أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
لم تكن النجمة الذهبية التي فاز بها الفيلم السوري “ذاكرتي مليئة بالأشباح” مناصفة مع الفيلم المصري “رفعت عيني للسما” في مهرجان جونة السينمائي في القاهرة مؤخراً، هي الجائزة الأولى له، فقد شارك في عدة مهرجانات حتى الآن وحصل على الجائزة الأولى في مهرجان الأفلام الوثائقية في الدانمارك، وعلى إشارة خاصة للتميز في مهرجان رؤى الواقع في سويسرا، وجائزة أفضل قصة في المهرجان السينمائي الدولي في بوينس آيرس.
وهو من إنتاج ملتقى هارموني الثقافي، في حمص وأول فيلم طويل للمخرج السوري أنس زواهري الذي نشأ في المدينة. ولهذا يضع عبارة عريضة في بداية الفيلم: “من جديد ها أنا في حمص، مدينتي القديمة، عائداً لئلا ينال النسيان مني، لأصنع لنفسي ذاكرة مما تبقى، فملأت الأشباح ذاكرتي”. نعم تغيرت المدينة وحين تسمع قصصها ستدرك حجم ما جرى.
فالفيلم يروي قصص عينة من أبناء حمص بلسانهم وماذا فعلت الحرب بهم وكيف تركتهم. وكأن زواهري أراد أن يكون جزءاً من الفيلم الذي لا يمكن التنبؤ بأثره على المشاهد ولكنه من المؤكد ليس بالقليل.
المكان حمص القديمة، البداية كاميرا ثابتة في المكان المشغول بالدمار مع حركة خفيفة للبشر كأنهم يسيرون في فلك هذا الدمار وبقايا الحرب الشاخصة، حيث يفرض الواقع ثقله على المشهد، فما زالت شواهد الحرب تنتصب، وما زال الخراب يسرق الأنظار رغم حركة الحياة على جوانبه. البيوت المهدمة والصور العائلية المرمية والتالفة في الأرض، الجدران المتصدعة والكنائس المحروقة والجوامع التي سقطت أحجارها، طرق أغلقت بالأتربة، مدينة الألعاب التي بقي منها القضبان فقط والساحات الخالية كل هذا الخراب يوحي بالأرواح التي غادرت وكأن أشباحها تسكنه.
تتجول الكاميرا في الشوارع لتقدم وجه المدينة، حيث يتجاور الدمار مع البيوت المسكونة، وتعيش بقايا الحرب مع الناس وتشاركهم المكان، السيارات المحروقة والدكاكين بواجهاتها المكسرة، مع بسطات الخضار الطازجة، واجهات الأبنية المخترقة بالرصاص، الشرفات التي هبط سقفها كأنها عيون أغمضت، ثم الغسيل على أخرى. يتجاور السواد والبياض والأبنية القديمة المهدمة والحجارة الأثرية مع بيوت الإسمنت كأن الموت والحياة جنباً إلى جنب في مشهد المدينة الذي جمع المتناقضات، حركة الناس في الشوارع والمقاهي الفارغة. يقول أحد السكان: “الحياة الاجتماعية باتت ممزوجة بالقهر والحزن والأشخاص يميلون للعزلة والوحدة” في إشارة لغياب الحياة الحقيقية. من المؤسف أن يتحدث الشباب عن سطوة الحزن في أعماقهم حيث كل شيء يأخذك إلى الحزن.
تتنوع الإجابات عن علاقة الناس بالمدينة والمكان. تقول فتاة إن علاقتها بالمدينة مضطربة فرغم حبها لها هناك أشياء أقل من عادية لكنها هنا غير ممكنة. تقول أخرى: “لم يعد لي أحد هنا لكنني أحب المدينة وبقيت لأقدم لها شيئاً”.
شكلت الحرب مفصلاً قاسياً في حياة الشباب الذين كانوا في بدايتها ليسوا أكثر من أطفال انتزعوا من طفولتهم على صوت الرصاص والقصف وفقدان الأمان وفقدان أحبتهم، فكان الجرح قاسياً. لقد غيرت التجربة حياتهم. تتوالى أصوات الرواة في الفيلم ويخبروننا عن تجاربهم و يعرون الوجه الوحشي للحرب التي يدفع الأبرياء فيها أثماناً باهظة لا يمكن استردادها. ولم يتوقف ذلك حتى بعد انتهاء الحرب التي أرخت على الحياة الجديدة بظلها بعد عودة الناس إلى المدينة التي غادروها مرغمين بسبب الحصار والاشتباكات المشتعلة حتى تم إغلاقها، إذ تغيرت الأخلاق والحياة والبشر.
تروي الفتاة كيف قُتل والدها بالخطأ لمروره في لحظة بدأ فيها تبادل إطلاق الرصاص بين الطرفين المتحاربين: (الجيش “النظامي”، والجيش الحر) ليجمع في جسده رصاصهما كأنه جسد المدينة/الوطن. وتستيقظ العائلة على فقدان الأب والمعيل وكأنهم جميعاً أصابتهم الحرب في مقتل لتحمل وهي في هذا العمر الصغير عبئاً ثقيلاً. أما الشاب فيروي قصة أخيه الذي خطف من قبل من كانوا أصدقائه قبل الحرب فكانوا سجانيه في حمص القديمة وحين تحرر اعتقل على حاجز الجيش بتهمة تشابه الأسماء وبقى مفقوداً يبحثون عنه حتى تم تسليم هويته لوالده مع شهادة وفاة موقعة قبل عام إذ مات “بأزمة قلبية” في المعتقل.
ما تعجز الكاميرا عن وصف فداحته يرويه الرجل الأعمى، اللقطة الثمينة في الفيلم، فكيف له أن يعبر عما تغير في المدينة وما حدث لها وهو الذي لا يرى، يعيدنا في حديثه إلى فترة العودة للمدينة بعد انتهاء الاشتباكات فيخبرنا عن رحلة العودة والفرح الذي غمرهم في الطريق إلى أن صاروا في قلب المدينة فمنذ أن اقتربوا من الساعة القديمة فيها وصولاً إلى الحي لم ينبس أحد بكلمة لكنه كان يسمع البكاء الصامت، وعرف أن المشهد أكبر من أن يروى.
لقد تخيل حجم ما يرونه، إذ كان أثناء الحرب يسمع صوت انهيار البيوت بعد تبادل القذائف، البيوت التي تطبق على نفسها. يروي وكأنه يلمس روح المدينة التي أنهكتها الحرب وذاك التعب الذي يهد الروح من حجر وشجر وبشر.
تستمر الحياة بعد الحرب لكنها لا تنجو. فقد ذهبت الحرب بأخلاق الكثيرين وشوهتهم خاصة أولئك الذين عاشوا في ظروف غير آمنة وغير صحية بالمرة. كما نرى في قصة الفتاة التي قُتلت أمها في ليلة العيد من قبل شابين مراهقين بهدف السرقة. تقول: :أنا واثقة أنهما لو طلبا المال من أمي لأعطتهما إياه دون تردد, لكنهما قتلاها من أجل مبلغ تافه”. هكذا صارت بلا بيت ولا أهل وحيدة لا تعرف ماذا ينتظرها.
حكاية الأم نموذج لكثير من الأمهات الحمصيات بل والسوريات اللواتي غادر أبناؤهن وتفرقوا تحت ضغط الحرب المشتعلة إلى بلاد الشتات. تحدثنا الأم كيف صار البيت فارغاً بعد أن كان يعج بأولادها وأصدقائهم، تنظر من الشباك وتجلس مع الذكريات تنتظر عودتهم، تقول إنها تتواصل معهم عبر الشاشة فتشعر كأنها تشاهد فيلماً وأن هناك شيئاً ناقصاً دوماً فما الذي يُشبع حضن الأمهات.
بين القصص نرى أعمال ترميم ويوميات الناس البسطاء الذين تابعوا العمل ليعيشوا وبعض الحرف التقليدية التي عادوا إليها بحثاً عن لقمة العيش بينما خيل إلينا أنها انقرضت.
هل نجا من بقي بعد الحرب؟
يقول أحدهم: بعد الحرب أسوأ من الحرب ذاتها والحياة غدت خانقة ومعطلة رغم أنها تمضي. يرافق ذلك صور المحلات الكثيرة المغلقة والأماكن الخالية والركام.
تقول الفتاة: صار اليوم الذي لا يحدث فيه موت، أو حدث قاس هو اليوم السعيد الذي نتمناه وكأننا ننتظر كل يوم النجاة من المجهول الذي قد يحدث.
يبدو الإصرار على انتزاع الحياة والأمل رغم كل شيء في حركة الناس وابتساماتهم العفوية وضحكة الأطفال. يقول أحد الشبان إن التاريخ يعلمنا ان لا شيء سيدوم، وإن التغيير قادم لكن على المستوى الفردي لا شيء واضح أمام الناس، ولا يعرفون ماذا يمكن أن يتغير في حياتهم الآن؟ وماذا ينتظرون؟
كان الصمت الموسيقا التصويرية للمشهد في كثير من الأحيان أما البداية فكانت موسيقا الخوف الذي يسكن الذاكرة تلك التي توحي بالرعب والأشباح ثم أصوات الحياة اليومية، وصوت الرواة، وصوت الأذان الذي يوحي بالسكينة. ثم ينطلق صوت أحدهم في غناء الموشحات الحمصية الأصيلة لتمتزج المشاعر المتناقضة التي يعيشونها ويعبرون عنها بين الفرح و الحزن الثقيل والكره والحيرة والغضب.
يشرك زواهري أشخاصاً من الشارع يقفون للصورة ويمرحون فأهل حمص عرفوا بمبادرة الفرح وبالنكتة الحاضرة، ويقدم أشخاصاً في عملهم يتحدثون معه ويروون عن حياتهم اليومية.
القصص في ملتقى هارموني الثقافي:
عانت حمص من الحرب مدة طويلة مثل كل المدن السورية وربما أكثر فقد بدأت شرارة الأحداث فيها. وتزداد الحاجة فيها للعمل المجتمعي الذي يعنى بالإنسان سواء الملتقيات أو النوادي التي تقدم نشاطاً نوعياً وفعاليات ثقافية تجمع الشباب لتأسيس بنى جامعة وعمل مشترك يحررهم من عبء الماضي و الشرخ الحاصل، وأمراضه النفسية بالاهتمام واكتشاف كوامن طاقاتهم وإمكانياتهم واطلاقها بحثاً عن أفق جديد.
يحاول ملتقى هارموني الثقافي أن يقدم فعاليات على هذا المستوى إذ كانت بعض القصص التي رواها الفيلم جزءاً من مشروع الملتقى بعنوان ما وراء الألوان، تجتمع القصص لتحكي بعض قصة المدينة وذاكرة جيل من الشباب يحاول الاستمرار رغم كل شيء، وليس بوحهم بهذه القصص سوى جزء من التحرر من التجربة، و محاولة البحث عن شفاء منها.
سبق ذلك التحفيز على كتابة القصص عبر ورشات كتابة ثم عرضها مكتوبة في المعرض السنوي للملتقى على شكل خيم إذ تحولت كل خيمة إلى عمل فني متكامل فإلى جانب كل قصة منحوتة أو لوحة رسمت من وحيها وصور غرافيك صممت لها ومعزوفة موسيقية أيضاً وبعض الأشغال المتممة للديكور، في محاولة لوضع الزائر في جو القصة، أراد الشباب أن يخبروا العالم عبر قصصهم عن تجاربهم المريرة فكانت بمثابة شهادة قدموها وعبر وضع اليد على الجرح الشخصي الذي لم يعد شخصياً أبداً.
نجح أنس زواهري في فيلمه بنسج هذه القصص التي عمل عليها الملتقى سواء في المعرض أو خارجه، مع حياة المدينة اليومية سينمائياً، واستقراء عيون الرواة، وهم ينقلونها بصوتهم وحركات جسدهم التلقائية وعفويتهم، إذ يتحدثون، يصمتون، ويبكون. وترتبك حركاتهم، وتتهدج أصواتهم وتذهب النظرات إلى البعيد.
يقال إن عين الكاميرا تقدم الصورة بشكل مختلف عن عين الإنسان فالمشهد الكامل تعجز العين عن الإحاطة به أحياناً لكن وأنت تتابع الفيلم وتسير معه في طرقات المدينة القديمة ترتبك ذاكرتك في التعرف على مدينتك وستتردد بالإشارة إلى الأماكن بالأسماء، ليس لأن الكاميرا تقدم المشهد من زاوية مختلفة عن ذاكرتك فقط، بل لأن الحرب غيرت كل شيء في الأمكنة دون أن تأبه. وهذا ما لخصه زواهري في العبارة الأولى التي أُخذ منها عنوان الفيلم الذي يتابع رحلته في المهرجانات.
على صوت الموشحات الحمصية تنسرب مياه العاصي بهدوء، كأن الحياة التي تمر دون أن تترك أثراً وكأنها ليست أكثر من هامش حياة.
تقف الفتاة التي كبرت أكثر من عمرها تحت عبئها الثقيل تتأمل وردة تفتحت وسط الخراب كأنها رسالة أخرى بلسان الشباب ولكن ليس للعالم بل إلى الحياة نفسها فما زال هناك ورد قد يزهر.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...