تدريباتنا

الصيف ووصمة الفساد في سوريا

بواسطة | يوليو 7, 2024

يُعاني مُعظم السوريين من الحر الشديد في سوريا، وأنا على اتصال دائم مع الأحبة الذين اضطروا أن يحتملوا قطع الكهرباء لمدة خمس ساعات أو أكثر حسب المناطق، بعدها تأتي الكهرباء لمدة ساعة لا تكفي لإنجاز أي شيئ من استحمام أو تشغيل الغسالة أو شحن الموبايل. لكن المُخزي أكثر هو اضطرار المواطن للخضوع للفساد.

الرسالة: تبحلق عيون السوريين في شاشة الموبايل بانتظار الرسالة التي تحدد لهم موعد دور كل منهم في تعبئة السيارة بالبنزين بالسعر الذي حددته الدولة. كانت الرسالة تصل إلى صاحبها كل عشرة أيام، وكمية البنزين لا تكفي سوى لمشوار واحد فقط من اللاذقية إلى كسب أو صلنفة، أو حتى لقضاء حاجيات داخل المدينة. أصبحت رسالة البنزين منذ مدة تصل كل ستة عشرة يوماً وبالكمية الضئيلة ذاتها، و90 بالمئة من السوريين لا يملكون الإمكانية لشراء البنزين غير المدعوم بسبب أسعاره الخيالية. العديد من الأسر تؤجل مشاريعها في الذهاب إلى مصيف أو مشوار لأيام بانتظار الرسالة والكارثة الأكبر أن الميكروباصات التي يعتمد عليها معظم المواطنين السوريين (التي تنقلهم من الريف إلى المدينة وبالعكس) تتلقى كمية البنزين تماماً كمواطن عادي أي أن الميكروباص الذي يستلم حصته من بنزين الدولة يستطيع أن يقوم برحلة واحدة فقط في اليوم وإجرة الراكب 3500 ليرة. لكن أصحاب الميكروباصات لا يستطيعون تأمين حاجة أسرتهم من الخبز بالاعتماد على الحصة الضئيلة من البنزين كل سته عشرة يوماً فيضطرون أن يشتروا البنزين باهظ الثمن (غير المدعوم ويسمونه البنزين الحر) ليقوموا بعدة رحلات بين المدن والقرى. في هذه الحالة على المواطن المُسافر أن يدفع إجرة السفر أكثر من     3500 لتصبح إجرة الراكب (16 ألف ليرة سورية). ولو أرادت أسرة مؤلفة من أربعة أشخاص فقط السفر بالميكروباص عليها أن تدفع مبلغ (64 ألف) ذهاباً و(64 ألف) للعودة. وهذا المبلغ يعجز عنه معظم السوريين.

ليست مسؤولية أصحاب الميكروباصات أن يضطروا للجوء إلى شراء البنزين الحر (باهظ الثمن)، وهم مجبرون أن يرفعوا تسعيرة إجرة الراكب الذي هو بطريقة ما شريكهم في نوع من الفساد، فساد مفروض على المواطنين وعلى أصحاب الميكروباصات. ونتج عن هذا الوضع أن الكثير من الموظفين الذين يسكنون قرى قريبة من المدينة ألا يلتحقوا بعملهم يومياً لأنهم عاجزون عن دفع الإجرة. وتم التواطؤ بين الموظفين بتقسيم الدوام في العمل بطريقة منطقية أي يداوم الموظف ثلاثة أيام، ويعمل نيابة عن زميله الغائب والذي يسكن مناطق بعيدة، بعدها يأتي دور الموظف الغائب ليغطي العمل ثلاثة أيام عن زميله. الحال نفسه بالنسبة لطلاب المدارس وللمدرسين معظمهم يضطرون للتغيب عن الدوام بسبب عدم قدرتهم على دفع إجرة المواصلات.

أما الغلاء الفاحش لكل المواد حيث سعر كيلو اللحم (200 ألف لحم العجل و250 ألف لحم الغنم) أي ما يعادل راتب الموظف. غلاء الدواء وانقطاع العديد من الأدوية خاصة الأدوية لمعالجة السرطان وأدوية الطب النفسي (وإن توافرت فهي للأسف سيئة بإعتراف الأطباء النفسانيين)، وأصبحت مُعاينة الطبيب خمسين ألف ليرة سورية. أصبح العديد من المواطنين يلجؤون إلى الصيدلاني أو الصيدلانية ليصفوا لهم الدواء لمرضهم موفرين على أنفسهم معاينة الطبيب. ويجب أن نذكر أن الكثير من الأطباء هاجروا من سوريا إلى دول أوروبية أو دول الخليج لأن الضرائب التي تفرضها عليهم الدولة باهظة بشكل لامعقول ولأن ظروف العمل أصبحت صعبة في ظل انقطاع الكهرباء وفقر المرضى والظروف العامة بالغة الصعوبة. أخبرتني إحدى الصديقات وهي مهندسة أنها تحتاج كل شهر إلى 200 ألف ليرة سورية ثمن دوائها لكنها كما قالت مشتركة في التأمين الصحي لنقابة المهندسين، وعليها أن تدفع مليون ليرة سورية قيمة التأمين كل سنة. وراتبها التقاعدي بعد ربع قرن من العمل يساوي (160 ألف ليرة سورية) أي أقل من سعر كيلو اللحم.

المؤلم والمُخزي أن آخر الإحصائيات بينت تراجعاً كبيراً في النمو الجسدي والعقلي للأطفال لأن معظم غذائهم سندويش بطاطا، كنتُ أرى حشداً من العائلات في اللاذقية (أحكي ما كنت أراه منذ أربع سنوات قبل سفري إلى باريس) آباء وأمهات وأطفالهم يقفون في طابور أمام محلات الفروج المشوي (أو البروستد) يسيل لعاب الأطفال على قطعة لحم (صدقاً رأيت أطفالاً يسيل لعابهم)، لكن أهلهم لا يملكون سوى شراء سندويشات بطاطا (خبز وبطاطا مقلية). اليوم أصبح سعر الفروج المشوي 300 ألف ليرة سورية، وثمة معلومة طبية مهمة جداً أن اللحوم تحتوي على ثمانية أنواع من البروتينات لا توجد إلا في اللحوم الحمراء وهذه البروتينات ضرورية وأساسية لنمو الأطفال. أكثر من 87 بالمئة من أطفال سوريا محرومون من اللحوم والأسماك والخضار والفاكهة. هذا يؤثر على نمو العضلات والعظام والدماغ إضافة إلى أصعب ألم وهو الحرمان. السوري الذي يتلقى معونات وحوالات خارجية يتمكن من العيش الكريم، يستطيع أن يأكل ويطعم أولاده اللحم والسمك ويشتري لهم دمى ولباساً لا تفوح منه رائحة البالة.

في الطب النفسي وفي كتب علم الاجتماع هناك حالة اكتئاب عام يصيب المجتمع، حيث يستسلم المواطن للقهر والحرمان واليأس وقد أنهكته ظروف قاسية لا تُحتمل، وهو يرى أن الأوضاع تزداد سوءاً، والعبارة الموحدة بين الناس المكتئبين (ما باليد حيلة أو مناجاة رب العالمين). يُمكن تشبيه حالة الشعب السوري وظروف معيشته بما يُسمى في الطب الموت السريري أي أن كل أعضاء الجسم تمرض وتتوقف عن العمل خاصة الدماغ، وحده القلب يستمر في الخفقان كرقاص الساعة.

يستحق الشعب السوري حياة كريمة، يستحق ألا يجد نفسه متورطاً في تحمل ظروف ناجمة عن الفساد العام، بحيث يبدو وكأنه شريك في الفساد بتغيبه عن عمله لأيام بسبب غلاء المواصلات، خاصة وهو يرى أثرياء الحرب وفحش ثرائهم وهم يتباهون بسياراتهم الفارهة وحفلاتهم الباذخة وينشرون الصور على مواقع التواصل الإجتماعي.

الحياة ليست تراكم أيام، ليست كأوراق شجر يابسة متساقطة، السوري يستحق حياة كريمة وحرية انتقاد عيش ذليل دون أن تهبط عليه تهمة جريمة إلكترونية.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

"أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا أستطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس ومجازر ومهازل.. صدّقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير" بهذا التوصيف العاصف يلخص الكاتب السوري زكريا تامر (1931) تجربته...

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

يصدمنا الإعلام الاجتماعيّ كل يوم بمقاطع فيديو وأخبار حول امتهان كرامة الإنسان في سورية عن طريق استفزازات لفظية وعنفٍ جسديّ يُمارَس ضد أشخاص تصنّفهم الآلة الإعلامية للمرحلة الانتقالية على أنهم من "فلول النظام“ السابق. ولقد سمعنا عن أشخاص تُقتحم بيوتهم...

تدريباتنا