تدريباتنا

تضارب مصالح الحلفاء في الشمال السوري

بواسطة | أغسطس 27, 2018

الجزء الثانى
استكمالاً للمقال السابق، نتابع

دخلت تركيا بعد حادثة الانقلاب الفاشلة في ١٥ تموز/يونيو ٢٠١٦،  في عملية تنسيق مع روسيا لأجل فرض الحل في سوريا، بداية من معركة حلب وسيطرة الجيش السوري على المدينة، ثم وقف القتال واتفاق مناطق خفض التصعيد في أستانا، وأيضاً في مؤتمر الحوار الذي انعقد في سوتشي. مكّن هذا التعاون تركيا من تحقيق رغباتها المتعلقة بحماية أمنها القومي من تهديد حزب العمال الكردستاني PKK وذراعه في سوريا حزب الإتحاد الديمقراطي PYD، بحسب زعمها، مع ملاحظة أن حجة الأمن القومي التركي تُخفي الكثير من المطامع التركية للتوسع في الشمال السوري، أو ربما قضم بعضه، كما حدث في لواء إسكندرون سابقاً.

لم يظهر أي تعارض على مسار التنسيق بين تركيا وروسيا لفرض الحل الروسي في سوريا، إلى أن وصل الأمر إلى محافظة إدلب والشمال السوري، فروسيا تعلم بأنها لم تكن لتحصّل موقعها الحالي في سوريا لولا دعم وتنسيق الحليف التركي، وتركيا تعلم بأنها لم تكن لتدخل بجيشها في سوريا وتُبعد خطر حزب الاتحاد الديمقراطي إلى شرق الفرات لولا دعم وتنسيق الحليف الروسي، وهو ما كان ممنوعاً عنها في السابق أثناء تعاونها وتنسيقها مع الولايات المتحدة الأمريكية في الشمال السوري.

لكن بالنسبة إلى روسيا، لا يمكن أن يبقى الشمال السوري بعيداً عن الحل، خاصة بعد أن مكّنت روسيا النظام من استعادة السيطرة على كافة المناطق الخارجة عن سيطرته في الغوطة الشرقية وجبال القلمون الشرقي، ثم جنوب دمشق ومخيم اليرموك، وبعدها في ريف حمص الشمالي، وأخيراً في درعا والقنيطرة، ولم يتبق أمامها إلا معضلة إدلب والشمال، ومناطق الإدارة الذاتية بما فيها من وجود أمريكي وفرنسي.

تعلم روسيا بأن حل إدلب يجب أن يسبقه إيجاد حل لشرق الفرات، و تدرك بأن الضغط لأجل حل في الشمال السوري قبل مناطق شرق الفرات سوف يهدد مصالح وأمن حلفائها الأتراك، وربما يقود ذلك إلى مواجهة تخلط جميع الأوراق وتعيد الوضع في سوريا إلى ما كان عليه قبل التنسيق الروسيـالتركي.

وكذلك تدرك روسيا ـ التي تمسك عصا التوازن داخل سوريا بحذر شديد ـ بأن تركيا تملك أوراقاً رابحة في مناطق سيطرة المعارضة في الشمال السوري، خاصة بعد أن تم ترحيل فصائل المعارضة من أغلب المناطق نحو محافظة إدلب ومناطق درع الفرات، في الوقت نفسه تتطلع موسكو إلى حل توافقي بين الأكراد وحلفائهم في الإدارة الذاتية مع دمشق، بحيث لا تتكرر مأساة عفرين مرة أخرى، كما أن تفاهمات موسكو مع واشنطن لأجل سوريا هي في أفضل حالاتها، كما أظهرت نتائج لقاء بوتين ـ ترامب الأخير في هلسنكي. فما هي الرؤية الروسية للحل إذا؟

بالعودة إلى تركيا التي استشعرت الخطر الذي يهدد توجهها في المنطقة، فسارعت لضم الفصائل المعارضة المتواجدة في منطقة إدلب تحت مسمى ”الجبهة الوطنية للتحرير“، يهدف التجمع الجديد لصد أي تقدم لقوات النظام السوري في محافظة إدلب، وتهديد غير مباشر لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) والتي تطالب روسيا بالقضاء عليها تحت مسمى “مكافحة الإرهاب”، تركيا قامت أيضاً بالدعوة إلى عقد قمة طارئة في السابع من أيلول/سبتمبر في إسطنبول بحضور كل من روسيا وفرنسا وألمانيا، ولكن لماذا فرنسا وألمانيا بالتحديد؟

في موجة النزوح الكبيرة إلى أوروبا خلال عام ٢٠١٥ ـوالتي يسرّتها الحكومة التركية في محاولة منها للضغط على أوروبا لتحقيق مصالح خاصة بهاـ تضرّر الاتحاد الأوروبي فتداعى نحو تركيا لمساعدتها بتحمل أعباء النازحين مقابل ضبط الحدود وتشديد الرقابة على موجات الهجرة غير الشرعية منها إلى أوروبا، راضخاً بشكل جزئي للإرادة التركية.

واليوم تستدعي تركيا كلاً من فرنسا وألمانيا طالبة الدعم لموقفها، ملوحة بموجة النزوح المُنتظرة في حال أرادت روسيا وحلفاؤها اجتياح إدلب عسكرياً، وفي هذا الشأن قال منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية في سوريا بانوس مومتزيس إنه ”ما من حل عسكري في إدلب” وأضاف في تصريحات صحفية له في جنيف ”مع هذا التصعيد وهذا التدهور نحن قلقون حقيقة من نزوح ٢.٥ مليون شخص صوب تركيا إذا استمر هذا الوضع، نحن قلقون كذلك على سكان إدلب … ليس هناك مكان آخر ينتقلون إليه.. هذا فعلياً هو آخر مكان“، وبما أنه لا يوجد “إدلب ثانية” ينقل النظام السوري معارضيه إليها فلن يكون هناك مهرب لهم سوى تركيا، وهي التي لا ترغب بأي لاجئ سوري جديد على أراضيها، مما يجعلها جسراً للعبور نحو أوروبا القلقة هي أيضاً من موجات هجرة جديدة، قد تطيح باتحادها الأوروبي إن حصلت.

يشعر الرئيس أردوغان بخوف أوروبا من هذا، فهو يضرب على وترها الحسّاس محاولاً كسب تأييدها أمام حليفه الروسي، وتدرك روسيا ذلك جيداً وكذلك فرنسا وألمانيا.

أما النظام السوري، فبات منتشياً بإنجازاته التي حققها في مناطق و جيوب المعارضة خلال الأشهر السابقة، وأصبحت إدلب والشمال نقطة نهاية لا بد له من الوصول إليها، ليسحب بذلك كل أوراق الضغط على نظامه السياسي والأمني، بما في ذلك اللجنة الدستورية التي يعارض آلية تشكيلها.

لا يرى النظام في الإدارة الذاتية حملاً ثقيلاً عليه، ففي ٢٦ تموز/يوليو ٢٠١٨ التقى وفد الإدارة الذاتية رئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك في دمشق ، ولم تصدر الحكومة السورية أي بيان توضيحي حول نتائج اللقاء. ويبدو أنها تدرك موقع القوة الذي تفاوض الأكراد من خلاله، فالانسحاب الأمريكي من الشمال السوري يبدو أمراً واقعاً بحسب ما يصدر عن الإدارة الأمريكية الحالية، ناهيك عن تطابق موقف روسيا وإيران وتركيا (بصورة أشد) تجاه الإدارة الذاتية، مع ضغوط مشتركة لهذه الدول على الولايات المتحدة الأمريكية لتسحب قواتها من شرق الفرات، والأهم أن العلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي والحكومة السورية لم تنقطع رغم مرورها بالكثير من المطبّات.

فالحكومة السورية زوّدت وحدات حماية الشعب الكردي (الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي) بالسلاح في وجه تنظيم الدولة الإسلامية، بحسب تصريحات سفير سوريا لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري في لقاء موسكو٢، حتى أنه أظهر قائمة بكميات وأنواع الأسلحة الذي منحتها الحكومة السورية لهم، كما أن أهداف ”حزب الاتحاد الديمقراطي“ تتمحور حول تطبيق ”اللامركزية والإدارات المحلية“ في سوريا، ولا وجود لكلمة ”الانفصال“ في بياناته أو أدبياته أسوة ببعض الأحزاب الكردية، وهذا ما تلتقي معه دمشق التي تتكلم عن لا مركزية إدارية محدودة بحسب المرسوم التشريعي رقم ١٠٧ لعام ٢٠١١ الخاص بقانون الإدارة المحلية في سوريا، والذي أصدره النظام السوري في ٢٣ آب/أغسطس ٢٠١١ في محاولة لاستمالة الأكراد، على الرغم أنه لم يطبّق حتى الآن.

إضافة لذلك أعربت قوات سوريا الديمقراطية عن استعدادها للقتال إلى جانب قوات النظام السوري لأجل استعادة السيطرة على محافظة إدلب واستعادة عفرين من الفصائل المدعومة من تركيا، كما أبدت استعدادها لقتال داعش في بادية السويداء، وذلك بعد أن قامت في السابع من حزيران/يونيو ٢٠١٨ بتشكيل فصيل تابع لقوات سوريا الديمقراطية أطلقت عليه  اسم “لواء تحرير إدلب وعفرين.”

يدرك حزب الاتحاد الديمقراطي وحلفاؤه في مجلس سوريا الديمقراطية بأن لروسيا الكلمة العليا وهي القادرة على فرض رؤيتها للحل في سوريا، غير متناسين الدرس الموجع الذي تلقّوه في مدينة عفرين، ويبدو ذلك جليّاً من خلال تصريح الرئيس المشترك السابق لحزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم، المنشور في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ ٨ حزيران/يونيو ٢٠١٨، حين أكد بأن علاقة التعاون مع الولايات المتحدة ليست أبدية وإنما من الوارد أن تتغير، مشدداً على أن”المصالح هي التي تحكم تحالفات الأكراد في سوريا، وأن الأبواب مفتوحة للجميع بما ذلك النظام السوري.”

ولمّح مسلم إلى وجود مرونة وانفتاح في المفاوضات مع النظام السوري، بما في ذلك إمكانية التنازل عن اسم الكيان الفيدرالي الذي أسسه الأكراد بمناطقهم في الشمال السوري، وقال: “الحوار سيكون دون شروط مسبقة… ونحن لم نرد أن نكون بعيدين عن سوريا… نريد سوريا ديمقراطية لكل أبنائها، والمسميات غير مهمة. وأي شيء يمنحنا وكل المكونات الأخرى كامل الحقوق الديمقراطية فسنسعى له.”

من هنا نستنتج بأن النظام السوري ليس مستعجلاً لحل شرق الفرات بقدر تلهّفه نحو إدلب والشمال السوري، فهو يدرك منذ البداية بأن دعم تركيا للمعارضة المسلحة وتهديدها له من الشمال هو الذي أضعف سلطته وأوصلها إلى ما آلت إليه، وهذا ما تدركه أيضاً روسيا، رغم تعاطيها الإيجابي مع مخاوف أنقرة. ولكن ماذا لو دخل النظام السوري بدعم من الروس لمناطق ريف حلب الغربي، أو قضم الريف الجنوبي لمحافظة إدلب بعد اختراقه من الوسط، تطبيقاً لاستراتيجيته العسكرية الناجحة في الآونة الأخيرة؟

يبدو ذلك ممكناً، ولكنه سوف يصل في النهاية إلى حل توافقي حقيقي مع المعارضة السورية بعد توافق روسي ـ تركي، وهذا الأهم، فلا ”إدلب ثانية“ يذهب إليها المُهجَّرون.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا