تدهورت علاقة المالح مع السلطات السورية بعد فيلمه شظايا، والذي يعتبره مخرجه نهاية مرحلة في حياته المهنية. حدث أمر محوري في عيد ميلاده في سبتمبر 1981. إذ فيما كان المخرج يقود سيارته بالقرب من وزارة الخارجية، أشار له حارس للتنحي جانباً للسماح لسيارة رسمية بالمرور. توقف المخرج، ولكن على ما يبدو ليس بالسرعة الكافية، فقام الحارس بضربه على رأسه بعقب بندقية. فقد المالح وعيه ليستيقظ على صوت اعتذار ضابط في مركز الشرطة. قرّر مغادرة سوريا وسافر إلى الولايات المتحدة على منحة فولبرايت، على الرغم من عدائه الطويل الأمد لسياسة البلد الخارجية. لقي المالح استقبالاً حاراً ومشجعاً في عدد من الأكاديميات. درس الإنتاج السينمائي في أوستن وجامعة كاليفورنيا، ولكن مدفوعاً بشوقه للإخراج، انضم إلى شركة إنتاج ليبية في جنيف في سويسرا وجدها باردة ثقافياً وعقيمة إبداعياً، “عالم بنوك ورجال الأعمال.” أمضى المخرج وعائلته عقداً في اليونان، حيث أنتج نبيل أفلاماً للتلفزيون الليبي، بما في ذلك “وقائع حلم”، فكرة خيالية مُستوحاة من الماركسية تدور حول التقدم البشري متخيلاً مدينة فاضلة حرة. ألّف المالح خلال إقامته هذه في اليونان السيناريو لعمله الرئيسي التالي “الكومبارس”.
رسم المالح “الكومبارس” للإنتاج المصري متخيلاً النجوم نور الشريف ويسرا. ولكن في زيارة له لمروان حداد مدير المؤسسة العامة للسينما في دمشق، عرض عليه الأخير تمويلاً لتصوير الفيلم في سوريا مع الممثلين السوريين بسام كوسا وسمر سامي في الأدوار الاساسية، بدأ التصوير في دمشق في عام 1992 للفيلم الذي أصبح أفضل أعمال المالح وأشهرها خارج وطنه بل أصبح الفيلم أيضا أول عمل سينمائي السوري يحصد اهتماماً كبيراً. (1)
بصدوره عام 1993 عكس “الكومبارس” الهموم الاجتماعية والسياسية المحورية في عمل المالح. يصور الفيلم كفاح سالم، طالب في كلية الحقوق وعامل في محطة الغاز، وصديقته الأرملة الخياطة ندى، اللذان يقيمان علاقة رومانسية وسط هموم الظلم واللوم، واللذان لم يحظيا بأية خصوصية أثناء الخطوبة منذ ثمانية أشهر. استعار بطل الرواية الشاب، وهو ممثل طموح لديه فأفأة، شقة صديقه عادل للقاء محبوبته. تدور أحداث الفيلم بأكمله، باستثناء الافتتاح والختام، بين جدران باهتة لدار خانق، في رمزية للحالة السورية وربما العربية. أشارت اللقطات إلى الوجود الكئيب للشخصيات الرئيسية ‘: سالم يقوم بتلميع السيارات والتدرّب على أدوار قصيرة لمدير المسرح الذي ينسى أسماء الكومبارس؛ وندى في مصنع آلات الخياطة تتقاسم فناء منزل متواضع مع عائلة أخيها.
في أحد لقاءات الحب قال عادل أنه سيلتقي بأهل زوجة المستقبل، وهو على وشك الزواج، ولكن حنقه على الرذيلة صديقه. يقرع الباب غريب متأنق ويتّكِىء على عتبة ليطرح بإلحاح أسئلة مهذبة عن الجار المجاور. يتوقع سالم أنه عنصر مخابرات، الذي يشير إلى أنه التقى الممثل الهاوي. تغادر الشخصية المريبة، ويعتبر عادل أن الحدث لا يهمه، ولكن كلا الرجلين بات متوتراً.
يرتب سالم السرير وحيداً ومرقباً ويتخيل العنصر واثباً مع عشاق يتلوون تحت الغطاء. تقرع الباب بائعة متجولة، ولكنها تحتج عندما أعطاها سالم المال من دون أخذ بضائعها: “أنا لست متسولة”. تصل ندى مهيجة في وقت متأخر، قلقة من أن يكون شقيقها قد لحظها لها وأن يكون الجيران أثناء صعودها الدرج قد شعروا بغرض الزيارة غير النزيه. حثها سالم على اعتبار الشقة “مساحة حرة” منفصلة عن العالم الخارجي.
قطعت تخيلات سالم حول مداعبة ندى حديثهما الحرج. وعندما تعانقوا أخيراً، حطم الزجاج المتهاوي هجران ندى. طلبت مغادرة الشقة مذعورة من أن يفتضح أمرها. يقترح سالم تبادل عهود الزواج لقتل خوفهما. يتخلل سمعهم نغمات عود حزينة قادمة من بيت أحد الجيران من خلال الجدران الرقيقة. يتحدث سالم عن التمثيل ويلقي بضعة أسطر من أحدث اعماله، والذي يلعب سبعة أدوار مختلفة ولكن لا يتم ذكره في البرنامج. لم تذهب ندى أبداً الى المسرح. اعتلى سالم منصة وهمية جامعاً الستائر وأغطية غرفة المعيشة. مثل دور الحاكم الظالم الذي يرسل رعاياه المتمردة إلى السجن. اعترضت ندى على الظلم، ولكن قال لها سالم أن ليس لديهم خيار سوى لعب الأدوار المكتوبة. إنه لن يقبل الإهانة إذا حدثت في الواقع. ثم يقوم بتجسيد اثنين من أدواره الأخرى: حارس في السجن وعنصر مخابرات، شخصيات يحتاجها الحكام. تكره ندى هذه الشخصيات الجديدة وقالت: إنها تفضل أدواره الثانوية، والتي برغم صغرها إلا أنها تُمثِّل ناساً محترمين. يرى سالم أنه يجب أن يقبل هكذا أدوار من أجل تحقيق النجاح. ينوي المالح القولَ: إن كلّ سوري يواجه معضلة مشابهة.
خطيبة عادل المحدث النعمة فجة وتُقحِم نفسها في كل شيء. إنها تغيظ الحبيبين، ولكنها تتعاطف معهما –لو كان لديهم المال لتزوجا، مثلها وعادل. تتركهما بمفردهما، فيضحكان وهما في طريقهما للسرير الذي تداعى على الفور. ولإصلاحه زحفوا تحت شبكة الإطار الحديدي، لاحظت ندى تشابه الشبكة مع قضبان السجن الذي يرزح خلف قضبانه الكثير من مواطنيهم. يقاطعُ جرس بعيد عناقاً آخر.
تستعد ندى للمغادرة، ويعود العنصر المتأنق هذه المرة مع اثنين من قطاع الطرق يسأل عن زوّار الجيران المعتادين. يسحب المتوحشون عازف العود الأعمى الذي يتوسل طلباً للمساعدة. يحاول سالم التدخُّل ولكن أحد البلطجية يطرحه أرضاً ويأخذ العازف بعيداً. لا يستطيع الكومبارس التمثيل، يجعل الرعب أبكماً، حتى لتوسلات ندى التي تغادر الشقة وتنهار حين تبتعد عن مسامع سالم لتخرج خلسة من المبنى. في المشهد التالي يلحق بها سالم المحبط المُتخبِّط قبل أن يسير في الاتجاه المعاكس. تزحف صورة الكاميرا مُتسلّقة بناية سكنية ضخمة.
قد يكون الكومبارس عمل المالح أو العمل السينمائي السوري الأكثر تجسيداً وإدانة لسياسة البعث البوليسية. يصل انتقاد الفيلم إلى أبعد من النخبة السياسية، يتّهم الربط المبدع للعجز الجنسي والقمع السياسي المجتمع العربي والنظام الأبوي
(Wedeen 1999, 116; Gugler 2011,129-130)
مهنة سالم هي الروي. الإرغام على التصرُّف ضدّ معتقدات المرء ورغباته يورط جميع السوريين في مسايرة للنظام. [2] ترثي ندى التي أجبرت وسالم على التصرُّف مثل اللصوص وسرقة وقت يمضيانه بمفردهما. حتى في هذا، لم يكونا مفلحين.. يوحي المالح أن سوريا لا تقدم لمواطنيها سوى أدوار صغيرة ليؤدوها في الخفاء؛ يتواطأ العديد ويُحاربوا الدولة ، ولكن يفشلوا في تحقيق المكاسب التي وعدوا.
بلغ فيلم الجماهير العالمية، ليكسب بطليه سمر سامي وبسام كوسا أعلى جوائز التمثيل في بينالي السينما العربية في باريس ويفوز المالح بجائزة أفضل مخرج في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (Gugler 2011,131)، كما فاز في الجائزة الفضية في مهرجان ريميني السينمائي الدولي في عام 1995. وقد تمّ عرض فيلم الكومبارس لأول مرة في سورية صباح يوم جمعة كحدث صباحي ثانوي بدلاً من أن يكون مُنافساً في مهرجان دمشق السينمائي الدولي في عام 1995. يذكر المالح أن هذا هو أسعد يوم في حياته، اليوم الذي “كسر جليد المنفى الطويل.” أحرج مسؤول من المهرجان الأخير، في زيارة لدمشق، السلطات السورية إلى عرض الكومبارس في سوريا، حيث انتصر الفيلم. ملأت الجماهير مسارح الكندي الحكوميّة الستة خلال عرض الفيلم لمدة أربعة أشهر .(Wedeen 1999,116)
في حين شهدت فترة التسعينات تحسناً طفيفاً في شروط الإنتاج الفني، إلا أن أمل أن التحرّر السياسي من شأنه أن يترافق مع الانفتاح الاقتصادي تبدّد في وقت مبكر من العقد. عندما سأل الصحفيون المالح لتقييم حال السينما العربية، أجاب: “إنها حالة العالم العربي عموماً: كتلة يحكمها قانون القصور الذاتي، يديرها اللصوص والمستفيدين والعشائر وأولئك الذين يحملون أجندة معارضة ومتناثرة، والمبدعين من الأفراد الذين لا يملكون المال، لا السلطة ولا السلاح، ولكنهم يجسدون المشروع الوطني “.
بقي التزام المالح تجاه سوريا وجمهورها ثابتاً، وانعكس في عمله التلفزيوني. مُتفرّداً بين صُنّاع السينما السورية، فقد أخرج عدة مسلسلات، لصناعة الدراما التلفزيونية في البلاد كأهم دراما عربية. فازت أعمال مثل “حالات” و”سري للغاية” بجوائز في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون. وبعد إجراء بحوث مكثفة، كتب المالح سيناريو مسلسل “اسمهان”، السيرة الذاتية للمغنية السورية الأصل نجمة الشاشات المصرية اسمهان. أخرج العمل التونسي شوقي الماجري في عام 2008 وعُرِض على مختلف القنوات الفضائية العربية.
جلبت الألفية الجديدة الشباب بشار الأسد الذي تلقى تعليمه في بريطانيا إلى السلطة بعد وفاة والده في عام 2000. انضمّ صُنّاع الثقافة للعديد من السوريين في توقع حل الدولة البوليسية وظهور السياسة التشاركية. قاد المالح تشكيل لجان إحياء المجتمع المدني، التي اجتمعت في منزله في دمشق. شكّلت المنظمة واحدة من أبرز المنتديات الجديدة في ما أصبح يعرف باسم ربيع دمشق، النقاشات الإصلاحية المزهرة الوجيزة التي ميزت الأشهر الأولى لتولي الرئيس الجديد منصبه. وانضم المالح، بكونه المُتحدِّث الرسمي باسم المجموعة المُثقفين البارزين لطرح المخاوف من زيادة الفقر والفساد والعسكرة وتنامي نفوذ الإسلام السلفي. وقّع أعضاء المُنتدى سلسلة من التصريحات التي تدعو إلى ذات إصلاحات ديمقراطية نفسها التي طالبت بها لاحقاً جماعات المعارضة عام 2011 مثل إلغاء قانون الطوارئ المستمر منذ أربعة عقود. وبعد أقل من عام، حدثت سلسلة جديدة من التدابير القمعية، بما في ذلك الاعتقالات الجماعية، لتعري ما اعتبره المعارضون الهدف الحقيقي وهو تحديد هوية المعارضين وإسكاتهم. وسرعان ما قام مدير المؤسسة العامة للسينما الجديد بتهميش المالح، جنباً إلى جنبٍ مع صنّاع السينما الآخرين في البلاد- عمر أميرالاي وأسامة محمد، ومحمد ملص – كمُنشقين. تلقّى أعضاء آخرين من هذا الفوج الدعم الأجنبي؛ واجه المالح قلّة في المال. اقترض المال لفيلم تلفزيوني وكان فيلم “غراميات نجلاء” اول فيلم ناطق باللغة العربية فيلم يصوّر رقمياً. بُثَّ على التلفزيون السوري، يستكشف هذا العمل انقلاب الحياة في قرية سورية خلال استضافة طاقم الدراما التلفزيونية. كما كتب سيناريو لفيلم سياسي عن هروب ضابط فاسد من بغداد عشية الغزو الأميركي Hunt Feast، الذي يعتبره المالح فيلم أحلامه صُوِّر عام 2005 كمشروع سوري بريطاني مشترك، لكن العمل بقي أسير معركة قضائية بين المُنتجين.
تمّ تكريم المالح في السنة التالية لمهرجان دبي السينمائي الدولي (الذي شمل المكرَّمين آخرين كالمخرج الأميركي أوليفر ستون ونجم بوليوود شاه روخ خان)، لمساهمته البارزة في السينما. ثم استقبل لجنة من الهيئة السورية لشؤون الأسرة وأنتج ستة عشر وثائقياً واثنان وخمسون “حلقة” للتلفزيون السوري تمّ حظر أغلبها على الفور. والجدير بالذكر أن من بينهم الأجزاء الثلاثة من الطريق إلى دمشق. هذه الرحلة الفوتوغرافية عبر سوريا تُنذر بالصراع الحالي بشكل خارق للطبيعة، وزيارة مناطق مُشقة وحرمان والتي وبعد سنوات قليلة ستثور في احتجاجات مناهضة للنظام.
شكّل المالح رحلة الطريق مع افتتاح اصطلاحي من الفولكلور العربي “كان ياما كان أيام زمان” ليروي القصة الحقيقية الكاملة لأمة فاشلة. يرسم المالح مشاهد “المدن المنسية” والأطلال الأثرية في سوريا بالتوازي مع الدمار المعاصر الذي يجبر الكثير من المواطنين على التخلي عن المدن والقرى المحببة للبحث عن حياة أفضل في العاصمة. يسافر طاقم الفيلم الوثائقي عكس هذه الموجة البشرية. على الرغم من اختلاف اللهجات إلا أنّ حسرة السوريين هي إلى حدّ كبير واحدة: البطالة والاستغلال والتلوث والفساد. يطالب أكثرهم الدولة بالتحرك، ولكن صوت يشير مُتفرّد إلى وجود الفردية الليبرالية الجديدة: “ألا يكفي، كل الضغوط التي يواجهونها من الخارج”، تتساءل أمّ شابة لكثير من الأطفال “لماذا نلوم الحكومة على أخطائنا؟ ” يندب مغنٍ في الخلفية: “لكل واحد قصة في القلب.” تُوفّر السينما مقياساً: كان في إحدى القرى ذات مرة ثلاثة دور السينما، كلها قد أغلقت. مشاهد من الفقر، وأحلام الناس في تركها تلقى الإجابة لدى أولئك المهاجرين الذين أسسوا لسكن غير شرعي في ضواحي دمشق. على الرغم من أنها لم تصل للجماهير السورية، فقد كان عرض “الطريق إلى دمشق” الدولي الأول في Dox Box Global Day في مالمو في السويد في مارس 2012، وتم عرضه لاحقاً في أكاديمية ومنظمات غير ربحية مختلفة في أوروبا والولايات المتحدة.
مزج الفيلم ببراعة الصور والقصص ونسج حكايات شخصية وسياسية، ليعكس التزام صانعه لكشف حقيقة غير مريحة. كانت الأنظمة العربية والحكومات الأخرى أحسنت صنيعا لو أنها أصغت للرسالة القوية في “الطريق إلى دمشق”. عندما أشار معظم زملائه إلى اللامبالاة الجماعية المتزايدة، كان المالح أحد قلّة من المثقفين العرب بالتنبؤ أربع سنوات مقدماً بالانتفاضة العارمة التي اجتاحت المنطقة عامي 2010 و 2011: “أعتقد أن شيئا ما – انفجاراً – سيحدُث، لأنه ليس من الممكن للإنسان أن يقبل العيش في هكذا ظروف لفترة أطول، على الأقل كانت هذه دروس التاريخ. سينبعث ضوء من هذه الفوضى والتلوث.. أنا أعلم أن هناك العديد مثلي في العالم العربي. ونحن نستمد قوتنا من مجرد معرفتنا أننا هنا، على قيد الحياة “(المالح 2006، 94).
[للجزء الأول اضغط/ي هنا وللنسخة الإنجليزية اضغط/ي هنا]
[ترجمه إلى العربية رفاه برهوم]