تدريباتنا

تداخل الخاص بالعام في الأحداث الكبرى: الهزات الأرضية الأخيرة في سوريا

بواسطة | أغسطس 17, 2024

في فجر الثالث عشر من آب الجاري حدثت هزة أرضية بقوة 4.8 درجة على مقياس ريختر في كل من سوريا ولبنان والأردن. وتركزت الهزة في سوريا بمدينة سلمية التابعة لمحافظة حماة والتي تبعد عنها ثلاثين كيلومتراً إلى الشرق منها. وفي يوم الجمعة السادس عشر من آب أصاب نفس المنطقة زلزال ثاني تباينت التقديرات بشأن قوته من 4.8 إلى 5.2 درجات.

يقول المثل العامي: “إن الناس تجهل ما لا تعرفه!”، ولكن في مشاعر ذاكرة الناس في سوريا ما يزال زلزال السادس من شباط العام الماضي 2023 حاضراً، ما أدى إلى تضاعف خوف الناس لأنهم يعرفون ماذا يعني الزلزال وماهي تبعاته وآثاره المدمرة.

 ولحسن الحظ، جاءت النتائج سليمة ودون ضحايا، لكن مع وجود عشرات  الإصابات بجروح طفيفة أو بكسور بسيطة نتيجة التدافع أثناء الهرب أو نتيجة لانهيار بعض الجدران المتصدعة من الزلزال الماضي، أو بسبب تداعي البيوت وعدم ترميمها وإصلاحها لأسباب مادية بحتة تعكس حجم التراجع الاقتصادي وضعف القوة المالية وانصراف الناس للإنفاق وبالحد الأدنى على الضروريات المباشرة والآنية.

إن المتابع للمشهد السياسي والاقتصادي والعسكري العام في المنطقة يعتقد أن حدثاً مثل هزة أرضية سيمر خفيفاً وسريعاً وكأنه شأن شخصي ذو نطاق ضيق ولا ينعكس إلا على أهل المنطقة التي ضربتها الهزة، فالموت المحدق من كل حدب وصوب يقتل يومياً عشرات الأشخاص في غزة وفي لبنان وفي سوريا أيضاً. نظن أنه وفي سطوة الموت بالمدافع وبالقنابل وفي زحمة التدمير العنيف وحروب الإبادة الدائرة، أن موتاً طبيعياً ينتج عن تمرد بسيط أو جراء تحرك عنيف للطبيعة لا قيمة له أبداً ولا ينبغي أن نحرك ساكنا حياله.

لكن المشهد كان مختلف تماماً وتحديداً في مدينة سلمية المعروفة بمدينة الفكر والشعر والثقافة نسبة إلى الشاعر والكاتب المسرحي محمد الماغوط والشعراء فايز خضور وعلي الجندي، والمفكرين عاصم وسامي الجندي وحسين الحلاق وسواهم الكثيرون و الكثيرات.

يمكن القول وبكل وضوح وثقة، إن انعكاس الهزة الأرضية على ردود الأفعال وما رافقها من تعليقات وكتابات وحوارات مجتمعية في بقعة صغيرة من الجغرافية السورية كان مرتبطاً بشدة بالواقع العام في المنطقة العربية وخاصة ما تشهده من حروب ومن اضطرابات عسكرية وارتدادات شعبية على واقع زاخر بالعسكرة وبالرصاص جراء وجود احتلالات متعددة، ما يفرض حالة عامة من القلق الشعبي العارم وكأن البلاد على فوهة بركان قاتل، ويخلق جواً من الترقب لحل ما يجب التوصل إليه، أو على الأقل ضرورة وجود رد حاسم أو مانع لما يعوقه من تردد سياسي عالي المستوى وحالة من الغموض الجيوسياسي، وبخاصة في ظل حالة الصمت السائدة ما بين الحكام وشعوبهم في دوامة عارمة من إنكار كل طرف للطرف الآخر.

عبر أحدهم على صفحة الفيس البوك بعد حدوث الهزة قائلاً: “نعيش في موقع جغرافي تحفة، مفتوح على جميع جبهات الحروب والكوارث الطبيعية والعسكرية”. يتداخل الخاص بالعام هنا، لم تعد تعني الجغرافيا سوى الانتماء إلى منطقة مشتعلة، والأسماء ليست بذات قيمة، نعيش على وقع الرصاص، نصحو على معركة وننام وصخب المعارك يرافقنا حتى في نومنا.

