تدريباتنا

الهوية السوريّة الضائعة

بواسطة | أبريل 18, 2018

سوريا هي تلك البقعة الجغرافيّة التي تقع عند نقطة التقاء قارات العالم الثلاث حيث يلتقي العرب بالكرد والتركمان بالأرمن والسريان بالشركس والآشوريون بالغجر، وحيث يزيد عدد الأديان والطوائف فيها على عددها في كل الاتحاد الأوروبي مجتمعة. لربما يقول قائلٌ إنّ هذا التلوّن، أو كما يقول التعبير الذي أصبح ممجوجاً، (اللوحة الفسيفسائيّة) أجمل ما في سوريا، كاد هذا أن يكون صحيحاً قبل أن تتحول البلاد لساحة صراع مفتوح تنفتح فيها جميع الاحتمالات على جميع الأصعدة ويستغل كل طرف أحد ألوان الطيف ليحقق مآربه على أكتافه، وقبل أن يصبح القتل على الهويّة، وقبل أن تتوه الأكثريّة في لعبة الجذور، وقبل أن يجيب الكردي السوري المغترب إذا سئل من أين أنت قائلاً أنا من كردستان، ثمّ ينتسب الإيزيدي لدينه لا لقوميته ولا لجنسيته حين يقول أنا إيزيدي، هنا يسأل سائل لا يعرف شيئاً عن سوريا:

من هم السوريون… السوريون فقط؟ وما هو لون العلم السوري، ومن يجب أن يجلس على كرسي مجلس الأمن ليتحدث عن سوريا، وما هي اللغة الرسمية في سوريا؟

تخيلوا أنّ هذه الإجابات أصعب من أن تتم الإجابة عليها في جلسة واحدة، فالدولة السورية اليوم هذا بعد وضع كلمة الدولة بين قوسين أصبحت تعيش أزمة هوية حقيقية، فعلى الأرض مثلاً ثمة من يطالب بسوريا علمانية و ثمة من يطالب بها إسلاميّة وثمّة من ذهب إلى أبعد من ذلك ليجعلها ولاية تابعة لدولة إسلامية تمتد حدودها من الصين شرقاً حتّى الأندلس غرباً، وثمّة من يريد أن يجعل منها مملكة شمولية يرثها الابن عن الأب ويورّثها للحفيد.

برج إيفل هو رمز فرنسا أو ما يتبادر للأذهان عند ذكر كلمة فرنسا، فما هو رمز سوريا، حذاء عسكري؟ أم حزام ناسف؟ أين هي العاصمة السورية؟ موسكو؟ طهران؟ إسطنبول؟ أم لعلها الرياض؟ هذه المعضلات التي فتحها الصراع السوري وشكل الهويّة الضائعة والكائن السوري الممزق الذي لم يعد يعرف على أيّ جانبيه يميلُ.

مما لا شكّ فيه أن 75% من شعب سوريا يريد سوريا حرة ديمقراطية تعددية مبنية على أسس حديثة وحضاريّة، ولكن حين أراد هذه العالم كله نهش قطعة من الكتف السوري استغلالاً لمطالب الشعب التي بدأت عفويّة وانتهت بما يسمّى المأساة السورية أصبح من الواضح أنّ الخيارات أصبحت أضيق مما يمكن أن نتخيل فإما الرضوخ لحكم شمولي سلطوي لم يعد كما كان في سنة 2010 بل أصبح أكثر طائفيّة وتبعيّة لمشاريع خارجية لا تمت لواقع البلاد بصلة، وإما اختيار نمط حكم إسلامي تتبع كل حارة فيه لفصيل وكل شارع لجهة ولا يعلم الله ماذا سيحدث بين تلك الفصائل فيما لو انتهى عدوهم المشترك المتمثل بالنظام وبدأ الصراع… يومها حقاً لن يعرف السوري من يقتل من ومن يريد أن يسيطر على من، وبين مشروع غربي يريد تمزيق البلاد إلى فتات بما يتوافق مع مصالحه ومصالح العدو الأكبر لسورية (إسرائيل)، وهنا سنجد أن الهوية السورية ستكون على تفصيل السيناريوهات التالية:

فيما لو انتصر النظام: وهذا ما ترجحه التوقعات فإن هذا لا يعني أن تعيش البلاد كما عاشت منذ عام 1963 على الإطلاق فإن هذا النظام لم يعد لوحده حاكماً للبلاد، هذا يعني أن سوريا بلد واقع تحت احتلال روسيّ إيراني مباشر وعلى الهوية السورية أن تكون خاضعة لمقاس هذا الجسد الجديد، والهويّة الاجتماعيّة أصبحت بين منتصر سيتفنن في تجبّره ومهزوم لا بدّ له من الهتاف من أجل الحصول على بعض الماء كما حدث بعد دخول الجيش السوري إلى الغوطة.

أمّا السيناريو الثاني وهو المشروع الأمريكي والذي يقع في المرتبة الثانية من حيث القوّة ما لم يرجحه قرار مفاجئ لرئيس أمريكي إشكالي وارتجالي في قراراته كدونالد ترامب فإنّه سيجعل الهويّة السوريّة أكثر تشتّتاً تعيش التبعية لعدّة دول وتتفرق لعدة بطاقات متوزعة هنا وهناك فمن مناطق ينطبق عليها الخيار الأوّل لمناطق تهتف (لبطل الأمّة الجديد) كما يروج له رجب طيّب أردوغان، لمناطق تعيش تحت الذراع الأمريكيّة ويتم تغيير أسمائها وفقاً لمشيئة الأكراد الذين يمثلون المشيئة الأمريكية في سوريا كما حدث في (منبج) التي أرادوا إطلاق اسم مابوك عليها.

أما السيناريو الأخير الذي انحسر كثيراً وبدأ يتلاشى فهو قيام سوريا كدولة إسلاميّة تقوم بإقصاء كل أشكال الانتماء الأخرى، وتفرض عليهم الجزية باسم الدين، والطاعة باسم الكتاب والسنّة وهنا تصبح الهوية السورية منصهرة في هوية تاريخية متجذرة في الجغرافيا لا تعطي بالاً لأي انتماء آخر ولا تحترم الألوان المختلفة، حيث تدخل في حرب فصائل مفتوحة كما يحدث في الصومال وأفغانستان، وهذا ما بدا أو ما يبدو أن سوريا نجت منه بشكل جزئي

وهذا كلّه يعني أنّ الحرب نجحت بشكل شبه كامل بتدمير الهوية السورية وتحويلها إلى ركام ضائع بين أقدام الداعمين والمستغلين وأصحاب المشاريع من غير السوريين، فهنا نجد سوريّاً يرفع العلم التركي في عفرين وسوريّاً يرفع أعلام فصائل طائفية في البوكمال وسوريّاً يرفع علم حزب الله اللبناني في بعض مناطق دمشق وجنديّاً روسيّاً يمنع من يعتبر رئيساً للجمهورية العربية السورية من التقدم والمشي بمحاذاة الرئيس بوتين وسوريّاً يرفع علم الولايات المتحدة الأمريكيّة فوق محطة لتوليد الطاقة في المنطقة الشرقية في سوريا، وكل فصيل استقدم معه كل حثالات الأرض من غير السوريين ليقاتلوا معه فمن استقدم الكتائب شيعية الانتماء الطائفي من أفغانستان ولبنان والعراق لتقاتل معه ومن استقدم رجالاً من الطائفة السنية بتوجه سلفي من أفغانستان والشيشان والمغرب وتونس وليبيا ليجعلهم أمراء حاكمين بين الناس، ومن جعل من رجال حزب العمال الكردستاني التركي حاكمين على مقدرات سوريا وبترولها، كل هذا وأكثر منه يعني ألا شكل محتمل لدولة حقيقية يلوح في الأفق السوري ولا شكل محتمل لهوية حقيقية ستجمع السوريين بعد أن تفرق جلّهم بين من يقوم بقهرهم بشكل يومي على اختلاف انتمائه وأجنداته في الداخل السوري، وبين انشغالهم بتأمين حاجات العيش في المهجر التي سلبهم كثيراً من انتمائهم القومي والوطني والاجتماعي.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا