تدريباتنا

الموزاييك: حرفة تلفظ أنفاسها الأخيرة

بواسطة | فبراير 13, 2021

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

ما أن تقودك قدماك إلى النهاية الشمالية لسوق البزورية في دمشق القديمة، حتى يطالعك قصر العظم بتصميمه المعماري الإسلامي، وزخارفه المطعمة بالصدف المستلقي على خشب الجوز والكينا المعتقين لتتساءل في سرك: “من هي اليد الماهرة التي صنعت كل هذا الجمال!”. وخلال تدرجك بلاط الأرصفة الممتدة بين باب شرقي وباب توما وصولاً إلى القيميرية، يأتيك الجواب، هم حرفيو الموزاييك وتصديف الخشب. تُحاول البحث عنهم وتقفي أثرهم، لتتفاجأ أن معظمهم هاجروا وهُجروا وباتوا يعدون على أصابع اليد الواحدة.

يعد اسكندر الحلبي من المدافعين الشرسين عن هذه المهنة، والصامدين في وجه اندثارها، خاصة بعد سنوات الحرب الطويلة التي تركت أثرها، شأنها شأن المهن الأخرى. يقول الحلبي عن تجربته: “بدأت حرفة الموزاييك بالتراجع مع بداية الحرب، هذه المهنة تستهوي السياح، والسياحة متوقفة منذ أكثر من ثماني سنوات، ناهيك عن فقدان المادة الأولية وهي الخشب، إذ تعتمد الموزاييك على أخشاب الجوز والكينا والليمون والزيتون والحور، جميعها مصدرها الغوطة الشرقية التي تدمرت وقطعت أشجارها، وبالتالي أثرت على إنتاج وديمومة هذه المهنة”.

يوضح الحلبي الذي نال الجائزة الأولى في حرفة الموزاييك خلال مشاركته في أحد المعارض الخارجية منذ أربعة أعوام، أن ارتفاع أسعار المواد الأولية للخشب المستورد تحدي إضافي له خاصة، وللحرفة عموماً، وفي حال توفر الخشب المحلي، فهو مكلف للغاية نتيجة صعوبة توفيره والتحكم بأسعاره، وبالتالي امتناع الناس عن الشراء، يضيف قائلاً: “الحصار الاقتصادي على سورية ضاعف من انقراض هذه الحرفة، لعدم وجود أسواق خارجية لتصريف المنتجات، بينما لا يوجد أسواق داخلية لمهنتنا كونها لا تتجاوز الكماليات، على خلاف الأسواق الدولية، لأنها حرفة دمشقية ويدوية وتنال الكثير من الإعجاب دولياً”.

أثر الركود الاقتصادي العالمي والعقوبات الاقتصادية على سوريا  بشكل كبير ومباشر على هذه الحرفة، بدءاً من ارتفاع أسعار المواد الأولية التي وصلت إلى أضعاف مضاعفة، كالصَّدَفْ الذي كان بعشرين ألف ليرة وبات الآن بسبعين ألفاً، إلى جانب الجائحة العالمية كوفيد 19 التي حدت من حركة المطارات وألغت فرصة المشاركة في المعارض الدولية للحرف اليدوية.

قلة الأيدي العاملة وهجرة أصحابها الأصليين

لايملك الحلبي (عضو مجلس إدارة في الجمعية الحرفية للمنتوجات الشرقية) أيدياً عاملة تساعده في الورشة، والأمر ينطبق على زملائه في الحرفة، وعن ذلك يقول: “الورشات في دمشق موزعة في العشوائيات ولا يتجاوز عددها العشرين ورشة، أما ورش الريف فإما أغلقت أو دمرت أو أحرقت أو هاجر أربابها طوعاً أو هُجروا قسراً، بحثاً عن مصدر رزق أكبر”.

يُشير الحرفي إلى بدء عودة بعض ورشات العمل تدريجياً إلى العمل في الأرياف، لكن بشكل محدود وخجول كصنع طاولات زهر أو علب صغيرة الحجم لا أكثر، مطالباً بدعم جدي وملموس لهذه الحرفة قبل أن تنقرض كلياً، خاصة أن الدعم الذي يحظى به الحرفيين “محدود جداً” حسب وصفه.

تُعد ورشة إسكندر القابعة في حي الطبالة من الورشات الباقية على قيد الحياة، بالرغم من مساحتها الضيقة ومعداتها البسيطة، لكنها تنجز عملاً فنياً في غاية السحر والدقة مع نهاية اليوم وغروب الشمس. وعن آلية صنع الموازييك (الفسيفساء) ومراحل استكمالها، يتحدث الرجل الخمسيني: “أحول الأخشاب إلى عيدان طويلة ورفيعة بمقاسات موحدة ومتساوية الطول في غاية الدقة، وذلك بعد قصها عبر قاطعة الخشب المعروفة باسم المنشار، ثم أقوم بضم هذه الأعواد وفق شكل هندسي معين وأغمسها بالغراء ليوم كامل لضمان التصاقها وتماسكها وعدم انفراطها لتصبح جاهزة في اليوم الثاني وهو ما نطلق عليه اسم الأماية التي بدورها نقوم بقصها لينتج عنها قشور خشبية تدعى الموزاييك، بحيث نقوم بإلصاقها على القطع الخشبية المخالفة والأثاث وسواها”. ويوضح الحلبي أنه يترك في بعض الأحيان أماكن فارغة على الخشب لتلبيسه بالصدف الطبيعي وتسوية السطوح ليرسلها فيما بعد إلى البراد بغية التلميع.

الجميع يستأثر لقب شيخ الكار

إلى جانب الحلبي الذي ينسب لنفسه لقب شيخ الكار، هناك العديد أيضاً ممن يستأثرون بهذا اللقب. فمثلاً يقول الحسن الحرستاني مشهراً في وجهي ختم العائلة كدليل دامغ يقطع الشك بعراقة انتسابه للمهنة “أباً عن جد”. ويتابع حديثه بالقول: “ورثت هذه المصلحة عن أبي الذي بدوره ورثها عن أبيه ثم جده، فجدي هو شيخ الكار.”

تعلم الحرستاني هذه الحرفة منذ الصغر إلى أن اتخذها في الكبر مهنة تدر له المال. تمكن خلال سنوات عمله من تعلم أصول المهنة وإتقان جميع أساليب طرز الحفر الشرقية التي تسمى خيوط الحفر، حيث  بدأت هذه الخيوط غائرة ثم سرعان ما تطورت مع الزمن وأصبحت تجمع ما بين الغائرة والنافرة معاً، وعن ذلك يعد أنواع الخيوط: “هناك القيصري والعربي والفاطمي والأيوبي والفارسي وغيرها”.

تختلف أسعار القطع الخشبية نظراً لاختلاف المواد الداخلة فيها، إذ لكل منها قيمة نقدية مختلفة عن الأخرى، فتلك التي تحتوي صدفاً بحرياً تكون أغلى من النهري، وكذلك المستورد (من الفلبين) أغلى مقارنة بالمحلي(الديري)، بالإضافة إلى كمية الفضة والعضم المستخدمة فيها.

تاريخ صناعة الموزاييك الدمشقية

تعد صناعة الموزاييك الدمشقية من أقدم المهن العريقة التي اشتهرت بها المدينة. يعود تاريخ صناعة الموزاييك إلى أكثر من 700 عام حيث اشتهرت هذه المهنة أيام الأتراك. ويُعد بيت نظام ومكتب عنبر وقصر خالد العظم والسباعي والقوتلي من أشهر البيوت الدمشقية المزينة بهذه المادة. كما أصبح الموزاييك الدمشقي كالسفير الذي سبق السياسيين إلى معظم دول العالم، حيث يحتل الموزاييك الدمشقي مكان الصدارة في أثاث الصالون في قصور رئاسية عالمية كقصر رئيس الجمهورية الفرنسية وقصر رئيس جمهورية المكسيك؛ فضلاً عن قصور خليجية متعددة.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

كي لا تصبح دمشق سجناً لأبنائها مرة أخرى

كي لا تصبح دمشق سجناً لأبنائها مرة أخرى

بين اللطم المشهديّ في الشوارع "ولبّيك يا حسين" إلى "أعزّنا الله وأذلّكم"، و"الشام عادت إلى أهلها أمويّة أمويّة رغم أنف الحاقدين"، وفي ظلّ حملةٍ أمنية متبّلة، في بعض تصريحاتها، ببهارات الانتصار الطائفية، ومشهدية صارخة لمعاملة الآخر المعتقل كحيوان وإجباره على النباح أو...

تحرّر الإبداع في سوريا الجديدة

تحرّر الإبداع في سوريا الجديدة

حين نعود بالزّمن إلى ما قبل سقوط نظام الأسد في سوريا، نجد أنفسنا أمام مشهدٍ ثقافيٍّ ضعيفٍ يخفي خلفه واقعًا قمعيًّا. كانت الكتب والمجموعات الشّعريّة الصّادرة عن الهيئة السّوريّة للكتاب، إلى جانب الرّوايات والمجلاّت، مجرّد واجهةٍ تروّج للإبداع المزيّف تحت سيطرة السّلطة....

تدريباتنا