تدريباتنا

عندما يصبح الاستحمام قضية رأي عام

بواسطة | مارس 31, 2023

أخيراً، تمكنت مها من الاستحمام! وذلك بعد مرور ثلاثة أسابيع كاملة على موعد آخر استحمام لها! لا بسبب البرد ولا بسبب المرض ولا بسبب التكاسل، السبب الوحيد هو واقع الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وشبكة الصرف صحي. تضافرت الموانع كلها لتسبب لمها حرجاً كبيراً بسبب حالتها غير الإنسانية والمفتقدة لأدنى شروط النظافة الشخصية والعامة. حرج جعلها ترتدي قبعة ليلاً نهاراً وحتى أثناء نومها لتهرب من شعورها الغامر بالقرف من نفسها التي كرهتها كرهاً مقززاً وكبيراً تسبب بوهن نفسي أصابها، وهن بات يحتاج علاجاً سريعاً وضرورياً عبر حل إسعافي وحيد، وهو تأمين دعوة للاستحمام في أي مكان يتوافر فيه ماء وكهرباء وصرف صحي مستقر في توصيلاته يسير عميقاً  في مساره الطبيعي تحت الأرض وبعيداً عن التلامس المباشر مع البشر، تحقق هذا الحل ولكن في بيت صديقتها.

تسكن مها في حي دمشقي قريب جداً من باب توما، قلب المدينة العابق بالتاريخ والآثار والسيّاح وبروائح الياسمين والمطاعم الشرقية العريقة والأنيقة. لكن كل شيء تغيّر، كأنما المدينة تحولت إلى منبع للتعب والقهر، وكأنما الأشياء وقد ضاقت باتت خانقة إلى درجة يتمنى المرء الفرار منها، والفرار هنا محدد الوجهة والمهمة، مجرد مكان صالح للاستحمام فيه. وهذه الصلاحية مبنية على تعزيل شبكة الصرف الصحي كي يتوقف طوفانها ضمن البيوت، وعلى ماء يتزامن توفره مع التيار الكهربائي لضخه إلى الخزانات المتصلة بأجهزة تسخين المياه أو يرتبط بتوفر عبوات كبيرة من الغاز تترافق  بوجود موقد غاز أرضي كبير لتسخين قدور الماء عليه.

هل تكفي قصة مها ليتحول فعل الاستحمام كحق من حقوق البشر إلى قضية رأي عام؟ منطقياً نعم! ولكن الاكتفاء هنا فعل منغلق على ذاته، فعل ميت قبل أن يولد، لأن وهن نفسية البشر يكمن في منعهم من نيل وممارسة أحد حقوقهم أو حرمانهم منها. والمنع هنا محصلة لحرمان متكرر ومعلن ومستمر ومبرر بألف سبب لأن آلية الحلول مجهضة باستحكام واستخفاف بالغ.

وتكمن قمة الخذلان في أن الحرمان من الاستحمام هو فعل لا يستدعي أي حل، فليستحموا أو فليغرقوا في روائح أجسادهم التي يعيفونها هم أنفسهم، أصلاً الغرق فعل لا يتجزأ ومن يغرق في العتمة سيغرق حكماً في مشكلة فقدان المياه، ومن تغمر شوارعه وبيته عوادم الصرف الصحي سيغرق في الخراء وفي عقر داره، وفي المكان الأكثر نظافة كما يتصور الجميع وكما هو بديهية، الحمام! 

يتناوب عامر ونجود على النوم، أمامهما مهام كبيرة ومتعبة، لم يعد الليل موعداً للنوم، للراحة أو للحب أو حتى للأحلام، تحول ليل تلك المدينة التي تزورها الكهرباء ليلاً فقط إلى نهار قاهر ومرهق، نهار تتخلله كوابيس توقظ من يفكر بالنوم لساعة واحدة وتجعله يقرّع نفسه ويهاجمها لأنها فقدت القدرة على التحكم بالبقاء على قيد الصحو من أجل الفوز والتنعم بالتيار الكهربائي. البقاء على قيد الصحو يبدأ في الواحدة ليلاً، ينبغي أولاً تشغيل مقبس سخان الحمام ووصله بمأخذ التيار الكهربائي، وبعده  مباشرة يتم تشغيل موتور رفع الماء إلى الخزان، ومن ثم تشغيل الغسالة لتأمين غسيل ملابس الأبناء، وإذا ما استمر الحضور البهي للتيار الكهربائي، ستوقظ نجود في تمام الثالثة فجراً ابنتها الكبرى لتستحم، ستخرج وجبة الغسيل من الغسالة وترميها بتثاقل ووسن وتعب على الحبال. ستبدأ بتحضير وجبة غداء اليوم على الموقد الكهربائي، في الرابعة صباحاً قد تخلد نجود إلى النوم بعد أن توقظ زوجها لينهي تحضير وجبة الغداء وليساعد ابنه الصغير في الاستحمام. سيتكرر المشهد في الأيام اللاحقة وسيكون الاستحمام في اليوم التالي لنجود وزوجها كل بتوقيت خاص حسب توفر درجة حرارة المياه الصالحة للاستحمام. كل شيء مهدور، الوقت والنوم والصحو والنقود والمياه والسلامة النفسية والهدوء والمودة والزمن والجهد والصحة والجسد ومعنى الوجود وجدوى العيش.

عدا عما يتسبب به تراكم استهلاك الكهرباء في وقت واحد في ارتفاع قيمة فاتورة الكهرباء.

 وتصيب أصوات عديدة الجميع بالغضب والجنون من تشغيل موتورات المياه ودوران الغسالات وأصوات جريان مياه الاستحمام إلى جلبة الشجارات والاتهامات العائلية بالإهمال أو الكسل بسبب سوء استخدام الطاقة أو موتورات رفع المياه. كل هذا الضجيج والتوتر يجعل الجميع يتمنى توقف كل شيء، كل شيء حتى لو كانت الحياة ذاتها.

تمكنت بعض العائلات من تركيب أجهزة لتأمين طاقة بديلة عبر تركيب بطاريات كبيرة وألواح لحفظ الطاقة الشمسية، ورغم ارتفاع كلفتها التي تتجاوز مقدرة الغالبية، لكن الناس كانت أمام خيار ضيق وملزم كي تؤمن الإنارة في حدها الأدنى والضروري وكي تصون الطعام ومحتويات الثلاجات خاصة في ظل ارتفاع غير مسبوق لقيمة المواد الغذائية، ما يجعل من تلف أي مادة غذائية خسارة كبيرة غير قابلة للتعويض وتراكماً للخسارات المتحصلة جراء الغياب الكامل للخدمات الأساسية.

لكن بقي الجميع عاجزاً عن تأمين مصادر وقود أو طاقة لتسخين المياه نظراً إلى أن كمية الكهرباء أو الوقود المطلوبة للتسخين تستنزف كمية كبيرة من الطاقة تعجز ألواح الطاقة الشمسية عن تأمينها بسبب حجم الطاقة اللازمة لعملية التسخين وبالتالي ارتفاع الكلفة إلى أرقام غير قابلة للتسديد ويعجز عنها الغالبية حتى ممن لجأوا إلى تركيب برامج لتأمين طاقة بديلة، ما أعاق بشكل شبه مطلق تأمين مياه للاستحمام عن طريق البطاريات أو ألواح الطاقة الشمسية. 

إذن، نعود دوماً للمربع الأول! تحوّل الاستحمام إلى حلم مستحيل. ولجأ سكان القرى إلى تسخين المياه على الحطب الذي ارتفعت أثمانه وحولت عملية التحطيب الجائر بساتين القرى إلى صحاري شاسعة. أما من تضيق بيوتهم بهم فقد اخترعوا أسلوب الاستحمام بالتقسيط والتقسيط هنا يشمل مراحل العمل والزمن، فقد قسم البعض عملية الاستحمام إلى عملية  تتم على جزأين: الأولى لغسل الرأس بصورة مستقلة حسب ما يمكن توفيره من مياه ساخنة لا تكفي لعملية استحمام كاملة، ليتم في المرحلة الثانية استكمال عملية غسيل الجسد. يتم تسخين الماء بقدور أو بأباريق على الغاز في حالات الضرورة القصوى بسبب شح الغاز وعدم المقدرة على التفريط به، لذلك بات تسخين الماء بواسطة الكهرباء هو الحل شبه الوحيد ولكن وبسبب الغياب الطويل للكهرباء وانقطاعها المتواتر حتى في ساعات وصل  التيار يتم الاستحمام على دفعات!

أن تتحول عملية العجز عن الاستحمام إلى قضية عامة تجمع ما بين السوريين والسوريات على قاعدة الحرمان والقهر، هو عملية توازي تغييب الحقوق. فالحق في الحياة يستلزم الحق في الحفاظ على نظافة وسلامة الجسد، وفعل الاستحمام أحد هذه الحقوق، كما يستلزم تأمين الموارد اللازمة لذلك دون اللجوء إلى ضرورة دفع مبالغ تعجيزية أو هدر للطاقة النفسية والجسدية من أجل تلبية هذا الاحتياج الحيوي والإنساني، نعم لقد تحول فعل الاستحمام، بل والحاجة إليه إلى قضية رأي عام وبجدارة.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا