تدريباتنا

إكرام المعارضة دفنها

بواسطة | مايو 16, 2019

لم يكن الانفجار الشعبي عام 2011 في سوريا بعيداً عن تنبؤات المعارضة الرسمية ومثقفيها حينها، وإن كان الحراك الشعبي قد دفع برموزها إلى المشهد السياسي من جديد؛ لكنه سرعان ما تجاوزهم وابتعدوا عن المشهد، إما نتيجة بروز صراع بعضهم مع النظام على السلطة لا على تحقيق مطالب الشارع فسارعوا في تشكيل مجالسهم لتكون بديلة عن السلطة الحاكمة، أو نتيجة تأني البعض في مقارعة النظام والدعوة نحو الحوار، وهو ما رآه الشارع موقفاً متأخراً عنه.

في المقابل رفع النظام ومنذ اليوم الأول شعار محاربة الإرهابيين ومثيري الفتنة وعملاء الخارج، ليُشيطن بذلك جزءاً كبيراً من المعارضة والشارع المنتفض، ويُبعد عن المشهد من يدعو للحوار، بحجة وجود إرهاب يتربص بالبلاد ويحتاج إلى التكاتف لمواجهته، وبذلك يسهل على السلطة إغفال أي ملفات مطلبية أخرى.

أي أن تاريخ خروج المطالب إلى الشارع قبل ثماني سنوات هو نفسه تاريخ إهمالها وتنحيتها من قبل النظام، والالتفات إلى محاربة المنادين بها بقمعهم أو جرهم إلى ضفة الإرهاب والتكفير لشرعنة محاربتهم، والتهديد باحتساب أي مُطالِب للتغيير على الضفة المترصِّدة للدولة وأمن الوطن، أي “الخيانة العظمى”.

بات ذلك الخطاب هو الخطاب السائد طيلة السنوات الماضية، وكلَّف السوريين الكثير من العناء والدمار دون القدرة على التحكم في إيقافه، ليتفرقوا لاحقاً بين تجنب الصدام المباشر في الداخل أو الابتعاد عنه كلياً إلى الخارج.

وبدل أن تسعى فرق المعارضة للخروج من ذلك المأزق كانت وكأنها ترمي بنفسها فيه، فتتبنى تفجيرات ليست من صنعها أحياناً كتفجير خلية الأزمة مثلاً، وتتبنى سياسياً جبهة النصرة وغيرها من الفصائل الإسلامية المتشددة وتمدح انتصاراتها وترفض التبرؤ منها كما جاء على لسان رئيس الائتلاف معاذ الخطيب حين شدد على تبني جبهة النصرة كجزء من المعارضة عام 2012، كذلك مجَّدت المعارضة احتلال داعش أو جبهة النصرة للمدن السورية على اعتبار أن لا شر فوق النظام ووقف مع جبهة النصرة الكثير من ممثلي المعارضة، وهاجم الكثيرون منهم لاحقاً من يقوم بمجرد تشجيع فريق كرة القدم السوري، لتظهر المعارضة بذلك وكأنها تعادي الشعب وتقطع معه، وتساعد السلطة في ترسيخ شيطنة صورتها أمام الداخل والخارج على السواء.

وفوق ذلك كان واضحاً تشتت فرق المعارضة الرسمية ورموزها وتبعيتها، وارتباطها بسياسات الدول المحركة لها والتزامها بتوجيهاتها بدل التزامها بتوجُّهات الشارع السوري، بل سارت نحو الانخراط في صراعات فيما بين فرقها أحياناً تماشياً مع صراعات الممولين والمتحكمين فيما بينهم، فشاهدنا صراعاتٍ بين من تدعمهم قطر وبين من تدعمهم السعودية، ليفقدوا بذلك أية استقلالية في قرارهم، في الوقت الذي خرج فيه السوريون إلى الشارع لامتلاك قرارهم، بالإضافة إلى وضع حدٍ للفساد الذي ينخر بلادهم وينهب ثرواتها، وكذلك وضع حدٍ للمنظومة الأمنية التي تقمع حريتهم.

وعليه بات من الضروري تجاوز تلك الثنائية التي تحيل كل مطالبة بأي حق من الحقوق إلى الهجمة الإرهابية المتربصة بالبلاد، وتشيطن أي مطلب باعتباره يهدد تماسك البلاد في معركتها.

تلك الثنائية استغلها النظام أيضاً في تعليق كل فشل لديه على المعارضة، فيغدو قطع الكهرباء مبرراً بهجمات المعارضة المسلحة لخطوط الكهرباء، وندرة المحروقات والمواد الغذائية مبررة بحجة وجود المعارك وقطع الطرق، ليصبح التقصير الحكومي مستوراً بغطاء المعارك والإرهابيين.

وعليه فإن انحسار المعارك مؤخراً، أعاد كشف التقصير الحكومي وتردي مؤسسات الدولة، لتعود معه الإشارة إلى مكامن الفساد ومصادر فشل إدارة الدولة، أي لتعود الكرة إلى ملعب السلطة الحاكمة، والتي وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام فشلها وأمام عدم قدرتها على تبرير نهبها لثروات البلاد من جديد.

بقاء النظام وحيداً في ساحة المعركة بمواجهة لقمة عيش المواطنين أدى إلى ارتفاع الصوت المطلبي مجدداً، وهو ما طرحنا السعي باتجاهه سابقاً لسحب الحجج منه. لكن المعارضة الرسمية لا زالت إلى يومنا هذا على خطابها ذاته، بل وتنظر بعين متعالية إلى مطالب الناس، وبنظرة المتشفية بوضعهم، بدل العمل على إعادة تقييم أدائها.

بالتالي فإن المعارضة لا تنفك تقدم نفسها للنظام كحجة لا زالت سارية المفعول، وبدوره يتمسك بوجودها لكبت الخروج العفوي لمطالبة الناس بالتغيير، مثلما تتمسك النفس بالمظلومية لمقاومة مواجهة الواقع وتغييره في التحليل النفسي.

وإن كان الحراك الشعبي قد كشف الكثير من قمع النظام وفساده، ونفا عنه صواب الخطاب والإدارة وشرعية الحكم والقرار السيادي الوطني، فقد بات من الضروري نفي المعارضة التي أفرزها الحراك لما تخلله عملها من تبعية قرارها أيضاً وغياب الخطاب الاقتصادي الاجتماعي المحاكي لواقع الشعب السوري. ولما غيبته من وضوح التناقض الرئيسي بين السلطة والشعب، وجرِّه نحو تناقضٍ ثانويٍّ بين النظام ومعارضيه الإرهابيين الذين لم تقدم المعارضة نفسها منفصلةً عنهم ولا منفصلة عن برامج النظام الاقتصادية والاجتماعية. أي أن تراجع المعارضة عن المشهد سيعيد التناقض إلى موقعه ووضوحه وهو ما بدأ يظهر جلياً في عودة أصوات الناس.

بذلك أصبحت المعارضة الرسمية من وجهة نظر النظام وكأنها قضية خارجية تحيق بالبلاد مما يستدعي النظام والشعب إلى التماسك والتكاتف بوجهها، وعليه ومع عدم قدرتها على تقديم أية نتيجة إيجابية للشعب السوري خلال ثماني سنوات، وكذلك عدم تجديدها لخطابها، بات من الضروري ترك الصوت المطلبي يعود إلى الساحة وتنحية عقبة المعارضة لما تشكله من عثرة أمام صوت الشارع. فالصوت المطلبي اليوم أقدر على صياغة خطابه السياسي، وأجدر بنقل مطالب التغيير بوضوح وبعيداً عن خطر الانحراف لما تشكله من واقعٍ يرضخ تحت نيره كافة السوريين في الداخل، وبابتعادها عن التبعية وإعادتها لوضوح الانقسام الأفقي بين الشعب والسلطة، ذلك الانقسام الذي غاب طويلاً عن الساحة السياسية ولن ينتهي قبل دفن المعارضة، ولا يعني ذلك دعوة للعفوية من جديد بل دعوة لاستعادة منبر المطالبة من جديد لأصحابه ولجذريته.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا