تدريباتنا

المواطنة لا الفزعة

بواسطة | أبريل 7, 2020

رغم نشأتي في أسرة يسارية الفكر، كانت ترى في المناطقية عيباً مجتمعياً، إلّا أنني بقيتُ حاملة لآثار تلك المناطقية حتى بلغت الخمسين ونيفاً، تقودني إليها جذوري وردود فعلي حين أُصبح محط اتهام بمرتبة إنسانيتي ومواطنتي لأنني سليلة فلّاحين. يدفعني هذا الاتهام للتحصّن وراء مناطقيتي، فتراني أستدعيها على الفور حين تقديمي لنفسي كحورانيّة، وكأنني أقول حذاركم والمساس بأجدادي فأنا حفيدة فلّاحين من حوران فانتبهوا لما تنوون قوله حتى قبل أن يلفظوا حرفاً.

ربما هذا بالضبط ما يحدث أيضاً مع الطوائف والقوميات وليس المناطق فقط، في مجتمع فيه أغلبية ذات لون واحد تجعل الفئات الأصغر أو الأضعف فيه تشعر أنها مضطرة لحماية نفسها تحسباً لأي انتهاك محتمل.

 يحدث هذا على ما أظن حول العالم، في كل الدول التي يفتقد مواطنوها قوانين تحمي مواطنتهم، وتضبط حقوقهم وواجباتهم، فتختفي الانتماءات الصغيرة لعدم وجود ما يخشوه، ولعدم الحاجة للتقوقع حول أنفسهم أوللتحالف على عماء تحت غطاء الدفاع الاستباقي عن النفس، والتضامن في وجه المخاطر المحتملة.

بينما تجد تلك الفئات تتحوّل في الدول ذات السلطة الديكتاتورية إلى مجتمعات مغلقة تحافظ بشدة على أواصر وصلات بين أفرادها، قوامها العادات والتقاليد والممارسات واللهجة المشتركة، ويصبح الانتماء للمنطقة أو الطائفة أو القومية معنى الوجود وأصل الحياة التي تصبح بلا معنى لديهم بدون تلك الروابط، ويصبح هذا الانتماء عصب الوجود كلّه، إلى درجة أن يُحرِّم الإنسان على نفسه الاقتراب من الخطوط الحمراء لمنطقته أو طائفته أو قوميته خشية فقدان انتمائه لها بلفظه خارجها، والحكم عليه بالقطيعة فينقطع شريان الحياة.

الكارثة ليس فيما ينهجه عموم الناس غرائزياً، الكارثة حين تلمس من أصحاب العقل والثقافة والمنطق والعلم الخوف من الاقتراب من تلك الخطوط الحمراء ونقد ما يمس مجموعاتهم، في حين يدعون للحريّة والتحرر من القيود الدينية والطائفية والقومية لدى الآخر، أي آخر. هذا الخوف هو بالضبط ما جعل أجنّة الإجرام والانحراف تصبح قوّة مؤثرة قد تأخذ أهلها إلى داهية كما يحدث في درعا والسويداء، وأرى فيه نموذجاً لما يمكن أن يحدث بعد حين في أنحاء سوريا، ويحوّلها كلّها إلى أرض لحرب أهليّة حقيقية سعى النظام السوري من سنوات عديدة لتتبنى المصطلح دول العالم حين توصّف المقتلة الجارية في سوريا تحت رعايته ومن بطولته وبطولة أشباهه.

ما يحدث في درعا والسويداء في الجنوب، وما سيحدث في الشرق والغرب والشمال، بين العرب والكرد، بين أهل الدير والرقة، بين إدلب وحلب، حتى بين الطوائف التي تحمل من مئات السنين تاريخاً مثقلاً بالظلم والقهر من إحداها للأخرى، أو عداءاً تاريخياً بين واحدة وأخرى، هو بجدارة حرب أهلية حقيقية ستحصد الجميع بلا استثناء، أو بالأحرى ستحصد ما بقي من بلد وأهله. لم تعد القضايا الساخنة المطروحة على الساحة السورية ثورة شعب ولا حراك تغيير ولا انتفاضة مقهورين، تعدّت كل هذا بعد سنوات حرب طويلة أنهكت السوريين اقتصادياً واجتماعياً، وأودت بأحلامهم إلى داهية، تعدّت كونها حمل السلاح للدفاع عن النفس، أو لتغيير نظام حكم بثورة مسلّحة، أو لأرض معركة لنزاعات بين دول تريد موطىء قدم لها في منطقة جغرافية حسّاسة تفتح نوافذ على شرقنا الملعون، أو حتّى لم تعد لحفاظ سلطة الاستبداد على الحكم، ولا للدفاع عن وطن، ولا لمحاربة إرهاب.

القضايا الساخنة ضاقت لتتحول لدفاع عن مصالح فردية، أو مجموعاتية، أو مناطقية، أو قوميّة، أو طائفية دينية. ضاقت حتى مُسِخت كل القضايا التي جمعت حولها السوريين حين اتّحدوا تحت شعار الحريّة، والعدالة، والديمقراطية، والمواطنة المتساوية.

 تلك نتائج طبيعية لمجتمعات أنهكها السلاح، فأصبح صوته يحكم الأرض لا القانون، في ظل دولة لم تعد تملك مقومات دولة، تقودها سلطة السلاح المستبد وفق عقلية تشبه بشكل ما عقلية العصابات التي أنتجها الوضع الراهن، سلطة فلت عقالها فانفلت السلاح على الأرض المستباحة، فوق رأس الشعب  المستباح.

ما يجري في درعا والسويداء نموذج واضح لمن ما زال يملك بصراً وبصيرة، السلاح أغرق الأرض وأصبح في متناول الجهلة والهُمّل، والزعران والمجرمين، والمنحرفين وسَقَط القوم، يتم استخدامه لغايات وأهداف ليس فيها ذرة من الأخلاق، للسرقة ولفرض السطوة وللخطف وللتهريب ، لتجارة السلاح والحشيش، لتهريب الآثار، للصفقات المشبوهة في سوق مفتوح للمنافسة، وتضارب مصالح لا حدود له.

كل هذا يجري تحت بصر سلطة لا سلطة لها تتظاهر بالعماء، وأفراد وعائلات، وحمايل وعشائر وشيوخ، غضّوا الطّرف، وتظاهروا بالعمى والطرش، وتسلحوا بالخرس، حتى وقعت الواقعة وستقع، ولم يعد بالإمكان ضبط عقال الحمقى، في بلد مريض عليل، بلا قانون، وشعب بلا حماية، يهرول للتقوقع كل حول نفسه، وتحيا غرائز البقاء والدفاع عن الانتماء الضيّق، العائلي أو المناطقي أو الديني أو غيره.

في ظل وضع بهذا السوء، وعندما تقع الواقعة، تحيا غرائز البقاء والدفاع عن الانتماء الضيّق تذرّعاً بأسباب هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، وتُستثار العواطف بالدعوة للنخوة والفزعة، وانصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وأنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمّي على الغريب، وتُشعل النار وتحترق البشر والحجر.

ما تحتاجه درعا والسويداء وما يحتاجه من سيأتيهم الدور بعدهما ليس عقلاء وشيوخاً لم يكونوا يوماً عقلاء، إنما صحوة مجتمعية تعيد ترتيب أولوية الولاء فتضع على رأسها الولاء لوطن في نزعه الأخير، تنعش فيه دولة ديمقراطية تحمي مواطنيها وتضع قوانين تضبطهم، تدافع عن حقوقهم وتفرض عليهم واجباتهم، دولة يتفوّق بها حس المواطنة على أي حس مناطقي أو قومي أو طائفي أو ديني، دولة يشعر في ظلها الإنسان بالأمان فلا يحتاج لقوقعة يتوهّم أنها تحميه، ولا يهرول للاحتماء تحت عباءة تجرّده من حرّيته وتثنيه عن الجرأة المطلوبة للتخلّص منها كمرحلة أوليّة على الطريق للتخلّص من كل أنواع الاستبداد السلطوي، السياسي منه أو الديني أو العسكري أو المناطقي. الحريّة تبدأ عندما نبدأ في كسر قيودنا الفردية لنستطيع أن نكسر القيود التي تكبّلنا جميعاً فنتحرر.

مواضيع ذات صلة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي...

مواضيع أخرى

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

لا يختلف اثنان أنّ الدراما السورية أحدثت فارقاً وصنعت بريقاً أخاذاً في فترةٍ ذهبيةٍ امتدت ما بين عامي 2000 و2010. وتحديداً ما بين مسلسل الزير سالم الذي أخرجه الراحل حاتم علي ووضع فيه الراحل ممدوح عدوان عصارة ما يمكن لكاتب المجيء به نصاً وحواراً وأحداثاً ليجعل منه...

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

أهتم كثيراً بمتابعة الدراما العربية، خاصة السورية، وثمة مسلسلات سورية لامست أوجاع السوريين وما يتعرض له الشعب السوري مثل مسلسل غزلان في غابة من الذئاب للمخرجة المبدعة رشا شربتجي. هذا المسلسل أثلج قلوب السوريين كلهم لأنه حكى بصدق وشجاعة ونزاهة عن أحد كبار المسؤولين...

الأمهات في سورية: عيد ناقص

الأمهات في سورية: عيد ناقص

غدت الأمومة في سورية مهمة قاسية ومثقلة بالهموم واكتسبت أوجهاً كثيرة، إذ انتزعت الحرب دور "الأم" الأولي المناط بالعطاء والتربية والمساند المادي الثانوي، وبدأت كثير من الأمهات يلعبن دور المعيل الأساسي ومصدر الدخل الوحيد لتحمل نفقات الأسرة في ظل غياب قسري أو اختياري...

تدريباتنا