تدريباتنا

اليسارالمتجدد سيظل موجوداً

بواسطة | يناير 23, 2019

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

اليسار السوري ليس طارئاً تماماً ولكنه مستعار. ولا عيب في الاستعارة في بعض المجالات. الديمقراطية مثلاً مفهوم مستعار وكذلك الصحافة والأحزاب والتكنولوجيا، فلا عيب إذن أن يكون السوريون قد استعاروا مفهوم اليمين واليسار من الغرب الذي أعارنا السيارة والتلفزيون والكمبيوتر والفايسبوك. ثمّة من يستعير ثوبا فيكون كبيرا جدا أو يكون ضيّقا عليه. السوريون (ومعهم المصريون) كيّفوا ما استعاروه على قياسهم، فبدت الأمور عليهم وكأنها أصيلة. ولعلّ نظرة إلى الوراء ترينا كيف أجاد السوريون لعبة الديمقراطية والبرلمان والصحافة والأحزاب، وأيضا اليسار، من دون أن نغرق في نوستالجيا فارغة.

مشكلتان رئيسيتان طرأتا على كلّ ذلك، فغيّرت من وجه اليسار السوري. الأولى كانت حين تنطّح مجموعة من العسكر لقيادة ما يسمّى بحركة التحرر الوطني، التي دمجت ما بين الطبقي-الاجتماعي والوطني-القومي. وهو ما أدى إلى ضياع هوية اليسار واليمين معا. أما المشكلة الثانية فهي الصراع العربي-الإسرائيلي الذي حول القضية برمتها من جهة إلى جهة أخرى.

وإثر هزيمة حزيران 1967، حدث انقلابان كبيران في الحركة السياسية السورية والعربية عموما، انزاح فيهما جزء كبير من التيار القومي العربي نحو الماركسية، وانزاح مقابله جزء من التيار الماركسي نحو الفكر القومي. حركة القوميين العرب بمعظمها تبنت الماركسية، ووُجِدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، ووُلِد حزب العمل الاشتراكي العربي، كذراع سياسي للجبهة الشعبية في لبنان والأردن، وظهرت منظمة العمل الشيوعي في لبنان، التي قادها محسن إبراهيم وفواز طرابلسي، وتحوّل تيار صلاح جديد في سوريا تدريجا إلى الفكر الماركسي-اللينيني تدريجيا، حتى تبناه نهائيا في منتصف السبعينات. جوهر هذا الانزياح كان اكتشاف التيار القومي العربي أن “العدو القومي الرئيس لحركة التحرر العربية يتمثَّل بالإمبريالية العالمية بقيادة أميركا، والتي تستعمل إسرائيل والحركة الصهيونية” كأداة لها وأن كافة الأنظمة العربية، سواء منها الأنظمة “الرجعية” أو الأنظمة “الوطنية التي تحكمها البورجوازية الصغيرة” عاجزة عن مواجهة هذا العدو.

في المنقلب الآخر، كان تيار في الحزب الشيوعي اللبناني بقيادة جورج حاوي وتيار في الحزب الشيوعي السوري بقيادة رياض الترك يتخليان تدريجيا عن “الصَّلف الطبقي” ويريان في المسألة القومية وجاهة لا بدّ من مقاربتها. كان جورج حاوي معجبا بعبد الناصر ولينين، وقد باتت هذه المزاوجة أحد معالم الخلاف في الحزب الشيوعي بين «الأمميين» و«القوميين»، الذي أدّى في نهاية المطاف إلى انتصار «القوميين» وبدء الرحلة الجديدة للحزب الشيوعي من خلال مؤتمره الثالث 1972. أما المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري فانعقد في 1969 وشكّل بداية الخلاف بين أكثرية المكتب السياسي للحزب بقيادة رياض الترك من طرف وقيادة خالد بكداش من طرف آخر. وفي كلا المؤتمرين لعبت القضية الفلسطينية والوحدة العربية دورا بارزا.

هزيمة حزيران وتزاوج التيارين القومي والماركسي، أدى إلى جعل بوصلة اليسار السوري هي القضية الفلسطينية و”الإمبريالية العالمية”، وبات اليساريون السوريون يبنون سياساتهم ليس على واقع سوريا بل على مواقف الإمبريالية الأمريكية، حيث يتجلّى موقفهم ببساطة بمعارضة المواقف الأمريكية واتخذا مواقف معاكسة.

والأسوأ أن ذلك جعل الحدود بين السلطة السورية والمعارضة واهية جدا. والحال أنه منذ وصول البعث إلى السلطة في سوريا، اختفت الحدود الفكرية والسياسية بين الفئتين. فعلى الضد من معظم التجارب الدولية، ينتمي كلا السلطة والمعارضة إلى الجذور الاجتماعية والفكرية ذاتها. وهما، متكاملين، يشكلان جزءا مما يسمى بحركة التحرر الوطني التي ندين لها بالتغيير القسري للمجرى الطبيعي للتاريخ في العديد من الدول الآسيوية والأفريقية، والتي تقبع الآن، مصادفة، في أسفل السلم الحضاري والاقتصادي العالمي. وتعود السلطة السورية، في جذورها التاريخية على الأقل، إلى البنية الاجتماعية التي نشأت عليها المعارضة. فهي ترجع إلى الفئات الريفية التي تعلمت وهاجرت إلى المدينة، فالتحمت مع مثقفي الطبقة الوسطى المدينية الذين كانوا يبحثون عن حلول اجتماعية لمشاكلهم الروحية؛ ولقد وجدوا تلك الحلول، وهم الذين درسوا في فرنسا ودولا أوروبية أخرى، في النظريات التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك.

***

فاجأت الانتفاضة السورية المعارضة الغافية على حدود فلسطين، ولذلك تجدها فشلت في اللحاق بركب الثورة، وانقسمت بين من زايد عليها ومن بقي في منطقة الحكومة. وقد رأينا الانقسام يحدث في اليسار السوري وفي الحزب الواحد نفسه، فكثير من قواعد الشيوعيين انضمت إلى الانتفاضة بينما كان قادتها يجلسون في مكاتب الجبهة الوطنية التقدمية ويقارعون الاستعمار من هناك. وكذلك انقسم حزب العمل الشيوعي بين تيارين، انتقل أحدهما إلى صفوف الانتفاضة، بينما بقي الآخر في منطقة “الدفاع عن الوطن”.

وكما فاجأتنا الانتفاضة، فاجأنا تحوّلها إلى العنف واستخدام السلاح. ويمكن القول ثقة أن الحكومة تتحمل المسؤولية الكبرى في اللجوء إلى السلاح كحلّ، من خلال القمع الدموي العنيف للمحتجين السلميين، ولكننا لا يمكن أن نغض الطرف عن تدخلات القوى إقليمية التي كان من مصلحتها عطف الثورة باتجاه حرب أهلية.

ويسود اليوم سؤال: أكان الأمر يستحقّ كلّ ذلك؟ في مسرحية “يعيش يعيش” للرحابنة تسأل هيفا (فيروز) السؤال نفسه: “اللي بيندفع حقه ناس هو أغلى من ه الناس؟” والحال أن هذا سؤال وجودي أكثر منه سياسيا. وقد سألت نفسي هذا السؤال منذ إطلاق أول رصاصة. وانقسمت داخليا في الجواب: فالقسم الإنساني كان يؤكد بوضوح على أن لا شيء يستحقّ التضحية بطفل أو صبية أو رجل أو امرأة لهم أسرة وأصدقاء ومحبون. السياسي الذي داخلي كان يقول إن الثورة لو لم تحدث اليوم لحدثت بعد سنوات، ولكان وقعها اشد مرارة. وأعتقد اليوم أن ذلك ما سيحدث بعد سنوات أو عقود.

***

لم تقسم الحرب السورية اليسار السوري فحسب، بل واليسار العربي والعالمي أيضا. وقد رأينا في تونس مؤخرا متظاهرين يساريين يرفعون صور الرئيس السوري بشار الأسد أثناء احتجاجاتهم على حكومتهم. ومعظم اليسار الحاكم في أمريكا اللاتينية وغيرها يؤيد ما يرونه “ممانعة” سورية للإمبريالية العالمية. بالمقابل، ثمّة العديد من اليساريين والمثقفين في العالم والدول العربية الذين يقفون إلى جانب حقّ السوريين في تقرير مصيرهم وفي رفضهم لحكم أو نظام معين.

ووجد قسم آخر من اليسار، الذي يستند إلى البوصلة ذاتها، نفسه في مواقع يتحالف فيها مع تيارات إسلامية متطرفة، منها حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين. ولعلّ مرد ذلك أن هذا القسم لا يزال يهتدي بنجم الشمال الذي هو موقف هذه القوى “المعلن” من القضية الفلسطينية وإسرائيل والإمبريالية.

والآن، هل يمكن الحديث حالياً عن “يسار سوري”؟ لا يمكن للحياة السياسية ولا المجتمعية أن تتقدّم بدون حوار وجدال وصراع بين المحرك إلى الأمام والقوّة التي تريد المحافظة على الواقع. ولئن اتفق على تسمية الفئة الأولى يسارا، فإن هذه القوّة ستظلّ موجودة وستظلّ تلعب دورا في عملية التغيير. غير أن المفاهيم لن تكون ذاتها، واليسار التقليدي (وخاصة اليسار الشيوعي الذي لا يستطيع التمييز بين روسيا بوتين وبين الاتحاد السوفييتي) سيتحوّل إلى معاقل اليمين بدون خجل. أما اليسار المتجدّد الذي يرى في الحركة إلى الأمام قدر السوريين، فسيظلّ موجودا، وسوف يجمّع نفسه قريبا في حركة واضحة المعالم تسير على طريق واضح ومحدّد.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا