تدريباتنا

صالات الفن التشكيلي في سوريا: تعافي بطيء ومبيعات متدنية

بواسطة | سبتمبر 17, 2022

توجد علاقة توثيقية وطيدة بين الفن والحرب، فلوحات شهيرة كلوحة معركة الإسكندر الأكبر للفنان الألماني ألبرخت ألتدورفر (1480-1538) سجلت لنا ذكرى أحداث حربية هامة في تاريخ البشرية. ولكن بالرغم من الأهمية البارزة للفن التشكيلي بالتعبير عن معاناة البشر زمن النزاعات المسلحة، نجد أنه يتأثر بشدة بآثار الحرب مثل انكفاء الرسامين عن العمل، أو إغلاق المعارض ودمارها، أو نهب الإنتاجات الإبداعية. وفي الوقت الذي ترتهن حركة شراء اللوحات الفنية بالقدرة الشرائية لمواطني البلاد، نلاحظ تراجعها عندما تشهد الأخيرة انهيار اقتصادي وعقوبات الاقتصادية كما حصل في سوريا. في هذا التقرير، أسلط الضوء على واقع بيع اللوحات الفنية في دمشق في الزمن الراهن وبالمقارنة مع الفترة التي سبقت سنة ٢٠١١ وأحداث “الربيع العربي.” وأستعرض الأسباب والظروف التي أدت إلى استرداد عافية بعض صالات العرض الفنية في سوريا، وكيف تؤثر تسعيرة الدولار على السوق المحلي وعلى السعي إلى إيجاد سوق للبيع في دول الخليج العربي. أختتم التقرير بمناقشة البيع الإلكتروني ومستقبل الفن التشكيلي. 

واقع بيع اللوحات الفنية في دمشق 

يشرح الرسام عصام درويش صاحب غالوري “عشتار” و”فاتح المدرس” وضع صالات العرض في سوريا: “اضطرت عدة صالات عرض إلى إغلاق أبوابها خلال سنوات الحرب، وذلك بسبب غياب عنصر الأمان وسقوط القذائف المستمرة الذي يهدد وجودها”. ويضيف: “تعد صالة عشتار من أكثر الصالات التي صمدت تقريباً، ومع ذلك أجُبرت على إغلاقها لمدة سبع سنوات بسبب انعدام حالة الأمان وتداعيات الحرب، فقد كانت القذائف تسقط من كل حدب وصوب نظراً لموقع الصالة في العدوي بالقرب من جوبر التي كانت تدور فيها المعارك، كما أن الجو العام لم يكن يسمح بإقامة المعارض نتيجة المناخ المشحون والمليء بالموت والدماء”. 

وفيما يتعلق بأعماله الفنية، فيشير درويش إلى تغير ملموس وواضح في مسارها من أجواء تصور الحياة بشكل رومانسي قبل الحرب إلى تحولات جذرية في السنوات الأخيرة  تركز على واقع الحرب والتشوهات النفسية والجسدية مثل إنتاجات تُركز على رسم “البورتريهات” والوجوه البائسة والمعذبة والرافضة والمحتجة والخائفة.

استرداد عافية صالات العرض

بدأت صالات الفن التشكيلي تسترد عافيتها مع حلول عام 2019، عند إعلان انتهاء المعارك العسكرية في دمشق وعودة الاستقرار نسبياً إلى العاصمة، يقول درويش:” في السابق كانت معارضي التي كنت أنظمها تتراوح بين 12-20 معرضاً في السنة الواحدة، استضيف فيها أعمال الفنانين، لكني انقطعتُ سبع سنوات متواصلة، وتزامن ذلك مع انخفاض عدد المعارض ومراكز الفنون، إضافة إلى انكماش أعداد مقتني اللوحات وخفوت حضور الفنانين العرب والأجانب بشكل كبير خلال سنوات الحرب”.

وللصدفة في اليوم الذي أعيد فيه فتح صالة “فاتح المدرس” الموجودة في نادي الشرق (منتصف دمشق) سقطت بجوارها على بعد 200 متر آخر قذيفة وكأنها إعلان غير رسمي لانتهاء العمليات العسكرية. ويعلق درويش: “بدأت صالات العرض باستعادة نشاطها منذ 3 سنوات، لكنه تراجع عند وصول جائحة كورونا التي تركت أثرها على حراك الفن التشكيلي شأنها شأن القطاعات الأخرى، المميز أن جمهور المعرض كان كبيراً ومحتشداً وكأنه كان متعطشاً لرشفة فن”. ويوضح أن حركة الشراء في عام 2019 ومنتصف 2020 كانت نشطة وقوية جداً لدرجة أنها من أكثر المراحل التي زادت فيها مبيعات درويش، لكنها حركة الشراء انتكست من جديد بسبب جائحة كورونا. 

ومن جهة أخرى، فقد استعادت “غالوري جورج كامل” نشاطها في وقت أبكر من سابقتها. ويتحدث جورج كامل عن حركة المبيع لصالته التي تأسست عام 2008: “أقمتُ في شهر كانون الأول عام 2021 معرضاً جماعياً يضم قرابة 75 عملاً فنياً والعديد من الفنانين الرواد والكبار من أجيال مختلفة، كنذير نبعة وليلي نصير والياس زياد وأدهم إسماعيل ونعيم إسماعيل ومصطفى الحلاج وفاتح المدرس.” ويشير كامل إلى توقف نشاط الصالة كلياً بسبب الأوضاع الأمنية بين عامي 2012 ـ 2015، ليعود نشاط الصالة إلى العمل بعد هذا العام مكملاً لغاية الوقت الراهن بمعدل ما يقارب 6ـ8 معارض سنوياً”.

يلفت كامل إلى أن معرضه قبل سنوات الحرب كان يعيش مرحلة ذهبية لغاية عام 2012، حيث كان يحتضن حوالي 8 معارض في الفترة الممتدة بين أيلول وحزيران، بينما تُنطم في بقية الشهور ورش عمل ودورات رسم ونحت وعرض مقتنيات للزوار الأجانب والعرب المقيمين خارج سوريا.

وتجدر الإشارة إلى أن إقامة المعارض بعد فترة الانقطاع لا تعني بالضرورة حصول حركة شراء، وعن ذلك يوضح كامل: “نسبة المبيعات قليلة جداً وتقارب حوالي 1%، حركة الشراء كانت تقتصر على تغطية أجور الصالة التي تصل إلى 35% ورواتب الموظفين والنفقات الأساسية، هناك أولويات تحكم الناس كالطعام والشراب قبل اقتناء اللوحات، أما البيع عبر الإنترنت فلم يتجاوز نسبة 1 من الألف، والمشاركات السورية خارج البلاد كانت محدودة.”

تسعيرة الدولار

تخضع تسعيرة لوحات الفن التشكيلي لعملة الدولار الأمريكية المتداولة في معظم أنحاء العالم، وذلك وفقاً للجهد والوقت المبذولين لإنتاج العمل الفني، إلى جانب تكلفة المواد المستخدمة، ويشرح درويش: “البيع خارج سورية غير ميسر على الدوام، ولو كان متوفر، لفضله غالبية الفنانين على البيع في الداخل، وذلك بسبب انخفاض قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، فحين يحدد صاحب العمل الفني سعر لوحته لبيعها خارج البلاد بقيمة تصل إلى 6 آلاف دولار، لا يمكنه وضع التسعيرة ذاتها في سوريا خاصة بعد انهيار الليرة السورية. مما يضطر الفنان إلى تقليص التسعيرة إلى النصف أو أقل، فيقع الفنان بين خيارين شديدا الصعوبة.” ويوضح كامل أن تحديد سعر اللوحة يتم بالليرة السورية حصراً، وتصل أسعار اللوحات في صالته بين 200 ـ 800 ألف ليرة سورية.

سوق الخليج الرائج

يلفت درويش إلى تناقص أعداد صالات العرض جراء الحرب، فلم يبق منها الآن إلا ما يقارب 10 صالات فقط، نتيجة توقف نشاط البعض منها كلياً أو تعرضها للتدمير. كما هاجر العديد من المسؤولين عن هذه الصالات والفنانين منذ بداية النزاع بسبب الوضع الأمني والاقتصادي وندرة المعارض وتراجع عدد مقتني الأعمال الفنية، فقرروا الاستقرار في الخارج، حيث حركة الشراء أكبر ومنسوب الأمان والاستقرار أعلى، ولتوفر جهات ممولة لنفقات المعارض.

لطالما اتجهت أنظار الفنانين السوريين نحو سوق الخليج لبيع أعمالهم الفنية، وذلك بسبب استثمار الأثرياء العرب في سوق اللوحات الفنية بمبالغ طائلة، لكن هذا التوجه تضاعف بشدة خلال سنوات الحرب للتعويض عن حجم الخسارة وإنعاش حراك الفن التشكيلي، ويوضح درويش: “أنتج حوالي عشرة أعمال فنية في العام الواحد، ويُعد سوق الخليج ودبي بالتحديد أحد أهم قنوات التصريف ونافذة بيع أساسية وهامة.” ويلفت صاحب غاليري “عشتار” النظر إلى انتشار ظاهرة “المقتنيات الفنية” قبل 2011 واستمرارها خلال سنوات الحرب. وتشير هذه الظاهرة إلى استضافة الرسامين المشهورين في أحد الملتقيات الثقافية من قبل أحد ذواقي الفن ممن يملك ثروة كبيرة. ويقوم هذا الذواق عادةً بدعوة الفنانين إلى إنجاز أعمال فنية منفردة مقابل مبلغ مالي رمزي، ثم يجمعها ويحتفظ بها انطلاقاً من الإيمان بدور الفن في الحياة وبهدف نشر ثقافة الفن التشكيلي.

البيع الإلكتروني

أثرت جائحة “كورونا” على حركة البيع والتجارة عموماً وتوقف نشاط المعارض بسبب إغلاق الحدود وإيقاف الرحلات الجوية، فكان خيار التسويق الإلكتروني أحد البدائل الجيدة للحد من الأثار الاقتصادية للجائحة. وكمثال على البيع الالكتروني، اتخذ الفنان التشكيلي علي داغر من مواقع التواصل الاجتماعي منصة للتسويق، لا سيما بعد انتقاله إلى بيروت، ويقول عن تجربته: “لجأتُ إلى إقامة معارض أون لاين، للأهمية الكبيرة التي تتمتع بها السوشال ميديا خاصة زمن جائحة كورونا وفترة الحظر، ولقدرة هذه الوسائل على الوصول إلى شرائح واسعة وبكلفة أقل توفر تكاليف حجز المعارض المكلفة”.

هذه المادة منشورة في جدلية

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

تدريباتنا