اللافت أيضا هو درجة السخرية العالية التي رافقت الحدث، سخرية مرة لكنها لاذعة، كأن تكتب إحداهن: “بعد كل هزات البدن اليومية جاءت الهزة الأرضية ليتلاشى البدن، لكن على من؟ بتنا شعبا ضد كافة أنواع الهز”. وقال أحدهم في شكل مباشر يربط بين الضربات المتوقعة ما بين إيران وإسرائيل هازئاً: “بينما ننتظر الرد من فوق ويقصد السماء يأتينا الرد من تحت ويقصد باطن الأرض” إنها السخرية التي تشي بحجم الخراب الراسخ وبحجم العجز المستقر.

 في محيطنا القلق والمشتعل ينتظر الناس النيزك علّه يحمل خلاصاً نهائياً لجميع المشاكل العالقة، يعتقد غالبية اليائسين أن أحلامهم في التغيير والاستقرار وإرساء الأمن والسلام كلها أفعال إعجازية غير قابلة للتحقق، هم متأكدون أنه لا خلاص في ظل مواجهة غير عادلة ومحسومة سلفاً لصالح الأقوى والأكثر شراً وتجاهلاً للحقوق وللعدالة.

 لكن للمصائب وجه آخر، وجه تعاضدي رغم قلة الحيلة وسطوة الخراب، كتب أحدهم على صفحته: “سيارتي في تصرف كل من يحتاج التنقل أو الإسعاف.” كما وضع شخص آخر عنواناً لمركز مبني على أسس الحماية من الزلازل والهزات داعياً الناس لكي يقصدوه ويقضوا ليلتهم هناك مع الإشارة إلى توفر الكهرباء وهذا شأن عظيم في ظل أزمة انقطاع تام للكهرباء، أزمة خانقة وطويلة تعوق الحياة برمتها، فكيف إذا ما زادت الهزات الأرضية واقع الحياة سوءاً وخوفاً. وهنا تجدر الإشارة إلى ما كتبته سيدة تحتفي بالهزة بسخرية فائقة قائلة: “الحمدلله على نعمة الهزات! بفضل الهزة حضرت الهانم الكهرباء لمدة ثلاث ساعات متتالية، هزة محرزة وضاوية!”

على صفحته على الفيس بوك كتب أحد الأطباء: “بينما كنا نقطب جرحاً غائراً في كف شاب ونساعد امرأة على الصحو من إغمائها بسبب الخوف، سمعنا صراخ طفل وصل حتى غزة!” يربط الطبيب هنا بين واقعين داخلي وخارجي، خاص ومحدد وعام غير محدد.

بات ما يجمع الشعوب المنكوبة هو صراخ الأطفال وعجز الأطباء والمشافي وإغماء الناس من شدة الصدمة. يبدو الحال واحداً لكنه يتوسع ويتعمم.

 خرج أحدهم إلى الشارع وهو يحمل بيده طاولة الزهر التقليدية، لقد اختبر هذا الشعب معنى الوقت الطويل خارج البيت بانتظار الفرج أو النجاة، وبدلاً من قضائه بالخوف والترقب، سيلعب الرجال أشواطاً بطاولة الزهر ساخرين من الزلزال وسواه من الشدّات القهرية المتسلسلة.

 أما عن ربط الهزة بالوضع الحربي المتأزم وصراع الوجود المحتدم في الجغرافيا القريبة انتماء والبعيدة جغرافيا، فليس المقصود بتاتاً المقارنة ما بين الحدثين لأن حجمهما وآثارهما وتجلياتهما مختلفة فعلياً، لكن قوة الوجود في خضم هذه الأحداث الجسام في ذات البقعة من الأرض حتى لو بلغت المسافات مئات الكيلومترات هي الرابط الأقوى والأكثر تجذراً، وهي خيط الربط الفعلي لأن ثمة شراكة حقيقية مبنية بين كل من يموت وبين كل من يقتل أيضاً، بين الضحايا جميعهم وبين مصائرهم المجهولة والمتروكة للعبث.

 في لوحة دراماتيكية ساخرة لشخص يخرج إلى سطح بيته ليجد أن خزانات المياه التي سدد ثمن مائها مئات آلاف الليرات قد سالت على السطح بعد انفجار السطح السفلي للخزانات نتيجة الاهتزاز القوي وضغط الهزة. تأمل ملياً في الماء المسفوح كالدم المجاني، وقال ساخراً، ممتلئاً بالقهر: “غداً سأقضي نهاري هنا وأنا أشرب المتة على وقع تدفق المياه المشتراة بمئات آلاف الليرات أيضاً.” صمت وتحسس السطح المعدني لأسفل الخزانات، كاد أن يختنق لأن الخراب  بدا أكبر مما كان يتوقعه وقال: “سأوجل شرب المتة على السطح لما بعد الغد، بعد أن أشتري خزانات جديدة.”

 هكذا نحن، مجرد خزانات مهترئة تطرد كل عوامل الحياة من جوفها نحو احتضار طويل ونازف.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا