تدريباتنا

اليأس كسلاح للاستبداد

بواسطة | سبتمبر 12, 2017

«الراديكاليّة الحقّيقيّة هي أن تجعل الأمل ممكناً، لا أن تجعل اليأس مُقْنِعاً.» 

ريموند وليامز

تحل هذه الأيّام الذكرى السابعة لانطلاق الثورات العربيّة، والتي تسمّى أحياناً «الربيع العربي». ومهما اختلفنا حول كونها «ثورات» أو «انتفاضات»، فيستحسن  العزوف عن استخدام مصطلح «الربيع العربي». وذلك لأنه إشكاليّ ويرتبط بفرضيات خاطئة وبخطاب معيّن تترتب عليه تبعات سلبيّة سنتطرق لها. فلم يختر صانعو هذه الثورات هذا المصطلح ولا أطلقوه هم على ما قاموا به. بل جاء، عموماً، من «مراقبين» أجانب لم يفهم معظمهم جذور هذه الثورات ووقعها وآثارها. ولم يتعب هؤلاء أنفسهم بقراءتها ووضعها في سياقها التاريخي المحلّي الصحيح. وكان معظمهم قد شكّكوا، أصلاً، مثلهم مثل غالبية الأكاديميين والـ «خبراء» المختصّين، ولعقود، بإمكانية قيام ثورات كهذه في بلادنا. البلاد التي قيل لنا مراراً وتكراراً في كتب ومؤتمرات ودراسات ومقالات وبحوث شتّى أنّ تركيبتها الاجتماعية وثقافتها السياسيّة، وموروث دين الأغلبية فيها، مجتمعة كعوامل، مع غلبة الأخير، تجعلها أكثر تعايشاً مع الاستبداد، وغير مؤهلة، بل طاردة، للتحرّر بكافة نسخه، باستثناء تلك التي ترتبط بالدين وبالماضويّة. وبذلك ليست نزعات التحرّر الفاعلة هذه إلا انتقالاً من سجن الحاضر إلى سجن الماضي. كما أنّ مصطلح «الربيع» الذي سارع هؤلاء لإلصاقه بالثورات العربيّة يضع سلالة ومرجعيّة هذه الثورات في سياق تاريخي آخر ويجيّرها لصالح سرديّة رثّة، لكنها تظل تعمل بقوة. تُرجِع هذه السردية أصول كل انعطافة تاريخيّة، أو تغيّر مفصلي، أو حدث يقع أو سيقع في أي بقعة في العالم، إلى «غرب» جغرافيّ أو خطابيّ. وهكذا فإن الثورات العربيّة تفقد خصوصيتها باستعمال هذه المصطلح وتصبح محض «استكمال متأخّر» أو «لحاق» بركب التاريخ (الذي بدأ أوربيّاً، والإشارة هي إلى «الربيع» الذي أعقب انهيار الاتّحاد السوڤييتي)، وهي فكرة خاطئة بالطبع. ويجب أن نتذكر كيف كانت هناك محاولات لإسقاط وتهميش دور المواطنين الذين فجّروا هذه الثورات واختزال تاريخ من النضال وذاكرة ثورية متجذّرة بعزو هذه الثورات إلى الأدوات التي استخدمت فيها وخلطها بها وبالتكنولوجيا التي أنتجها وطورها «الغرب» (الفيسبوك، بصورة رئيسية، والتويتر). حتى أصبح طقس تبجيل وشكر مارك زوكربرغ فرض.اً وكأن الثورات لا تستخدم في كل عصر ما تيّسر من وسائل وأدوات. قد يقول قائل: ما أهميّة التوصيف الذي نستخدمه لهذه الثورات، والآن بالذات، بعد أن لم يبق منها شيء وبعد أن هُزِمت وتحوّلت إلى حروب أهليّة شردت الملايين ودمّرت المدن ومزّقت الخرائط، وأطلقت عنان داعش وأخواتها، أو قادت إلى عودة دكتاتوريّات عسكريّة أكثر تغوّلاً من الأنظمة التي أسقطتها، وصار «الربيع» خريفاً، بل شتاء طويلاً كما يردد البعض؟

للتوصيف أهميته الكبرى. فالكيفية التي نستوعب فيها أي حدث مفصلي، والسردية التاريخيّة التي سيتموضع فيها، ستحدّدان معناه في القاموس السياسي ومكانه في الوعي والذاكرة الجمعية. وبالتالي ما ينتج عن استعادته، والدور الذي يؤديه رمزياً كحدث ملهم أو بذرة لتغيير مستقبلي، مهما كان الحاضر معتماً. يستدعي الحديث عن الثورات بالضرورة الحديث عن نقيضها: الثورات المضادة. وانتصار الأخيرة، المؤقت، امتد من الميادين والشوارع إلى الحقل الخطابي ليتغلغل فيه. خطاب الثورات المضادة هو الذي يهيمن الآن على المشهد العام. ويمكن أن نرى ونقرأ أعراضه في كل مكان. لا يتّسع المجال هنا للاستفاضة، لكن يكفي أن نشير إلى ثيمات رئيسيّة يعاد تكرارها واجترارها. وهي تنتمي إلى ذات الخطاب الرثّ (أعني بذلك الخطاب الذي كان يؤكد استحالة قيام ثورات لأسباب ثقافويّة متهافتة) بل هي تنويعات عليه. ومنها القول الآن إن الثورات في هذه المنطقة لا تؤدي إلا إلى كوارث و«ليتها لم تكن» (وكأن الخيار كان متاحاً: ثورات أم لا!) أو أنه لا يمكن لها أن تنجح أبداً (لذات الأسباب التي ذكرت أعلاه). أو أنّ كل الثورات في هذه المنطقة تقود بالضرورة إلى الحروب الأهليّة وتطييف المجتمعات (المطيّفة أصلاً منذ زمن) أو إلى سيطرة الحركات الأصولية، أو إلى عودة أكثر شراسة للأنظمة الاستبداديّة. ويضاف إلى كل هذا خلاصة مفادها أن هذه الثورات لم تكن إلا مؤامرات حيكت في دوائر الاستخبارات الغربية لتدمير بلادنا. والمقولة الأخيرة تسخيف للواقع والتاريخ وكسل وعقم فكري. 

ليس سرّاً أن محاولة إحداث تغييرات ثورية في منطقة استراتيجيّة، واحتمال امتداد ووصول الموجة الثورية إلى ممالك النفط والغاز، بتحالفاتها المعروفة وأهميّتها الاستراتيجيّة الهائلة، شكّلت تهديداً بالغ الخطورة للنظام الاقتصادي العالمي السائد. وبذلك ليس سرّاً ولا مفاجأة أنه تم تجنيد كافة الوسائل المتاحة لإفشال المدّ الثوري منذ اللحظة الأولى. وذلك بهدف إضعافه، وكبح جماحه، وتشتيته، والتأثير عليه لتحويل زخمه وتمظهراته وتفاعلاته إلى فوضى، أو حروب أهلية يمكن التدخّل فيها والتأثير على مجرياتها. لكن هذا يختلف كثيراً جداً عن سرديّة المؤامرات الاختزاليّة. لست هنا في معرض التقليل من كارثيّة ما حدث من جراء قمع وذبح الثورات والدماء التي سالت والأرواح التي أزهقت، كما المعاناة البشرية المستمرة من جرّاء هزيمة المد الثوري. لكن اعتبار التوق الطبيعي إلى حياة أكثر عدالة ومساواة، والذي يبلوره الشعار الخالد: «خبز، حريّة، عدالة اجتماعيّة» وإلى تغيير أنظمة استبدادية مجرمة، اعتبار ذلك هو السبب في ما آلت إليه الثورات ليس إلا كسلاً فكرياً في أحسن الأحوال. فوحشيّة هذه الأنظمة ووحشيّة شبكة المصالح الاقتصادية الإقليمية والعالميّة التي تساندها في مواجهة هذه الثورات والتآمر عليها هي السبب الرئيسي  في ما آلت إليه الأحوال. لا يعني هذا، بالطبع، عدم توجيه النقد الضروري ودراسة الأسباب المعقّدة للإخفاق والفشل في استغلال اللحظة الاستثنائية وترجمتها إلى مكاسب سياسية. ولقد بدأ هذا وهو بالغ الضرورة للاستفادة مستقبلاً. ومن المهم أن نتذكّر أن الانتكاسات والهزائم، التي تعقب الثورات غالباً، لا تعني بالضرورة موت المثال الثوري الذي تجذّر في الذاكرة الجمعية، مهما بدا وكأن تراب الثورات المضادة وإعلامها وخطابها قد غطّاه كليّاً. من المهم أن نستعيد معنى هذه الثورات كأحداث هائلة حملت بذور التغيير الجذري وبشّرت بإمكان حدوثه وزرعت الأمل. وألّا ندع المنتصرين يزوّرون التاريخ ويفرضون روايتهم. اليأس، في النهاية، عتاد لأسلحة الاستبداد، بكافة أنواعه وتمظهراته، لإقناع المواطنين بأنّ التغيير مستحيل أو أنّه يقود دائماً إلى الأسوأ.  

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا