نصيحة لأميركا في سويا: الصبر الاستراتيجي

نصيحة لأميركا في سويا: الصبر الاستراتيجي

كشفت اجتماعات كبار المبعوثين والخبراء بالملف السوري في بروكسل، قبل يومين، عن وجود فجوة في الأولويات بين واشنطن من جهة، وعواصم أوروبية وبعض الدول العربية من جهة أخرى، وسط دعوة اوروبية لـ«الصبر الاستراتيجي»، الأمر الذي دفع المبعوث الأميركي للملف السوري، إيثان غولدريش، إلى ضبط إيقاع التنسيق بين الحلفاء عبر سلسلة اجتماعات، وتأكيده أن واشنطن «لن ترفع العقوبات عن دمشق»، و«لن تطبع» معها، و«لن ترسل إشارات خاطئة» لها.

– 3 اجتماعات

عقدت ثلاثة اجتماعات في بروكسل يومي الأول والثاني من ديسمبر (كانون الأول) الحالي: الأول، اجتماع للمبعوثين والخبراء الأجانب في مركز أبحاث أوروبي؛ والثاني، اجتماع المبعوثين العرب والغربيين وتركيا للملف السوري بدعوة أميركية، في ظل غياب الإمارات؛ والثالث، اجتماع كبار الموظفين على هامش مؤتمر التحالف الدولي ضد «داعش».

وسبق أن عقد اجتماع وزاري بشأن سوريا على هامش مؤتمر التحالف ضد «داعش» في روما، في 28 يونيو (حزيران) الماضي. ووقتذاك، ركز وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن على 3 أولويات لأميركا في سوريا، هي: منع عودة «داعش»، ودعم المساعدات الإنسانية، وتثبيت وقف النار. ولم توافق أميركا -وقتذاك- على اقتراحات تضمين البيان الختامي موقفاً واضحاً ضد «التطبيع»، أو ضد الانتخابات الرئاسية في سوريا، لأنها كانت تراهن على الحوار السري مع روسيا للاتفاق حول تمديد قرار المساعدات الإنسانية.

منذ ذلك الوقت، حصلت تغييرات في واشنطن، بينها انتهاء المؤسسات الأميركية من مراجعة سياساتها بشأن سوريا، والوصول إلى 5 أهداف، هي: منع عودة «داعش»، ودعم المساعدات الإنسانية، ووقف النار الشامل، والمساءلة والمحاسبة في سوريا، ودعم العملية السياسية بموجب القرار (2254). يضاف إلى ذلك أهداف ملحقة: الأول، دعم الحوار بين الأكراد أنفسهم، وبين الأكراد ودمشق برعاية روسية – أميركية؛ وتقديم الدعم اللوجيستي للغارات الإسرائيلية ضد «مواقع إيران» في سوريا؛ والإغارة على قياديين في «القاعدة».

أيضاً، بين الاجتماع الوزاري في روما ولقاء المبعوثين في بروكسل، عقدت 3 جلسات غير معلنة بين مبعوثي الرئيسين فلاديمير بوتين وجو بايدن في جنيف، أسفرت عن الاتفاق على تمديد قرار المساعدات «عبر الحدود» و«عبر الخطوط»، مقابل موافقة واشنطن على تمويل «التعافي المبكر» للأمور الإنسانية.

وبدأت دول عربية خطوات انفتاح نحو دمشق، وعقدت لقاءات سياسية رفيعة، فيما عادت واشنطن إلى لعب دور قيادي في ملف المساءلة في مجلس الأمن، ودعم دول أوروبية محاكم وطنية لملاحقة متهمين بـ«جرائم ضد الإنسانية».

– ماذا قال المشاركون؟

في اجتماع المبعوثين والخبراء، جرى تقديم قراءة للوضع الميداني في سوريا، ثم قدم كل مبعوث موقف بلاده. وحسب المعلومات، فإن الفجوة كانت واضحة بين موقف غولدريش ونظرائه الأوروبيين والعرب. بداية، انتقد مبعوثون أوروبيون فرض أميركا على دولهم أولويات تمويل المساعدات، خصوصاً في ظل «غياب الدور القيادي الأميركي»، إضافة إلى عقد أميركا اتفاقات مع روسيا من «وراء ظهرهم»، خصوصاً قرار تمديد المساعدات الإنسانية.

وقال مبعوثون أوروبيون إن دولهم هي «المجاورة لسوريا»، وستضع أولوياتها، بحيث إنها لن ترفع العقوبات عن دمشق، ولن تغير موقفها. وقال أحدهم: «لن نصرف أموالاً على النظام»، رداً على اقتراح أحد المشاركين «التطبيع مع الواقع» و«قبول أن النظام باقٍ».

وكان الرد من المعسكر الأوروبي تجديد الدعوات إلى «الصبر الاستراتيجي» في التعاطي مع الملف السوري، الأمر الذي لم يعد موجوداً لدى دول عربية مجاورة. كما استند ممثلا ألمانيا وفرنسا إلى تجربة بلادهما للحوار مع روسيا، للقول بضرورة «تحرك روسيا أولاً». كما ظهرت دعوات للتمسك بأدوات الضغط الثلاث على دمشق – موسكو: العقوبات، والعزلة، والإعمار.

– ما هي المطالب من دمشق؟

بعد الاتصالات الثنائية التي أجراها المبعوث الأميركي مع نظرائه، وبعدما سمع في اجتماع مركز الأبحاث، وأمام تشدد الموقف الأوروبي، قال غولدريش إن رفع العقوبات عن دمشق ليس على طاولة الحوار مع روسيا، وإن بلاده ضد التطبيع مع دمشق، وإن ما تفعله هو تقديم إعفاءات من نظام العقوبات الأميركي لأغراض إنسانية، بل إنه ذهب في بعض الأحيان إلى تقييد الاستثناءات إلى الحد الأدنى. ونقل عنه القول إن واشنطن «لن تقدم أي تنازلات للروس»، و«يجب ألا يعطي الحلفاء أي إشارات خاطئة».

وفي النقاشات، كان ممثل العراق الأكثر حماساً لرفع العقوبات عن دمشق، وعودتها إلى الجامعة العربية، فيما بدا ممثل الأردن الأكثر قناعة بمقاربة «خطوة مقابل خطوة» بين عمان ودمشق. وعندما حاول الإشارة إلى أن هذا يشمل عودة دمشق إلى الجامعة العربية، قوبل ذلك بتشدد من بعض الدول العربية التي جدد ممثلوها القول إن الظروف لم تنضج بعد، مع أن الجزائر تواصل سعيها لدعوة دمشق إلى المؤتمر في مارس (آذار) المقبل.

القرار النهائي لذلك في أيدي الدول العربية الكبرى. وبالنسبة لبعض المشاركين، قامت دول عربية بخطوات أولى، ويجب أن تقوم دمشق بخطوات من جهتها، تشمل أموراً داخلية، مثل تسهيل عبور المساعدات الإنسانية، وإطلاق سجناء، وعودة اللاجئين، ودفع عمل اللجنة الدستورية والعملية السياسية، وتثبيت وقف النار. وقيل إن هناك حرصاً على «عودة سوريا إلى الحضن العربي»، لكن هناك أيضاً توقعات بأن تقوم دمشق بخطوات معينة، بينها «ألا تكون جزءاً من الأجندة الإيرانية الإقليمية». وفهم مشاركون أن هناك احتمالاً لتعاون مع دمشق في ملفي تفكيك شبكات المخدرات ومحاربة الإرهاب و«طي موضوع إدلب»، لكن أحد المنظمين اقترح أن تتم مناقشة هذا في المؤتمر الخاص بالتحالف ضد «داعش» الذي عقد بالتوازي مع الاجتماع السوري، حيث جدد المبعوث الأميركي إلى التحالف جون كودفري الالتزام بـ«حملة هزيمة (داعش)، إلى جانب (قوات سوريا الديمقراطية)، والقوى الشريكة الأخرى التي تواصل التصدي للتهديد الذي يشكله التنظيم». وفي هذه المنصة، جرى بحث معتقلي «داعش»، وخطط توفير الاستقرار والتنمية الاقتصادية في المناطق المحررة من «داعش».

– قنبلة «التعافي المبكر»

لم يتضمن البيان الختامي للمبعوثين موقفاً توافقياً من التطبيع مع دمشق أو العقوبات، لكن الجديد هو الجدل حول «التعافي المبكر» الذي أضيف إلى القرار الدولي الخاص بالمساعدات في يوليو (تموز) الماضي، حيث بدا واضحاً أنه ليس هناك «تعريف موحد» لـ«التعافي المبكر»، وتأرجحه بين دعم مشاريع بنية تحتية واقتصاره على أمور إنسانية.

وكانت المفاجأة حصول جدل كبير بين ممثل الأردن ونظيرته الفرنسية، ذلك أن الأخيرة تشددت بضرورة القول صراحة إن تمويل مشاريع «التعافي المبكر» يجب أن تشمل فقط الأمور الإنسانية، وأن تبتعد تماماً عن البنية التحتية، علماً يأن هناك قراراً من المجلس الأوروبي يرفض «تمويل مشاريع البنية التحتية قبل حصول تقدم جوهري في العملية السياسية». ولم يكن هذا الموقف الواضح الوحيد للمبعوثة الفرنسية، بل شمل أموراً أخرى. وكان لافتاً تزامن ذلك مع قرار الخارجية الفرنسية تعيين السفيرة بريجيت كورمي سفيرة جديدة غير مقيمة للملف السوري.

وأمام الانقسام الفرنسي – الأردني، تدخل غولدريش واقترح عبارة وسطية في البيان الختامي تقول: «شددنا على ضرورة تقديم المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة بالسبل كافة، بما في ذلك مشاريع الإنعاش عبر الحدود وعبر الخطوط، وكذلك مشاريع الإنعاش المبكرة المتوافقة مع قرار مجلس الأمن رقم (2585) في مختلف أنحاء سوريا».

– ماذا بعد؟

على الرغم من الجدل والتوتر الدبلوماسي الذي شهده اجتماع بروكسل، فإنه ساد اعتقاد بين المشاركين بأن اللقاء أظهر بدء الفريق الأميركي في بلورة أفكاره في الملف السوري، وأطلق عملية سياسية بين الدول المعنية بالملف بقيادة أميركية، الأمر الذي كان غائباً منذ أكثر من سنة، ما ذكر بعضهم بالمسار التنسيقي بين واشنطن وحلفائها الذي كان موجوداً قبل سنوات.

وهناك توقعات بأن يعقد اجتماع آخر في واشنطن بداية العام المقبل، بهدف ضبط إيقاع المواقف للدول المعنية تحت مظلة أميركية، إضافة إلى استمرار الحوار الروسي – الأميركي الذي تعززه موسكو بتنسيقها مع شركائها في مسار آستانة في مؤتمر وزاري في الـ21 من الشهر الحالي، مع حديث عن قمة بين الرئيسين بوتين وبايدن الأسبوع المقبل.

نقلا عن “الشرق الأوسط”

مصالح اللاعبين في الشمال السوري

مصالح اللاعبين في الشمال السوري

بدأ اختلاف وجهات النظر حول التعاطي مع قضية الشمال السوري يظهر بين الدول الثلاث الضامنة للقاء أستانا (روسيا وتركيا وإيران) بعد اجتماع طهران الأخير، جاء ذلك بعد تنسيق وتعاون كبير بين هذه الدول نتج عنه نجاح الخطة الروسية لوقف إطلاق النار في مناطق خفض التصعيد، ثم مساعدة الجيش السوري للسيطرة عليها، في الغوطة الشرقية وجبال القلمون الشرقية، ثم جنوب دمشق ومخيم اليرموك، وبعدها في ريف حمص الشمالي، وأخيراً في درعا في الجنوب السوري. إلا أن مصالح وأولويات هذه الدول بدأت تتعارض فيما بينها عندما وصل الأمر إلى محافظة إدلب، وخاصة بعد أن تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية عن نيّتها سحب قواتها من منطقة شرق الفرات في الوقت الراهن.

معادلة معقدة من المصالح والرغبات تدير علاقات الدول الثلاث، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم أن الحكومة الروسية تدير الحل في سوريا، إلا أنها لا تستطيع الاستغناء عن التعاون والتنسيق مع هذه الدول، فكل منها تملك أدوات مؤثرة قادرة على تعطيل الحل، وبالتالي يتحتم على روسيا المساومة وفي بعض الأحيان تقديم المكاسب لتلك الدول، مقابل تحقيق التقدم على مسار الحل في سوريا.

فلولا التعاون مع تركيا لما تمكنت روسيا من تحقيق التقدم في خطتها للحل منذ تدخّلها في سوريا، في نهاية سبتمبر/أيلول ٢٠١٥، إذ تملك تركيا العديد من المفاتيح الهامة في الداخل السوري، وخاصة في الشمال، كما ظهر واضحاً في إعادة سيطرة الجيش السوري على مدينة حلب في ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٦. بدا أيضاً التأثير التركي في جولات محادثات أستانا العشر ومناطق خفض التصعيد، وكان واضحاً في عملية ”غصن الزيتون“ في مدينة عفرين السورية، وكذلك الأمر في إنجاح ”مؤتمر الحوار الوطني السوري“ في سوتشي، والذي نتج عن كواليس تحضيره توافق دولي بشأن اللجنة الدستورية السورية.

أما تركيا فلديها مخاوف على أمنها القومي بعد تعاظم قوة حزب الإتحاد الديمقراطي PYD الكردي في الشمال السوري، والذي تضعه على قائمة المنظمات الإرهابية، ولتأمين حدودها والدخول بجيشها للشمال السوري كان عليها أن تتعاون مع الحكومة الروسية، فجرت المقايضة على تسليم مدينة حلب للنظام السوري، مقابل عملية ”درع الفرات“ التركية في مدينتي الباب وجرابلس، ومن ثم عملية ”غصن الزيتون“ في مدينة عفرين. كذلك استطاعت تركيا نشر قواتها في اثنتي عشرة نقطة مراقبة على كامل حدود سيطرة المعارضة السورية في محافظة إدلب بعد اتفاق أستانا ٤، مما جعل المنطقة بما فيها من فصائل المعارضة تابعة بشكل كامل ومباشر للمخابرات التركية، وهذا أعطاها مزيداً من أوراق القوة لتحقيق مصالحها، وربما أصبحت  تهدد وحدة الأراضي السورية خاصة في مناطق سيطرة ”درع الفرات“ و ”غصن الزيتون“.

أما التنسيق الروسي – الأمريكي، فبدأ مع التدخل الروسي في سوريا بعيداً عن وسائل الإعلام، إلا أن نتائجه ظهرت مع سيطرة الجيش السوري على مدينة درعا والجنوب السوري بعد تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن فصائل المعارضة هناك.

جاءت هذه السيطرة  بعد تفاهمات ثلاثية روسية – أمريكية – أردنية وثنائية بين روسيا واسرائيل، حيث ضمن الجانب الروسي الحفاظ على أمن إسرائيل من خلال إعادة العمل باتفاق ”فك الإشتباك“ بين سوريا وإسرائيل لعام ١٩٧٤، وإبعاد ميليشيا تدعمها إيران إلى ما وراء محور دمشق – السويداء، إضافة إلى منح إسرائيل ضوءاً أخضر لشن عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية على مصادر الخطر المحتملة عليها.

بكل الأحوال أبقت الولايات المتحدة الأمريكية قاعدة ”التنف“ جنوباً في زاوية الحدود السورية الأردنية العراقية بحجة مراقبة تنفيذ ما اتفقت عليه هذه الأطراف.  وبالعودة للشمال، سارع ”مجلس سوريا الديمقراطية“ -والذي يشكل ”حزب الاتحاد الديمقراطي“ الكردي عموده الفقري،-  لعقد لقاء في دمشق مع ممثلي النظام السوري في نهاية يوليو/تموز ٢٠١٨.

وجاء هذا اللقاء بتسهيل روسي ومباركة أمريكية، بعد إعادة سيطرة النظام السوري على كامل مناطق المعارضة في وسط وجنوب البلاد، وإثر حديث سابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أوضح فيه نيته سحب قواته من شمال شرقي سوريا بعد القضاء على “داعش،” أما ما نتج عنه فهو تشكيل لجان بين الطرفين لحل القضايا العالقة.

في ظل كل هذه الظروف المواتية، حشد النظام السوري وحلفاؤه الروس قواتهم  لحصار محافظة إدلب، آخر معقل للمعارضة في سوريا، بهدف استرجاعها، لكن الولايات المتحدة الأمريكية خلطت الأوراق و ظهرت تسريبات تفيد بأن الحكومة الأمريكية حسمت قرارها بالإبقاء على جنودها شمال شرقي سوريا، لمحاربة ”داعش“ ومنع تشكيلها من جديد، إضافة لمراقبة الوجود الإيراني في سوريا والضغط لسحب هذه الميلشيات وعودتها إلى بلادها. كما يمكن أن يستخدم التواجد الأمريكي شرق نهر الفرات للضغط نحو تحقيق حل سياسي في سوريا وتنفيذ القرار ٢٢٥٤ وإجراء إصلاحات دستورية.

أفزع هذا القرار الأمريكي الحكومة التركية، وأصبحت المصلحة التركية تقتضي التمسك بمحافظة إدلب والحفاظ على فصائل المعارضة المتواجدة فيها لحماية الأمن القومي التركي، وهذا ما عبّر عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمته الافتتاحية في قمة طهران حين قال ”إن مستقبل منطقة إدلب لا يتعلق بمستقبل سوريا فقط، وإنما يتعلق بمستقبل تركيا أيضاً، وبالأمن والاستقرار في تركيا“. ويبدو أن موقف إيران تماشى مع الموقف التركي، فمن مصلحة إيران أيضاً التخلص من التهديد الأمريكي في المنطقة، والذي يرصد كامل الحدود الشرقية لسوريا، كاشفاً الكثير من نقاط العبور والانتشار الإيراني في الداخل السوري، مما يمّكن إسرائيل من تحديد تلك الأهداف وضربها.

وهكذا اتفق الجانبان التركي والإيراني على أن تكون الأولوية لشرق نهر الفرات وليس لغربه، على الرغم من أن ذلك يتعارض مع خطة الحل الروسي في سوريا، والتي تهدف لإعادة السيطرة على كافة مناطق وجيوب المعارضة السورية بحجة القضاء على جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) قبل نهاية عام ٢٠١٨. أما مشكلة الأكراد شمال شرق سوريا، فتعتبر موسكو أنها قابلة للحل عبر الحوار بين ”مجلس سوريا الديمقراطية“ والنظام السوري، خاصة بعد الدرس القاسي الذي تلقاه الأكراد في مدينة عفرين، حين تخلّت الولايات المتحدة الأمريكية عنهم، كذلك فعلت روسيا، بعد أن رفض الأكراد مقترحاً روسياً يقضي إلى دخول الجيش السوري إلى المدينة لحمايتها من تقدم الجيش التركي وحلفائه في المعارضة السورية ضمن عملية “غصن الزيتون.”

الآن، وبعد الاتفاق التركي – الروسي الأخير حول إدلب، تتجه الأنظار نحو مناطق سيطرة القوات الكردية، ومن المتوقع أن تكون البداية من مدينة تل رفعت لاختبار مدى تجاوب الأكراد مع دمشق، وحتى اللحظة يبدو أن كفة سيطرة الجيش السوري على المدينة هي الراجحة، وذلك مع تواتر تقارير عن وصول تعزيزات للجيش السوري إلى بلدة دير جِما غرب تل رفعت، فيما تقوم فصائل المعارضة السورية التابعة لعملية ”غصن الزيتون“ بمدينة اعزاز برفع سواتر ترابية على طول الخط الفاصل بين المدينتين بغاية الحماية، فيما يبدو أنه تحضير لسيطرة قوات النظام السوري على تل رفعت.

من جهة ثانية، تعمل تركيا على استبدال عناصر جبهة النصرة بآخرين من الفصائل المعتدلة على طول حدود المنطقة الفاصلة بين سيطرة المعارضة وسيطرة النظام السوري في محافظة إدلب حتى عمق ١٥ إلى ٢٠ كم، وذلك بناء على الاتفاق المبرم مع روسيا، مما يعني هدنة طويلة الأمد في محافظة إدلب حتى تنتهي قضية شرق الفرات على الأغلب، أو يحدث أمر يُغيّر قواعد المعادلة من جديد.

يبدو أن حديث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هو الأكثر وضوحاً في هذا الشأن، فخلال مؤتمر صحفي مشترك عقده في ساراييفو مع وزير خارجية البوسنة والهرسك، قال لافروف “أما بخصوص الاتفاق الروسي التركي بشأن إدلب فهو يهدف بالدرجة الأولى إلى القضاء على تحدي الإرهاب، وهو خطوة مرحلية من دون أدنى شك، لأن الحديث يدور فقط عن إنشاء منطقة منزوعة السلاح، لكنها خطوة ضرورية لأن ذلك سيتيح منع القصف المتواصل من منطقة خفض التوتر في إدلب لمواقع القوات السورية وقاعدة حميميم” الروسية وأضاف  بأن أكبر تهديد لسيادة سوريا ووحدتها “يأتي من شرق الفرات” وهي المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من قبل التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، حيث تُقام تحت إشراف أميركا هياكل تتمتع بحكم ذاتي.

يبقى أن نذكر بأن مصير هذه المناطق مرتبط أيضاً بمدى تجاوب النظام السوري مع اللامركزية التي يطمح إلى تحقيقها الأكراد ومن معهم في الشمال السوري، ففي حين أن النظام السوري يرى ذلك محققاً من خلال المرسوم التشريعي رقم ١٠٧ للعام ٢٠١١ المتضمن قانون الإدارة المحلية الجديد، إلا أن المرسوم لم يُطبَّق في مناطق سيطرته حتى الآن.

وهكذا تنتقل عملية التوازن في الشمال السوري من كفة لأخرى، وتبقى الأمور معلّقة برغبة ومصالح اللاعبين الأساسيين، فيما يستمر كل منهم بترديد عبارة “الشعب السوري وحده من يقرر مصيره بنفسه.”

صفقة منبج تختبر الحلفاء

صفقة منبج تختبر الحلفاء

يشكل تنفيذ خريطة طريق معقدة لمدينة منبج شمال سوريا اختباراً لاستعادة الثقة بين أميركا وتركيا، بعد فترة من البرود وتراكم ملفات شائكة بين البلدين، ما سمح لموسكو بالتوغل عبر شقوق فقدان الثقة بين شريكين في «حلف شمال الأطلسي» (ناتو).

كما أن المضي قدما في «الخريطة»، قد يشكل إشارة إلى احتمال تعرض «وحدات حماية الشعب» الكردية لـ«خيانة» جديدة من الأميركيين الذي يوفرون الحماية للأكراد شرق نهر الفرات، بعدما تعرضوا لشيء مماثل، لدى موافقة روسيا بداية العام على دخول الجيش التركي وفصائل سورية معارضة إلى عفرين، وإخراج «الوحدات». أو على الأقل، خفض سقف توقعات قيادات كردية.

بحسب المعلومات المتوفرة لـ«الشرق الأوسط»، فإن خريطة الطريق بين واشنطن وأنقرة تنص على العناصر الآتية: تشكيل دوريات أميركية – تركية في أطراف منبج، وخروج «الوحدات» من المدينة إلى شرق نهر الفرات، وتعزيز دور مجلس منبج العسكري، وتشكيل مجلس مدني للمدينة، وعودة النازحين العرب والأكراد إلى أماكنهم الأصلية.

وكانت هذه الخريطة خلاصة رغبة من وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون، ومستشار الأمن القومي السابق هاربر ماكماستر، للبحث عن قواعد مشتركة مع حليف أميركا في «حلف شمال الأطلسي» (ناتو)، لكن خروجهما من الإدارة الأميركية في مارس (آذار) الماضي أدى إلى بطء التنفيذ، إضافة إلى خلاف أميركي – تركي حول تسلسل تنفيذ الخريطة، بين تركيز واشنطن على ضرورة بناء الثقة وتشكيل الدوريات، مقابل تركيز أنقرة على البدء بإخراج «الوحدات» من منبج ونزع سلاحها الثقيل.

وبعد جلسات مكثفة من المفاوضات، صاغ كبار المسؤولين العسكريين والدبلوماسيين في البلدين مسودة خريطة منبج، التي أقر خطوطها العامة الوزيران مايك بومبيو ومولود جاويش أوغلو، في واشنطن مساء أول من أمس.

لكن بمجرد الإعلان عنها، بدأ يطفو إلى السطح اختلاف القراءتين الأميركية والتركية. إذ إن أنقرة تريد بدء تنفيذ الخطة خلال عشرة أيام وفق برنامج زمني صارم يتضمن مواعيد خروج «الوحدات»، وتسليم سلاحها، وتسلم مجلس منبج العسكري، وتشكيل المجلس المدني، مقابل قول واشنطن إن البرنامج الزمني «إرشادي»، ويتوقف تنفيذ كل مرحلة على مدى نجاح المرحلة السابقة، أي رهن عودة الثقة الأميركية – التركية، وبرود السخونة بين «الوحدات» وأنقرة؛ خصوصاً بعد تعرض «الوحدات» لمفاجأة روسية بالتخلي عن عفرين.

وقال قيادي في «الوحدات» الكردية لـ«الشرق الأوسط» أمس، إن «الوحدات» لم يكن لديها هدف السيطرة منذ دحر تنظيم داعش منها في نهاية 2016، وإن «قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم «الوحدات» ويدعمها التحالف الدولي، دعمت مجلس منبج العسكري وتشكيل مجلس مدني فيها.

وعقد في الساعات الماضية اجتماع بين التحالف ومجلس منبج العسكري؛ لكن «الوحدات» تبلغت من الأميركيين الأسبوع الماضي نتائج المحادثات الأميركية – التركية في أنقرة، وصوغ مسودة الاتفاق. وأوضح القيادي أمس: «كان لدينا نحو 300 مقاتل من الوحدات، لكن العدد خفض تدريجيا، ولم يبق سوى مستشارين، وعددهم نحو 30 مستشاراً، وهم عملوا على تدريب مجلس منبج العسكري الذي يضم بين 5 و6 آلاف مقاتل. بالتالي، فإن المستشارين سينسحبون إلى شرق الفرات للمشاركة في معارك إنهاء (داعش) بمجرد انتهاء الحاجة إليهم في منبج».

وتوقع القيادي أن تكون المرحلة الأولى من تنفيذ الخطة (الخريطة)، تشكيل دوريات أميركية – تركية للسير في خطوط التماس بين «مجلس منبج العسكري» في ريف المدينة وفصائل «درع الفرات» التي يدعمها الجيش التركي بين حلب وجرابلس على حدود تركيا. وأضاف: «لا بد من الهدوء واستعادة التوازن ونوع من الثقة، للمضي في تنفيذ المرحلة الثانية من الخطة»، ما يعني سحب المستشارين من «الوحدات» الكردية.

بعدها، ينتقل التركيز لصالح «مجلس منبج العسكري» ونقل الإدارة إلى المجلس المدني الذي يضم أهالي المدينة وبعض الشخصيات من أصول كردية، إضافة إلى عودة النازحين العرب والأكراد إلى أرضهم. وقال القيادي في «الوحدات»: «لا نريد السيطرة على أي منطقة. بالعكس برنامجنا هو القضاء على (داعش) ومساعدة الأهالي المحليين في تسلم القيادة بأنفسهم ضمن مشروعنا لسوريا اللامركزية، وهذا ما سيحصل في منبج».

وتزامن إعلان الاتفاق مع زيارة رئيس «حركة التجديد الوطني» عبيدة النحاس، ورئيس «حزب سوريا المستقبل» إبراهيم القفطان إلى منبج بعد الرقة. ولاحظ مشاركون في الزيارة تراجع دور «الوحدات» خلال الأشهر الثمانية الماضية، مقابل تمكين الأهالي ومجلس منبج العسكري و«هذا يعزز مشروع اللامركزية على حساب الفيدرالية» التي كان أكراد اقترحوها نموذجا لسوريا قبل سنتين.

بالنسبة إلى أنقرة، وفاء واشنطن بتنفيذ هذا الاتفاق يكون بداية لاستعادة ثقة مفقودة بسبب موقفها من محاولة الانقلاب في أنقرة، واستضافة فتح الله غولن، واستمرار واشنطن في دعم وتسليح «الوحدات» شمال شرقي سوريا. وقال مصدر تركي: «واشنطن لم تلتزم وعودها مرات عدة في السنوات الماضية. وعدت بتسليم الرقة لأهلها بعد تحريرها من (داعش)، ولم تفعل، بل شاهدنا صور عبد الله أوجلان (زعيم حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة إرهابيا). وعدت بسحب السلاح الثقيل من الوحدات بعد دحر (داعش) ولم تفعل، بل أقامت نحو 20 قاعدة عسكرية».

وبحسب المصادر الدبلوماسية، فإن تنفيذ خطة منبج سيكون اختبارا لإمكانية عودة الثقة بين حليفين في «ناتو» ومدى إمكانية ابتعاد الرئيس رجب طيب إردوغان عن الرئيس فلاديمير بوتين، الذي يراهن على تعزيز الشرخ داخل «ناتو» والمضي في بيع منظومة صواريخ «إس – 400» إلى الجيش التركي، الذي يجري اتصالات مع واشنطن للحصول على تكنولوجية عسكرية عالية.

رياح آميركية – روسية  على  الجنوب السوري

رياح آميركية – روسية على الجنوب السوري

التركيز حالياً على «هدنة الجنوب» السوري. هي تقع بين حافتين: أفكار أميركية – أردنية مع روسيا مرفقة بتحذيرات للحفاظ على اتفاق «خفض التصعيد» وتنفيذه بنوده بما في ذلك إبعاد «حزب الله» تنظيمات تابعة لإيران من جهة، وتشجيع طهران لدمشق للذهاب إلى الحل العسكري والتلويح بأسلوب «الأرض المحروقة» من جهة ثانية. وكان لافتاً أمس، إعلان واشنطن موقفاً تضمن مطالبة موسكو بالوفاء بالتزاماتها بموجب بيان الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين العام الماضي.

بعد غوطة دمشق وريف حمص، كان النقاش عن الوجهة المقبلة للمعارك والتسويات في سوريا: جنوب غرب، شمال غرب، شمال شرق. والفرق بين المناطق هو عمق الانخراط الخارجي. اتفاقات «خفض التصعيد» شرق دمشق وشمال حمص حصلت بضمانة روسية ورعاية مصرية، غير أنه في الاتفاقات الأخرى كان هناك انخراط مباشر عسكري ودبلوماسي لدول مجاورة و/ أميركا وروسيا. إذ إن اتفاق «خفض التصعيد» في جنوب غربي البلاد حصل باتفاق روسي – أميركي – أردني بعيداً عن عملية آستانة، فيما يقع اتفاق إدلب ضمن عملية آستانة التي تضم روسيا وتركيا وإيران. أما منطقة شمال شرقي البلاد، فإنها محكومة باتفاق «منع الصدام» بين الجيشين الأميركي والروسي اللذين اعتبرا نهر الفرات خط الفصل بينهما بعد معاركهما ضد «داعش».

رياح الجنوب

تشكل أجزاء من محافظات درعا والقنيطرة والسويداء جنوب سوريا إحدى مناطق خفض التصعيد باتفاق أميركي – روسي – أردني في يوليو (تموز). وحاولت قوات النظام العام الماضي مراراً التقدم إلى أحياء سيطرة الفصائل في المدينة وخاضت ضدها معارك عنيفة من دون أن تحرز تقدماً بعد صد «الجيش السوري الحر» المهاجمين.

بعد الغوطة وحمص، الواضح أن دمشق حسمت خياراتها بدفع قواتها وتنظيمات تدعمها إيران إلى الجنوب وشمل ذلك قوات العميد سهيل الحسن المعروف بـ«النمر» والفرقة الرابعة و«لواء القدس» التابع لـ«الجبهة الشعبية – القيادة العامة» بزعامة أحمد جبريل بعد الانتهاء من معارك مخيم اليرموك قبل أيام. كما ألقت مروحيات منشورات، وطبعت على أحد المنشورات صورة مقاتلين قتلى مرفقة بتعليق: «لا تكن كهؤلاء. هذه هي النهاية الحتمية لكل من يصر على الاستمرار في حمل السلاح (…) اترك سلاحك قبل فوات الأوان». وكتب على آخر: «أمامك خياران، إما الموت الحتمي أو التخلي عن السلاح، رجال الجيش قادمون، اتخذ قرارك قبل فوات الأوان».

وحضت منشورات أهالي درعا، التي انطلقت منها «شرارة الثورة» في 2011، للتعاون مع قوات الحكومة ضد «الإرهابيين»، علماً بأن دمشق تصف جميع المعارضين بأنهم «إرهابيون»، وأن مقاتلي الجنوب هم من «الجيش الحر» باستثناء عدد قليل من عناصر تابعين لتنظيمات متطرفة.

وتسيطر فصائل معارضة على سبعين في المائة من محافظة درعا، وعلى أجزاء من مركز المحافظة. وتوجد في المدينة القديمة الواقعة في القسم الجنوبي من درعا فيما تحتفظ قوات الحكومة بسيطرتها على الجزء الأكبر شمالاً، حيث الأحياء الحديثة ومقرات مؤسسات الحكومة.

وبالتزامن مع انطلاق عملية «آستانة» التي قاطعتها أميركا، انطلقت بين واشنطن وموسكو وعمان في مايو (أيار) العام الماضي، مفاوضات لإقامة منطقة «خفض تصعيد» جنوباً أسفرت في يوليو عن اتفاق بين الرئيسين ترمب وبوتين على هامش قمة هامبورغ، ثم جرى التأكيد عليه خلال قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (أبيك)، في دانانغ في فيتنام في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وقتذاك، توصل وزيرا الخارجية الأميركي حينها ريكس تيلرسون، والروسي سيرغي لافروف، إلى اتفاق، أُعلِن باسم الرئيسين ترمب وبوتين في 11 نوفمبر تضمّن عناصر، بينها أهمية «خفض التصعيد» في الجنوب باعتباره «خطوة مؤقتة» للحفاظ على وقف النار، وإيصال المساعدات الإنسانية بهدف «الخفض والقضاء النهائي على وجود القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من المنطقة لضمان سلام أكثر استدامة»، في إشارة إلى عناصر الميليشيات الإيرانية و«حزب الله».

وكانت وُقعت في عمان، في 8 نوفمبر، مذكرة تفاهم لتنفيذ اتفاق، وتضمنت تأسيس مركز رقابة في عمان لتنفيذ الاتفاق الثلاثي لاحتفاظ المعارضة بسلاحها الثقيل والخفيف، وتحديد خطوط القتال، وبدء تبادل تجاري مع مناطق النظام، وتشكيل مجلس محلي معارض، واحتمال عودة اللاجئين من الأردن أو نازحين قرب الحدود.

بالنسبة إلى موسكو، فالخطة التي ضمنت تعاوناً روسيّاً – أميركيّاً، تعني القضاء نهائيّاً على «جبهة النصرة» و«جيش خالد» التابع لـ«داعش». وقدمت وقتذاك إدارة ترمب تنازلاً بأنها جمدت البرنامج السري لدعم فصائل المعارضة بتنسيق من «غرفة العمليات العسكرية» بقيادة «وكالة الاستخبارات الأميركية» (سي آي إيه) في الأردن. ونهاية العام الماضي، أوقف الدعم العسكري والمالي فعلياً لـ35 ألف مقاتل معارض في «جبهة الجنوب».

ومنذ نوفمبر الماضي جرت سلسلة لقاءات أميركية – روسية – أردنية لتنفيذ الاتفاق الثلاثي. حيث جرى تبادل الاتهامات، واشنطن تقول إن «موسكو لم تلتزم إبعاد (القوات غير السورية) بين 5 و15 كيلومتراً في المرحلة الأولى، و20 – 25 كيلومتراً بالمرحلة الثانية. وموسكو التي نشرت بعض نقاط المراقبة ضمن منطقة فصل تلف خط القتال بين النظام والمعارضة، تقول: إن واشنطن لم تلتزم محاربة (النصرة) و(جيش خالد)».

لكن الاتفاق بقي صامداً مع وقف عمليات القصف والعمليات الهجومية. وخلال معارك غوطة دمشق حاول معارضون الاستنفار لـ«نجدة الغوطة»، فجاء الجواب من السفارة الأميركية في عمان برسالة بعثت إلى قادة فصائل «الجبهة الجنوبية» في «الجيش الحر»، فيها أن الضربات من الطيران الروسي أو السوري «لا تعني بأي شكل من الأشكال نهاية اتفاق خفض التصعيد الموقع بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والأردن ولا تشير إلى أي تغيير في سياستنا العامة تجاه سوريا». وتابعت: «كدولة ضامنة لاتفاق خفض التصعيد، لا نرغب بأن نرى النظام يأخذ أراضيكم في الجنوب ونريد حفظ حقكم بالمطالبة بدولة الحرية والعدالة، لذلك نطلب منكم الحرص الكامل على عدم إعطاء النظام وحلفائه أي فرصة للانقضاض عليكم أو يقوم في درعا والقنيطرة بما قام به في الغوطة الشرقية» (قبل انتهاء المعارك). وفي إشارة تحذيرية، جاء في الرسالة: «إذا بادرتم في عمل عسكري ينتهك خفض التصعيد لن نستطيع أن ندافع عنكم، وإن بادر النظام بانتهاك الاتفاق فسنفعل أقصى ما بوسعنا لوقف الانتهاك وضمان استمرار اتفاقية خفض التصعيد».

عرض ـ تحذير أميركي

مع اقتراب التعزيزات إلى درعا وإجراء ميلشيات إيرانية عمليات إعادة انتشار وبث حملات دعائية، بدأ حلفاء المعارضة البحث في الخيارات. وبحسب المعلومات المتوفرة لـ«الشرق الأوسط»، فإن مساعد نائب وزير الخارجية ديفيد ساترفيلد عكف في الأسبوع الماضي على صوغ مقترح استمزجه مع دول إقليمية. وتضمن العرض الذي كان مقررا بحثه مع الجانب الروسي: انسحاب جميع الميليشيات السورية وغير السورية إلى عمق 20 – 25 كيلومتراً من الحدود الأردنية (علماً بأن الاتفاق الثلاثي نص فقط على انسحاب المقاتلين غير السوريين فقط، في إشارة إلى ميلشيات إيران) للاعتقاد أن إيران جنّدت ميليشيات سورية، نقل مقاتلي المعارضة وأسرهم إلى إدلب شمال سوريا (التقديرات بأنهم نحو 12 ألفاً)، عودة الجيش النظامي إلى الحدود وعودة مؤسسات الدولة إلى درعا، إعادة فتح معبر نصيب بين سوريا والأردن، إضافة إلى تشكيل آلية أميركية – روسية للرقابة على تنفيذ هذه البنود.

والأهم، أن أفكار ساترفيلد، الذي عُيِّن الباحث في مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ديفيد شنكر بدلاً منها، تضمنت احتمال تفكيك معسكر التنف الأميركي في زاوية الحدود السورية – الأردنية – العراقية، الذي تعرض لانتقادات علنية من موسكو. وربط دبلوماسيون بين هذا «العرض» والوجود الأميركي شمال شرق سوريا بعد هزيمة «داعش».

كما حاول مسؤولون أردنيون التواصل مع الجانب الروسي للحصول على «ضمانات» بتأمين الحدود وعدم قدوم لاجئين جدد إلى الأردن، وفتح المجال لعودة لاجئين سوريين إلى بلادهم، في وقت بحث معارضون من الجنوب تداول اقتراحاً تضمن تدمير المعارضة للسلاح الثقيل أو تسليمه إلى دمشق ونشر عناصر من الشرطة الروسية بين حدود الأردن ودرعا بعمق 18 كيلومتراً، إضافة إلى عمل آلاف من مقاتلين معارضين كشرطة محلية وعودة مؤسسات الدولة إلى الجنوب.

لكن مفاوضات داخل إدارة ترمب، رجحت خط وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الجديدين مايك بومبيو وجون بولتن، خصوصاً أن ساترفيلد على وشك ترك منصبه، وربما كي يصبح سفيراً في أنقرة، إذ أعلنت الخارجية الأميركية أمس بياناً تضمن تحذيراً من أنها ستتخذ «إجراءات حازمة ومناسبة»، ردّاً على انتهاكات وقف إطلاق النار، قائلة إنها تشعر بقلق بشأن تقارير أفادت بقرب وقوع عملية عسكرية.

وقالت هيذر ناورت الناطقة باسم الوزارة في بيان: «تشعر الولايات المتحدة بالقلق من التقارير التي أشارت إلى عملية وشيكة لنظام الأسد في جنوب غربي سوريا، ضمن حدود منطقة تخفيف التصعيد التي تم التفاوض عليها بين الولايات المتحدة والأردن والاتحاد الروسي في العام الماضي، وتم التأكيد عليها بين الرئيسين ترمب وبوتين في دا نانغ في فيتنام في نوفمبر. لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة بالحفاظ على استقرار منطقة تخفيف التصعيد في جنوب غربي البلاد، ووقف إطلاق النار الذي تقوم عليه. ونحذر أيضاً النظام السوري من أي أعمال قد تشكل خطر توسيع دائرة الصراع أو تعريض وقف إطلاق النار للخطر. ستتخذ الولايات المتحدة إجراءات صارمة ومناسبة رداً على انتهاكات نظام الأسد بصفتها ضامناً لمنطقة خفض التصعيد مع روسيا والأردن». وتابعت: «روسيا مسؤولة على النحو الواجب كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي لاستخدام تأثيرها الدبلوماسي والعسكري على نظام الأسد لوقف الهجمات وإجباره على وضع حد لأي هجمات عسكرية مستقبلية. يجب على روسيا أن تفي بالتزاماتها المعلنة وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254 ووقف إطلاق النار في جنوب غربي سوريا بحسب ما هو محدد في بيان دا نانغ بين الرئيسين ترمب وبوتين».

انسحابات وتفاهمات

تزامن تجديد الحديث عن سحب الميلشيات المدعومة من إيران من جنوب سوريا والضغط لالتزام «هدنة الجنوب» مع عنصرين: أولاً، استمرار الغارات الإسرائيلية على مواقع إيرانية وأخرى تابعة لـ«حزب الله» في سوريا، ثانياً، حديث الرئيس بوتين بعد لقائه الرئيس بشار الأسد الأسبوع الماضي عن ضرورة انسحاب جميع القوات الأجنبية من سوريا.

ولاحظ مسؤول غربي أن القصف الإسرائيلي على المواقع الإيرانية في سوريا تزامن مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو «ما يعني موافقة سياسية روسية وميدانية لأنها الجيش الروسي لم يشغل منظومة صواريخ إس – 400 الموجودة غرب سوريا». وأضاف: «كان لافتاً أن روسيا لم تتحرك دبلوماسيّاً بعد الغارات الروسية ولم تنتقد الغارات كما فعلت بعد الغارات الثلاثية الأميركية – البريطانية – الفرنسية على مواقع تابعة للحكومة في أبريل (نيسان) الماضي ردّاً على هجوم كيماوي في دوما عندما نقلت الملف إلى الأمم المتحدة وسط انتقادات إعلامية وسياسية».

أما بالنسبة إلى البند الثاني، يتعلق بكلام بوتين عن «انسحاب جميع القوات الأجنبية» من سوريا، بل إن مبعوث الرئيس الروسي ألكسندر لافرينييف حدد المقصود بجميع القوات ذاكراً بالاسم إيران و«حزب الله» وتركيا وأميركا، الأمر الذي رد عليه ناطق باسم الخارجية الإيرانية بان وجود إيران بناء على طلب «الحكومة الشرعية»، الأمر الذي كرره بمعنى ما نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد.

واعتبر دبلوماسيون ذلك أنه إشارة إلى شقوق إضافية بين روسيا التي تملك اتفاقات رسمية مع دمشق تشرعن وجود قاعدتي طرطوس وحميميم من طرف وإيران التي سعت ولم تنجح للحصول على صك قانوني يشرعن وجود قواتها في سوريا من طرف آخر، وأن دمشق تحاول الموازنة بين «الحليفين، لكن ذلك يزداد صعوبة مع اقتراب المعارك من مناطق تفاهمت موسكو مع دول خارجية حولها، ما بدا أن دمشق باتت أقرب إلى الخيار الإيراني فيما يتعلق بمعركة الجنوب».

وقال أحد الدبلوماسيين إن الأيام الماضية شهدت «إعادة انتشار» لقوات تنظيمات تابعة لإيران وفق الآتي: «عادت الميليشيات و(حزب الله) بضعة كيلومترات بعيداً من الحدود الأردنية، لكن بقيت أقرب إلى الجولان. إذ إن (حزب الله) تحرك في مواقعه في معسكر البعث وهضبة تل أيوب 4 – 5 كيلومترات إلى بلدتي حمريت ونبع الفوار، كما أن عناصر الحرس الثوري انتقلت من درعا المدينة إلى ازرع لكنها بقيت على جبهات القتال الشمالية، إضافة إلى انتقال لواء القدس الفلسطيني من مخيم اليرموك إلى درعا».

في موازاة ذلك، بعثت دمشق مقترحاً عبر وسطاء إلى دول إقليمية تضمّن: انسحاب «حزب الله» وميلشيات إيران 25 كيلومتراً بعيدا من خط فك الاشتباك من هضبة الجولان المحتلة، وفق ترتيبات تسمح بوجود مجالس محلية في بيت جن وقرى في الجولان المحرر والبحث عن إمكانية إحياء اتفاق فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل لعام 1974 الذي يتضمن منطقة محايدة ومنطقة منزوعة السلاح وأخرى محدودة السلاح يراقبها نحو 1200 عنصر من «قوات الأمم المتحدة لفك الاشتباك» (اندوف).

لكن في الوقت نفسه تواصل دمشق مدفوعة من إيران تعزيز قواتها وآلياتها إلى الجنوب، حيث تطرح سيناريوهات مشابهة لغوطة دمشق، وقبل ذلك شرق حلب، بحيث تتقدم القوات من درعا إلى معبر نصيب مع الأردن ليتم فصل شرق منطقة اتفاق «خفض التصعيد» عن غربها مع السيطرة على تلال استراتيجية وتكثيف الغارات و«قضم المناطق واحدة بعد الأخرى تحت التهديد بالنار والتسويات». عمليّاً يعني ذلك دفع المعارضة للاختيار بين ثلاثة نماذج: «نموذج دوما» الذي طبق شمال غوطة دمشق، و«نموذج حمورية» في الغوطة التي تعرضت لنهج «الأرض المحروقة»، و«نموذج سقبا» الذي يقع في الوسط بين النهجين.

وتحاول دمشق وضع ذلك تحت غطاء محاربة «جبهة النصرة» أو «جيش خالد» التابع لـ«داعش»، وأن كان اتفاق خفض التصعيد الثلاثي نص على أن ذلك من مسؤولية ضامني الاتفاق، أي أميركا وروسيا، الأمر الذي أكدت عليه واشنطن أمس من خلال بيان الخارجية.

!خط أحمر

!خط أحمر

في أزمة مدينة دوما الأخيرة، وفي مساء السابع من نيسان، قامت قوات النظام بقصف المدينة بمادة كيميائية سامة، لم تُحدّد هويتها حتى اللحظة، لكن بحسب التقييم الطبي الأولي، كانت مادة الكلور السامة مع احتمالية أكيدة لإضافات كيميائية سُمّية معها (يُظن بأنها غاز السارين)، في لحظتها لم أُلقِ بالاً لموضوع القصف الكيميائي، فلقد كان القصف على المدنيين المحاصرين شديداً، وبكل أنواع الأسلحة، طيران حربي، وراجمات صواريخ، وبراميل متفجرة، ومحاولات اقتحام من أطراف المدينة، فما يعني موضوع القصف الكيماوي بالنسبة لي إلا موتاً مختلفاً عن باقي الموت الآخر.

على إثر انهيار المفاوضات الأخيرة بين الجانب الروسي وجيش الإسلام، المُحاصرَ تماماً في حدود ضيّقة من مدينة دوما، ومعه حوالي مائة ألف من المدنيين، قامت قوات النظام بشن حملة قصف شديدة علي مدينة دوما، بدأت من الساعة الرابعة عصراً في السادس من نيسان، واستمرت حتى الساعة الواحدة ظهراً في التاسع من نيسان، أي حوالي ٦٩ ساعة مستمرة، راح خلالها حوالي ١٩٠ ضحية من المدنيين، ٥٩ منهم بسبب القصف الكيميائي.

طوال فترة القصف  تلك على مدينة دوما، لم تُصدِر المنظمات الإنسانية السورية أي بيان إدانة، ولم يخرج تصريح من الدول الغربية للتنديد باستهداف المدنيين، ولم تضج وسائل التواصل الإجتماعي بمقتلة المدنيين في المدينة المحاصرة، ولكن بعد ضربة الكيماوي بساعات بدأ سيل البيانات من المنظمات السورية، وبدأت الميديا المعارضة تنقل الأخبار بسرعة وفاعلية شديدة، واشتعلت وسائل التواصل الإجتماعي بنقل الخبر والتنديد به، وبدأت الدول الغربية وإعلامها أكثر اهتماماً وتسليطاً للضوء على الواقعة.

هالني هذا الاهتمام الكبير بالضربة الكيميائية دون غيره من القصف واستهداف المدنيين، لم أستطع استيعاب الأمر في لحظتها، كنا منشغلين جداً بمتابعة ما يحدث بين قادة ”جيش الإسلام“ والمُفاوِض الروسي، الكولونيل ألكسندر زورين، والذي كان قد أمهل جيش الإسلام حتى الساعة الثامنة من مساء السابع من نيسان ٢٠١٨ عبر رسالة مباشرة لهم ”خطتكم تقود إلى الحرب، لأن الأسلحة تبقى لدى الجميع، خطتي تقود إلى السلام، عليكم أن تخبروني قراركم حول خطتي بسرعة، أنتظر ردكم حتى الثامنة مساءً. خطتكم في الأساس غير مقبولة، بدون نزع السلاح لن يكون هناك سلام، أنتظر اليوم حتى الثامنة مساءً، بعدها أُوقِف التفاوض“ كان قادة جيش الإسلام متمسّكين بقرار الصمود، فهم يرون في الحملة العسكرية الأخيرة عملية ضغط لأجل التفاوض لا أكثر، لكن يبدو أن الضربة الكيماوية حسمت موقفهم بشكل نهائي، فبعد أقل من ساعتين من الضربة الكيماوية، كان قائد جيش الإسلام على اتصال مع الكولونيل زورين يخبره فيها استعدادهم للعودة إلى التفاوض وفق الشروط الروسية.

لا أعرف، عندها، لِمَ استعدت في مخيّلتي مشهد من الفيلم الوثائقي الشهير ”أبوكاليبس الحرب العالمية الثانية“ عندما استسلمت اليابان وقررت قبول قرارات ”إعلان بوتسدام“ (عُقد المؤتمر في مدينة بوتسدام قرب برلين، بين قادة أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي) والتي حدّدت شروط استسلامها، بعد أن هدّد الرئيس الأمريكي هاري ترومان بتدميرها ما لم تتوقف عن حربها مع دول الحلفاء، وذلك بعد ستة أيام من الهجوم النووي الأمريكي على مدينتي هيروشيما وناكازاكي.

لم يتوقف قصف المدينة أبداً، رغم إعلان استسلام قادة جيش الإسلام، وإن أصبح بوتيرة أخف، واستمر حتى ظهر اليوم التالي، في محاولة لتلقين جيش الإسلام درساً لن ينساه من دولة عظمى، امتلكت محطة فضائية منذ ٤٠ عاماً، وعشرات الأقمار الصناعية، كما وصفها سابقاً الكولونيل زورين أمام مفاوضيه، لكن كان من الواضح بأن اهتمام فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بالضربة الكيميائية، وعملهم الحثيث للتحقق من تفاصيل الهجوم، ثم الكلام عن التحضير لدعوة مجلس الأمن للانعقاد يوم الاثنين في التاسع من نيسان، سرّع من عملية استسلام المدينة، وأصبح واضحاً إلحاح الجانب الروسي على إخراج ”جيش الإسلام“ وتنفيذ بنود الاتفاق بأقصى سرعة ممكنة، وهذا ما حدث فعلاً، فالعشرات من الحافلات وصلت مدينة دوما، بينما حبر التوقيع على الاتفاقية لم يجف بعد.

وفي صباح التاسع من شهر نيسان دخل الجنرال زورين مدينة دوما، وقام بمعاينة البناء الذي استهدفته الضربة الكيماوية، وكان برفقته عنصر من الشرطة العسكرية الروسية يقوم بتصوير المكان بكاميرة فيديو، وخرج بعد دقائق معدودة دون أن يأخذ عينات من المكان، كما أظهره تصوير بعض النشطاء في المدينة.

وفي المساء، عقد مجلس الأمن جلسته بشأن استخدام الكيماوي في سوريا، بدعوة من تسع دول أعضاء، واستخدمت روسيا ”الفيتو“ ضد مشروع قرار أمريكي يطالب بتشكيل آلية خاصة للتحقيق في مزاعم استخدام الأسلحة الكيميائية في مدينة دوما، وخلال الجلسة ظهر واضحاً تهديد المندوبة الأمريكية نيكي هايلي بالرد خارج مجلس الأمن ”لقد وصلنا إلى اللحظة، عندما يجب أن يرى العالم أن العدالة انتهت، في هذه اللحظة من تاريخ مجلس الأمن الدولي إما أن يوفي بالتزاماته، أو يثبت فشله الكامل في حماية الناس في سوريا، وعلى أية حال، فإن الولايات المتحدة سترد“ في حين عرضت كل من روسيا وسوريا، استقبال محققي منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية في دوما، وقالت المنظمة رداً على هذه الدعوة، إنها طلبت من الحكومة السورية “اتخاذ الترتيبات الضرورية للزيارة“ والتي كانت مقررة يوم السبت في ١٤ نيسان الجاري.

لكن في حوالي الساعة الرابعة صباحاً من يوم السبت في ١٤ من نيسان، شنّ التحالف الثلاثي، الأمريكي، البريطاني والفرنسي، هجوماً منسّقاً لمدة ٥٠ دقيقة على مواقع محددة في مدينتي دمشق وحمص، مرتبطة بإنتاج وتخزين واستخدام السلاح الكيميائي، كما وصفتها وزارة الدفاع الأمريكية ”الهدف الأول استهدف مركزاً علمياً في منطقة برزة في دمشق، يعتبر مؤسسة أبحاث لتطوير واختبار الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، بالإضافة إلى مخزن للسلاح الكيميائي غربي حمص، هو المكان الأساسي لإنتاج غاز السارين، أما الهدف الثالث فكان منشأة تضم السلاح الكيميائي“كما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية أن قصف التحالف الغربي استهدف مراكز البحوث العلمية وقواعد عسكرية عدة، ومقرات للحرس الجمهوري والفرقة الرابعة في دمشق ومحيطها، وكذلك أشارت وزارة الدفاع البريطانية إن ضرباتها ركّزت على موقع عسكري على بعد ٢٤ كيلومتراً غربي حمص، مؤكدة أنها قصفت أيضاً موقعاً يعتقد بأن النظام السوري يخزن فيه مركبات أولية لأسلحة كيميائية.

في حين تضاربت الأنباء بين وزارة الدفاع الروسية وقوات التحالف الثلاثي، حول استهداف مطارات عسكرية في محيط العاصمة دمشق، وتصدي الدفاعات الجوية السورية لـ ٧١ صاروخ كروز مما قلل الخسائر المادية كثيراً بحسب الرواية الروسية، لكن نبقى على تأكيد كلا الجانبين بعدم دخول أي صاروخ منطقة مسؤولية منظومات الدفاع الجوي الروسية في سوريا، والتي لم يتم استخدامها خلال الهجوم.

ما يهمنا، بأن الغارة نُفّذت، واستبقت دخول بعثة محققي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى موقع الضربة الكيميائية في مدينة دوما، وتباينت الآراء حولها، فالبريطانيون ربطوا بين الضربة على سوريا وواقعة تسميم الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته، في مدينة سالزبوري البريطانية بغاز الأعصاب، والتي تقول فيها بريطانيا بأن موسكو تقف وراء الاعتداء، بينما أشار لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنها “تقتصر على قدرات النظام السوري في إنتاج واستخدام الأسلحة الكيمياوية“ وأكدت كلامه وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي “الهدف بسيط، منع النظام من استخدام الأسلحة الكيميائية من جديد“ في حين حرص الجانب الأمريكي على التأكيد بأن أمريكا جادة إزاء ”الخط الأحمر“ حول استخدام السلاح الكيماوي السوري.

من الملاحظ من التصريحات الكثيرة لدول التحالف الثلاثي، بأن الضربة تحمل رسائل متعددة، بعضها موجه إلى روسيا، بعد موجة طرد عشرات الدبلوماسيين الروس من أمريكا وأوروبا تضامناً مع بريطانيا التي تتهم موسكو بالوقوف وراء تسميم سكريبال وابنته، وأخرى تتعلق بالحل السياسي في سوريا كما أشارت بوضوح وزيرة الجيوش الفرنسية لودريان “يجب التوصل الى خطة لإنهاء الأزمة بحل سياسي، ونحن مستعدون للعمل عليها الآن مع كل الدول التي يمكنها المساهمة فيها“، وثالثة معنية باستخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي حين يقتل شعبه، وهذا ما أشار إليه وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس بأن ”استمرار العمليات مرتبط باستخدام الأسد للكيماوي مجدداً.“

وبالتالي، ضاع تهليل البعض للضربة العسكرية الأمريكية – الغربية، وخابت ظنون الكثيرين، مرة أخرى، فهي لم تكن انتصاراً لضحايا القصف الكيماوي، ولا لتغيير النظام السوري أو حتى إضعاف لقدراته، بل رسائل متعددة لمصالح ليست سورية، لم يفهمها كثيرون رغم أنها تكرّرت مرات ومرات خلال السنوات السبع العجاف من عمر الأزمة السورية.

لقد نزعت الدول الغربية الترسانة الكيميائية للنظام السوري بموجب اتفاق ٢٠١٣ بعد استخدام غاز السارين على الغوطة الشرقية، وأيضاً في نيسان ٢٠١٧، قصفت مدمرات أميركية بحوالي ٥٩ صاروخاً من طراز توماهوك، قاعدة الشعيرات السورية حيث يعتقد أنها مكان انطلاق الطائرات السورية التي قصفت بالأسلحة الكيماوية مدينة خان شيخون، وتكرر الأمر في هذه المرة من خلال التحالف الثلاثي، وبالتالي، نستطيع أن نفهم بأنه مسموح أن نموت بالبراميل المتفجرة، وبقصف الطيران الحربي، وبراجمات الصواريخ المتعددة الأسماء والأشكال، ولكن هناك ”خطاً أحمر“ أمريكياً – غربياً، يمنع أن نموت بالغازات الكيميائية، ليس غاز الكلور، بل غاز السارين وما فوقه، ما أنذلكم!