تدريباتنا

آثارُ الجزيرة السورية: ضَحيَّة الإرهاب والنهب

بواسطة | أكتوبر 27, 2023

منذُ ما يزيد على عقدٍ ونيِّف، ما برحت أرضُ الجزيرة السورية تنزف وهي تستنجد كلَّ من له رحم بها، وكل من وَطِأَها، وهي الثكلى بأديمها وحجرها وشجرها وأبنائها، تصرخُ بكل لغات البشر المحكية والمنسية، أَلَمَ انتزاع الحضارة من التراب الذي احتضنها لآلاف السنين.

فَمَعَ بداية الأزمة السورية في العام2011 ، وخروج معظم مناطق الجزيرة عن سيطرة الدولة السورية، بدأت أُولى حلقات أبشع سيناريو تدنيس ونهب وتشويه وسرقة لآثار الجزيرة السورية، على طول نهر الفرات ورافده الخابور، فما أن طغى الارهاب بكلِّ أطيافه ومسمَّياته تلك التلال، حتى عاثَ في الأرض الفساد، وأخرج منها النفائس والكُنوز، وهدم المعالم والأطلال وخرَّب سوياتِها الأثرية، ونهب الذهب والتحف الآثارية، وقام بتهريبها وبيعها إلى جهاتٍ مجهولةٍ خارج البلاد.

الإرهابُ وسرقةُ الآثار:

لعب الإرهاب المسلَّح دوراً هدَّاماً بحقِّ التراث الإنساني والحضاري في سُورية، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ اعتبار تدمير التراث الثقافي جريمة حربٍ، يعكسُ في الوقت نفسه أهميةَ التراث الثقافي والحضاري للإنسانية، لترسيخ الأمنِ والسلام العالميِّين.

فَالغِنَى الآثاري لأيِّ حضارةٍ أو أمةٍ، هو إرثٌ ثقافي يعكس أصالةَ الوجود وثراء الفكر الإنساني، ويضفي قيمة للإنسانية جمعاء، ويُزيد صلتَنا بذاكرتنا وجذورنا، ويجعلُ من التعايُش والتنوع الفكري والثقافي هوية وسمة تُلازم الإنسان على مرِّ الأزمان.

تُعدُّ الحسكة واحدةً من أغنى المُحافظات السورية بالمواقع الآثارية، على امتدادٍ تاريخي وحضاري لبلاد الرافدين العريقة، لذا شكَّلت هذه المُحافظة على مدى عَقدٍ ونيِّفٍ طوال الحرب، هدفاً رئيساً للتنظيمات الإرهابية والميليشيات المُسلحة في عمليات النهب والتدمير التي طالت الكنوز الأثرية فيها، واُستخدمت كَوَقودٍ لإذكاء الحرب، فالأطماع الأجنبية بثروات ومقدرات الوطن السوري لم يُعرف لها حدٌّ ولم يُدَّخر لسواها حقد، فكان لتاريخ وحضارة هذه الأرض، التي ما أنْ تخطوَ بها حتى يهيم بك طيفٌ ويملؤك حضور لشعوبٍ عاشت وتنقَّلت وحضارات قامت واندثرت، وقلاع ومدن ما تزال ترقد بصمتٍ تحت الرمال، تُغْمِضُ عيناً والعين الأخرى مفتوحة تنظر للُّصوص وشذَّاذ الآفاق وقُطَّاع الطرق والجهلة، وهم ينبشُونها ويُجهضون ما في أحشائها؛ نصيبٌ من الهمجية الغربية والحقد الدفين لكلِّ ما يمتُّ لهذا الشرق العريق بِصِلَة، ولكلِّ ما يُذكِّرهم بهزائمهم المدوِّية أمام الحضارة والإنسانية.

حيثُ أعلنت دائرةُ الآثار والمتاحف في مُحافظة الحسكة في العام 2015، تسجيلها 100 حالةِ اعتداءٍ على المواقع الأثرية في المُحافظة، معظمها في المناطق الجنوبية منها، وصرَّح وقتئذٍ رئيس الدائرة خالد أحمو في لقاء صحفي أن عمليات الاعتداء ظلَّت مستمرة وبشكل خاصٍّ في المناطق غير الآمنة، لافتاً إلى أن عمليات الحفر العشوائي وسرقة القطع الأثرية، تشكلُ أبرز أنواع الاعتداءات التي طالت المواقع الأثرية.

