأسف فإنّ جروح بلدنا كثيرة، دائمة النكء، لا تكاد تلتئم من شدّة العمق والإيذاء، حتّى تنزف مرة أخرى وتخلّف مرارة أشدّ.

تتمثّل محاولات الروائيّين في مواجهة الخراب عبر تصويره بطريقتهم الخاصّة، عساهم بتركيزهم عليه، وتحذيرهم منه، يساهمون بجزء بسيط في تبديده، أو التخفيف من حدّته الكارثيّة. أعتقد أنّ الكتابة حلم ورديّ بطوق نجاة مأمول للروائيّ نفسه قبل قارئه، لأنّ الخراب المعشّش ترسّخ في النفوس، ودمّر ما دمّر منها، ويكون الأمل بانتشال ما ومَن تبقّى من مستنقع الخراب مثيرًا للاهتمام، وربّما باعثًا على الشفقة ومثيرًا للرثاء في بعض الأحيان.

تكتسب الكتابة أهمّيّة في مختلف الأزمنة والأمكنة، هي مهمّة الآن بقدر أهمّيتها أمس وغدًا، فهي الشهادة الحيّة على الجريمة الماضية المستمرّة بحقّ الإنسان والبلاد معًا، هي الإشعار بالحياة في مواجهة جنون الحرب والموت والتعصّب ودعوات الثأر المستعرة. الكتابة كالأمل لابدّ أن تبقى حاضرة في كلّ الأوقات، ولولا ذلك لتركنا المجال للعتمة كي تتسيّد وتمضي بنا من هلاك إلى آخر أكثر إيلامًا وتعتيمًا.
يعيد الروائيّ صياغة الواقع بحسب رؤيته، يستلّ قلمه ويعلن رفضه للجنون المتعاظم، وبرغم أنّ الدعوات الإنسانيّة، والشهادات الروائيّة، تكون الصوت الأخفض وسط ضجيج المدافع وأزيز الرصاص، إلّا أنّها تعيد التذكير بالجانب الإنسانيّ الذي يجب أن يعود للصدارة ويقود البلاد وسط حقول الألغام الطائفية والسياسيّة التي تخلّفها الحرب.

يتبدّى تفوّق الروائيّ على الطاغية في إعلائه من شأن الإنسانيّة، والحرص على التفاصيل كلّها، يدوّنها كأنّه يوثّق تواريخ الجروح النازفة ويحصي أنفاس الشهداء، ينتصر للتاريخ والمستقبل في محنة الواقع وقهره. يسعى إلى ترميم جروح الأرواح، يكتب بإصرار وحرص ليخفّف من الدمار، ويؤكّد أنّ الأدب يبقى بوصلة الإنسان في الملمّات، وأنّ الابتعاد عن القراءة والأدب بداية الانزلاق إلى هاوية الاقتتال والحرب. القرّاء والكتّاب لا يشهرون أسلحة، إنّهم يشهرون الأفكار ويحاربون بها الرايات السوداء التي ترتفع حيث ينتعش الجهل ويتفشّى التجهيل. يشهررون “أسلحة الروح” ويحاربون بها.

الطغاة ليسوا جهلة بالتاريخ، بل هم على عكس ما يشاع عنهم، تراهم يحاولون تحدّي عجلة التاريخ ويقعون في وهم قدرتهم وجبروتهم على تغيير مساره وفق مشيئتهم، كلّ واحد منهم يتخيّل أنّه ليس كغيره، يعميهم التاريخ، يمكر بهم ويلعنهم، ثمّ يأتي الروائيّ ليصوّر عماهم ومكرهم وتعميتهم، ويعيد الاعتبار للأدب والتاريخ أمام جنون العظمة البائس الذي يقود ويعمي ويدمّر لديهم.

ما يحدث في سوريا يتفوّق على أيّ خيال إجراميّ أو قدرة أدبيّة على تخييل الكوارث والفجائع، إنّه مأساة عصر برمّته. لحظة انهيار قيم الديمقراطية ومزاعم حقوق الإنسان، ساعة انكشاف حقيقة الأنظمة المتاجرة بالبشر، خريطة تحرّك العصابات العالمية المتاجرة بالدين والسلاح، وثيقة إدانة للنفاق العالميّ، مجزرة مفتوحة على عدم يدور حول نفسه، لذلك فإنّ تداعيات هذه الحرب لن تتوقّف عند حدّ معيّن، ستظلّ دوائرها تتّسع باطّراد بمرور الأيّام وتقادمها.

وحسب أيّة رواية أن تلتقط مشهدًا صغيرًا من لوحة الأسى التي باتت مسلسلًا عالميًّا دمويًّا مرعبًا لا تنتهي حلقاته. لا شكّ أنّ هذه المأساة ستساهم بإنتاج روايات مميزة مستقبلًا، ستكون لكلّ واحد حكايته المختلفة، لن تكون هناك رواية يمكن تنسيبها إلى منتصرين في هذه الحرب، لأنّ لا منتصرًا فيها، الكلّ مهزوم بطريقة ما. وتبقى أعظم الروايات تلك التي لم ولن يتمكّن أصحابها، من الشهداء والقتلى والراحلين الغارقين، من تدوينها وروايتها.

لا أعتقد أنّ مسعى الرواية يتمثّل في الارتقاء إلى مستوى الإجرام الوحشيّ المدمّر، بل يتجلّى في تفصيل منه بانتشال ما يمكن إنقاذه من إنسانيّة مهدورة في ظلّ الانحدار المريع الحاصل، وما يجري في معمعة قاع ظلاميّ منفر تجتهد الرواية لتبديد ظلمته وظلاميّته بتسليط الأضواء على زوايا منه.

حين كنت في ريف دمشق منتصف 2012، قبل أن أغادر بلدي، كانت المعارك تحتدم بين الليلة والأخرى، بدأت بمناوشات ليليّة، ثمّ تصاعدت إلى اشتباكات دائمة في محيط البلدة؛ شبعا، وحين انتقلت إليها، شهدت لحظات مريعة، ورأيت مشاهد فظيعة، رائحة البارود كانت تزكم الأنوف في الغوطة الشرقيّة، الطائرات تقصف بلداتها، والانتقامات قائمة على قدم وساق، كانت الجثث تبقى في الشوارع لساعات ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، وكان من السهل على كلّ طرف اتّهام الآخر بالخيانة وتبرير قتله.

حاولت توثيق جزء من التجربة، لكنّني وجدت الجرح أعمق من محاولة توثيقه، فانتقلت إلى إجراء دراسة عن (أدب الحرب)، وكتبت كتابي “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، حاولت توثيق شهادات روائيّين، في الشرق والغرب، عالجوا وتناولوا وحشية الحرب وكانوا شهودًا عليها أو مشاركين فيها بطريقة ما، ولكن للأسف اكتشفت أنّنا نعيد قراءة التاريخ ولا نستقي منه أيّ عبر، نقرأ عن وحشيّة الحرب لكنّنا نتفوّق عليها بوحشيّة معاصرة. فقدت بعد ذلك عنصر الاستغراب من أيّ فعل إجراميّ فظيع قد أسمع عنه أو أشاهده. أيقنت أنّه في أوقات الشدّة، وحين تجد الموت قريبًا منك، يدور من حولك، تكتشف فداحة الخسارة التي يتعرّض لها الإنسان في حربه الخاسرة ضدّ الحياة، وضدّ الحرب نفسها.

عندما انطلقت شرارة الثورات العربية هناك من استمرأ توصيف عمله أنه استشراف الأحداث، أو قراءة المستقبل، أعتقد أنّ هذا يأتي من باب تلبيس الحدث رؤية رغبويّة بعينها، وتأويل الجاري وفق المتخيّل، وتأطير الصورة الجديدة بإطار قديم. ما حدث ويحدث فاق كلّ التوقّعات، وتجاوز خيال أيّ متشائم. ساهم بعض الروائيّين بإطلاق شهادات الرفض والاحتجاج على واقع البؤس والعنف، وناشدوا التغيير عبر لعن العنف والسجون، لكنّ زعم الاستشراف يفتقر للدقّة.

الكاتب الذي يحتفظ في رأسه بشرطيّ يحصي عليه أفكاره وأنفاسه لن يستطيع التحرّر من سطوة الأوهام وسلطة الشرطيّ المتأصّلة في روحه. الكتابة تحليق في الأعالي وتحطيم لكلّ القيود، فثورة تقتلع أساس الطغيان كلّه ولا تحرّر كاتبًا من مخاوفه لا تليق باسمها، ولا يليق ذاك الكاتب بوصفه كاتبًا. الحرّيّة شرط الإبداع الرئيس، والكاتب المسكون بقلاقل الرقابة ووساوس الاستجوابات عليه أن يكسر قلمه ويمضي إلى أقرب حانة ليسجن نفسه في دهاليزها، ويختبئ فيها هربًا من تحدّيات الواقع ورهانات التاريخ.
هناك مثل يقول “النيّات الحسنة تنتج أدبًا رديئًا”، ذلك أنّ الأدب لا يكتب بنوايا حسنة أو سيّئة، بل يكتب بجودة وأصالة، ولا يكفي أن ينتصر الأديب لقضية عادلة، أو يكتب عنها، حتّى يوصف عمله بالمتجاوز والمميّز والتاريخيّ، بل هناك أعمال ذات سويّة متدنّية تشوّه القضايا العادلة بمقارباتها الممسوخة، وتنقل صورة لا ترتقي لسويّتها، ترتهن للشعارات وتخمّن أنّها قد تضلّل القرّاء بتلك الشعارات. لا يتعلّق الأمر بمن كتب أوّلًا أو لم يكتب بعد، بل يتعلّق بروح الأدب وجوهر الإبداع.

لا يمكن انتظار الحرب حتّى تنتهي، لينكبّ الروائيّون على أعمالهم، ذلك أنّ الحرب أصبحت طقسًا يوميًّا بعد أن كانت بؤرة متفجّرة يُتوقّع خمودها في وقت قريب، فحتّى لو وضعت هذه الحرب أوزارها، ستنشب حروب جانبيّة كثيرة لأتفه الأسباب في مناطق متناثرة على خريطة الوطن، لأنّ اعتياد لغة السلاح يفقد لغة الحوار معناها، ويساهم في تضييعها وإظهار دعاتها سذّجًا في نظر المحاربين القدماء والجدد. تحتاج الحروب عادة إلى عقود كي تلتئم بعض الجراح التي تنتجها، ولا أحد يضمن أنّ تلك العقود قد تمضي بهدوء وسلام، أو تنعم بالأمن والطمأنينة، فتجارب التاريخ في الشرق لا تبشّر بخير في هذا السياق.

ولا يخفى أنّ الكتابة تحت ثقل اللحظة الراهنة تظلّ كمن يقبض على الجمر ويحاول أن يحافظ على توازنه وموضوعيّته، ويكون ذلك من الصعوبة بمكان. قد تنجو أعمال تقارب اللحظة، تتمترس بالتاريخ والممهّدات التي قادت إلى الأحداث الراهنة، لكنّ المشهد ما يزال مفتوحًا على فظائع أكثر، والروائيّ يوقف شريط الزمن ليلتقط زاوية من زوايا الحدث، ويقوم بتظهيره.

للأسف الغيوم السوداء لن تنقشع في وقت قريب، تصوّر إن كانت هناك أطراف ما تزال تحارب من أجل أحقّيّة مَن بالخلافة منذ عشرات القرون، وهناك مقاتلون يؤمنون بتلك الأفكار التي تدسّ في بنادقهم وعتادهم لتبقيها ملقّمة مصوّبة إلى الأخ المستعدَى، كيف يمكن أن تتأمّل منها أن تستدلّ إلى أيّ درب للخلاص في وقت قريب..! سنبقى في متاهة حروب الأحقّيّة والأفضليّة والثأر. وكأنّه مقدّر على الإنسان الحرب، ولا يسعنا في هذه الحالة إلّا القول على الوطن “السلام” إلى إشعار آخر، لم تلح بوارق أمله في الأفق بعد.

*************

هيثم حسين في سطور:

هيثم حسين ناقد وروائيّ ومترجم كردي سوري، من مواليد مدينة عامودا 1978 في محافظة الحسكة، سوريا، ويقيم حاليًا في أدنبرة بالمملكة المتحدة.

أسّس ويدير موقع «الرواية نت»، كما يعمل ككاتب مستقل ومتعاون مع عدد من أبرز الصحف والمواقع والمجلات العربية، وهو متخصص في النقد الروائي إلى جانب القضايا الثقافية الأخرى.

جرّب صاحب “إبرة الرعب”، مرارات الحروب والخذلان والمنفى، لكنه مع كل ذلك يرى أنّ الرواية تقدّم دواء ناجعًا وأجوبة شافية، وقد تعين في تجاوز تلك الآثار السلبية التي تتراكم بفعل المصائب التي تُحيط بنا. يقول في كتابه “الرواية والحياة”: “يطغى اعتقاد بعبثية الرواية أمام الفجائع، أمام تكاثر المآسي وتناثرها، وخصوصًا في بحر الثورات التي اجتاحت المنطقة العربية، وهنا فإن مرارة المفارقة تكون مضاعفة حين التسليم بتعديم الرواية أو تهميشها تحت زعم أنها لا تستطيع التغيير أو التأثير”.

وفي كتابه النقدي “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، يقرع “حسين” طبول الحرب بقلمه وكتابته وتصويره لعوالم الحرب، يقرع الطبول ليوقف القرع الذي يدمي القلوب ويفتّت البشر، يقرع لينذر ويبشّر في الوقت نفسه. وفي فصول الكتاب السته، يحاول السارد أن يقدم بعين الناقد قراءات لعدد من الروايات التي “حفرت” في الحروب، سواء في الشرق أو الغرب، وقدمت شهادات ووثائق عن المراحل التي سعت إلى تأريخها.

أما في روايته “رهان الخطيئة فيعالج “حسين” إشكاليّة الحدود الواقعة بين سوريا وتركيا بأبعادها المختلفة، السياسيّة، الدينيّة، الفكريّة، والإجتماعيّة، عبر شخصيّات متعدّدة، منها مَن يرتهن لتلك الحدود ويتقيّد بها، ومنها من يتجاوزها ويتخطّى كلّ العقبات الموضوعة. ويكون التقسيم الجغرافيّ شرارة تقسيم إجتماعيّ، حيث الأكراد موزّعون على طرفي الحدود، توضع بينهم أسلاك شائكة مكهربة، وتزرع بينهم حقول ألغام أودت بالكثيرين ممّن حاولوا التخطّي من جهة إلى أخرى.

كما تتناول الرواية تأثير التحالفات العالمية والأحداث الكبرى على الأكراد، خاصة حالة أفراد يبدون مهمّشين بعيدين عن الاهتمام، في حين تقع على عاتقهم الآثار الناجمة عنها.

تتّخذ الرواية من بقعة جغرافيّة مُهمَلَة خلفيّة رئيسة تدور فيها الأحداث، وتكون الشخصيّة الرئيسة امرأة عجوزًا، تنتقل بولديها من قرية إلى أخرى لتحميهما من بطش الجهل والتخلّف، وتبعدهما عن قيم الثأر المعمول بها. وهي تتكتّم على قصّتها، قرابة نصف قرن، محاولة التغلّب على الماضي، لكنّها، وهي تحتضر، تبوح لحفيدها الوحيد بقصّة الترحال الذي فرض عليهم.

وفي روايته “إبرة الرعب” يتناول “حسين” عبر الشخصيّة الأساسيّة في العمل (رضوان)، موضع الفساد الذي عمّ مؤسّسات الدولة، وانعكاسه على المجتمع، فيحضر في سرده تفاصيل ومجريات مستوصف الخدمة الإلزاميّة، الذي تدرّب فيها أثناء خدمته، وكيف كانوا يتّجرون، بالأدوات، والمواد، وحتّى أجزاء الجسم، باشتراك الضّابط المسؤول، حتّى عندما عمل لدى المشفى الحكوميّ، والحديث الذي دار بينه وبين طبيب التخدير، وقصص كثير من هذا القبيل، لتشكل بالمحصلة حالة رعب، وهلع للمجتمع من هكذا حالات.

صدر لهيثم حسين من الروايات:
– “آرام سليل الأوجاع المكابرة”، دار الينابيع، طبعة أولى السويد 2006، ط2: دار النهرين، دمشق 2010.
– “رهائن الخطيئة”، دار التكوين، دمشق 2009. وقد صدرت حديثًا، في براغ عاصمة جمهورية التشيك النسخة التشيكية من هذه الرواية، بترجمة الأكاديمية التشيكية يانا برجيسكا، وتقديم الشاعر والكاتب التشيكي ييرجي ديدجيك، رئيس نادي القلم التشيكي. وتم اختيار عنوان مختلف لهذه الترجمة عن العنوان الأصلي للرواية وهو “أين بيتك، خاتونة..؟”.
– “إبرة الرعب”، منشورات ضفاف (بيروت)، الاختلاف (الجزائر) 2013.