شاديكاني خاوية على عروشها:

أوضحَ أحمو أنَّ مِنْ أهمِّ المواقع الأثرية التي تعرَّضت للاعتداء، هو تل عجاجة قائلاً أن “أكثر من 40% من تل عجاجة تعرَّضَ للهدم والجرف على يد مُسلحي داعش، بالإضافة إلى حفر خنادق داخل حرم الموقع الأثري”. ويضيف “دُمِّرت عن بكرة أبيها سويَّات أثريَّة لا تُقدَّر بثمن تعود للفترة الآشورية”، وتل عجاجة يبعدُ عن مركز مُحافظة الحسكة حوالي 35 كم إلى جنوبها الشرقي، ويتوضَّع على كتف نهر الخابور من جهة الغرب، ويُعد الأهم في المنطقة من حيث قيمته الأثرية، فعليه قامت عاصمة الدولة الآشورية المتأخرة (شاديكاني). يُذكر أنَّ التحريات الآثارية في هذا الموقع قد بدأت عام 1850، على يد أَوستن هنري لايارد Austen henry Layard، الذي كشف فيه عن تمثالٍ لثور مجنح ما يعرف بـِ لاماسو lamassu والذي أكَّد بدوره أن هذا الموقع يعود للعاصمة الآشورية المفقودة (شاديكاني)، وقامت طائفة من علماء الآثار لفترات مُتقطعةٍ بمسوحات أثرية للموقع، وللعديد من المواقع الأثرية على طول نهر الخابور، ومنهم فان موريس وماكس فون أوبنهايم وماكس مالوان والذي زارها برفقة زوجته الروائية الشهيرة أجاثا كريستي.

وفي إطار التعرُّف على أهم المواقع المنهوبة التقى “صالون سوريا” بأبو محمد ذلك الفلاح الخمسيني الذي كان يسقي أرضه القريبة من تل عجاجة وعند سؤاله عمَّا تحمله ذاكرتهُ عن تلك الليالي قال:”إنَّ تنظيم داعش الإرهابي لم يترك حجراً على حجر، وقد بدأ بتخريب كل هذه التلال بِحُجَّة تسوية أضرحة الأولياء في مقابر المنطقة بدعوى الشرك”. ويكمل أبو محمد حديثه مُتَلفِّتاً: ” كان تنظيم داعش يُجبر المواطنين المُستتابين على الحفر وهدم القبور لتغطية أعمال التنقيب والسرقة، واستمرَّ الحفر في تل عجاجة طَوال الليل ولم يكن يجرؤ أحد على الاقتراب أو السؤال، كما استخدموا الجرَّافات في التنقيب إضافة إلى الحفر اليدوي”

ويعلّقُ مأمون عبد الكريم المدير العام السابق للآثار والمتاحف في سورية: “بضربة جرافةٍ، أحرق هؤلاء الهمج صفحات من تاريخ بلاد ما بين النهرين ” مُضيفاً ” خلال شهرين أو ثلاثة، أزالوا ما كان إخراجه يتطلَّب خمسين عاماً من التنقيب عن الآثار”.

كما أكَّد على تعرُّض تل طابان الأثري، والذي يأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، للاعتداء من قبل التنظيمات الإرهابية، مُشيراً إلى أنَّ البعثة اليابانية اكتشفت فيه خلال مواسم التنقيب في العقود الماضية مجموعة من السويَّات الأثرية لقصورٍ وأبنيةٍ وأفران أثرية، ما أكسب هذا الموقع شهرةً، وجعله في قائمة الاستهداف الإرهابي، غير أنَّ أعمال التنقيب فيه توقَّفت منذ بدء الحرب في سورية.

تماثيل آشورية أسيرة في قبضة داعش:

ويُذكر أن تنظيم داعش الإرهابي عَثَرَ عام 2014 خلال تنقيباته في تل عجاجة الأثري على تمثالٍ آشوري، وقام عناصر التنظيم بتحطيمه أمام العامة في منطقة الشدادي، بذريعة أن هذه التماثيل كانت فيما مضى تعبد كآلهة، وفيها ما يدعو إلى الشرك والوثنية. ويوضّح مأمون عبد الكريم قائلاً ” وجدوا تحفاً كانت لا تزال مدفونة، من تماثيل وأعمدة “، فكل ما قامت به التنظيمات الإرهابية من استهداف للمواقع الأثرية يعد اعتداءً على ذاكرتنا وتاريخنا ومحاولة لاجتثاث جذورنا، وتعمّد لطمس هوية وتراث شعوب المنطقة وتاريخها وثقافتها، وهي تسعى جاهدة لسرقة وتشويه وتخريب ومحو كل ما شيدته هذه الأمم والحضارات.

وفي هذا السياق، جدَّد رئيس دائرة الآثار والمتاحف دعوتَهُ للمجتمع المحلي في الحسكة، إلى التعاون مع الدائرة في الحفاظ على المواقع الأثرية وحمايتها، على الأقل في إطار توثيق التعديات على المواقع الأثرية، مؤكداً أنَّ هناك الكثير من المواقع الأثرية في المحافظة كان يصعُب الوصول إليها في تلك الفترة، بسبب تهديدات الجماعات الإرهابية إبان سيطرتهم عليها، وأشار إلى أن دائرة الآثار لم تتمكن من الحصر الدقيق لعمليات النهب التي تعرَّضت لها المواقع، ولم تتمكن من معرفة حجم الضرر الذي لَحِقَ بالسويَّات الأثرية للمواقع المنهوبة، بسبب الأوضاع الأمنية في المنطقة؛ بما فيها تل الشدادي الذي تعرض هو الآخر للاعتداء والتخريب من قبل التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة المتلاحقة والتي قامت بتجريف التل وحفر الأنفاق فيه، إضافةً للتلال المُتناثرة على طول ضِفاف نهر الخابور، فقد تعرَّضت هي الأخرى للنَّبش والتخريب وَشُوِّهت معالمها وسويِّاتها الأثرية بفعل الحفر غير الشرعي والهمجي الذي طالها.

وتضم مُحافظة الحسكة وفقَ سجلَّات دائرة الآثار والمتاحف، ما يقارب  1024موقِعاً أثرياً مُسجَّلاً وغيرَ مُسجَّل، الأمر الذي يعزِّز من أهميتها الأثرية بالنسبة للتراث الإنساني العالمي، ويضَعُها في مرمى الاستهداف من قِبَلِ التنظيمات الارهابية المسلَّحة ولصوص الآثار.

نهب وتهريب الآثار السورية بشراكةٍ وتغطيةٍ امريكيةٍ:

بعدَ تفشّي ورم الميليشيات والجماعات الإرهابية في عضد الوطن السوري، أضحى كُلُّ شيء مباحاً، والتنافس على سرقة مقدَّرات سورية واغتنام ثرواتها وآثارها، أصبح هدف جميع الميليشيات والفصائل المسلحة المتناحرة في الداخل السوري، ومؤخراً، بدا واضح للعيان شكل المؤامرة الممنهجة لنهب وتشويه وطمس أقدم حضارات ومدن العالم.

على إثر الهزيمة التي اُلحقت بتنظيم داعش، وخروج الجزيرة السورية من تحت الدلف الداعشي الى مزراب ميليشيا قسد المدعومة أمريكياً، عادت فصول التخريب والسرقة المنظمة للآثار على يد مسلحي ميليشيا «قسد»، والتي بدأت بشكلٍ مرحلي ومنظَّم بتخريب وحفر وتنقيب للمواقع الأثرية المهمة والمعروفة في الجزيرة السورية.

ولاحقاً، في العام 2020، كانت تقارير ومعلومات نُشرت على مواقع إخبارية سورية، إضافة الى موقع «سبوتنيك» تؤكد أنَّ الجيش الأمريكي، بالتعاون مع مسلحي ميليشيا «قسد»، وعدد من الخبراء الأجانب أقدم على تنفيذ عمليات حفرٍ وتنقيب وسرقة للآثار، ضِمنَ المواقع التاريخية الأثرية المعروفة في محافظة الحسكة.

وقالت وكالة «سبوتنيك»، إن عمليات تنقيب وسرقة مُنظَّمةٍ تتعرَّض لها المواقع الآثارية السورية، حيث بدأ الجيش الامريكي بالتعاون مع تنظيم «قسد» وخبراء أجانب من جنسياتٍ مختلفة، عمليات تنقيبٍ جديدة، ضمن قرية الغرّة في منطقة جبل عبد العزيز الواقعة على بعد 35 كم جنوب غرب محافظة الحسكة، وذلك بهدف سرقة الآثار واللقى في المنطقة. 

وأوضحت، أنَّ مجموعة من الخبراء الأجانب تفقَّدت بحماية عسكرية، موقع قرية الغرَّة الأثري، لتبدأ بالفعل عمليات حفر وتنقيب بالتزامن مع منع السكان من الاقتراب من مواقع التنقيب، وأشارت الى أنَّ عمليات التنقيب والحفر والسرقة تتم في عدد من المواقع الأثرية ضمن قرية الغرّة، أهمها مسجد الشيخ عبد العزيز الأثري القديم، وفي موقع البرغوث «آثار القلعة القديمة»، وفي موقع العلَّاجة «نبع المياه والكنيسة القديمة». 

‏‏وأضافت مصادر رسمية في مديرية الآثار والمتاحف في الحسكة أنَّ عدداً كبيراً من المواقع والتلال الأثرية في المحافظة تتعرَّض لتعدياتٍ، تضمنت حفريَّات بأدواتٍ بدائية وتخريباً للسويَّات الأثرية مثل موقعي «قبة منصور والمدينة الأثريين» في الريف الشرقي لمدينة الحسكة.

وأوضحت المصادر في المديرية، أنَّ أكثَرَ المواقع التي تعرَّضت للسرقة والتخريب هي المواقع والتلال الأثرية في المنطقة الجنوبية، وخاصة المحيطة بالتلال الأثرية مثل تل طابان وتل تنينير وقلعة سكرة جنوب غرب مدينة الحسكة وتل الشدادي، وأنَّ العديد من المواقع الأثرية تعرَّضت للتخريب والتجريف بآلياتٍ ثقيلة من قبل الميليشيات المسلحة وذلك بهدف حفر الأنفاق في التلال، ما أدى لتخريب عدد من الممرات والجدران المزخرفة والقصور، وإلحاق الضرر بالسويات الأثرية تزامناً مع نهب اللقى والآثار.

وأكَّدت أنَّ السنوات الماضية من الحرب، شهدت أكبر سرقة في تاريخ مُحافظة الحسكة الأثري، من قبل المجموعات المسلحة التي تناوبت السيطرة على المناطق الريفية بدءاً من ميليشيات «الجيش الحر» ثم تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي وبعدها «تنظيم داعش» الإرهابي وصولاً إلى ميليشيا «قسد» والجيش الأمريكي الذي عمل بالتعاون مع «قسد» على حفر عشرات التلال الأثرية بِحُجةِ إقامة الدشم والتحصينات العسكرية في عمليات سرقة ممنهجة ومنظمة للآثار السورية.  

ونقلاً عن مصادر مُطَّلعة، أفادت بأن القوات الأمريكية تقوم بالتعاون مع ميليشيا «قسد» بتسهيل عملية نهب ونقل الآثار والكنوز التاريخية السورية، وكشفت أن عناصر ميليشيا قسد خلال عامي 2018 ــ 2019 قامت وبدعم أميركي، بنقل مجموعة من الخبراء الآثاريين بينهم جنسيات إسرائيلية وأمريكية، إلى مواقع أثرية وتاريخية مهمة ومنها (تل حلف) برأس العين إضافة إلى كل من (تل الفخيرية وتل بوقا وتل بيدر) وعدد من التلال الأثرية بريف المالكية، وقامت بعمليات تنقيب وسرقة وتهريب للآثار باتجاه فلسطين المحتلة وأربيل في العراق ومنها إلى دول أوربية.

اعتداءاتٌ وسرقاتٌ أثرية بالجملة:‏

وفي إطار توثيق الاعتداءات التي يُنفِّذها مسلحو قسد بدعمٍ أمريكي، نشرت وكالة الأنباء السورية Sana عدة تقارير، أكدت فيها استمرار دعم وتعاون القوات الأمريكية منذ العام  2014مع ميليشيا قسد، بالتنقيب والبحث عن الآثار في مواقع عدة شمال محافظة الحسكة، أهمها تل علو في منطقة المالكية وتل محمد الذياب وتل مزكفت بريف بلدة القحطانية، وتل عربيد على طريق الحسكة – القامشلي وتل كريرش بريف القامشلي، وتل براك، وتل ليلان بريف منطقة تل براك بريف المحافظة، والتي تعد من أبرز التلال الأثرية التي تعرضت للسرقة ولعمليات تنقيب منظَّمة من قبل خبراء أجانب يتم حراستهم من قبل عناصر ميليشيا قسد.

وكشفت الوكالة نقلاً عن مصادر محلية في ريف مدينة القامشلي أن “قوات الاحتلال الأمريكي التي تتمركز قرب تل موزان (أوركيش) جنوب عامودا، منذ عام 2014، وسَّعت دائرة المناطق التي تعتبرها مناطق عسكرية محظورة، بالتعاون مع ميليشيا قسد، وأخضعت المنطقة لإجراءاتٍ أمنيةٍ مشددةٍ، لتسهيل إخراج اللقى الأثرية التي سرقوها من التل وتهريبها إلى أوروبا.

فلم تُفلح التعويذات المنقوشة بالمسمارية الهورية للإله لوبَغادا حامي المعبد أن توقف اعتداءات ميليشيا قسد وداعميها، وأن تقضي على كل من يعبث ويدنِّس معبده المُقدَّس.

وتضيفُ المصادر في مديرية آثار الحسكة، أن قوات الاحتلال الأمريكي بالتعاون مع ميليشيا “قسد”، استولت على مواقع أثرية تُعدُّ من أهم المواقع الآثارية عالمياً، مثل تل بيدر ومنطقة الحمة واللايف ستون وتل موزان، وعدد من التلل في ريف القامشلي الشرقي، وتقوم بعمليات تنقيب وسرقة اللقى الأثرية وتهريبها إلى مناطق مجهولةٍ خارج البلاد.

وفي بلدة القحطانية بريف القامشلي الشرقي، أفادت مصادر أهلية إلى أنَّ ” القوَّات الأمريكية نقلت مجموعاتٍ من اللقى الأثرية من تل قرية محمد الذياب وتل ليلان الأثري، وهما تلَّان حوَّلهما الاحتلال الأمريكي، لمنطقةٍ عسكريةٍ ونهب كل محتوياتهما من اللقى الأثرية من أختام وتماثيل وذهب، ونقلها إلى قواعده غير الشرعية بريف الحسكة تمهيداً لتهريبها خارج البلاد”.

من جهة أخرى، أكَّدت مصادر من أهالي المنطقة في ريف اليعربية “أنَّ مسلحي ما يسمى “الصناديد” التابعة لميليشيا “قسد” أقدمت على سرقة إحدى اللقى الأثرية وهي عبارة عن تمثالٍ نادر من قرية قسروك في ريف اليعربية، ونقلوها إلى جهة مجهولة”، وتستمر قوات الاحتلال الأمريكي وميليشيا “قسد” باستخراج الآثار في المناطق التي تسيطر عليها في محافظتي الرقة والحسكة، ومنها بلدتا القحطانية وعامودا بريف القامشلي.

كذلك حاولت الأخيرة السيطرة على تل الذهب القريب من قرية تل الذهب الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية، لتسهيل دخول قواتها ونهب ما فيها من آثار، لكنها فشلت في ذلك لوقوف الأهالي بوجه الآليات العسكرية ومنعها الدخول إلى المنطقة.

عمليات التنقيب مُستمرة:

ما تزال آثار الجزيرة السورية رهن عبث عناصر ميليشيا قسد وداعميها، ففي شهر آذار من العام 2021، باشرت ميليشيا قسد عمليات حفر وتنقيب في منطقة أثرية جديدة بمحيط بلدة القحطانية، في تل قرية الدرك (دوكر) تقع على بُعد  5كم غربي بلدة القحطانية.

ونقلاً عن مصادر محلية، أفادت أن عناصر ميليشيا قسد استأنفت عمليات الحفر على جانبي التل الأثري الواقع في قرية الدرك، وذلك باستخدام وُرش وآليات هندسية، وكشفت المصادر أن ميليشيا قسد منعت الأهالي من التوسُّع في بناء المنازل بالقرب من التل المذكور كونه من التلال الأثرية المهمة، وبالرغم من ذلك قامت ميليشيا قسد بجلب آليات هندسية من منطقة مركدة، وباشرت بأعمال حفر أنفاق عميقة في التل، بِحُجة تحويله إلى مخزن للأسلحة والذخائر، لتغطية عمليات التنقيب عن الآثار ونهبها.

استياءُ المُكوّن العربي من السرقة الممنهجة للآثار على يد ميليشيا قسد:

تقوم فيما يعرف بالإدارة الذاتية بِدعمٍ وتغطية أجنبية بأعمال تنقيب وحفريات مستمرة تستهدف جميع المواقع الأثرية في منطقة الجزيرة السورية الخاضعة لسيطرة قسد، ويعزو الأهالي عمل الأخيرة إلى خلط الأوراق ومسح الهوية الثقافية للمنطقة وتشويه التراث الحضاري لسورية الأم، واللعب على وتر عرقي بتغيير ديموغرافيا المنطقة وتحييد الأسماء الأصيلة للمناطق والأماكن، وطبعها بطابعها الخاص، وذلك محاولة منها لإعادة تشكيل المنطقة من جديد بما يتلاءم مع أجندة ميليشيا قسد.

وفي السياق ذاته عبَّر محمود وهو مُعلِّم مدرسة عن امتعاضه قائلاً “إن اعتداءات ميليشيا قسد على آثار الجزيرة هو انتهاك صارخ لتاريخنا وذاكرتنا، فما ارتكبته داعش بهمجيتها وفكرها الظلامي ليس بأشدّ وطأة مما تقوم به قسد، فهي تسرق آثارنا على عينك يا تاجر بتغطية وحماية أجنبية” ويُضيف ” إسرائيل وفرنسا وتركيا وراء القصة.. العداء بيننا تاريخي ومعركتنا وجودية”.

حصيلة الاعتداءات التركية على الآثار السورية:

إضافةً للانتهاك الصارخ للأرض السورية، يقوم الاحتلال التركي، إلى جانب سلسلة اعتداءاته وممارساته الضاربة بالقانون والأعراف الدولية عرض الحائط، بإضافة فصل إجرامي متكامل يتعلَّق باعتدائه على الآثار السورية تخريباً ونهباً وسرقةً، في جميع المناطق التي احتلها وبسط سيطرته عليها عبر المجموعات الإرهابية التي تعمل تحت رايته، وتنفِّذ أجندته الاستعمارية؛ وتسهيل عمليات تهريب اللقى والآثار السورية عبر أراضيه ومنها إلى أوروبا.

وفي لقاءٍ صحفي أجرتهُ وكالة سبوتنيك، تحدَّث فيه محمود حمَّود، المدير العام للآثار والمتاحف في سورية، عن الكارثة الكبرى التي لحقت بالآثار السورية نتيجة الحرب الدائرة في البلاد، ويقول حمَّود: “تعرَّضت الآثار السورية لكارثةٍ كبيرة، نتيجة اعتداءات المجموعات الإرهابية المختلفة، وفي سورية ما لا يقل عن 10 آلاف موقع أثري، تعرَّض الكثير منها للدمار والنهب والتنقيبات غير الشرعية”. ويضيف حمَّود:”هناك ما لا يقل عن مليون قطعة أثرية نُهبت خارج القطر عبر الحدود خاصةً التركية والفلسطينية المحتلة والأردنية”

وأشار حمَّود إلى الدور الكبير والإجرامي الذي لعبته تركيا في التخريب الذي لحق بالمواقع الأثرية في المناطق التي تقع تحت سيطرتها، وأفاد أيضاً بأنَّ “الدمار أصاب أيضاً المواقع الأثرية التي احتلها الجيش التركي وقصفها قبل أن يحتلها”. ويكمل: “هناك تنقيبات مُخيفة تتم على يد المجموعات الإرهابية التي تعمل تحتَ راية الاحتلال التركي للمنطقة، وكان هناك استباحة لهذه المواقع الأثرية، مثل موقع جنديروس الذي نقَّبت فيه بعثة سورية ألمانية حتى عام 2010”.

الاعتداء على الأثار اعتداء على الذاكرة الإنسانية:

‏‏إنَّ الممتلكات الثقافية لايّ أمة هي جزءٌ لا ينفك ولا يتجزأ من ذاكرتها وتاريخها الحضاري، وسلامته مؤشرٌ لقدرتها على الاستمرار والتواصل بين أجيالها المتعاقبة، فالاعتداء عليها يُعدُّ جُرماً ضد الإنسانية جمعاء، وانتزاعاً للهُوية التاريخية لشعبها، بل إنَّه في حالات معينة يتعدَّى الاعتداء على خصوصية شعب ما، ويصبح اعتداءً على الميراث الإنساني بشكلٍ عام، ‏فالعديد من المواقع التاريخية والأثرية لا تقتصر أهميتها على شعبٍ محددٍ وإنما أصبحت تؤلفُ جُزءاً من ميراث الإنسانية عامة، لذا فإن واجب حمايتها وضمان سلامتها يقعُ على عاتق الإنسانية كلها، ومهمَّة رئيسة من مهام المجتمع الدولي.

كما أنَّ اعتبار تدمير التراث الثقافي جريمة حرب، يعكس أهمية هذا التراث للسلام والأمن العالميَّين، فهذا التدمير أصبح وسيلة من وسائل الحرب، تستهدف تدمير المجتمعات على المدى البعيد، وذلك في إطار استراتيجية مُتطرفةٍ للتطهير الثقافي، لذلك فإنَّ حماية التراث الحضاري ليست مسألة ثقافية فحسب، بل هي ضرورة أمنية وجزء لا يتجزأ من ضرورة حماية الحياة البشرية والدفاع عنها.

صمْتُ المُجتمع الدَّولي:

على الرغم مما حدث ويحدث من تدمير للمواقع الأثرية في سورية ونهب لمحتوياتها، إلَّا أنَّ المجتمع الدَّولي يبدو عاجزاً عن مُحاسبة مرتكبي هذه الجرائم، كأنَّه بصمته شريكٌ في الجرائم الوحشية المُرتكبة بحق هذا التراث، وكأنَّه يوجَّه رسالة مفادُها أنَّ تراث هذا الشعب مُهدَّد بالزوال.

إضافة إلى أنَّ الأعمال الإرهابية لا تسعى فقط لتقويض المجتمعات والدول والبُنية الديموغرافية لها، بل تهدف أيضاً للقضاء على كل ما يرمز لهذه الأمم والحضارات، من إرث حضاري وثقافي غني ومتنوع، والذي يشكل أمثولة ثقافية تُمكننا من التعرُّف من خلالها على تاريخ وثقافة هذه الحضارات حياتها وفكرها وعقائدها، وليس غريباً المطالبة بحماية التراث الثقافي ومُكافحة سرقة الممتلكات الآثارية والاتِّجار بها، في زمنٍ تتعرَّض فيه البشرية لمخاطر مُتَعددة نتيجة الحروب والنزاعات المسلَّحة الدائرة في المنطقة، فالممتلكات الثقافية ليست مُجرد تماثيل وحجارة تُعرض في المتاحف أو سلع يتم تَداوُلها في الأسواق، بل هي تجسيدٌ لتاريخ أمَّةٍ وهُويَّة شعبٍ وثقافتهِ، وفقدانها بفعل السرقة والاتِّجار غَيْر المشروع، قد يؤدي الى تفكّك المُجتمعات وعدم قدرتها على التعافي بعد الحروب، إنها باختصار ذاكرتنا وجُذورنا المُتَغلغِلة في رحم الأرض.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

تدريباتنا