ومن أعماله النقدية:
– “الرواية بين التلغيم والتلغيز”، دار نون، طبعة أولى: سوريا 2011.
– “الرواية والحياة”، صدر ككتاب مرفق مع مجلة “الرافد” الإماراتيّة، عدد آذار/ مارس 2013.
– “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، دار ورق، دبي 2014.
– “الشخصيّة الروائيّة.. مسبار الكشف والانطلاق”، دار نون، الإمارات 2015.

وله في الترجمة:
– “مَن يقتل ممو..؟”، (مجموعة مسرحيّات مترجمة عن الكردية)، دار أماردا، بيروت 2007.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
سوريا خارج الإطار: فنانون معاصرون من سوريا

سوريا خارج الإطار: فنانون معاصرون من سوريا

“سوريا خارج الإطار، فنانون معاصرون من سوريا” (2016) ، عنوان جميل لكتاب مهم صدر مؤخراً في إيطاليا (Imago Mundi, Luciano Benetton Collection). يعكس الكتاب جهداً حقيقياً بذله كل من الباحثة الإيطالية المتخصصة بالدراما والفن السوري دوناتيلا ديلاراتا، ومساعدة التنظيم رولا علي ولوشيانو بينيتون المشرف على “Imago Mundi” ولفيف من الأصدقاء والفنانين والباحثين الذين تعاونوا لتحقيق المشروع. العنوان هو أيضاً الاسم الذي أُطلق على المعرض الذي افتتح في 31 آب/أغسطس،2015 في مدينة البندقية بإيطاليا، وذلك في إطار معارض أخرى ل”Imago Mundi” الذي يرعى ويشرف على معارض من كل أنحاء العالم.

وهدف معرض الفن السوري هذا إلى كسر الصورة النمطية السائدة عن سوريا بأنها بلد الصراع الطائفي والحروب الأهلية واختزالها في موضوع اللاجئين والمآسي، متجاوزاً في ذلك الدور الذي يثير الشكوك للإعلام في عصر العولمة. فسوريا، في هذا المعرض، هي بلد الفن على مر العصور، وبلد الثقافات والحضارات المتنوعة والمختلفة، وبلد فنانين من مختلف المناطق يتجاوزون بفنهم وشعرهم وإبداعهم التقسيمات الضيقة واختزال البلد في عقلية القاعدة أو الإيديولوجيا الأحادية التي تنسج قناعاً من خيوط العلمانية والتدين.

وبين دفتي هذا الكتاب الضخم توثيق لعدد كبير من الفنانين والشعراء والمصورين. ويشكل هذا الكتاب ـ الوثيقة الذي يتألف من أكثر من 400، صفحة من القطع الكبير خطوة مهمة في التوثيق للفن السوري وتسليط الضوء عليه، ويحتوي على السير الذاتية للفنانين وصور الأعمال الفنية، ويحتفي بالعمق الثقافي والفني والشعري السوري في وقت يتم فيه تهديد تراث سوريا الحضاري والثقافي ويتعرض للتدمير، سواء بالقصف العشوائي أو بالتدمير المنظم الذي تمارسه تنظيمات دينية وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية.

يعكس الكتاب جهداً كبيراً في محاولته إلقاء الضوء على فنانين سوريين من مختلف المشارب والاتجاهات والأجيال والمناطق، وهو بصدوره يؤكد أن العمق الحضاري والثقافي في سوريا هو الذي سينتصر في النهاية مهما طال التدمير والتخريب ومهما استمرت الحرب الحالية والتي دمرتها وحولتها إلى ممالك للوردات الحرب.

صدر الكتاب بالإنكليزية والعربية والإيطالية وقدم له لوشيانو بينيتون، الذي ذكر في مقدمته إن سوريا تقاوم الصراعات الداخلية وشلل الدبلوماسية بقوة الجمال، وبالهيام الحيوي للفن. وسوريا هذه تهدف إلى تجاوز التصوير الإعلامي لها: “الحرب والدراما واللاجئين الذين يضغطون على حدودنا”.

وأضاف أن جمع وعرض 140عملاً فنياً لفنانين سوريين من داخل سوريا ومن المنفى، والتي تعبر بشكل حقيقي عن سوريا اليوم، عَنَيا التغلب على تعقيدات تتعلق بالصراع، وتبدلات مفاجئة في الجبهة (أحياناً في التحالفات بين الأطراف)، ومجازفات وصعوبات بلد يعاني من الوحشية. لكن “Imago Mundi” تمكن من التغلب على هذه التحديات، وجمع مجموعة فريدة، عبر جهود كبيرة بذلها الذين ساهموا في تنظيم المعرض.

قدمت الناقدة الفنية مالو هالاسا أيضاً للكتاب وذكرت في مقدمتها أن رعاية دوناتيلا ديلا راتا للمعرض تجاوزت الحدود التقليدية بين الفن التشكيلي وأشكال أخرى من التعبير الفني. فما هو تجريبي أو شعبي تحدى ووسّع وجامل الأشكال الفنية الأكثر تقليدية. أي أن هناك، بحسب هالاسا، مقاربة توفيقية لا تهدف إلا إلى تأكيد حضور الفن عبر معرض واسع الطيف كهذا.

وتضيف هالاسا: “يعبر المعرض عن الدوافع الأولية للإبداع والتعبير الحر في ثورة بلاد اسمها سوريا. فبعد خمس سنوات من الحرب في سوريا تقريباً، يساعدنا الفن أيضاً في معرفة أين يجد بعض السوريين أنفسهم اليوم. وتلعب أعمالهم الفنية دوراً مهماً كمضاد لإحصائيات اللاجئين والوفيات وتطويع الجهاديين التي اختُزلوا إليها عالمياً هم وبلادهم”.

منظمة المعرض دوناتيلا ديلاراتا قدمت للكتاب أيضاً وذكرت في مقدمتها أن المعرض يفكك الصورة النمطية التي تسوق إعلامياً عن سوريا، وأن اللوحات المائة والأربعين المعروضة تشير إلى ما هو غير مرئي وغير معلن وغير مسموع، وتقترح وسيلة جديدة لطرح أسئلة على قصتنا غير الدقيقة عن سوريا وابتكار القصة الحقيقية من جديد عبر النظر إلى أنفسنا كبشر يتوقون إلى الحياة والجمال.

وأضافت أن “سوريا خارج الإطار” يقدم 140 فناناً سورياً من مجموعة واسعة من الأجيال تمتد من الخمسينات إلى التسعينيات. ومن عدة مدن وقرى سورية ومن خلفيات دينية وعرقية متنوعة. ويضم المعرض رسامين ومصورين ورسامي كاريكاتير وشعراء وخطاطين وفناني مسرح ومخرجين وفناني غرافيتي وصانعي أفلام. وهو يشمل كلاً من الفنانين المعروفين الذين يتم عرض أعمالهم وبيعها عالمياً، وطلاب الفنون الجميلة الواعدين الشباب الذين بدأوا للتو مسارهم الفني.

وقد احتوى الكتاب على لوحات وصور ونصوص لكل من هاني عباس ونضال عبد الكريم ومحمد عبد الله، وهبة العقاد ودينو أحمد علي وفادي الحموي ووضاح السيد وأسامة إسبر ولارا حداد وهالا محمد وكفاح علي ديب وحسين غرير وعلا الأيوبي وريم يسوف ولاوند ظاظا وعليا خاشوق ومحمد ديبو وياسمين فضة وأمير فخر الدين وهبة الأنصاري، ودلير موسى وجون إيف بيزيان ونهاد الترك وهاني موعد ورزان حسان، بالإضافة إلى فنانين آخرين لا يتسع المجال لذكر جميع أسمائهم هنا.

كما وجه معدو الكتاب الشكر إلى رولا علي، مساعدة التنظيم، والتي من دونها ما كان معرض “خارج الإطار” ليرى النور، وللوشيانو بينيتون الذي منح فرصة استضافة المعرض ولمجموعة أصدقاء من مختلف الثقافات ولسوريين بقيت أسماؤهم مجهولة.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
واقع النشر في سوريا في ظل الحرب

واقع النشر في سوريا في ظل الحرب

ما نحاول القيام به هنا هو محاولة رصد بعض التغيرات التي حدثت على واقع الطباعة والنشر والقراءة في سوريا في ظل ظروف الحرب والدمار الكبير الذي حلَّ بالبلاد من خلال حوارات قصيرة مع عدد من المثقفين والصحفيين وأصحاب دور نشر ومكتبات في بعض المدن السورية الرئيسية، حيث تتركز دور النشر بالدرجة الأولى في العاصمة دمشق تليها حلب واللاذقية وطرطوس كما حاولنا رصد واقع الطباعة والقراءة في بعض مدن الجزيرة والشمال السوري التي خرجت منذ سنوات عن سلطة النظام السياسي المركزي في دمشق، لكنها وقعت تحت سيطرة سلطات أخرى، كسلطة الإدارة الذاتية الكردية في كوباني و ما حولها من مناطق ذات الغالبية الكردية وكسلطة الفصائل المسلحة الأخرى، كالدولة الاسلامية في العراق والشام أو ما يعرف اختصارا بـ (داعش) في الرقة وغيرها، إحدى نتائج الحرب المستمرة كانت تدمير عدد كبير من المراكز الثقافية التي كانت تحتوي آلاف مؤلفة من الكتب، ومن المكتبات الخاصة ومن مستودعات الكتب واللوازم الطباعية، هذا غير سرقة وتهريب آلاف المخطوطات التراثية النادرة والقديمة، كما حدث في مدينة حلب، وبالتالي يكون الفكر والثقافة والتعليم، قد دفعوا أثماناً باهظة في هذه الحرب المستمرة منذ سنوات، يتناول هذا التقرير النشر التقليدي والطباعة التقليدية أي النشر الورقي الذي يعتمد على الكتب والمجلات والصحف، وليس النشر الالكتروني. اختلفت طبيعة الأسئلة بين المناطق بحسب الوضع الراهن في هذه المناطق، وبالتالي اختلفت طرق الإجابة بحسب الطبيعة السلطوية التي تحكم كل منطقة.

كما حدثت تغييرات كبيرة على جغرافية تواجد المثقفين فقد حدثت حركة نزوح وهجرة كبيرة للمثقفين من مدن ومناطق إلى مدن أخرى أو إلى بلدان أخرى بسبب الأوضاع السياسية والأمنية والمعيشية المضطربة حيث هاجر عدد كبير من المثقفين خارج البلاد، من جميع المدن السورية (كما حدث لمثقفي المناطق التي وقعت تحت سلطة الإدارة الذاتية والمناطق التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة المتشددة، ومن العاصمة دمشق وريفها، ومن المدن السورية الداخلية والساحلية جميعها ) وقام عدد آخر فضل البقاء في البلاد بتغيير أماكن إقامتهم فعاد عدد منهم إلى مدنهم الأم المستقرة نسبيا ً.

في المناطق االتي تحت سلطة الدولة

يتركز تواجد دور النشر والمطابع في سوريا في المدن الرئيسية وفي العاصمة دمشق بالدرجة الأولى، ومنها كان يتم التوزيع لباقي المحافظات في الدولة عن طريق المؤسسة العامة للمطبوعات وبعض موزعي القطاع الخاص، وتأثرت دور النشر جميعها بالحرب المستمرة منذ خمس سنوات والتي تسببت بتدمير وحرق عشرات المستودعات في ريف دمشق، (لم يتم حصر الأضرار حتى الآن)، وبالحصار والعزلة المفروضة على السوريين (خاصة الذين لايزالون في الداخل السوري) بسبب الوضع السياسي المعقد، كما تأثرت بانخفاض سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار تأثيرا مباشرا، وبصعوبات النقل وغيرها، طرحت هنا بعض الأسئلة على عدد من اصحاب دور النشر الذين لايزالون في الداخل السوري وحاولت أن افهم هواجسهم وظروفهم والصعوبات التي تعانيها دورهم، وكيف يتكيفون مع ظروف الحرب ونتائجها، وإن كان هناك قوانين تحميهم وتعوض خسائرهم وعن دور اتحاد الناشرين السوريين بوصفه مؤسسة ترعى مصالحهم، وعن رؤيتهم لواقع القراءة اليوم.

يقول الأستاذ سامي أحمد وهو شاعر وناشر وصاحب “دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر” :”توقفت عن نشر الكتب لمدة عام ونصف بسبب الحرب وفكرت بالهجرة، لكنني عدلت عن الفكرة في اللحظة الأخيرة وفضلت مواصلة العمل هنا ونشر الكتب رغم الصعوبات، واستمريت في المشاركة في معارض الكتاب، شاركنا مؤخرا ًفي معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الرابعة والثلاثين الذي أقيم بين 4-14-2015 و معرض بيروت الدولي للكتاب في دورته التاسعة والخمسين في 28-11-2015.

وحول المشاركة السورية في معرض الشارقة الأخير يقول الأستاذ سامي “كان هناك سبعون دار نشر سورية مشاركة في المعرض معظمها من خارج سورية من بيروت والقاهرة والإمارات، وغيرها، بينما شاركت 15 داراً فقط من الداخل السوري، وشاركت دار التكوين ب 400عنوان هذا العام في معرض الشارقة و بـ300 عنوان في معرض بيروت، وعن رغبته في مواصلة نشر الكتب يقول الأستاذ سامي “أعلم أنها مغامرة لكنني سأستمر بالعمل هنا” وتقوم دار التكوين بالإعداد لأسبوع ثقافي سنوي، ولحفلات توقيع للكتب الجديدة الصادرة عن الدار.

وعن تأثير سنوات الحرب على النشر يقول الأستاذ سعيد البرغوتي صاحب دار كنعان “الأزمة تركت آثاراً بالغة بالنسبة لدار كنعان، فنحن كنا نصدر سنويا ما يقارب الأربعين عنواناً، لكن في السنوات اﻷربع الأخيرة أصدرت الدار أربعة عناوين فقط! وتلك آثار مدمرة، لأن العناوين الجديدة هي التي تتيح استمرار الدار وتطورها. الأمر الذي وضع الدار عمليا في مأزق شديد الصعوبة، يهدد استمرارها، وعند سؤالنا إن كانت الصعوبات هي في ارتفاع أسعار المواد الأولية للطباعة أم في التسويق للكتب؟ أجاب “الأمر أكثر تعقيدا بحصره بسبب أو سببين، هناك صعوبة باستدراج العناوين المناسبة، وهناك صعوبة بتكاليف الترجمة، إضافة لارتفاع أسعار كافة المواد، وشحن الكتب، وتكاليف السفر والمعيشة، وغير ذلك.

وعن دور اتحاد الناشرين السوريين إن كان يقدم أي تسهيلات او خدمات حقيقية. يقول” “خدمات الاتحاد إدارية ليس أكثر، لأن الصعوبات موضوعية أنتجتها الأزمة. طبعا الأزمة لم تؤثر في كافة دور النشر، وخاصة المقتدرة ماليا، فتأثر تلك الدور يبقى محدودا.

وعندما سألنا الأستاذ سعيد عن إحدى تعليقاته في معرض الشارقة على حيتان النشر ومن يقصد بذلك؟ أجاب “لم أقصد بذلك تجريحا أو ما يحيل على شيء سلبي بإحدى تلك الدور، ذلك فقط لإمكانياتها التي جعلتها في مأمن من التأثر باﻷزمة، وحافظت بالتالي على سويتها ومكانها في المعارض. فمن الطبيعي أن دارا تنتج كما كبيرا من الكتب، أن تظفر بشروط أفضل من غيرها، وذلك يسهم آليا باستمرارها وعدم تأثرها، وكل ذلك لا يطال نوعية الكتب وتقييمها بين هذا وذاك.

وحول واقع القراءة و تأثير الحرب عليه يقول برغوتي” واقع القراءة مأزوم تاريخياً لأسباب تربوية بالأساس، تليها أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية. أزمة القراءة ليست محصورة في بلدان الأزمة، كسوريا مثلا، بل هي في عموم البلدان العربية ، وهذا لا ينفي أن أزمة القراءة تتعاظم في البلدان التي تجتاحها الأزمات”.

وعن وضع دور النشر في هذه الظروف يقول الدكتور مصعب الجندي صاحب ومدير دار “الجندي”:
“دوماً وفي جميع الأزمات التي تمر فيها المجتمعات البشرية ، خاصة ً إذا بلغت الأزمة ذروة الصراع الدموي، أول النشاطات (الاجتماعية/الاقتصادية) تأثراً هو قطاع الطباعة والنشر خاصةً وما يرتبط منها بالثقافة عامة ً، حيث أن الناس تبدأ بالبحث عن ما يبقي استمرارية الحياة، وللأسف القراءة تصبح في آخر الأولويات . في سوريا وعلى الرغم من قسوة الحاضر و دمويته لا تزال بعض دور النشر والمطابع تصارع للبقاء وتعتمد في نشاطها على المعارض الخارجية .. طبعاً هناك أثر سلبي آخر هو انتشار الفوضى وفقدان الضوابط والحماية لدور النشر من خلال انتشار الكتب المزورة والمطبوعة طباعة تجارية رخيصة ومن دون حفظ حقوق الناشر أو المؤلف . بالنسبة لدار الجندي فقد كان الأثر كبيراً والخسائر تكاد تأتي على كل ما تملكه الدار، لأن مقرها الرئيسي في مدينة عربين التي أصبحت شبه مدمرة، ومستودعاتها في قرية الشيفونية في الغوطة الشرقية . وللأسف الشديد لا يوجد قوانين خاصة بحماية الدور في سوريا، وبالرغم من ذلك ننظر للأمر بأن مصابنا مصاب السوريين جميعهم . للأسف لم تقم الدار بنشر أي عنوان جديد منذ عام 2011 ، ولا نية لنا بطباعة أي إصدار قديم أو جديد. أكثر الكتب رواجاً في سوريا هي الكتب التراثية، تليها الروايات المترجمة، .. للأسف لا تزال المؤلفات لكتاب عرب وسوريين أقل رواجاً وغالباً ما يتم الترويج لها من خلال معارض الكتب وحفلات التوقيع . تجربة اتحاد الناشرين السوريين لم تكتمل بسبب هيمنة الأجهزة الوصائية عليها ( الرقابة والمؤسسات الرسمية ) ومع ذلك يقدم الاتحاد الكثير من الخدمات للناشرين السوريين كالمشاركة وإبلاغهم بمواعيد المعارض الخارجية” .

الأستاذ جامع بهلول صاحب دار “الحصاد” يقول (من التأثيرات التي لحقت بقطاع الطباعة والنشر توقف كثير من المطابع ومراكز التجليد عن العمل، (إما بسبب وقوعها في المناطق الساخنة، ضواحي دمشق، إذ المعروف أن أكثر المطابع تتواجد في الضواحي)، فمنها ما تعرض للتدمير ومنها ما توقف لعدم قدرة أصحابها للوصول إليها، تعرّض الكثير من مستودعات دور النشر للتلف أو الحرق، الحظر الذي فُرض على الناشرين السوريين من قبل عدة دول عربية مما تسبب بإغلاق أسواق مهمة أمام الناشرين السوريين ، تعطُّل السوق المحلية لأسباب عدة ناجمة عن الحرب: (انخفاض القيمة الشرائية الحاد عند القراء وانهماكهم في تأمين مستلزمات الحياة الأخرى الضرورية، إغلاق كثير من المكتبات في أغلب المحافظات)، الحالة النفسية والقلق الذي يسيطر على القراء.

أما عن الصعوبات التي واجهت دار الحصاد فيقول الأستاذ جامع “أهمها إحراق المستودع الرئيسي للدار والذي كان يحتوي معظم الإصدارات الحديثة ولم يبق منها سوى ما كان قد أرسل للمعارض الخارجية، وفقدان القسم الأكبر من البلاكات المعدنية لقسم كبير من الإصدارات سواء ما كان منها في مستودع الدار الذي أُحرق أو في المطابع التي تعرضت للتخريب أو تلك التي لم يُعرف مصيرها حتى الآن، وفقدان البلاكات المعدنية تسبب في إعاقة كبيرة في إعادة طباعة الكتب التي أُحرقت، أيضا ًفقدان كميات من الورق ــ (لثلاث كتب، مع مجموعة كتب أطفال) ــ الذي كان قد وُضع في إحدى المطابع التي لم يُعرف عنها أي شيء منذ ما يزيد عن أربع أعوام، ويُضاف إلى ذلك التأثيرات العامة التي أصابت الغالبية من الناشرين .هذه العوامل خلقت لنا إرباكاً في متابعة المعارض الخارجية، وبالإجمال تزيد الخسائر التي تعرضت لها الدار عن 20 مليون ليرة بالتقييم الراهن لليرة”.

وعن قوانين الحماية “حتى الآن لا أعلم إن كانت هناك قوانين خاصة لحماية الناشرين وتأمين دور النشر والمطابع” وعن العناوين التي أصدرتها دار الحصاد في السنوات الأخيرة يقول: “بقيت اصدارات الدار في السنوات الأخيرة بنفس الاتجاه العام للدار، لكننا أصدرنا عنواناً واحداً فقط (رواية) تدور عن الأحداث الجارية في سورية”، وعن إمكانية اصدار منشوراتهم الكترونيا ” نفكر بإصدار بعض كتبنا إلكترونيا كمرحلة أولى لمعرفة مدى نجاحها” وعن العناوين التي تلقى نجاحا “الدراسات النقدية في الفكر والتاريخ والدين، الصادرة عن الدار تلقى رواجاً مقبولاً. وعن طريقة البيع وتوزيع منشورات الدار، “يتم البيع المباشر لإصدارات الدار داخلياً بالتعامل مع بعض المكتبات، التي ما زالت تمارس نشاطها وبخاصة في المدن الساحلية ومدينة دمشق، وتضع الدار أسعاراً خاصة بلا ربح للداخل، وأما في الخارج، فقد قلّت مشاركة الدار في المعارض الخارجية خلال الأعوام الثلاث الأولى من الأزمة، بسبب ما تعرض له مخزون الإصدارات، ومع نهاية عام 2014 عادت الدار إلى سابق عهدها بالمساهمة بالمعارض الخارجية”

وعن رأيه بدور اتحاد الناشرين السوريين “تجربة اتحاد الناشرين السوريين تجربة فتية وجاءت الأحداث فحدّت من نموها بالشكل المطلوب”

وعن وضع توزيع الكتب يقول “تتراجع عملية توزيع الكتاب سواء بداخل البلاد (سورية) وخارجها لأسباب عديدة، منها حالة التوتر وعدم الاستقرار التي تعانيها المنطقة العربية، ومن الصعب تنشيطها في ظل ظروف كهذه إذ يصعب أي تقدم في هذا الاتجاه قبل أن يحدث الاستقرار بكل معانيه (السياسي والاجتماعي والمادي ) إذ لا أحد يُعير أذنا لأي اقتراح الآن بشأن تطوير وتحسين عملية التوزيع”.

طرطوس

أما في مدينة طرطوس الساحلية وهي إحدى المدن المستقرة والتي استقبلت عدداً كبير من النازحين خاصة من مدينتي حمص وحلب ، يوجد فيها بعض دور النشر مثل “دار عروة” للكاتب علي ديبة، ولم تطبع كتابا منذ سنتين، ودار “الأعراف” و يطبع فيها كتاب كل عدة أشهر ودار “قرطاج” وتعمل مع نقابة المحامين حيث تطبع مشاريع أستذة ومرافعات لم يُطبع فيها كتاب خاص منذ سنين. وفي صافيتا “دار الغانم” للشاعر والناشر غانم بو حمود.

الدار الأكثر شهرة في طرطوس والتي تعمل بشكل منتظم وتقوم بإصدار الكتب الأدبية والفكرية هي دار “أرواد” لصاحبها الشاعر الأستاذ أحمد .م. أحمد وحول تأثير الحرب على قطاع الطباعة والنشر يقول:” كأي قطاع آخر، تأثرت مهنة الطباعة والنشر بالحرب، إذ ارتفعت أسعار المواد الطباعية ارتفاعاً خيالياً، وبالتالي أثرت على تكاليف إنتاج الكتاب، إن كان الكتاب المطبوع على نفقة كاتبه، أو الكتاب الذي تتبناه الدار، وفي الحالة الثانية توقفت الدار عن تبني أي كتاب للأسباب السالفة التي أضيفت إليها صعوبات التوزيع، وصعوبات الحصول على المواد اللازمة للطباعة كالورق والأحبار و البلاكات ومواد التجليد بالإضافة إلى غلاء هذه المواد كما أسلفتُ أعلاه، وصعوبات الشحن، انقطاع الكهرباء والإنترنت، وهناك صعوبات تتعلق بالتسويق وضعف الطلب على الكتاب.

وحول واقع القراءة اليوم يقول أحمد “تدنتْ نسبة القراء التي كانت أصلاً متدنية، ربما بسبب غلاء الكتاب، وربما بسبب حالة (العدم) التي سيطرت على القراء، وربما لتدني مستوى الأدب بشكل عام، لكن لا يزال هناك جمهور لبعض أجناس الأدب، كالشعر المحكي والرواية العربية والمترجمة.

وعن وجود قوانين تحمي الناشرين في سوريا ودورهم ومطابعهم أجاب “لا أظن أن هناك قانوناً يحمي دور النشر والمطابع. فقد عثرتُ على مؤلفات الأديب عصام حسن وقد نسخت على آلة (الريزو) في مكان ما وبطبعة رديئة عن الأصل المطبوع (أوفست) الصادر عن دارنا، دون حسيب ورقيب”.

وعن عناوين الكتب التي أصدرتها دار ارواد في السنوات الأخيرة، يقول: ” لا عناوين تختلف عما قبل الحرب، باستثناء عناوين عن الإرهاب، وداعش. وربما تأثرت بقية الكتب بهذه الحرب لتحمل أغلفتها عناوين كئيبة وسوداوية، ما يشبه دواخلنا جميعاً على الأرض السورية”.

وإن كانوا قد فكروا بإصدار منشوراتهم إلكترونيا؟ يقول “لم يحدث أن نشرنا إلكترونياً، لكن بعض الكتاب يحولون كتبهم إلى إلكترونية بعد نفاد الطبعة الورقية. وتعتبر تجربة البيع إلكترونياً غير مأمونة بسبب عدم وجود قوانين صارمة تحفظ حقوق الملكية الفكرية.

وحول مجال اهتمام الدار و عملية اختيار مخطوطات الكتب يقول:
“تهتم الدار أولاً بالنتاجات الأدبية المكتوبة قبل المترجَمة. وهناك تركيز على التجارب الجديدة الجريئة في الشكل، ومَيل إلى قصيدة النثر على وجه الخصوص، من حيث أن قصيدة النثر تعرضت لـ (الاستسهال)، فغدت بحاجة إلى تشجيع الشعراء الجدد المجيدين في هذا الفن لأن ينشروا قصائدهم ويدخلوا الميدان في مواجهة الغثاثة والاستسهال. وفي الاختيار، هناك سوية لا نحيد عنها لدى اختيار الكتاب، ولستُ وحدي من يقرر، فهناك أصدقاء عديدون أستشيرهم في مدى جودة هذا النتاج أو ذاك.

وعن تجربة اتحاد الناشرين السوريين يقول” لا أعرف عن هذا الاتحاد أي شيء. ولست عضواً فيه حتى الآن”. وحول عملية توزيع الكتاب داخل وخارج سوريا وما إذا كان لديهم اقتراحات بشأن تطويرها يقول: ” أتمنى أن تعمد (الجهات المختصة) إلى تخفيض أجور الشحن وتسهيل عملية مرور الكتاب عبر المنافذ الحدودية، وأيضاً تخفيض الرسوم الجمركية على المواد الطباعية التي تدخل في صناعة الكتاب، وربما، حين تتماثل البلاد للشفاء، أن يتمّ دعم هذا المنتَج الآيل للانقراض، مالياً وإعلامياً. أهو نوع من الحلم؟!!

اللاذقية

في اللاذقية عدد من المكتبات التي تبيع آخر إصدارات الكتب أهمها مكتبة “بالميرا”، و”مجد” و”بيطار” ودار نشر وحيدة تعمل بشكل منتظم وهي دار “الحوار” تقوم بإصدار كتب فكرية وأدبية عربية ومترجمة، يقول مديرها الأستاذ نشوان حسن: “الصعوبات التي تعانيها الدار خلال سنوات الحرب هي ارتفاع أسعار تكاليف الطباعة وارتفاع سعر الورق و أجور الشحن. تعتمد الدار على المعارض الخارجية في تسويق وبيع إصداراتها، أما بالنسبة للسوق الداخلية فقد انخفض المبيع بنسبة 80 % ، كما نعاني كناشرين من خسارة بعض الأسواق الخارجية بسبب الحصار والعقوبات المفروضة على السوريين من بعض الدول.

بالنسبة للعناوين التي تصدرها الدار لم تختلف بعد الحرب، ونحن نصدر من 30 إلى 35 عنوانا ً جديداً كل عام، كما نقوم بإعادة طباعة 30 إلى 35 عنوانا ً قديما ً، تعمل الدار بشكل منتظم .

حلب

الأستاذ محمد عبد المنعم صاحب دار نشر (عبد المنعم) في مدينة حلب ( في المناطق التي تحت سيطرة الدولة) وهو لايزال مقيما في حلب ويذهب إلى داره يوميا يقول: “إن النشر منذ بدأت الحرب والحصار على مدينة حلب هو، 0% ، و هذه الحال تشمل جميع دور النشر العشر التي كانت ناشطة في حلب قبل الحرب، فدار “عبد المنعم” للنشر كانت تطبع قبل الحرب من أربعين إلى خمسين عنوانا ً في كل عام، وهي تهتم بالأدب المحلي والمترجم والفكر، لكنها منذ أربع سنوات لم تصدر أي عنوان، ننشر في دار “عبد المنعم” لكتّاب من حلب بشكل أساسي وبنسبة جيدة لغير ذلك، وحول دور النشر الأخرى في حلب يقول ( يوجد بحلب حوالي عشر دور نشر عاملة ،كما يوجد دور نشر كثيرة مرخصة لكنها غير عاملة) وحول الدور الأكثر شهرة في حلب يقول: (أشهر دور النشر دار شعاع وهي متوقفة عن العمل، و دار الإنماء الحضاري لكن توفي صاحبها وتوقفت، و دار القلم العربي وهي شبه متوقفة”.

وعن واقع القراءة اليوم يقول ” القراءة تحتاج إلى مناخات خاصة وهذه المناخات لم تكن متوفرة ﻻ قبل اندلاع الحرب و ﻻ بعدها، اليوم الناس في مدينتي تبحث عن لحظة حياة”.

وحول تدمير المطابع ودور النشر أثناء الحرب يقول الأستاذ عبد المنعم “نعم لقد دمر عدد من دور النشر والمطابع والمستودعات ، وبسبب الحصار الطويل المدينة تتهالك على كل الأصعدة”
ولدى سؤالنا حول قوانين تأمين يمكن أن تعوض أصحاب الدور والمطابع الخاصة المدمرة أو قوانين تأمين خاصة بالناشرين يقول ” لا ، لم اطلع على أي قوانين للتأمين أو الحماية”..

وحول رأيه بتجربة اتحاد الناشرين السوريين يقول: “شخصيا لم أنتسب له ولم تعجبني بنيته: “ليس لدى اﻻتحاد أي حالة تعبيرية عن منتسبيه، وهو غير معبر عن جميع الناشرين، بالإضافة لأمور أخرى لها علاقة بمركزيته”.

وعندما توجهنا بالسؤال لرئيس اتحاد الناشرين السوريين هيثم الحافظ إن كان الاتحاد قد قام بحصر الخسائر المادية التي لحقت بدور النشر ومستودعاتها، قال:

“لم نتمكن من القيام بالعمل على أي إحصاء لحصر الأضرار الكبيرة التي وقعت لدور النشر ولمستودعات الكتب وغيرها بسبب الحرب حتى الآن ولا يمكننا القيام بذلك حتى تنتهي الحرب “. وعن الصعوبات التي تواجه الناشرين السوريين: ” جميع أصحاب دور النشر يعانون من صعوبات دخولهم ومشاركتهم في معظم الدول بسبب العقوبات المفروضة على كل من يحمل جواز سفر سوري، نحاول مساعدتهم باستصدار تأشيرات خروج و بترتيب مشاركة من يرغب منهم بالمعارض الخارجية “

وعن تأثيرات الحرب الأخرى على واقع الثقافة السورية يقول:

“للحرب جانبين سلبي تحدثنا عنه سابقاً وإيجابي، الجانب الايجابي هو ظهور جيل جديد من الكتاب على الساحة الثقافية بسبب خروج عدد كبير من الأسماء المعروفة التي كانت مكرسة من قبل وسائل الاعلام لسنوات طويلة “.

قطاع التعليم

بالنسبة للقطاع التعليمي:

يقول السيد عبد الحليم غنوم مدير مركز المنار للكتاب MBC الوكيل الحصري لدار نشر ماغروهيل (MCGraw-Hill) التي تقوم بدعم وتوريد الكتب لمعظم المؤسسات التعليمية في سوريا: أهم تأثيرات الحرب على المركز كانت بانخفاض نسبة مبيعات و توزيع الكتب التعليمية بنسبة 75% بسبب إغلاق عدد كبير من المدارس والجامعات الخاصة في كل من دمشق وحلب وحمص، حيث كانت تقع هذه المؤسسات بالقرب من المدن الرئيسية واغلقت بسبب الحرب ولأن عدداً كبيراً من الطلاب والأساتذة هاجر إلى خارج البلاد.

جولة على المكتبات الدمشقية

في الحلبوني:

يقول عمر النوري صاحب مكتبة النوري إحدى أكبر المكتبات في دمشق: “لقد انخفض مستوى القراءة وهو قليل أصلا بنسبة 75% بعد الحرب، والكتب التي تباع قليلة جدا، وهي في معظمها روايات، تبيع المكتبة عناوين مختلفة من كتب التاريخ والفلسفة والقانون وعلوم ولغات، وغيرها، لكن الطلب يكون عادة على الروايات والكتب التي يحتاجها الطلاب في المناهج الجامعية فقط والقوانين السورية التي تقوم دار النشر الملحقة بالمكتبة بنشرها، والتي تهم المواطنين السوريين والمحاميين . كما يقول السيد عمر إن مستودعات المكتبة في حرستا قد دمرت ولا يعلمون عنها أي شيء منذ اندلاع الاحتجاجات والاشتباكات العسكرية، ولا يوجد أي قوانين تأمين تحمي أو تعوض أصحاب المكتبات أو دور النشر أو المطابع في سوريا وكل ما دمر في الحرب يُعتبر أنه دمر بعمل إرهابي وأي شيء يدمر بعمل ارهابي أو تفجير هو غير محمي بالقوانين السورية ولا يطاله أي تعويض تأميني، بسبب هذه الظروف قام العديد من أصحاب المكتبات بتحويل مكتباتهم إلى متاجر تبيع أموراً أخرى غير الكتب.

وحول الإقبال على شراء الكتب يقول أصحاب بعض المكتبات الأخرى كمكتبة الفارابي، وغيرها: إن هناك إقبالاً جديداً، لكنه ضعيف على شراء كتب البرمجة العصبية.

بالنسبة إلى المكتبات التي تبيع المواد الخاصة بالفنانين وبطلاب كليات الفنون من ألوان، وغيرهاكمكتبات (حكيم وألوان والاطلال) تراجعت بنسبة كبيرة جدا تفوق 75% ويعزو أصحاب المكتبات والمتاجر ذلك إلى هجرة معظم الفنانين والشباب، وغيرهم، من البلاد. وإلى الصعوبة الكبيرة في استيراد المواد من خارج البلاد بسبب الحصار الاقتصادي وارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة السورية الذي خفض القوة الشرائية لليرة فعكف الناس عن شراء أي شيء غير الأشياء الضرورية للحياة من طعام وحاجات ضرورية جدا تساعدهم على الاستمرار في العيش داخل البلاد، وكذلك كان الأمر بالنسبة لأصحاب المتاجر التي كانت تورد الأحبار ومستلزمات الطابعات لمؤسسات الدولة والأفراد والذين مع من سبقهم تعرضوا لخسائر فادحة بسبب دمار مستودعاتهم في الأرياف المحيطة بدمشق والمدن الرئيسية التي كانوا يحفظون فيها موادهم لأن أجور المستودعات هناك منخفضة أكثر من أجور المستودعات داخل المدينة معظم هذه المستودعات دمر بالكامل ولا تعويضات قدمت لهم حتى الآن.

المناطق الشمالية خارج السلطة الرسمية للدولة السورية

اندلعت الحرب وخرجت كثير من المناطق عن سلطة النظام السياسي في دمشق. تعقدت الأمور وتعددت السلطات الحاكمة على الأرض في معظم المناطق الشمالية أحرقت المكتبات وقصفت المراكز الثقافية بسبب اتخاذها مراكز للمجموعات المسلحة المتصارعة على الأرض، وأحكمت العديد من القوى قبضتها على مناطق محددة حاولت السيطرة على كل من فيها ومنعت دخول أي شيء إلا تحت مراقبة شديدة وخاصة الكتب والمنشورات، أي منشور كان. تغير نمط ما كان ينشر ويوزع من صحف الدولة الرسمية، وغيرها، وكل ما كان سائداً في زمن ما قبل الحرب ( ما قبل الثورة على النظام السياسي الحاكم) أحرق وأصدرت بدلاً منه صحف جديدة تعنى بالواقع السوري الجديد بعد الثورة وتهتم بالشأن الإنساني والسياسي والواقع اليومي لتلك المناطق، لكن في مرحلة ما حتى هذه الصحف توقفت كما حدث عند دخول الدولة الإسلامية في العراق والشام الى مدينة الرقة مثلاً، والتي أصبحت تمنع كل ما تعتقد أنه يخالف الشريعة، في مناطق أخرى كما في مدينة كوباني (عين العرب) الكردية تسلمت زمام الأمور ما يطلق عليه (الإدارة الذاتية الكردية) والتي يفضل معظم مثقفو كوباني تلقيبها بـ”سلطة الأمر الواقع”، لأنها جاءت دون انتخاب وفُرضت على الأكراد السوريين، وهي تمارس أشد أنواع الرقابة على كل ما يدخل على المناطق الكردية التي تتحكم بها ككوباني وعفرين، وغيرها، وتمارس المنع والإقصاء لكل ما لا يوافقها، معظم ما ينشر في الشمال ويوزع يطبع خارج الحدود السورية في تركيا ويدخل للمناطق والمدن الشمالية، سنعرض لواقع النشر و القراءة والثقافة وماحل به من تغيرات من خلال حوارات قصيرة مع مثقفين وصحفيين من أبناء هذه المناطق.

في مدينة الرقة

يقول الأستاذ الصحفي يوسف دعيس: (لم يكن في الرقة قبل الثورة أي دار نشر حقيقية بالمعنى الحقيقي للكلمة، كان هناك عدد من المطابع اثنتان أضيف إلى عملهما مسألة نشر الكتب وهما مطبعة الاتحاد وكانت قد طبعت عدد من الكتب لا يتجاوز العشرة ، ومطبعة البلاغة واهتمت قليلاً بطباعة الكتب أيضاً لم يتجاوز عدد مطبوعاتها أصابع اليد، وكان هناك دار واحدة للنشر اسمها “الفرات”، ولكنها لم تطبع سوى عدد محدود من الكتب، معظم الكتب كان تتم طباعتها في حلب وحمص ودمشق واللاذقية وبيروت واستثناءات قليلة لكتاب كبار تما طباعة كتبهم في مصر أو أوروبا.

أما بالنسبة للقراءة يقول الأستاذ يوسف كان هناك مكتبة كبيرة في مديرية الثقافة تحتوي أكثر من 30 ألف عنوان تم تدميرها على يد سلاح الطيران وحرقها بالكامل في شهر 3 عام 2013 ، وهناك أيضاً مكتبة اتحاد الكتاب ولم تكن للقراءة كانت لبيع الكتب فقط، وهي مكتبة كبيرة تحتوي منشورات اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة تم حرق كتبها وبيع بعضها بواسطة إحدى الكتائب الإسلامية أظن من قبل جبهة النصرة قبل توغل الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وكان هناك عدد من المكتبات الكبيرة التي تبيع الكتب أهمها مكتبة الشهيد ومكتبة السلام وأقدمها بور سعيد وأيضاً هناك مكتبتان أو ثلاث: “اقرأ” و”لفردوس”، بالنسبة للصحف كانت تصدر في الرقة صحيفة واحدة اسمها “الرافقة” عن مديرية الثقافة تهتم بالأدب والثقافة والفكر وهي نصف شهرية.

بعد الثورة قامت شخصيات ثقافية وسياسية وإعلامية بإصدار عدد من المطبوعات منهم أنا واثنان من أصدقائي أصدرنا صحيفة تحت اسم “منازل” أصدرنا منها 12 عدداً، و صدر بمبادرات شبابية أكثر من 20 مطبوعة أسبوعية ونصف شهرية أهمها “منازل” و”ثوري أنا” و”كلمة حرة”)، لكن توقف كل شيء عند سيطرة ( داعش) على المدينة.

في كوباني (عين العرب)

يقول الأستاذ محمد علي أحمد وهو مدرس وصحفي من أبناء كوباني: قبل المعارك، واستلام سلطة الأمر الواقع (حكم الإدارة الذاتية الكردية) لكل شيء في كوباني، كان هناك مركز ثقافي عربي تابع لوزارة الثقافة السورية، فيه مكتبة تعد من أكبر مكتبات حلب، ومنهل لطلاب العلم والثقافة، إضافة إلى وجود حركة ثقافية نشطة، من خلال الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني الحديثة العهد، إضافة إلى العديد من المكتبات الخاصة الغنية لبعض المثقفين.

لكن بعد استلام سلطة الأمر الواقع، يمكن تقسيم الأحوال إلى مرحلتين: الأولى قبل دخول (داعش) إلى المدينة حيث بدأت سلطة الأمر الواقع بالتضييق على كافة مناحي الحياة، ومنها الثقافية وقامت بمحاولة احتكار كل شيء، وتلوينه بصبغتها الخاصة ، ووضعت يدها حتى على المركز الثقافي. الثانية بعد دخول (داعش) إلى كوباني فقد دمرت المكتبات الخاصة، وتعرض المركز الثقافي لأضرار كبيرة، كذلك مكتباتها فقد أتلفت أعداد كبيرة من الكتب، والأهم من ذلك، غادر كوباني الغالبية العظمى من المثقفين لذلك، الثقافة والكتاب في كوباني حالياً بلون واحد ورائحة حزبية واحدة، وهم إما لجأوا إلى أوروبا أو لم يعودوا من النزوح، فمع هجوم داعش نزح أهالي كوباني إلى تركيا بينما نزح قسم صغير إلى إقليم كردستان العراق، وبعد إخراج داعش من المدينة عاد حوالي نصف السكان، لكن المثقفين وغير المقتنعين بفكر سلطة الأمر الواقع، ومن لهم فرصة العيش بمكان آخر لم يعودوا، بالنسبة إلى دور النشر في كوباني يقول محمد:

“لم يوجد دور نشر في كوباني أو مطابع رسمياً، لكن بالسر يوجد بعض المطابع فقط، تصدر منشورات حزبية تابعة لسلطة الأمر الواقع ولا شيء آخر، هناك رقابة شديدة على الكتب التي تدخل إلى المدينة أما بالنسبة للإنترنت فلا يوجد سوى الانترنت التركي فقط بحكم أنها منطقة حدودية، أما بالنسبة لواقع القراءة الآن لا أحد يقرأ سوى منشورات الفيسبوك إلاّ من رحم ربي ووجد كتاباً.

وفي المناطق الأخرى في الشمال التي أصبحت خارج سلطة النظام السياسي في دمشق يقول محمد “المناطق التي تحت سيطرة (داعش) صورة طبق الأصل عن مناطقنا، مع تغيير اسم سلطة الأمر الواقع بالنسبة للمناطق الأخرى، كل منطقة لها خصوصيتها حسب الكتيبة العسكرية التي تحكمها، في المناطق الأخرى النشر والطباعة شبه متوقفة. كل ما ينشر اليوم ينشر في تركيا ولا يدخل من هذه المنشورات إلا ما يُسمح بدخوله من البوابات. هناك رقابة شديدة على المنشورات من المتحكمين بالبوابات، ففي المناطق التي تسيطر عليها داعش، تحولت أغلب المراكز الثقافية إلى مقرات أو محاكم للتنظيم، لذلك قصفت، كما حدث في مناطق كجرابلس ومنبج والباب.

جميع الصحف والجرائد والمجلات السورية التي توزع في الشمال تطبع بتركيا، يمكن القول إن المجتمع المدني السوري انتقل إلى تركيا ولبنان بل وتطور أيضاً، لأن هنا بتركيا ولبنان مجالات أوسع للنشر والتواصل والتوزيع، وحتى التمويل عن طريق المنظمات الدولية،
وحول عدد المنشورات التي تدخل تلك المناطق يقول “قسم قليل، حسب مشيئة من يتحكم بالبوابة، التي تتحكم بها فصائل إسلامية أو كردية ويسمح بدخول المنشور من صحف وغيرها إذا كان مضمونه لا يحتوي ما ينقد الفصيل المتحكم بالبوابة”.

صدرت في المناطق الشمالية عدة منشورات منها مجلة ” سنابل” من الحسكة و مجلة “فانوس” وتصدر من عامودا بالعربية والكردية والسريانية ومجلة “ربيع”، وتصدر عدة مجلات في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق منها “خويبون” رئيس تحريرها جان بابير كما أنشأت نقابة للصحفيين الكورد السوريين تحت رعاية وزارة الإعلام في إقليم كردستان العراق تقيم دورات للصحفيين الناشطين من كرد وغيرهم..

خارج الحدود

في دول الجوار

بدأت حركة نشر سورية واسعة خارج حدود الوطن بداية من دول الجوار إلى دول المهجر واللجوء البعيدة ففي تركيا صدرت عدة منشورات منها جريدة “تمدن” وتصدر من اسطنبول وتوزع على السوريين في تركيا وفي الداخل السوري يرأس تحريرها الصحفي “دياب سرية”. مجلة “تواصل” كان يرأس تحريرها الكاتب والصحفي السوري نجم الدين السمان توقفت بسبب صعوبات التمويل، مجلة “حنطة” وكان رئيس تحريرها الصحفي ناجي الجرف الذي قتل برصاصة مسدس كاتم للصوت في مدينة غازي عنتاب التركية، وصحيفة (كلنا سوريون) ورئيس تحريرها الأستاذ بسام يوسف التي تصدر من تركيا يقول: “نحن صحيفة مطبوعة وإلكترونية نطبع ورقياً ولدينا موقع إلكتروني. نوزع في تركيا ونسبة القراءة جيدة هنا لأن الحدث السوري ساخن ومتغير يوميا، ولأننا نوزع جريدتنا مجانا ً، نطبع كل عدد 7500 نسخة يوزع منها داخل سوريا 4200 عدد والباقي يوزع في تركيا، وعند سؤالنا إن كانت صحيفتهم قد منعت من عبور الحدود، يقول: “نعم أغلب الصحف تمنع من الدخول أحيانا جريدتنا مُنعت أكثر من خمس مرات، لكن نعود للمحاولة أكثر من مرة وننجح في النهاية.
وصدرت في الأردن عدة منشورات لناشرين سوريين منها جريدة “الكرامة” وتصدر في عمان توزع في الداخل السوري خارج سلطة الدولة الرسمية في المناطق الجنوبية ودرعا وريف دمشق، ومجلة “بناة المستقبل” ويرأس تحريرها الدكتور رياض نعسان آغا.

وفي القاهرة تصدر جريدة “سوريا اليوم” وهي سياسية ثقافية يومية يشرف عليها شباب سوريون.

في الدول الأوروبية

في ألمانيا صدرت جريد “أبواب” وهي أول صحيفة يصدرها لاجئون سوريون في ألمانيا، وهي صحيفة سياسية ثقافية مجتمعية مستقلة، و توزع مجاناً و تصدر شهريا. تم إصدار 45 ألف نسخة من عددها الأول وتوزع بالتعاون مع وزارة الهجرة في المخيمات الرئيسية، وأماكن وجود اللاجئين السوريين والعرب، وهي مكونة من 20 صفحة تتضمن الأخبار الدولية والمحلية، كذلك تتضمن أخبار السكان العرب داخل ألمانيا، وتهتم أيضاً بتقديم المعلومات للوافد الجديد إلى ألمانيا، من خلال ترجمة بعض القوانين وبعض بنود الدستور الألماني إضافة إلى اطلاعه على مواضيع الدراسة في ألمانيا بما فيها دورات اللغة”. و”تخصص صفحات للمرأة والنسوية، وإضاءات على قصص النجاح والنجاة والأمل… هذه المواضيع التي يحتاج إلى سماعها السوري القادم إلى ألمانيا”.

وفي السويد ومن مدينة ستوكهولم تصدر مجلة السلام الدولية لصاحبها صبري يوسف، وهي مجلة أدبيّة ثقافيّة فكريّة فنّية سنويّة مستقلة صدر منها حتى الآن ثلاثة أعداد.

خاتمة

من خلال بعض الحوارات و محاولة رصد ما تيسر من الواقع الحالي للنشر في سوريا نلاحظ أن هناك واقعين مختلفين أنتجتهما سنوات الحرب:

الأول: حالة إرباك كبيرة تعيشها معظم دور النشر السورية الموجودة في الداخل السوري، والتي لم ينج منها إلا القليل الذي كانت مستودعاته تقع داخل أماكن مستقرة، أما الباقي وهم النسبة الغالبة فقد تعرضوا لخسائر فادحة، تحاول بعض الدور الصمود من خلال مشاركتها المحدودة في المعارض الخارجية، حيث أغلقت الكثير من الأسواق في وجهها بسبب العقوبات والحصار، بالإضافة إلى السوق الداخلية التي أصبحت شبه متوقفة بسبب الأحوال المعيشية الصعبة جدا، وهجرة عدد كبير من المثقفين والقراء خارج البلاد.

الثاني: في المقابل هناك واقع آخر نتج عن الحرب وهو نشاط المثقفين السوريين خارج البلاد والذي ترجم بصدور عشرات المنشورات الجديدة التي تواكب تطور الحدث السوري بكل تنوعاته و أحوال السوريين في الداخل والخارج، وبالتالي يحاول المثقف السوري أن ينتج فضاءً ثقافياً جديداً، رغم كل الصعوبات التي يواجهها المثقفون من أصحاب المشروع المدني خاصة من ناحية التمويل لمجلات تعنى بالشأن الإنساني والثقافي بالدرجة الأولى، وخاصة المثقف السوري المستقل الذي يحاول أن يعمل على القضايا الإنسانية والفكرية بعيداً عن تجاذبات الأقطاب السياسية.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]